﴿۞وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ النَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِالسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [يوسف :53]
قالت: ولا أُنَزِّهُ نَفسِي عنِ الخطأ والزَّلَل، فإنَّ النَّفسَ البشَرِيَّةَ كثيرةُ الأمرِ بالسُّوءِ والمَعصِية، تَميلُ إلى الشَّهوات، وتتَأثَّرُ بالمُغرِيات، إلاّ مَنْ رَحِمَهُ ربِّي فصَرَفَهُ عنِ السُّوء، وعصَمَهُ منَ المَعصية، إنَّ رَبِّي لعَظيمُ المَغفِرة، كثيرُ الرَّحمَة، وهوَ يَعلَمُ أنَّ عِبادَهُ خَطَّاؤون، فيَغفِرُ لهمْ ويِرحَمُهم، إنْ تابُوا وأصلَحوا.
وقدْ أسلَمتِ المرأة، ولكنْ لا يُعْرَفُ في أيِّ مَوضِعٍ مِنْ سَردِ القِصَّة.
﴿وَقَالَ الۡمَلِكُ ائۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ الۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ﴾ [يوسف :54]
ولمّا تأكَّدَ للمَلِكِ بَراءَةُ يوسُفَ ونَزاهَتُهُ عليهِ السَّلام، قال: جِيؤوا بهِ ليَكونَ مِنْ خاصَّتي وأهلِ مَشورَتي.
فلمّا كَلَّمَهُ وعَرَفَ فَضْلَهُ وقَدْرَه، قالَ له: إنَّكَ الآنَ عِندَنا ذا مَكانةٍ ومَنزِلَةٍ رَفيعَة، ومُؤتَمَنٌ على أُمورٍ عَظيمَة.
﴿قَالَ اجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ الۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ﴾ [يوسف :55]
قالَ لهُ يوسُفُ عَليهِ السَّلام: اجعَلنِي مَسؤولاً عنْ خَزائنِ الأرضِ التي تحتَ تَصَرُّفِك، وهيَ مِصر، إنَّني خَازِنٌ أمِين، عَليمٌ بشُؤونِ التصرُّفِ فيها، بَصيرٌ بالحِساب.
قالَ ذلِكَ لِمَا يَستَقبِلونَهُ منَ السِّنينَ العِجاف، ليَتَصَرَّفَ على الوَجهِ الأصلَحِ والأرشَد. وكانَ كذلكَ عليهِ السَّلام.
ويَجوزُ للمَرءِ أنْ يُظهِرَ عِلمَهُ لمَنْ يَجهَلُه.
﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [يوسف :56]
وبتَمكينٍ لائقٍ ومُناسِب، جَعلنا ليوسُفَ العِزَّ والسُّلطانَ في أرْضِ مِصر، يَتَّخِذُ مَنزِلاً في أيِّ مَكانٍ منها، بعدَ الضِّيقِ والأسْرِ والحَبْسِ الذي كانَ فيه. ونُصيبُ بفَضلِنا وعَطائنا مَنْ نشاءُ مِنْ عِبادِنا، بعَدلِنا وحِكمتِنا، ولا نُضِيعُ أجرَ مَنْ صَبَرَ على أذَى النَّاس، وأحسَنَ في صَبرِهِ واحتَسَب، حتَّى أتاهُ الفرَج.
﴿وَلَأَجۡرُ الۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يوسف :57]
وإنَّ ثَوابَ المؤمِنينَ الصَّابِرينَ في اليَومِ الآخِر، أعظَمُ وأكبَرُ ممّا يَكونُ في الدُّنيا، كما في شأنِ يوسُفَ عليهِ السَّلام، وغَيرِه.
﴿وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾ [يوسف :58]
ولمّا عَمَّ القَحطُ بلادَ مِصرَ، وتَجاوزَها حتَّى وصَلَ إلى بلادِ الشَّام، وحَلَّ بآلِ يَعقوبَ ما حَلَّ بأهلِها، سَمِعوا أنَّ بمصرَ مَلِكاً صَالِحاً يَعدِلُ في العَطاءِ والتَّوزيع، فقَصدَهُ الناسُ مِنْ سَائرِ الأقاليم، وبينَهمْ إخوةُ يوسُفَ الذينَ آذَوه، فدَخَلوا عليهِ وهوَ في مَجلسِ ولايَتِه، فعرَفَهمْ بحُسْنِ إدراكهِ وفِراستِه، وهمْ لا يَعرِفونَه.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ائۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي الۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ الۡمُنزِلِينَ﴾ [يوسف :59]
ولمّا أعطاهُمْ حَقَّهم، وهيَّأ لهمْ أحمالَهم، قالَ لهم: أحضِروا أخاكمُ الذي لم تأتوا بهِ معَكم، لأزيدَكم، وأُتِمَّ كيلَكُم، ألا تَرَونَ أنِّي أوفَيتُ لكمْ ما تَستَحِقُّون، وأحسَنتُ إليكمْ في الضِّيافَةِ والمَبِيت؟
﴿فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِي بِهِۦ فَلَا كَيۡلَ لَكُمۡ عِندِي وَلَا تَقۡرَبُونِ﴾ [يوسف :60]
فإذا لم تأتوني بأخِيكمْ في المرَّةِ القادِمَة، فلا نَصيبَ لكمْ في شَيءٍ عِندي، ولا تَدخلوا بلادي.
﴿قَالُواْ سَنُرَٰوِدُ عَنۡهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَٰعِلُونَ﴾ [يوسف :61]
قالوا له: سنُحاوِلُ ذلكَ معَ والدِهِ، ونَستَميلُهُ ونَحرِصُ على إحضارِه، ونحنُ قادِرون على ذلك.
﴿وَقَالَ لِفِتۡيَٰنِهِ اجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَعۡرِفُونَهَآ إِذَا انقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [يوسف :62]
وقالَ يوسُفُ لأعوانِهِ الكَيَّالين: اجعَلوا بضَاعتَهمُ التي أتَوا بها منَ الشَّامِ في رِحالِهمْ(60) مَرَّةً أخرَى مِنْ حيثُ لا يَشعُرون - وكانوا قدْ أتَوا بها ليَستَبدِلوا بها القَمحَ والطَّعام - إحسانًا بهم، أو لعَلَّهمْ يَعرِفونَ حقَّ رَدِّها إذا رجَعوا إلى أهلِهم، فيَرجِعونَ بها في المرَّةِ القادِمة.
(60) الرحال: جمعُ رَحْل، وهو ما يوضَعُ على البعيرِ من متاعِ الراكب، ولذا سمِّيَ البعيرُ راحلة. (التحرير والتنوير).
الرَّحْل: الوعاء. ويقالُ لمنزلِ الإنسانِ ومأواهُ (رَحْل) أيضًا، ومنه: نسيَ الماءَ في رحله. (روح البيان).
﴿فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [يوسف :63]
فلمّا عَادوا إلى أبيهمْ يَعقوبَ عَليهِ السَّلام، قالوا له: يا أبانا لقدْ مَنَعَ العَزيزُ منّا الكَيلَ(61) في المرَّةِ القادِمةِ إذا لم نَذهَبْ بأخِينا بنيامينَ معَنا إلى مِصر، فابعَثْهُ معَنا، وسَيَكونَ مَحلَّ حِفظِنا ورعايَتِنا.
(61) {الْكَيْلُ}: مصدرُ (كِلْتُ الطعامَ) إذا أعطيتهُ كيلًا، ويجوزُ أن يُرادَ به المكيالُ أيضًا، على طريقةِ ذكرِ المحلِّ وإرادةِ الحال.
﴿قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَيۡهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبۡلُ فَاللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ الرَّـٰحِمِينَ﴾ [يوسف :64]
قالَ لهمْ يَعقوبُ عليهِ السَّلام: هَلْ أَأتَمِنُكمْ عليهِ إلاّ كما ائتَمَنتُكمْ على أخيهِ يوسُفَ مِنْ قَبل، فصانِعونَ بأخيكمْ ما صَنعتُمْ به؟ لا أثِقُ في وَعدِكمْ بحِفظِه، ولكنْ أفوِّضُ أمْري إلى الله، فهو يَكلَؤهُ بحفظِهِ ورِعايَتِه، وسيَرحَمُ ضَعفِي وشَيبَتي، وهوَ خَيرُ مَنْ رَحِم.
﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَٰعَهُمۡ وَجَدُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَيۡهِمۡۖ قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَا مَا نَبۡغِيۖ هَٰذِهِۦ بِضَٰعَتُنَا رُدَّتۡ إِلَيۡنَاۖ وَنَمِيرُ أَهۡلَنَا وَنَحۡفَظُ أَخَانَا وَنَزۡدَادُ كَيۡلَ بَعِيرٖۖ ذَٰلِكَ كَيۡلٞ يَسِيرٞ﴾ [يوسف :65]
ولمّا فتحَ إخوَةُ يوسُفَ مَتاعَهمُ الذي أتَوا بهِ منْ مِصر(62) ، وجَدوا بينَها بِضاعتَهمُ التي أخَذوها معَهمْ منَ البَيتِ ليَستَبدِلوا بها القَمحَ والطَّعام، فقالوا: يا أبانا، هذهِ بِضاعَتُنا التي أخَذناها مِنْ هنا قدْ أُعِيدَتْ إلينا، إحسانًا وتَكرُمَةً مِنَ العَزيز، فابعَثْ معَنا أخانا لنَجلُبَ المِيرةَ لأهلِنا مِنْ عِندِه(63) ، فهوَ عَادِلٌ كَريم، ونَزدادُ على ذلِكَ كَيلَ بَعيرٍ إذا جاءَ معنا. والقُوتُ الذي نُعْطاهُ دونَ نصِيبِ أخِينا قَليل، لا يَكفِينا(64) .
(62) {مَتَاعَهُمْ}: أصلُ المتاعِ ما يُتَمتَّعُ به من العُروضِ والثياب. (التحرير والتنوير). هو في الأصلِ كلُّ ما انتُفِعَ به، والمرادُ به هنا أوعيةُ الطعامِ مجازًا، إطلاقًا للكلِّ على بعضِ مسمَّياته. ويسمِّي بعضُهم هذا النوعَ من المجازِ - أعني إطلاقَ الكلِّ على البعض - حقيقةً قاصرة. (روح البيان).
(63) {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}: أي: نشتري لهم الطعامَ فنحملهُ إليهم. يقال: مارَ أهلَهُ يَمِيرُ مَيْراً: إذا حملَ إليهم الطعامَ من بلدٍ إلى بلدٍ آخر. ومثله: امتارَ يمتارُ امتياراً. (البغوي).
(64) {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}: الإشارةُ في {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} إلى الطعامِ الذي في متاعِهم. وإطلاقُ الكيلِ عليه من إطلاقِ المصدرِ على المفعول، بقرينةِ الإشارة. (التحرير والتنوير). {كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي: مكيلٌ قليلٌ لا يقومُ بأَودِنا، أي: قوتِنا. (روح البيان).
﴿قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقٗا مِّنَ اللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِي بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّآ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [يوسف :66]
قالَ لهمْ يَعقوبُ عَليهِ السَّلام: لنْ أُرسِلَ معَكمْ بنيامينَ (شَقيقَ يوسُف) بعدَ أنْ رأيتُ مِنكمْ ما رأيتُ في أخيهِ يوسُف، حتَّى تُعطُوني عَهدًا موَثَّقًا تَحلِفونَ فيهِ باللهِ أنَّكمْ ستُعيدُونَهُ إليَّ، إلاّ أنْ تُغلَبوا أو تَهلِكوا جَميعًا في الدَّفْعِ عنه. فلمّا أعطَوهُ عَهدًا منَ اللهِ بذلكَ كما طَلَب، قالَ تأكيدًا على العَهد: اللهُ مُطَّلِعٌ رَقيبٌ على ما نَقول.
وكانَ لا غِنَى لهمْ عنِ القُوت، فبعثَهُ معَهم.
﴿وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَادۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ الۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف :67]
وقالَ يَنصَحُهم؛ حَذَرًا مِنْ أنْ تُصيبَهمُ العَين، وكانوا ذَوي جَمالٍ وبَهاء: يا بَنيَّ لا تَدخُلوا مِصرَ جَميعًا مِنْ بابٍ واحِد، بلِ ادخُلوها مُتفرِّقينَ مِنْ عِدَّةِ أبواب، ولا أنفَعُكمْ ولا أدفَعُ عنكمْ بهذا الاحتِرازِ والنُّصحِ شَيئًا منْ قَضاءِ اللهِ تعالَى، فإنَّ قَدَرَ اللهِ لا يُرَدّ، ولكنَّهُ تَدبيرٌ وسَبَب، فما الحُكمُ المُطلَقُ إلاّ لهُ تعالَى، لا يُشارِكُهُ فيهِ أحَد، ولا يُمانِعُهُ منهُ قُوَّة، وعَليهِ وحدَهُ يَعتَمِدُ مَنْ أرادَ التوكُّلَ عليهِ مِنَ المؤمِنين.
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف :68]
ولمّا دخَلوا مِصرَ مِنْ أبوابٍ مُتفَرِّقةٍ كما أمرَهمْ أبوهُم، ما كانتْ هذهِ الكيفيَّةُ في الدُّخولِ تَمنَعُ شَيئاً مِنْ قَضاءِ اللهِ عَليهم، ولكنْ حاجَةٌ في نفسِ والدِهمْ أظهرَها؛ دَفعًا لإصَابتِهمْ بالعَين؛ خَوفًا وشَفَقةً عليهم. إنَّ نبيَّ اللهِ يَعقوبَ ذو عِلمٍ جَليل، لِمَا عَلَّمناهُ بالوَحي، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعرِفونَ سِرَّ القَدَر، وحُسْنَ التوَكُّل، وما خُصَّ بهِ الأنبياءُ مِنَ العِلم.
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَخَاهُۖ قَالَ إِنِّيٓ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [يوسف :69]
ولمّا قَدِموا على يوسُفَ رَحَّبَ بهمْ وأكرمَ نُزُلَهم، وضَمَّ إليهِ شَقيقَهُ بِنيامِين - وهوَ مِنْ أُمِّهِ دونَ الآخَرينَ - وقالَ لهُ بلُطفٍ وحَنان: أنا أخُوكَ يوسُف، فلا تَحزَنْ بما فَعَلُوهُ مَعي، ولا تأسَفْ على صَنيعِهمْ وسُوءِ مُعاملتِهم، واكتُمْ خبَرَنا عَنهم. واتَّفقا على خُطَّةٍ لإبقائهِ عِندَه.
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ﴾ [يوسف :70]
فلمّا وفَّى كَيْلَهم، وجَهَّزَ رَكْبَهمْ وحَمَّلَهُ بالمِيرَةِ والطَّعام، أمرَ بعضَ أعوانِهِ أنْ يَضعَ إناءَ السُّقيا في رَحْلِ بِنيامين، ولمّا انطلَقوا نادَى مُنادِي يوسُفَ أنْ قِفوا أيُّها الرَّكْبُ فقدْ سَرقتُمْ لنا مَتاعًا.
﴿قَالُواْ وَأَقۡبَلُواْ عَلَيۡهِم مَّاذَا تَفۡقِدُونَ﴾ [يوسف :71]
دُهِشَ الإخوَةُ مِنْ هذا الاتِّهامِ الذي لا يَليقُ بهم، فعادوا في انكِسارٍ وانزِعاج، وقالوا وقدْ أقبَلوا عَليهم: ما الذي فقَدتُموه، وعمَّ تَبحَثون؟
﴿قَالُواْ نَفۡقِدُ صُوَاعَ الۡمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ﴾ [يوسف :72]
قالوا: ضاعَ مِنَّا كأسُ المَلِكِ الثَّمينُ، ولِمَنْ عَثَرَ عَليهِ وسَلَّمَهُ لنا حِمْلُ بَعيرٍ مِنَ الطَّعام، قالَ المُنادي: وأنا كَفيلُ بأنْ أُؤدِّيَهِ إليه.
﴿قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدۡ عَلِمۡتُم مَّا جِئۡنَا لِنُفۡسِدَ فِي الۡأَرۡضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ﴾ [يوسف :73]
قالَ إخوةُ يوسُف: واللهِ لقدْ عَلِمتُمْ مِنْ حالِنا أنَّنا لم نأتِ لغَرَضِ الإفسَادِ والتَّخريب، وليسَ مِنْ شِيَمِنا أنْ نَكونَ لُصوصًا، ولم نَسرِقْ لكمْ شَيئاً.
﴿قَالُواْ فَمَا جَزَـٰٓؤُهُۥٓ إِن كُنتُمۡ كَٰذِبِينَ﴾ [يوسف :74]
قالَ لهمُ المُنادِي وأصحابُهُ: فما عِقابُ مَنْ وُجِدَتِ الكأسُ في رَحْلِه، إذا كنتُمْ كاذِبينَ في ادِّعاءِ البَراءة؟
﴿قَالُواْ جَزَـٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَـٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي الظَّـٰلِمِينَ﴾ [يوسف :75]
قالوا: عِقابُ مَنْ وُجِدَتِ الكأسُ في رَحْلِهِ هوَ استِرقاقُه - أو أَسْرُهُ - هذا هوَ جَزاؤه، وهذهِ هيَ شَريعَتُنا في الحُكمِ على السَّارِق.
﴿فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ اللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ﴾ [يوسف :76]
فبدأ المُنادِي بالبَحثِ في أمتِعَتِهم، تَورِيَةً، ثمَّ فتَّشَ أمتِعةَ بِنيامينَ أخي يوسُف، فاستَخرجَ الكأسَ مِنْ بينِها.
وبمثلِ هذا التَّدبيرِ الدَّقيقِ حصَّلْنا ليوسُفَ مَقصودَه، وما كانَ قادِرًا على ضَمِّ أخيهِ إلى نفسِهِ في شَريعةِ مَلِكِ مِصر، فإنَّ السَّارِقَ فيها يُعاقَبُ ثمَّ يُترَك، فأخذَ الحُكمَ مِنْ إخوَةِ يوسُفَ أنفسِهم، حيثُ تَقضي شَريعَتُهمْ باستِرقاقِ السَّارق، أو أسْرِه. وهكذا شاءَ اللهُ سُبحانَه. نَرفَعُ درَجاتِ مَنْ نشَاءُ بالعِلمِ والحِكمة، كما رفَعنا درَجَةَ يوسُف. واللهُ العَليم، الذي أحاطَ عِلمُهُ بكُلِّ شَيء، وعِلمُهُ تعالَى فَوقَ عِلمِ كُلِّ العُلَماء.
﴿۞قَالُوٓاْ إِن يَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخٞ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ يُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّٞ مَّكَانٗاۖ وَاللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف :77]
قالَ إخوةُ يوسُف: إذا كانَ بِنيامينُ سَرَق، فقدْ سَرَقَ شَقيقُهُ يوسُفُ مِنْ قَبل!
فأضمرَ يوسُفُ مَقالتَهمْ في نَفسِهِ ولم يُجِبهُمْ عنها، ولم يُظهِرْها لهم، وهوَ يَعلَمُ براءَتَهُ وبَراءةَ أخيهِ منَ السَّرِقَة، فقالَ في نَفسِهِ عليهِ السَّلام: أنتُمْ شَرٌّ مَنزِلَةً عندَ اللهِ ممَّنْ رَمَيتُموهُ بالسَّرِقَة، وهذهِ التُّهمةُ تَنطَبقُ عَليكمْ عِندَما سَرَقتُمْ أخاكُمْ مِنْ أبِيكمْ ثمَّ كَذَبتُمْ عَليه، فاللهُ أعلَمُ بحقيقَةِ ما تَقولون، والأمرُ ليسَ كما تَصِفون.
﴿قَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا الۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [يوسف :78]
وتذَكَّروا العَهدَ الذي أخذَهُ منهمْ والِدُهمْ للحِفاظِ على أخي يوسُفَ وإعادَتِهِ إليه، فأخَذوا يَستَعطِفونَ يوسُفَ ويَستَرحِمونَهُ لإطلاقِ سَراحِه، قالوا: أيُّها العَزيز، إنَّ لهُ أبًا، وهوَ شَيخٌ كبيرٌ طاعِنٌ في السِّنّ، يُحِبُّهُ حُبًّا شَديدًا، ولا يُطِيقُ فِراقَه، فخُذْ أحدَنا عِوَضًا عنه، إنّا نَراكَ رَجُلَ خَيرٍ وإحسَان، وعَدلٍ وإنصَاف.
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥٓ إِنَّآ إِذٗا لَّظَٰلِمُونَ﴾ [يوسف :79]
قالَ لهمْ يوسُفُ عليهِ السَّلام: نَعوذُ باللهِ أنْ نأخُذَ إلاّ مَنْ وجَدنا الكأسَ عِندَه، فإذا أخذنا غيرَهُ ولو برِضَاه، فقدْ ظَلمنا، كما هوَ في شَريعَتِكم، ونَعوذُ باللهِ أنْ نَكونَ منَ الظَّالِمين.
﴿فَلَمَّا اسۡتَيۡـَٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ الۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ اللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ الۡحَٰكِمِينَ﴾ [يوسف :80]
فلمّا يَئسوا مِنْ يوسُفَ ولم يَتمَكَّنوا منْ تَخليصِ بِنيامين، انفرَدوا عنِ النَّاسِ يَتناجَونَ ويَتشاورونَ فيما بينَهم، ما الذي يَفعَلُونَه، وكيفَ يَتصرَّفون؟
قالَ كبيرُهمْ مُذَكِّرًا: ألمْ تَعلَموا أنَّ أباكُمْ قدْ أخذَ عَليكمْ عَهدًا مُوَثَّقًا لَتَرُدُّنَّهُ إليه، معَ ما تَقدَّمَ مِنْ صَنيعِكمْ بيوسُفَ وكَذِبِكمْ عَليه؟ فلَنْ أُفارِقَ أرضَ مِصرَ حتَّى يَسمحَ لي أبي بالرُّجوعِ إليهِ راضِيًا عنِّي، أو يَحكُمَ اللهُ لي بما شَاء، وهوَ سُبحانَهُ الحَكَمُ العَدْل، الذي لا يَقضي إلاّ بالحَقّ.
﴿ارۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّ ابۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ﴾ [يوسف :81]
عُودوا إلى أبيكمْ وأخبِروهُ بما حصَل، وقولوا: إنَّ ابنَكَ بِنيامينَ سَرَقَ إناءَ المَلِك، وما شَهِدنا عَليهِ إلاّ بما عَلِمناهُ مِنْ سَرِقَتِه، وبَقيَ هُناكَ أسيرًا جَزاءَ سَرِقَتِه، وما كُنّا عالِمينَ بما سيَحدُثُ في الغَيب.
﴿وَسۡـَٔلِ الۡقَرۡيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالۡعِيرَ الَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ﴾ [يوسف :82]
واسألْ أهلَ مِصرَ عنِ القِصَّة، والرِّفقةَ الذينَ صاحَبناهُمْ في السَّفَر، ونحنُ صَادِقونَ فيما أخبَرناكَ به.
﴿قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ الۡعَلِيمُ الۡحَكِيمُ﴾ [يوسف :83]
فوَصَلوا إليه، وأخبَروهُ بذلك، فقالَ لهمْ عليهِ السَّلام: بلْ زَيَّنَتْ لكمْ أنفُسُكمْ أمرًا ما ونَفَّذتُموه، وسأصبِرُ على بِنيامينَ كما صَبَرتُ على يوسُفَ مِنْ قَبل، صَبرًا حسَنًا يُرضي رَبِّي، وعسَى أنْ يأتيَني بهما وبأخيهِما المُتوَقِّفِ بمِصر، إنَّهُ عَليمٌ بحَالي وحالِهم، حَكيمٌ فيما يَبتَلي بهِ خَلْقَه، وفي قَضائهِ وقَدَرِه.