تفسير الجزء 12 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثاني عشر
12
سورة هود (6-123)
سورة يوسف (1-52)

﴿وَكَذَٰلِكَ يَجۡتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِيلِ الۡأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَىٰٓ أَبَوَيۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ﴾ [يوسف:6]


قالَ يَعقوبُ لولَدِهِ يوسُف: وكما أراكَ اللهُ هذهِ الرؤيا المُبارَكة، فإنَّهُ تعالَى يَختارُكَ ويَصطَفيكَ لنبوَّتِه، ويُعَلِّمُكَ تَعبيرَ الرُّؤيا، أو ما تَؤولُ إليهِ عَواقِبُ الأمُور، ويُكمِلُ فَضلَهُ عَلَيكَ فيَضُمُّ إلى النبوَّةِ المُلْك، ويُتِمُّ نِعمتَهُ على أبناءِ يَعقوبَ بالتوبَةِ والهِداية، كما أتَمَّ نِعمَتَهُ مِنْ قَبلُ على أبَوَيكَ إبراهيمَ وإسحاقَ فكانا نَبيَّين، عليهمْ جَميعًا صَلواتُ اللهِ وسَلامُه، فهمْ مِنْ بَيْتٍ مُبارَك، ممَّنْ فَضَّلَهمُ اللهُ على العالَمين، إنَّ ربَّكَ عَليمٌ بالنَّاس، فيَعلَمُ مَنْ يَستَحِقُّ النِّعَمَ العَظيمة، حَكيم، يَضَعُ الرِّسَالةَ فيمَنْ يَستَحِقُّها.

﴿۞لَّقَدۡ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦٓ ءَايَٰتٞ لِّلسَّآئِلِينَ﴾ [يوسف:7]


لقدْ كانَ في قِصَّةِ يوسُفَ وخبَرِهِ معَ إخوَتِهِ عِبَرٌ وعِظات، وأمَاراتٌ على حَقائقَ كَثيرة، وعَلاماتٌ دالَّةٌ على قُدرَةِ اللهِ وحِكمتِه، لمَنْ يَستَفسِرُ عنها ويَهتَمُّ بها.

﴿إِذۡ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ﴾ [يوسف:8]


إذْ قالَ بعضُ إخوَةُ يوسُفَ لبَعض: واللهِ إنَّ يوسُفَ وأخاهُ أحَبُّ إلى أبينا منّا - وكانوا منْ أُمٍّ غيرِ أُمِّهما - ونحنُ جَماعَةٌ نَكفِيهِ الأمورَ أكثرَ مِنهما، لا شَكَّ أنَّ أبانا مُخطِئٌ في المَيلِ إليهما دونَنا، إذْ كيفَ يُحِبُّ غُلامَينِ أكثرَ مِنْ جَماعَةٍ قَويَّةٍ تُدافِعُ وتَنفَعُ أكثرَ مِنهما؟

﴿اقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ﴾ [يوسف:9]


قالَ بعضُهمْ وقدْ زيَّنَ الشَّيطانُ لهمُ الشرَّ وأغراهُمْ به: اقتُلوا يوسُفَ هذا الذي استأثرَ بحُبِّ والدِكم، أو أبعِدوهُ إلى أرضٍ بَعيدةٍ لتَستَريحوا منهُ وتَصفُوَ لكمْ مَحَبَّةُ أبيكُم، فلا يَلتَفِتَ إلى غَيرِكم، ثمَّ تَتوبوا مِنْ خَطيئتِكمْ هذه، وتَكونوا بعدَ ذلكَ جَماعَةً تائبينَ صَالِحين.

﴿قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ الۡجُبِّ يَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ﴾ [يوسف:10]


قالَ واحِدٌ مِنهم: لا تَقتُلوا يوسُف، فإنَّ القَتلَ إثمٌ عَظيم، ولكنْ ألْقُوهُ في أسفَلِ البئرِ وظُلمتِه، في طَريقِ القَوافِل، يأخُذْهُ بعضُ المارَّةِ منَ المُسافِرينَ ويَذهَبوا بهِ بعيدًا، إذا كنتُمْ عازِمينَ ومُصِرِّينَ على فِعلِكُم.

﴿قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأۡمَ۬نَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَٰصِحُونَ﴾ [يوسف:11]


وذهَبوا إلى أبيهمْ يَعقوبَ وقالوا له: لماذا لا تَثِقُ بنا ولا تَأمَنُنا على أخِينا يوسُفَ يا أبانا، أتَخافُنا عليهِ ونحنُ نُكِنُّ لهُ الودَّ والإخْلاص، ونُشفِقُ عليهِ ونُريدُ لهُ الخَير.

﴿أَرۡسِلۡهُ مَعَنَا غَدٗا يَرۡتَعۡ وَيَلۡعَبۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [يوسف:12]


ِبعَثْهُ مَعنا غَدًا إلى البَرِّ ليَسعَى ويَنْشَطَ ويَلهو، ونحنُ نَحفَظُهُ ونَحرسُهُ مِنْ مَكروهٍ يَنالُهُ.

﴿قَالَ إِنِّي لَيَحۡزُنُنِيٓ أَن تَذۡهَبُواْ بِهِۦ وَأَخَافُ أَن يَأۡكُلَهُ الذِّئۡبُ وَأَنتُمۡ عَنۡهُ غَٰفِلُونَ﴾ [يوسف:13]


قالَ أبوهُمْ يَعقوبُ عليهِ السَّلام: إنِّي لأغتَمُّ إذا بَعُدَ عنِّي، ويَشُقُّ عليَّ مُفارقتُه، وأخشَى أنْ تَغفُلوا عنه، وتَنشَغِلوا بالرَّعي أو اللَّعِب، فيأكُلَهُ الذِّئب.

وكانتْ مَحبَّتُهُ الزائدةُ لهُ وخَوفُهُ عَليهِ لِما يَتوَسَّمُ فيهِ مِنْ شَمائلِ النبوَّة، ولخُلُقِهِ الطيِّب، وخَلْقِهِ الجَميل، عَليهما السَّلام.

﴿قَالُواْ لَئِنۡ أَكَلَهُ الذِّئۡبُ وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّآ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ﴾ [يوسف:14]


قالوا لوالدِهم: إذا عَدا عليهِ الذئبُ فأكلَهُ مِنْ بينِنا ونحنُ جَماعَة، فإنَّنا ضُعَفاءُ عاجِزون، لا خَيرَ فِينا ولا نَفعَ في حَياتِنا.

﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوٓاْ أَن يَجۡعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ الۡجُبِّۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَٰذَا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [يوسف:15]


فلمّا ذهَبوا بيوسُفَ مِنْ عندِ أبيه، استقرَّ رأيهُمْ على أنْ يَجعَلوهُ في أسفَلِ البِئر. وأعْلَمْنا يوسُفَ - تَثبيتًا لهُ وتَسليةً - لتَخْلُصَنَّ ممّا أنتَ فيه، ولتُخبِرَنَّ إخوَتَكَ بما فَعَلوا بكَ في يَومٍ منَ الأيّامِ وهُمْ لا يَعرِفونَك.

﴿وَجَآءُوٓ أَبَاهُمۡ عِشَآءٗ يَبۡكُونَ﴾ [يوسف:16]


وعَادَ إخوَةُ يوسُفَ إلى أبيهِم في وَقتِ العِشاءِ وهُمْ يَتظاهَرونَ بالحُزنِ والأسَفِ والبُكاء.

﴿قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَٰعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئۡبُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُؤۡمِنٖ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَٰدِقِينَ﴾ [يوسف:17]


وقالوا: يا أبانا إنَّنا ذَهَبنا نتَسابَق، وترَكنا يوسُفَ عندَ ثِيابِنا وأمتِعَتِنا، وعُدْنا بعدَ وَقتٍ قَصير، فإذا بهِ أكلَهُ الذِّئب، ونحنُ نَعلَمُ أنَّكَ لنْ تُصَدِّقَ قَولَنا هذا، ولو كنّا صادِقينَ فيه.

﴿وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَاللَّهُ الۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:18]


وجَعَلوا على قَميصِهِ دَمَاً مَكذوبًا، لحيَوانٍ آخَرَ غَيرِ الذئب، وجاؤوا بهِ إليهِ ليَتأكَّدَ مِنْ قَولِهمْ ويُصَدِّقَهمْ فيه، فقالَ لهمْ غيرَ مُصَدِّقٍ لهم: بلْ زَيَّنَتْ لكمْ أنفُسُكمْ أمرًا مُنكَرًا، وسَهَّلتْ لكمْ فِعلاً بَشِعًا، فسأصبِرُ صَبرًاً حَسَنًا على ما ابتَلاني اللهُ به، حتَّى يُفَرِّجَ عنِّي بعَونِهِ ولُطفِه، كما أستَعينُ بهِ وحدَهُ فيما تَذكرونَهُ مِنْ كَذِبٍ وبُهتان.

﴿وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ﴾ [يوسف:19]


وجاءَتْ رِفْقَةٌ تَسيرُ قَريبًا منَ الطَّريقِ المؤدِّي إلى ذلكَ البِئر، فبعَثوا إليها مَنْ يَطلبُ لهمُ الماء، فلمّا جاءَها وأرسَلَ دَلْوَهُ فيها، تشَبَّثَ يوسُفُ بالحبْل، فلمّا استَخرجَ الدلْوَ إذا بهِ يرَى غُلامًا عليه، فصاحَ فَرِحًا: يا بُشرَى، لقدْ أصَبتُ غُلامًا. وأخفاهُ طالِبُ الماءِ وأصحابُهُ عنْ بَقيَّةِ رُفَقائهمْ حتَّى لا يرَوْهُ فيَطمَعوا فيه، مُعتَبِرينَ إيّاهُ بِضاعةً للتِّجارة، لبَيعِهِ رَقيقًا. واللهُ عَليمٌ بما يَعمَلُ هؤلاءِ جَميعًا، لم يَخفَ عليهِ شَيءٌ مِنْ أمرِهِم.

﴿وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّـٰهِدِينَ﴾ [يوسف:20]


وباعوا يوسُفَ بثَمَنٍ ناقِص، دَراهِمَ قَليلَةٍ، وكانوا منَ الرَّاغِبينَ عنه، حيثُ أرادوا التخَلُّصَ منهُ والحصُولَ على مالٍ مُقابِلَهُ في أسْرعِ وَقت!

﴿وَقَالَ الَّذِي اشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِامۡرَأَتِهِۦٓ أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِيلِ الۡأَحَادِيثِۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف:21]


وقالَ مُشتَريهِ - وهوَ عَزيزُ مِصر، كبيرُ وزَرائها، أو وَزيرُ مالِها - لامرأتِهِ: اعتَني بهِ وأحسِني إليه، فإنِّي أتوَسَّمُ فيهِ خَيرًا، عسَى أنْ يَنفعَنا فيَقضي مَصالِحَنا، أو نتَبنَّاهُ فيَكونَ قُرَّةَ عَينٍ لنا.

وكما أنقَذْنا يوسُفَ مِنْ كَيدِ إخوانِه، كذلكَ ثبَّتناهُ وجَعلنا لهُ مَكانًا عَظيمًا في مِصر. ولنُعَلِّمَهُ مِنْ تَعبيرِ الرُّؤيا ما نَشاء. واللهُ يَفعَلُ ما يُريد، ولا يُرَدُّ أمرُه، ولا يُمانَع، ولا يُخالَف، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ لَطائفَ صُنعِه، وخَفايا فَضلِه، وحِكمتَهُ في خَلْقِه.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [يوسف:22]


ولمّا استَكمَلَ عقلُه، واشتَدَّتْ قوَّتُه، آتَيناهُ النبوَّة، وعِلمَ تأويلِ الرُّؤيا، وكانَ ذلكَ جزاءَ إحسانِه، فقدْ أحسَنَ في عَمَلِه، وعَمِل بطاعةِ ربِّه، وصبَرَ في مِحنَتِه.

وهذا وَصفٌ لحالِ يوسُفَ عليهِ السَّلام، ولا يَعني أنَّهُ أُوتيَ النبوَّةَ في هذا المَوضِعِ مِنْ سِياقِ القِصَّة، إذا فُسِّرَ "الحُكمُ" بالنبوَّة، الذي يأتي ذِكرُهُ ومَعناهُ هكذا في حَقِّ الأنبياءِ عليهمُ السَّلام، كما في قولهِ تعالَى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الأنبياء: 74]. أمّا إذا فُسِّرَ بمَعنِى العِلمِ والفِقهِ في الدِّين، فلا يَكونُ هُناكَ إشْكال.

﴿وَرَٰوَدَتۡهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ الۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [يوسف:23]


ودَعَتْهُ امرأةُ العَزيزِ إليها، وطالَبَتْهُ بلُطْفٍ ليواقِعَها، وأغلَقَتْ أبوابَ البَيتِ بإحكام، وقالَتْ له: هَلُمَّ، أسرِع، فقدْ تَهَيَّأتُ لَك.

قالَ يوسُفُ عليهِ السَّلام: أعوذُ باللهِ وأعتَصِمُ بهِ ممّا تُريدينَ منِّي، إنَّ زَوجَكِ سيِّدي العَزيزَ أحسَنَ مَنزِلي وأكرَمَني، فكيفَ أُسِيئُ إليهِ وأخونُهُ في زَوجَتِه؟! إنَّ الذينَ يُجازُونَ الحسَنَ بالسيِّءِ لا يُفلِحون، ولا يَفوزونَ ولا يَسعَدونَ في الدُّنيا وفي الآخِرَة.

﴿وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ السُّوٓءَ وَالۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا الۡمُخۡلَصِينَ﴾ [يوسف:24]


وقَدْ قَصَدَتْ مُخالطَتَهُ وعَزمَتْ على ذلكَ عَزْمًا جازِمًا. ومالَ هوَ إلَيها في لَحظَةٍ منَ اللَّحَظات، بمُقتَضَى الطبيعَةِ البشَريَّة، لكنَّ ذلكَ لم يَتجاوَزْ خاطِرًا قَلبيًّا عِندَه، فلمّا تمَثَّلَ أمامَهُ بُرهانٌ منْ عندِ اللهِ وآيَةٌ في تَثبيتِه، تُذَكِّرُهُ بالرَّدْعِ منَ الفَاحِشة، وتُقَوِّي عَزيمَتَهُ بالصَّبرِ والتَّقوَى، أضاءَ ذلكَ نورَ الإيمانِ في قَلبِهِ مِنْ جَديدٍ بقُوَّة، فتَذَكَّرَ وأناب، واستَعاذَ باللهِ واعتصَمَ به، ولمْ يَهُمَّ بشَيء، وصُرِفَ عَنهُ حتَّى ذلكَ الخاطِرُ القَلبيّ.

وكما أرَيناهُ بُرهانًا فصَرَفناهُ عمّا كانَ فيه، كذلكَ نَصرِفُ عنهُ الخِيانةَ والزِّنا، إنَّهُ مِنْ عِبادِنا المُصطَفَينَ الأخيَار، الذينَ اختَرناهُمْ لطاعَتِنا، وأكرَمناهُمْ بالنبوَّة، وعَصمناهُمْ ممّا يَقدَحُ في سُلوكِهمْ وسِيرَتِهم.

﴿وَاسۡتَبَقَا الۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الۡبَابِۚ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءًا إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [يوسف:25]


وقامَ يوسُفُ هارِبًا إلى بابِ البيتِ ليَتخلَّصَ منها، وتَبِعَتْهُ هيَ لتَمنعَهُ مِنَ الخُروجِ ويَرجِع، فأمسكَتْ بقَميصِهِ مِنْ خَلفِه، فجَذَبَتْهُ إليها، فقَطَعَتْه، واستمرَّ يوسُفُ هارِبًا، وهي تَتْبَعُهُ لتُعيدَه، فلمّا خرَجا لَقِيا زوجَها العزيزَ عندَ الباب، فهابَتْهُ، وقالتْ في مَكرٍ ودَهاء: ما جَزاءُ مَنْ أرادَ أنْ يَزنيَ بزَوجَتِك؟

وخافَتْ أنْ يَقتُلَهُ، وهيَ تُحِبُّه، فقالت: إلاّ أنْ يَكونَ هذا العِقابُ سِجنًا، أو ضَربًا شَديداً مُوجِعاً.

﴿قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ الۡكَٰذِبِينَ﴾ [يوسف:26]


قالَ لهُ يوسُفُ عليهِ السَّلام: هيَ طالبَتْني بالفَاحِشة، لا كما زَعَمَتْ، وقدْ رَفَضتُ ذلكَ وفَرَرْتُ منها.

وحَسَمَ الخِلافَ بينَهما شاهِدٌ مِنْ أهلِ المرأةِ كانَ هُناك، أو استُدعِيَ مِنْ بَعد، فقال: إنْ كانَ قَميصُهُ شُقَّ مِنْ قُدَّام، فقدْ صدَقَتِ المرأةُ وكذَبَ هو، ويَكونُ هوَ الذي أرادَ عملَ الفاحِشَةِ بها.

﴿وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ الصَّـٰدِقِينَ﴾ [يوسف:27]


وإنْ كانَ قَميصُهُ شُقَّ مِنْ خَلف، فقدْ كذَبَتْ في ادِّعائها، وهو صادِقٌ بَريء.

ووردَ أنَّ الذي نطَقَ بالحُكمِ طِفْلٌ تَكَلَّم، وهوَ حَديثٌ صَحَّحَهُ بَعضُهمْ وضَعَّفَهُ آخَرون.

﴿فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ﴾ [يوسف:28]


فلمّا رَأى الزَّوجُ قَميصَ يوسُفَ وقدْ قُطِّعَ مِن خَلف، عَرَفَ حيلةَ زَوجتهِ وبراءَةَ يوسُفَ عليهِ السَّلام، فقال: إنَّ هذا الصَّنيعَ مِنِ احتيالِكنَّ أيَّتُها النِّساء، إنَّ مَكرَكُنَّ كَبير، بالنسبةِ إلى كَيدِ الرِّجال.

﴿يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ وَاسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الۡخَاطِـِٔينَ﴾ [يوسف:29]


قالَ العَزيز: يا يوسُف، قدْ ظهرَ لنا صِدقُك، ولكنْ أعرِضْ عنْ هذا الحَديث، واكتُمْهُ ولا تَذكُرْهُ لأحَد، حتَّى لا يَشيعَ بينَ النَّاس.

وأنتِ أيَّتُها المرأة، تُوبي منْ هذا الذي صدَرَ عنكِ ولا تَعودي إليه، فإنَّكِ كُنتِ منَ المذنِبينَ المُسِيئين.

﴿۞وَقَالَ نِسۡوَةٞ فِي الۡمَدِينَةِ امۡرَأَتُ الۡعَزِيزِ تُرَٰوِدُ فَتَىٰهَا عَن نَّفۡسِهِۦۖ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ إِنَّا لَنَرَىٰهَا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾ [يوسف:30]


وشاعَ خبَرُ يوسُفَ وامرأةِ العَزيزِ في المدينَة، فقالتْ نِسوَةٌ منهُنَّ يُنكِرْنَ هذا الفِعلَ منها: زَوجَةُ العَزيزِ تَطلبُ مِنْ غُلامِها أنْ يَفعَلَ بها الفَاحِشة؟ لا شَكَّ أنَّها فُتِنَتْ بهِ وأحَبَّتْهُ حُبًّا شَديدًا، وإنَّ صَنيعَها هذا خطَأ ظاهِرٌ منها، وبُعدٌ عنْ طَريقِ الرُّشْدِ والصَّواب.

﴿فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ اخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ﴾ [يوسف:31]


فلمّا سَمِعَتْ بقَولِهنَّ وتَعييرِهِنّ، وكنَّ منَ الطَّبقَةِ الراقيَة، أرسَلتْ إليهنَّ تَدْعُوهِنَّ، وأقامَتْ لهنَّ مأدُبَةً في قَصرِها، وأعَدَّتْ لهنَّ وسائدَ يَتَّكِئنَ عليها، وزَيَّنَتْ مائدَتَهُنَّ بأنواعِ الأطْعِمَةِ والفَاكِهة، فجِئنَ وجَلَسْنَ، وأعطَتْ كُلَّ واحِدةٍ منهُنَّ سِكِّينًا، فبينَما كُنَّ يُقَطِّعْنَ اللحمَ أو الفاكِهة، قالتْ ليوسُف: اِظْهَرْ لهُنَّ. وكانَ أجملَ النَّاس. فخرجَ عَليهِنّ، فلمّا رأينَهُ أعْظَمْنَه، ودُهِشْنَ برؤيَةِ جَمالِهِ الفائق، وجَرَحْنَ أيديَهُنَّ بالسَّكاكينِ التي معَهُنَّ وهُنَّ يَحسَبْنَ أنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الفاكِهة، لشَدَّةِ تأثُّرِهنَّ بجَمالِهِ وحُسْنِ سَمْتِهِ وطَلْعَتِه.

وذُكِرَ أنَّهُنَّ لم يَشعُرْنَ بالألم، لانشِغالِ قُلوبِهِنَّ بيوسُفَ عليهِ السَّلام، وقُلْنَ مُتَعَجِّباتٍ مُنْدَهِشات: معاذَ الله، ليسَ هذا ببَشَر، فلا مِثالَ له، ولا أجملَ منه، ما هذا إلاّ مَلَكٌ منَ المَلائكةِ الكُرَماءِ على الله!

وكانَ كلُّ ذلكَ مَكرًا منِ امرأةِ العَزيز، لتَصِلَ إلى بُغيَتِها منهُنّ.

﴿قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَاسۡتَعۡصَمَۖ وَلَئِن لَّمۡ يَفۡعَلۡ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسۡجَنَنَّ وَلَيَكُونٗا مِّنَ الصَّـٰغِرِينَ﴾ [يوسف:32]


فقالتْ لهُنّ: إنْ كانَ الأمرُ كما قُلتُنّ، فإنَّ هذا الذي رأيتُموهُ الآنَ ودُهِشْتُنَّ لجمالِه، هوَ الذي عَيَّرْتُنَّني في الافتِتانِ به، وعاتَبْتُنَّني في حُبِّه، ولقدْ بَهَرَني كما بَهرَكُنَّ، وحاوَلتُ مَعَهُ ليَنالَ منِّي فامتَنَعَ وأبَى إباءً شَديدًا، وإذا لم يُطاوِعني فيما دَعَوتُهُ إليه، ليُعاقَبَنَّ بالسَّجن، ويَكونَنَّ منَ الأذِلَّةِ المُهانِين.

﴿قَالَ رَبِّ السِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّي كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الۡجَٰهِلِينَ﴾ [يوسف:33]


قالَ يوسُفُ عليهِ السَّلامُ يُناجي ربَّه، وقدْ عَرَفَ إصرارَ امرأةِ العزيزِ على الفَاحِشة، وتَمادِيها في غَيِّها، كما تَدَخَّلتْ نِساءُ القَصرِ وخَوَّفْنَهُ منْ عاقِبةِ مَخالَفَتِها، أو أنَّهُنَّ دَعَونَهُ إلى أنفُسِهِنَّ كذلك، فقالَ وهو يَبغي الخُروجَ مِنْ هذهِ الفِتنَة: يا ربّ، إنَّ العُقوبةَ بالسَّجنِ أفضَلُ عِندي مِنْ إتيانِ الفَاحِشة، الذي يؤدِّي إلى سَخَطِك، وإلى الشَّقاءِ والعَذابِ الأليم. (والأَولَى بالمَرءِ في هذا أنْ يَسألَ اللهَ العَافيةَ مِنْ هذا وذَاك). وإذا لم تَدفَعْ عنِّي مَكرَهُنَّ وحَبائلَهُنَّ، ووكَّلتَني إلى نَفسي، أمِلْ إليهِنَّ وأكُنْ منَ المُذنِبين.

"وهيَ دَعوَةُ الإنسانِ العَارِفِ ببَشَرِيَّتِه، الذي لا يَغتَرُّ بعِصمَتِه، فيُريدُ مَزيدًا منْ عِنايَةِ اللهِ وحِياطَتِه، يُعاوِنُهُ على ما يَعتَرضُهُ منْ فِتنَةٍ وكَيدٍ وإغراء". قالَهُ صاحبُ "الظِّلال".

﴿فَاسۡتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنۡهُ كَيۡدَهُنَّۚ إِنَّهُۥ هُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [يوسف:34]


فأجابَ اللهُ دُعاءَ يوسُف، وأبعدَ عَنهُ مَكرَهُنَّ، وثَبَّتَهُ على العِصمَةِ والعِفَّة، إنَّهُ سَميعٌ لدُعاءِ المُتَضَرِّعينَ إليه، عَليمٌ بأحْوالِهمْ وبما يُصلِحُهم.

ومَواقِفُ الشبابِ منَ الشَّهواتِ وثَباتُهُمْ أمامَ المُغرَياتِ في جَوٍّ مَليءٍ بالفِتَنِ صَعبٌ جِدًّا، وكانتِ امرأةُ العَزيزِ في غايَةِ الجَمال، معَ ما هيَ عَليهِ منْ ثَراءٍ وجَاه، وامتنعَ يوسُفُ عليهِ السَّلامُ منَ الفَاحِشَةِ خَوفًا منَ الله، واختارَ السِّجْنَ على ذلك، وهذا مِنْ عِصمَةِ اللهِ له، وممّا جَمَّلَهُ بهِ منَ الإيمانِ والتَّقوِى، والعَزيمةِ والصبر.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّه: "رَجُلٌ دَعَتْهُ امرَأةٌ ذاتُ جَمالٍ ومَنْصِب، فقال: إنِّي أخافُ الله". مُتَّفَقٌ عليه.

﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ الۡأٓيَٰتِ لَيَسۡجُنُنَّهُۥ حَتَّىٰ حِينٖ﴾ [يوسف:35]


ثمَّ بدَا للعَزيزِ وأصحابِه، بعدَ أنْ رَأوا الأدِلَّةَ على صِدقِ يوسُفَ ونَزاهَتِه، أنَّ منَ المَصلَحَةِ سَجْنُهُ لمُدَّةٍ طَويلَة!

﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ الۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ الطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [يوسف:36]


ودخلَ معَهُ السِّجنَ غُلامَان، وقدْ عُرِفَ يوسُفُ بينَ المسَاجينِ بمكارِمِ الأخلاقِ والعِبادَةِ وتَعبيرِ الرؤيا، فرأى كُلٌّ منهُما مَنامًا، فسَرَدَ الأوَّلُ مَنامَهُ عليهِ قائلاً: رأيتُني أعصِرُ عِنَبًا.

وقالَ الآخَر: رأيتُني أحمِلُ فوقَ رأسي خُبزًا، والطَّيرُ تأكلُ منه.

قالا: أخبِرنا بتَعبيرِ رُؤيانا يا يوسُف، فنَعتَقِدُ أنَّكَ مِنَ الذينَ يُجيدونَ تَعبيرَ الرُّؤَى والأحْلام.