تفسير الجزء 13 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثالث عشر
13
سورة يوسف (53-111)
سورة الرعد
سورة إبراهيم

﴿وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ الۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ﴾ [يوسف:84]


وأعرضَ عنْ بَنيهِ وقدْ تَجدَّدَ حُزنُهُ وزَاد، وقال: يا حُزني ويا أسَفي على يوسُف. وابيضَّتْ عَيناهُ من شِدَّةِ الحُزنِ علَى وَلدَيه، وكانَ مَغمومًا مَكروبًا، قدِ امتلأَ قلبُهُ بالأسَى والغَمّ، ولكنَّهُ ساكِتٌ لا يَبثُّه.

﴿قَالُواْ تَاللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ الۡهَٰلِكِينَ﴾ [يوسف:85]


قالَ لهُ بَنوه: واللهِ لا تَزالُ تَذكرُ يوسُفَ ولا تُفارِقُ ذِكرَهُ حتَّى تَضعُفَ قُوَاكَ وتَكونَ منَ الميِّتين.

﴿قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى اللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف:86]


قالَ لهمْ يَعقوبُ عليهِ السَّلام: إنَّما أشْكو غَمِّي وحُزني إلى اللهِ وحدَه، وأتَضرَّعُ إليهِ ليَدفعَهُ عنِّي، وأنا أعلَمُ مِنْ لُطفِ اللهِ ورحمَتِه، وخَيرِهِ وإحسانِه، ما لا تَعلمونَ أنتُم.

﴿يَٰبَنِيَّ اذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ اللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ اللَّهِ إِلَّا الۡقَوۡمُ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [يوسف:87]


ثمَّ قالَ لهم: اذهَبوا إلى مِصرَ وتعَرَّفوا خبَرَ أخوَيكُما يوسُفَ وبِنيامين، ولا تَقطَعوا الرَّجاءَ والأملَ مِنْ فَرَجِ اللهِ ورَحمَتِه، إنَّهُ لا يَقنَطُ مِنْ فَرَجِ اللهِ - ولو أحاطَ بهمُ الكَرْبُ - إلاّ الكافِرون؛ لإنكارِهمْ سَعَةَ رَحمَةِ الله، واستِبعادِهمْ عَفوَه.

﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا الۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا الضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا الۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ اللَّهَ يَجۡزِي الۡمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف:88]


فخرَجوا إلى مِصر، ودخَلوا على يوسُفَ عليهِ السَّلام، وقالوا له: أيُّها العَزيز، لقدْ أضَرَّتْ بِنا المَجاعة، وأصابَنا وأهلَنا الشِّدَّةُ والجُوع، وأتَينا ببِضاعَةٍ قَليلَةٍ رَديئةٍ كاسِدة، لا تَكفي مِقدارَ ما نَحتاجُهُ مِنْ طَعام، فأعطِنا ما نَحتاجُه، ولا تَنقُصْ عنَّا شَيئاً، وتَفَضَّلْ عَلينا بالزِّيادة، إنَّ اللهَ يُثيبُ المَتصَدِّقين، ويَجزِيهمْ خَيرًا.

﴿قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ﴾ [يوسف:89]


فرَقَّ لهمْ يوسُف، وتَصَوَّرَ حالَ أبيهِ يَعقوبَ وما هوَ فيهِ منْ حُزنٍ وفَقر، فقالَ لهمْ مُنهِيًا أسرارَ القِصَّةِ معَهم: هلْ تَذكرونَ سُوءَ فِعلِكمْ معَ يوسُفَ وأخيهِ أيّامَ جَهلِكمْ وطَيشِكم؟

﴿قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ اللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [يوسف:90]


فتَبادرَ إلى ذِهنِهمْ أنَّ هذا الذي يُكَلِّمُهمْ هوَ يوسُفُ نَفسُه، فقالوا: أوَ أنتَ يوسُف؟ قال: نَعم، أنا يوسُف، وهذا أخي، قدْ أنعمَ اللهُ عَلينا فجَمعَ بينَنا بعدَ الفُرقَة، وآنسَنا بعدَ الوَحشَة، وأعزَّنا بعدَ ذُلّ، وإنَّ مَنْ يَخشَى اللهَ في أمورِه، ويَصبِرُ على ما ابتُليَ به، فإنَّهُ لا يُضِيعُ أجرَهم، بلْ يَجزيهِمْ خَيرَ الجزاء، ويَزيدُهمْ مِنْ فَضلِه.

﴿قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِـِٔينَ﴾ [يوسف:91]


فقالوا مُعتَذِرينَ وقدْ غَشَّاهمُ الخِزيُ والخجَل، مُعتَرِفينَ بفَضلِهِ وحِلْمِه، وكَرَمِهِ وصَبرِه، وعِلمِهِ وأدَبِه: لقدِ اختارَكَ اللهُ وفضَّلكَ عَلَينا، وقدْ أسأنا إليك، وأخطأنا في حَقِّك.

﴿قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ الۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ اللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ الرَّـٰحِمِينَ﴾ [يوسف:92]


قالَ لهمْ يوسُفُ عليهِ السَّلام: لا تأنيبَ عليكمُ الآنَ ولا لَوم، ولا مؤاخَذَةَ ولا تَعْيير. غفَرَ اللهُ لكمْ ورَحِمَكم، وهوَ أرحَمُ مَنْ رَحِم، يَغفِرُ الصَّغائرَ والكبَائر، ويَتفضَّلُ على التَّائبِ بقَبولِ تَوبَتِه.

﴿اذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [يوسف:93]


ثمَّ قالَ لهم: اذهَبوا إلى أبي وأَلقُوا بقَميصِي هذا على وَجهِه، يَصِرْ بَصيرًا. - وكانَ هذا مُعجِزةً لهُ عليهِ السلام، وكانَ والدُهُ قدِ ابيضَّتْ عَيناهُ منَ الحُزنِ عَليه - وأْتُوني بجَميعِ آلِ يَعقوبَ ليَكونوا عِندي.

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف:94]


ولمَّا خرَجَتِ القافِلةُ مِنْ مِصرَ مُتَّجِهَةً إلى مَكانِ يَعقوبَ عَليهِ السَّلام، قالَ لمَنْ حَولَهُ مِنْ آلِه: إنَّني أشُمُّ رائحةَ يوسُف، لو لا أنْ تَقولوا إنَّ الشَّيخَ يَخرَف.

﴿قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ الۡقَدِيمِ﴾ [يوسف:95]


قالوا: واللهِ إنَّكَ في خَطَئكَ السَّابق، مِنْ تَذَكُّرِ يوسُف، والإفراطِ في محبَّتِه، والحُزنِ عَليه، وانتِظارِه.

﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ الۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَارۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف:96]


فلمّا وصَلَتِ القافِلَة، ودخلَ المُبَشِّرُ على أبيهِ يَعقوب، وألقَى قَميصَ يوسُفَ على وجهِه، عادَ بَصيرًا، وقالَ لهمْ وهوَ فَرِحٌ مُستَبشِر: ألمْ أقُلْ لكمْ إنِّي أعلَمُ مِنْ قِبَلِ اللهِ ما لا تَعلَمونَ أنتُمْ مِنْ حياةِ يوسُف، وأمرتُكمْ بالبَحثِ عَنه، ونهَيتُكمْ عنِ اليأسِ منْ رَحمَةِ الله؟

﴿قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَا اسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِـِٔينَ﴾ [يوسف:97]


قالَ لهُ أولادُهُ كما قالوا ليوسُفَ مُعتَذِرين: يا أبَانا ادْعُ اللهَ أنْ يَغفِرَ لنا خطيئتَنا، فقدْ كُنّا مُذنِبينَ مُتَعَمِّدين.

﴿قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ الۡغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يوسف:98]


قالَ لهمْ عليهِ السَّلام: سأطلبُ منَ اللهِ أنْ يَغفِرَ لكم، فهوَ يَغفِرُ ذُنوبَ عِبادِهِ التَّائبين، ويَرحَمُهمْ فلا يُعَذِّبُهمْ بها، إذا عرَفَ صِدقَ تَوبَتِهمْ منها.

﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ادۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ﴾ [يوسف:99]


وشَدُّوا رِحالَهمْ إلى الكَريمِ يوسُف، فلمّا دخَلوا عَليهِ ضَمَّ إليهِ أبوَيهِ واعتَنقَهُما بشَوقٍ وحَنان، وقالَ لهمْ جَميعًا: ادخُلوا مِصرَ واستَقِرُّوا فيها آمِنينَ مُطمَئنِّين.

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى الۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ السِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ الشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ الۡعَلِيمُ الۡحَكِيمُ﴾ [يوسف:100]


ورفَعَ يوسُفُ أبوَيهِ على السَّريرِ وأجلسَهُما معَهُ تَكريمًا لهما، وسجَدَ لهُ أبواهُ وإخوَتُهُ - وكانوا أحدَ عشَرَ شَخصًا - سُجودَ تَحيَّةٍ وتَكريم، لا سُجودَ عِبادَة، تَعظِيمًا وتَوقيرًا لهُ عَليهِ السَّلام.

وقدْ يَكونُ السُّجودُ بوَضعِ الجِباهِ على الأرض، أو بالانحِناءِ والتَّواضُع. وكانَ ذلكَ جائزًا في الأُمَمِ الماضِية، ثمَّ نُسِخَ في شَريعتِنا، فلا سُجودَ إلاّ للهِ تعالَى.

والتفَتَ يوسُفُ إلى أبيهِ مُذَكِّرًا إيّاهُ بالحُلُمِ الذي رآهُ وهوَ غُلام، وقال: يا أبتي، هذا تأويلُ رؤيايَ التي قَصَصتُها عَليكَ مِنْ قَبل: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [سورة يوسُف: 4]. فالشمسُ والقمَرُ الأبَوان، والأحدَ عشرَ كَوكبًا إخوَتُه. وقدْ جعلَ اللهُ هذهِ الرُّؤيا حقًّا وصِدقًا، وأنعمَ اللهُ عليَّ ولطَفَ بي عِندَما أخرجَني مِنَ السِّجن، وجاءَ بكمْ منَ البادِيةِ إلى الحَضَر، بعدَ أنْ أفسدَ الشَّيطانُ بَيني وبينَ إخوَتي بالحسَدِ والبُغض، إنَّ رَبِّي ذو لُطفٍ وحِكمَةٍ في تَدبيرِ ما يَشاء، وهوَ عَليمٌ بما يُصلِحُ الناسَ، حَكيمٌ بما يُقَدِّرهُ لهمْ وعَليهم.

﴿۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ الۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ الۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِالصَّـٰلِحِينَ﴾ [يوسف:101]


ثمَّ تَوجَّهَ إلى ربِّهِ حامِدًا شاكِرًا وقال: اللَّهمَّ إنَّكَ وهَبتَني ما شِئتَ مِنْ سُلطانٍ ومكانَة، وتصرُّفٍ في مُلْكِ مِصر، وعلَّمتَني مِنْ تَعبيرِ الرُّؤيا ما شِئت، يا خالِقَ السَّماواتِ والأرضِ ومُبدِعَهما، أنتَ مُعيني ومُتولِّي أمْري وناصِري في الدُّنيا والآخِرة، اقبِضني إليكَ على الإيمانِ والإسلام، وألحِقني بالصالِحينَ مِنْ آبائي الأنبياءِ المُكْرَمين.

﴿ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ الۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ﴾ [يوسف:102]


وما ذُكِرَ مِنْ خَبَرِ يوسُفَ هوَ مِنْ قَصَصِ الغَيبِ الذي نُوحيهِ إليكَ أيُّها الرسُولُ محمَّد، وليسَتْ أسَاطير، وما كنتَ إذْ ذاكَ عِندَ إخوةِ يوسُفَ عِندما اجتَمعَ رأيُهمْ وعزَموا على إلقاءِ يوسُفَ في الجُبِّ وهمْ يَكيدونَ له، بلْ هوَ وحيٌ أوحَيناهُ إليكَ دونَ أنْ تَكونَ لكَ مَعرِفَةٌ مُسبَقَةٌ بهِ على هذا الوَجه.

﴿وَمَآ أَكۡثَرُ النَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ﴾ [يوسف:103]


وما أكثَرُ النَّاسِ بمؤمنينَ لكَ أيُّها الرسُولُ ولو حرَصتَ على إيمانِهمْ أشَدَّ الحِرص، وبالَغْتَ في الحِوارِ معَهم، وأورَدتَ لهمُ الآياتِ والحُجَجَ الدالَّةَ على صِدقِك، وذَكرْتَ لهمْ مِنَ القَصَصِ والأخبارِ المَغيبةِ عنهمْ ما شَاءَ اللهُ منْ ذلك، وهذا لعِنادِهمْ وإصرارِهمْ على الكُفرِ والتَّكذيب.

﴿وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [يوسف:104]


وأنتَ لا تَطلبُ منهمْ على تَبليغِكَ الرِّسَالة، ودَعوتِهمْ إلى اللهِ أُجرةً يُؤدُّونَها إليك، وما هوَ إلاّ تَذكِرَةٌ وعِظَةٌ لهمْ وللنَّاسِ عامَّة، ليَتذَكَّروا ويَعتَبِروا ويَهتَدوا.

﴿وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ﴾ [يوسف:105]


وكمْ مِنْ آياتٍ دالَّةٍ على وَحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِهِ مَبثوثَةٍ في السَّماواتِ والأرض، مَعروضَةٍ أمامَ الأعيُن، يُشاهِدُها النَّاس، ولكنَّهمْ لا يَتفكَّرونَ فيها، ولا يَعتَبرونَ بها، للأُلفَةِ والعَادةِ التي هُمْ عَليها، فاكتَفَوا برُؤيتِها هكذا دونَ التعمُّقِ فيها ومَعرِفةِ الحِكمةِ منها، ولذلكَ لا تَجِدُ أكثرَهُمْ مؤمِنين.

﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ﴾ [يوسف:106]


وإذا آمَنوا باللهِ خلَطوا معَ إيمانِهمْ هذا أنواعًا منَ الشِّرك، فإذا أقَرُّوا باللهِ الخالِقِ الرازِقِ وجدتَهمْ يَعبدونَ أصنامًا، أو أفلاكًا، أو أناسِيّ، فهمْ مُشرِكونَ مُناقِضونَ للإيمانِ الذي أمرَ اللهُ به، وهوَ التوحِيدُ الخالِص، وعدَمُ الإشراكِ به، ولذلكَ فهمْ يَستَحِقُّونَ العِقاب. والمَقصودُ غَيرُ المُسلِمين.

﴿أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَةٞ مِّنۡ عَذَابِ اللَّهِ أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [يوسف:107]


أفأمِنَ المُعرِضونَ عنْ آياتِ الله، والمُشرِكونَ به، أنْ تُصيبَهمْ عُقوبَةٌ مِنْ عندِ اللهِ تَعمُّهمْ وتَقضي عَليهمْ جَميعًا؟ أو تقومَ القيامةُ وهمْ لاهُونَ لم يَستَعِدُّوا لها، فيَموتوا على الكفرِ ويَستَحِقُّوا العَذابَ الأليم؟

﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى اللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ اللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [يوسف:108]


قُلْ للنَّاسِ أيُّها الرَّسُول: إنَّ هذا الذي أدعُوكُمْ إليهِ منَ الإيمانِ والتوحِيد، هوَ المَسْلَكُ الحَقّ، والطريقُ المستَقيم، الذي لا عِوَجَ فيهِ ولا شُبهَةَ عليه، وأنا على نُورٍ وهِدايَةٍ منَ اللهِ بما يوحِيهِ إليَّ ويُسَدِّدُني فيه، وعلى عِلمٍ ويَقينٍ منْ ذلك، أنا والذينَ اتَّبعوا هذا الدِّينَ منَ المؤمِنين، لا نَلتَوي ولا نَزيغُ عنه، وأُجِلُّ اللهَ وأُعَظِّمُه، وأُنَزِّهُهُ عمّا يُنْسَبُ إليهِ منَ الشِّرك، وعَمّا لا يَليقُ بجَلالهِ وكمالِه، ولسْتُ منَ المشرِكينَ في أمرٍ منْ أموري، بلْ أُخلِصُ عمَلي لله، في صَلاتي، ونُسُكي، ومَحياي، ومَماتي.

﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ الۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ الۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ اتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يوسف:109]


ولم نُرسِلْ قَبلَكَ منَ الرُّسُلِ نِساءً أو ملائكة، بلْ رِجالاً نوحِي إليهمْ كما أوحَينا إليك، مِنْ أهلِ الحاضِرَةِ لا البادِية، لأنَّهمْ أعلَمُ وأحلَم، وأليَنُ وألطَف.

أفلا يَسيرُ هؤلاءِ المُكَذِّبونَ في الأرْض، ليَرَوا بأعيُنِهمْ آثارَ الغابِرين، أو يَسألوا النَّاسَ ويَقرَؤوا التَّاريخ، كيفَ كانتْ عاقِبةُ المُكَذِّبينَ بالرسُل، كيفَ أهلكَهمُ اللهُ بسَبَبِ تَكذيبِهمْ وإصرارِهمْ على الكُفر؟

وإنَّ الدارَ الآخِرةَ الباقيَة، والجنَّةَ ونَعيمَها، خَيرٌ لمَنْ ثبَتَ على طاعَةِ اللهِ وتَقواه، مِنَ الدُّنيا الفانيَةِ ومُنَغِّصاتِها، أفلا تَعقِلونَ وتَتَدَبَّرونَ سُنَنَ اللهِ في الأقْوامِ السَّابِقين، لتُمَيِّزوا الصَّحيحَ مِنَ السَّقيم، وتُفَضِّلوا الباقيَ على الفَاني؟

﴿حَتَّىٰٓ إِذَا اسۡتَيۡـَٔسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ الۡقَوۡمِ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [يوسف:110]


حتَّى إذا يئسَ الرسُلُ منِ استِجابَةِ الكافِرينَ المُجرِمين، ولم يُتابِعْهمْ على دَعوتِهمْ إلاّ القَليلُ مِنَ المؤمِنين، وصبَروا على تَكذيبِ الكافِرينَ واستِهزائهم، وعلى تَماديهمْ في الكُفرِ والضَّلالِ سَنواتٍ وسَنوات، وقدْ بلَغَ الجَهدُ والكَرْبُ بالرُّسُلِ ما بلَغ، وصَاروا يَنتَظِرونَ الوعدَ بالنَّصر، وكأنَّهمْ لا يَرونَهُ قَريبًا، حتَّى تَوهَّموا أنَّ نُفوسَهمْ كذَّبَتْهُمْ حينَ حدَّثَتْهُمْ بأنَّهمْ سيُنْصَرون، عِندَئذٍ جاءَهمْ نَصرُنا...

أو أنَّ أتْباعَ الرسُلِ ظَنُّوا ذلك...

وبقراءَةِ "كُذِّبوا" بالتَّشديد، يَعني أنَّ الرسُلَ كُذِّبوا مِنْ قِبَلِ أقوامِهم تَكذيبًا لا إيمانَ بعدَه... جاءَهمْ نَصرُنا فَجأة، حاسِمًا فاصِلًا...

فنُنَجِّي مِنْ بينِهمْ مَنْ نشَاءُ مِنَ الهَلاك، وهُمُ الرسُلُ وأتْباعُهم، ويَحِلُّ بأسُ اللهِ بالكافِرينَ المُكَذِّبين، ولا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَرُدَّ العَذابَ عنهم.

﴿لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي الۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ الَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [يوسف:111]


لقدْ كانَ في خبَرِ الأنبياءِ معَ أُمَمِهم، ومِنْ ذلِكَ قِصَّةُ يوسُفَ معَ إخوتِهِ وأبيه، ثمَّ سَجنُهُ، ومَآلُ أمرِه، تَذكِرةٌ وعِبرَةٌ لذَوي العُقول، أهلِ الفِكرِ والاعتِبار.

وما كانَ هذا القُرآنُ العَظيم، الذي احتَوَى على قَصَصِ الأنبياءِ وغيرِها ممّا فيهِ فائدةٌ وعِبرَة، ما كانَ كلامًا مُختَلَقًا، ولا حِكايةً شَعبيَّةُ تُسرَد، فإنَّ الكذِبَ لا يُحَقِّقُ هِداية، ولا يَطمَئنُّ إليهِ النَّاس، ولكنَّهُ كِتابُ هِدايةٍ وتَوجيه، صدَّقَ الكتُبَ السَّماويةَ السَّابِقة، وشَهِدَ لها بالصحَّةِ إذا وافقَتِ الوحي. وفيهِ بيانُ ما يَحتاجُهُ النَّاس، مِنْ عِبادات، ونِظامِ حياة، وتَربيَةٍ وأخلاق، وهوَ هِدايةٌ منَ الغَيِّ والضَّلالِ إلى الحقِّ والرَّشَاد، ورحمَةٌ لهمْ مِنْ ربِّ العِباد، يَنالونَ بها خَيرَ الدُّنيا والآخِرة. هذا لمَنْ صدَّقَ بكتابِ الله، وآمنَ بالإسلامِ كُلِّه، واتَّبعَ هُداه.

سورة الرعد - مدنية - عدد الآيات: 43

13

﴿الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ الۡكِتَٰبِۗ وَالَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ الۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الرعد:1]


الحروفُ المُقطَّعةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثُ ثابِتٌ صَحيح، واللهُ أعلَمُ بمَعناها.

هذهِ آياتُ القُرآنِ الكَريم، وما أنزلَهُ اللهُ إليكَ أيُّها النبيُّ منَ الوَحي في هذا القُرآنِ هوَ الحقُّ الذي لا يتَطرَّقُ إليهِ الشَّكّ، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يؤمِنونَ به، لعِنادِهم، أو عدَمِ تدَبُّرِهمْ فيه.

﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ اسۡتَوَىٰ عَلَى الۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ الشَّمۡسَ وَالۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ الۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد:2]


هوَ اللهُ القادِرُ العَظيم، الذي خلقَ السَّماواتِ ورفعَها إلى أبعادٍ لا يَعرِفُ مَداها إلاّ هو، بغَيرِ دَعائمَ ترَونَها مُستَنِدَةً إلى الأرضِ أو غَيرِها، ولكنَّها مَوجودَةٌ وإنْ لم تُرَ، ربَّما كالجاذبيَّةِ التي في الأرْضِ وفي كَواكبَ أخرَى، لتَستَقِرَّ ولا تَصطدِمَ بغيرِها.

ثمَّ استوَى اللهُ سَبحانَهُ على العَرش، استِواءً يَليقُ بذاتِهِ وجَلالِه.

وسخَّرَ الشَّمسَ والقمرَ فجعلَهما مُذلَّلَينِ طائعَينِ لِما يُرادُ منهما في خِدمَةِ الإنسَان، وهما يَجريانِ بسُرعَةٍ مُقَدَّرة، إلى حَدٍّ مُعَيَّنٍ وأجَلٍ مُحَدَّد، ليَتكوَّنَ مِنْ حركاتِهما اللَّيلُ والنَّهار، والشهرُ والسَّنَة.

وهوَ سُبحانَهُ الذي يَتصَرَّفُ في شُؤونِ هذا العالَمِ كما يَشاء، ويُدَبِّرُهُ أحسنَ تَدبير، حتَّى لا يَختلَّ نِظامُه.

ويُبَيِّنُ اللهُ لكمْ هذهِ الأمورَ الدالَّةَ على قُدرَتِهِ وتَوحيدِهِ لتتَفكَّروا وتَعتَبِروا، وتَعلَموا أنَّهُ قادِرٌ على إعَادةِ خَلقِكمْ كما بَدأه.