وسَطحُ الأرضِ أنوَاع، ففيهِ أجزاءٌ يُجاوِرُ بعضُها بَعضًا إلاّ أنَّها مُختَلِفَةٌ ومُتباينَة، ففيها ما يَصلُحُ للزَّرعِ وفيها ما لا يَصلُح، وبعضُها كثيرُ الإنتاجِ وبعضُها قَليل، وبعضُها رَخْوٌ وبعضُها صُلب. فمَنْ قدَّرَ لها أنْ تَكونَ كذلك؟
وفيها بَساتينُ كثيرةٌ منْ أشْجارِ العِنَب، وزَرْعٌ فيهِ أنواعُ الحُبوبِ والبُقول، ونخيلٌ: مُجتَمِعٌ ومُتفَرِّق، أو متمَاثلٌ وغيرُ متمَاثل. وكُلُّها يُسقَى بماءٍ واحِد، ولكنَّ الثِّمارَ مُختَلفَةُ الطَّعم... ونُفَضِّلُ بعضَ هذهِ الزُّروعِ والثِّمارِ على بعضِها الآخَرِ في الطَّعْمِ والفَائدةِ وغيرِ ذلك.
وقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قَولهِ تعالَى {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}: " الدَّقَل، والفارسِيّ، والحُلو، والحامِض". وهوَ حَديثٌ حسَن. والدَّقَل: رَديءُ التَّمرِ ويابسُه، والفارِسيّ: نَوعٌ مِنَ التَّمر.
وفي ذلكَ آياتٌ وأدِلَّةٌ واضِحةٌ على قُدرَةِ الخَالقِ وبَديعِ صُنعِه. هذا لمَنِ استَعمَلَ عَقلَهُ وتفَكَّر، وابتعدَ بنفسِهِ عنِ التَّقليدِ والهوَى.
وإذا عَجِبتَ مِنْ شَيءٍ أيُّها النبيّ، فتعَجَّبْ مِنْ قَولِ الكافِرينَ الذينَ يَقولون: إذا صِرنا عِظامًا وتُرابًا بعدَ المَوت، سيُعادُ خَلقُنا منْ جَديد؟
إنَّهمْ يُنكِرونَ بَعثَ الخَلْقِ على الرَّغمِ مِنْ إيمانِهمْ بابتِدائه، وكأنَّهمْ لا يَتفكَّرونَ بما حَولَهمْ منَ الثِّمارِ والزُّروع، التي تَموت، ثمَّ تَحيا مِنْ جَديد، بقُدرَةِ الله، وهذا ما يَتكرَّرُ كُلَّ عامٍ مرَّةً أو مَرَّتين، وهمْ يُؤمِنونَ بأنَّ السَّماواتِ العَظيمَة، والأرضَ التي تَحمِلُهم، منْ خَلقِ الله، وفيها منَ الأحْياءِ والجَماداتِ والنَّباتاتِ ما يُبهِرُ العُقول، ويُوقِظُ القُلوب... أليسَ منَ العجَبِ ألاّ يَستَحوِذَ هذا كُلُّهُ على فِكرِهم، ويوقِظَ قُلوبَهم، ويُنبِّهَ عُقولَهم، فيتفَكَّروا في قُدرَةِ الخَالقِ العَظيمِ وتَدبيرِه، وأنّهُ قادِرٌ على الإحْياءِ والإمَاتة، كما يَبدو في مَظاهرِ الكَونِ وحرَكاتِ مَخلوقاتِهِ وتَفاعُلاتِه؟ ولكنَّهمْ كفَروا برَبِّهمْ عِندما لم يؤمِنوا بقُدرتِهِ على البَعث، وإنَّ إنكارَ قُدرتِهِ في هذا إنكارٌ لهُ سُبحانَه، ووَصفٌ لهُ بالعَجز، وتَكذيبٌ لهُ ولرسُلِه.
وهؤلاءِ جزاؤهمْ على كُفرِهمْ وتَكذيبِهمْ أنْ تُغَلَّ أعناقُهمْ وتُسحَبَ في النَّارِ يَومَ القِيامة، كما غَلُّوا عُقولَهمْ وأغلَقوا قُلوبَهمْ عنِ التَّفكيرِ والتدَبُّرِ في الدُّنيا، ويَكونُ مَصيرَهمُ الخُلودُ في النَّار، مؤبَّدينَ فيها، لا يتَحوَّلونَ عنها ولا يَموتونَ فيها.
وهؤلاءِ الكافِرونَ المُكذِّبونَ يَستَعجِلونكَ لتأتيَهمْ بالعُقوبةِ قبلَ أنْ يَسألوا الهِدايةَ والرَّحمَة، والعَافيةَ والسَّلامة، وقدْ سبقَتْ مِنْ قبلِهمُ العُقوباتُ للأُممِ الغابِرةِ التي كذَّبتْ أنبياءَها، وتُرِكوا مُثْلَةً ليَعتَبِرَ بهمْ مَنْ بَعدَهم، ولكنَّ الكافِرينَ غافِلونَ لا يَعتَبِرون.
وإنَّ اللهَ كثيرُ المَغفِرَةِ لذُنوبِ عِبادِه، معَ كونِهمْ يَظلِمونَ أنفُسَهمْ باستِمرار، بارتِكابِ الذُّنوبِ والمعَاصي، وهو شَديدُ العِقابِ لمَنْ أصرَّ ولم يُبالِ بعُقوبةِ اللهِ ولم يَعتَبرْ بما يُصيبُ الآخَرين.
ويَقولُ المُشرِكونَ كُفرًا وعِنادًا: هَلاّ أُنزِلَ على هذا النبيِّ مُعجِزة، مثلُ قَلْبِ العَصا إلى حَيَّة، وإحياءِ المَوتَى... وهذهِ خَوارِقُ لا يَقدِرُ الرسُولُ على أنْ يأتيَ بها مِنْ عندِه، إنَّما يأتي بها اللهُ بحِكمتِهِ عِندَما يرَى فيها فَائدة، وهؤلاءِ يَطلبونَ منَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُزيلَ عنهمْ جِبالَ مكَّةَ الكثيرةَ الشَّاهِقة، ويَجعلَها كُلَّها بَساتينَ ومُروجًا، وأنْ يَجعلَ جبلَ الصَّفا ذهَبًا...
ولو أنَّ اللهَ حقَّقَ هذهِ الخوارقَ على يدِ رَسولِهِ ولم يؤمِنوا لأهلكَهم، وهمْ يَطلبونَها عِنادًا وتَماديًا في الخُصومةِ لا للإيمان، وقدْ أيَّدَ اللهُ رَسولَهُ بمُعجِزَةٍ خالدةٍ كافيةٍ هيَ القُرآنُ الكريم، تحدَّى بهِ العَربَ أنْ يأتوا بعَشرِ آياتٍ مِنْ مِثلِه، وبينَهمْ فُصَحاءُ العرَبِ بلاغةً وخَطابةً آنذاك.
ولستَ أيُّها النبيُّ سِوَى نَذير، تُبلِّغُهمْ رِسالةَ اللهِ التي أمرَكَ بها، فتُبَصِّرُهمْ بالحقّ، وتُنذِرُهمْ سُوءَ عاقِبةِ مَنْ لم يتَّبِعْ دِينَ الله. ولكلِّ قَومٍ دَاعٍ إلى الحقّ، وأنتَ داعيَتُهمْ إليه، مِثلُ سائرِ الرُّسُلِ مِنْ قَبلِك.
وللهِ مَلائكةٌ يَتعاقَبونَ فيكمْ باللَّيلِ والنَّهار، فإذا صعَدَتْ مَلائكةُ اللَّيلِ جاءَ في عَقِبِها مَلائكةُ النَّهار، وإذا صعَدَتْ مَلائكةُ النَّهارِ جاءَ في عَقِبِها ملائكةُ اللَّيل، يَكونُونَ مِنْ أمامِ الإنسانِ ومِنْ وراءِ ظَهرِه، فيُحيطونَ بهِ مِن جَوانِبه، يَحفَظونَهُ بأمرِ اللهِ وإذنِه، فإذا جَاءَ القدَرُ تَرَكوهُ وقَدَرَه.
واللهُ لا يغَيِّرُ ما بقَومٍ مِنْ نِعمَةٍ وعافِيةٍ إلى نِقمَةٍ وعَذاب، حتَّى يُحدِثوا شَرًّا فيَتَحَوَّلوا إلى مَعصيةٍ وكُفرٍ وظُلم، ولا يُغَيِّرُ ما بهمْ مِنْ ذُلٍّ ومَهانَة، حتَّى يَتحَوَّلوا بأنفُسِهمْ ويتَمسَّكوا بأسبَابِ العِزِّ والنَّصر. فاللهُ يُغَيِّرُ ما بهمْ وُفْقَ ما صارَتْ إليهِ نفوسُهمْ وأعمالُهم.
وإذا أرادَ اللهُ أنْ يَبتَليَ قَومًا بمَرَضٍ أو فَقرٍ أو هَزيمة، أو غَيرِ ذلك منْ أنْواعِ البَلاء، فلا أحدَ يَقدِرُ على رَدِّ أمرِه، ولنْ يَكونَ لهمْ وليٌّ ولا ناصِرٌ يَدفَعُ عنهمْ ما يُصيبُهم.
والرَّعْدُ يَذكُرُ اللهَ فيُقَدِّسُهُ ويَحمَدُه، بكيفيَّةٍ لا نَعلمُها {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44] وهوَ مِثلُ غَيرِهِ مِنْ الظَّواهرِ الطبيعيَّةِ وحرَكاتِها، مأمورٌ بأمرِ الله، فلا يُصَوِّتُ الغَيمُ إلاّ بإذنِه، فإذا رعدَ سَبَّح. والملائكةُ كذلكَ تُسبِّحهُ وتَحمَدُه، مِنْ هَيبتِهِ وعظَمَتِه. واللهُ يُرسِلُ الصَّواعِقَ نِقمةً يَنتَقِمُ بها ممَّنْ شَاءَ فتُهلِكُه، والمُكَذِّبونَ يُنكِرونَ آياتِ الله، ويَشكُّونَ في قُدرتِه، ونِقمتِهِ وعُقوبتِه، وهوَ سُبحانَهُ شَديدُ الكَيدِ والقُوَّة، في عُقوبةِ مَنْ طغَى وتجبَّر، وعاندَ وتمادَى في الضَّلال، وأصرَّ على تَكذيبِ رسُلِه.
وقدْ نزَلتْ في رجُلٍ عاتٍ مِنْ فراعِنةِ العَرب، أرسلَ إليهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم رجُلاً مِنْ أصحابِهِ يَدعوهُ إليه، ثلاثَ مرَّات، وهوَ يأبَى، ويَقول: مَنْ رسُولُ الله؟ وما الله؟ أمِنْ ذهَبٍ هو، أمْ مِنْ فِضَّةٍ هو؟ أمْ مِنْ نُحاس؟ فوقعَتْ صاعِقةٌ فذهَبَتْ بقَحفِ رأسِه. (ذكرَ في مجمعِ الزوائدِ أن رجالَهُ رجالُ الصحيح).
قُلْ أيُّها النبيُّ للكافِرين: مَنْ خالقُ السَّماواتِ والأرضِ ومُدَبِّرُهما؟ قُلْ لهم: هوَ اللهُ وحدَه. وقُلْ إلزاماً لهمْ وتَقريعًا: أفاتَّخذتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً تَعبدونَهمْ وتَستَنصِرونَ بهم، وهمْ عاجِزونَ لا يَملِكونَ لأنفسِهمْ نَفعًا يَستَجلِبونَه، ولا ضُرًّا يَدفَعونَه، أوَ بعدَما عَلمتُمْ أنَّ اللهَ خالِقُ السَّماواتِ والأرضِ ومَنْ فيهِنَّ، ومُدَبِّرُهِنّ، وبيدِهِ كلُّ شَيء، كانَ عَليكمْ أنْ توَحِّدوهُ في العِبادةِ وتَستَنصِروا بهِ وحدَه، لكنْ صِرتُمْ تَعبُدونَ معَهُ آلهةً مِنْ حِجارةٍ بَكماء؟!
وهلْ يَستوي مُشرِكٌ جاهِلٌ بحَقِيقةِ التَّوحيد، وبَصيرٌ يَعبدُ اللهَ وحدَهُ وهوَ على نُورٍ مِنْ رَبِّه؟
أمْ هلْ يَستوي الكُفرُ والشِّركُ والضَّلالُ وهوَ ظُلُمات، معَ الإيمانِ والتَّوحيدِ والحقِّ وهوَ النورُ المُبِين؟
أجعلَ هؤلاءِ المشرِكونَ معَ اللهِ آلهةً تَخلقُ كما يَخلقُ الله، فتَشابَهَ عليهمْ بذلكَ أمرُ الخَلقِ فقالوا: اللهُ يَخلق، وهذهِ آلهتُنا تَخلق، فنَعبدُ هذا، ونَعبدُ هذا؟!
قُلْ لهم: إنَّ هذهِ الآلهةَ لا تَخلقُ شَيئاً كما تَرَون، بلِ اللهُ وحدَهُ خالقُ كُلِّ شَيء، وهوَ الواحِدُ الذي لا شَريكَ له، الغالِبُ على كلِّ ما سِواه.
أنزلَ اللهُ مطَرًا كثيرًا، فسالَتْ مِنْ ذلكَ الماءِ أودِيَة، كُلُّ وادٍ بحسَبِهِ وبمِقدارِ طاقَتِه، فحملَ الماءُ الجاري في تلكَ الأوديَةِ غُثاءً، نتيجةَ جيَشانِ مائهِ واضْطرابِ أمواجِه، وارتطامِهِ بأجسَام، فيَطفو هذا الغُثاءُ على الماءِ ويَنتَفِخُ فوقَهُ عاليًا حتَّى يَكادُ يَحجُبُه، وهوَ ما لا خَيرَ فيه.
ومَثَلٌ آخَر: المعادِنُ التي تُحمَى على النارِ لتُسبَكَ وتُصاغَ منهُ الحُليّ، كالذَّهَبِ والفِضَّة، بغرَضِ الزِّينَة. أو مَتاعٌ مِنْ أوانيَ وآلاتٍ مِنْ مَعادِنَ أُخرَى ممّا يُنتَفَعُ به، فلَهُ كذلِكَ خَبَثٌ مِثْلُ زَبَدِ الماء، يَعلو عَليه، حتَّى يَكادُ يَحجُبُ المَعدِنَ الأصْل.
وذلكَ مَثَلُ الحقِّ والبَاطِلِ في الواقعِ المُعاش، فإنَّ الزَّبدَ الذي عَلا السَّيْل، والخبَثَ الذي عَلا المَعدِن، سيُرمَى ويَضيع، لأنَّهُ لا تَماسُكَ فيهِ ولا فائدَةَ منه.
وأمّا الذي يَنفَعُ النَّاس، منَ الماءِ الحقيقيّ، والمَعدِنِ الأصلي، فهوَ الذي يَبقَى ولا يَذهَب، ويَصمَدُ ولا يُطْرَح.
وجعلَ اللهُ هذا مِثالاً للحقِّ والباطِل، فإنَّ الباطِلَ يَنتَفِخُ ويَعلو ويُجَلجِلُ حتَّى يَكادُ يُخفي الحقّ، لكنَّهُ يَختَفي مِنْ ضَوئهِ إذا برزَ له، ويَضمَحِلُّ حتَّى يَموت. والحقُّ هادِئٌ ثَقيلٌ مُتماسِك، ذو أصلٍ وجَذْرٍ قَويّ، يَبقَى ويَشِعُّ ولا يَموت، وهوَ الذي يَنفَعُ النَّاسَ ويَثبتُ لهمْ ومعَهم.
وهمُ الذينَ قَوِيَتْ عَزائمُهم، فصبَروا على التَّكاليفِ التي أُمِروا بها، وصبَروا عمّا نُهوا عنه، كما صبَروا على الجِهادِ والدَّعوة، وعلى البَلاء، وفي السرَّاءِ والضرَّاء، وهذَّبوا شَهواتِهمُ النفسيَّةَ والبدنيَّةَ بتَوجيهاتِ الدِّينِ الحَنيف، ولم يَنتَقِموا لأنفسِهمْ عنْ هوًى وعَصَبيَّة، بلْ صَبَّروا أنفُسَهمْ وتأدَّبوا بأدَبِ الإسْلام، طَلبًا لرِضاءِ الله، وطَمَعًا في جَزيلِ ثوابِه.
وأقاموا الصَّلاة، فواظَبوا عليها وأدَّوها بأرْكانِها وشُروطِها وفي مَواقيتِها.
وأدَّوا زَكاةَ أمولِهم، وأنفَقوا ممّا وهبَهمُ اللهُ مِنْ مالٍ للمُحتاجينَ فقضَوا حوائجَهم، وأسهَموا في أعمالِ الخَيرِ فتصَدَّقوا سِرًّا وجَهرًا، لا يَمنعُهمْ مِنْ ذلكَ شَيء.
ويُجازُونَ الإسَاءةَ بالإحسَان، ويَدفَعونَ الشرَّ ما استَطاعُوا، ويَدرَؤونَ الأذَى والقَبيحَ مِنَ القَولِ والفِعلِ بخُلُقٍ جَميل، وكَلمَةٍ طيِّبة، وعَفو.
فأولئكَ المُتَّصِفونَ بتِلكَ الصِّفاتِ الجَليلَة، لهمُ العاقِبَةُ الحسَنة، والمَرجِعُ الطيِّبُ في الآخِرَة.
ويَقولُ الكافِرونَ المُتَعَنِّتونَ - مِنْ أهلِ مَكَّة - هلاّ أُنزِلَتْ على مُحمَّدٍ (صلى الله عليهِ وسلَّم) مُعجِزَةٌ خارِقَةٌ مِنْ رَبِّه؟ وهمْ يَسألونَ أكثرَ مِنْ مُعجِزَة، تَعجيزًا ومُكابرَةً لا استِعدادًا للإيمان، وفي سُورةِ الإسْراءِ نَماذِجُ مِنْ مطالبِهم، في قَولهِ تعالَى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}.
واللهُ قادِرٌ على ذلكَ لا يُعجِزُهُ شَيء، وهوَ سُبحانَهُ إذا أجابَ طلبَهمْ ثمَّ كفَروا أهلكَهم. وليسَتِ الهِدايَةُ والضَّلالةُ متَوَقِّفتَينِ على الآياتِ والمُعجِزات، فلهما دَواعٍ في النُّفوس، وأسبابٌ تؤدِّي إليهِما. وهؤلاءِ المُكابِرونَ مُكَذِّبونَ مُستَهزِئون، واللهُ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممَّنْ يَستأهِلونَ الضَّلال، كهؤلاءِ الكُفّارِ المُعانِدين، ويَهدي إليهِ مَنْ تَقبَّلَ الحقَّ وأنابَ إلى الربِّ مِنَ المؤمِنين، فهمْ أهلٌ للهِدايةِ والإيمان، لأنَّهمْ يتَّبِعونَ الحقَّ ولا يُكابِرون، ويَرجِعونَ إلى اللهِ وبهِ يَستَعينون.
وكما أرسَلنا رُسُلاً قَبلَكَ أيُّها النبيّ، كذلِكَ أرسَلناكَ في هذهِ الأمَّةِ - وقدْ مضَتْ مِنْ قَبلِها أُمَمٌ كثيرَة - لتَقرَأ عَليهمُ القُرآنَ العَظيم، وتُبلِّغَهمْ رسالَةَ الله، وهمْ يَكفُرونَ باللهِ ذي الرَّحمةِ الواسِعة، والنعمَةِ السَّابِغة، الذي أرسَلكَ إليهمْ ليُنقَذوا بكَ منَ النَّار، ولكنَّهمْ قابَلوا رَحمتَهُ ونِعمتَهُ بالكُفرِ والتَّكذيب.
قُلْ لهمْ أيُّها الرسُولُ الكريم: إنَّ رَبِّيَ الرَّحمن، لا إلهَ غَيرُه، ولا مُستَحِقَّ للعِبادةِ سِوَاه، ومَهما كفَرتُمْ بهِ وكذَّبتُمْ بآلائهِ فلا مَحِيْدَ عنْ هذهِ الحقيقَة، عَليهِ اعتَمدتُ، وإليهِ فوَّضتُ جَميعَ أمُوري، وإليهِ أرجِعُ وأُنيب.
ولو أنَّ كِتابًا زُعزِعَتْ وسُيِّرَتْ بهِ الجبالُ عنْ أماكنِها، أو شُقِّقَتْ بهِ الأرضُ فتَصَدَّعَت، أو كُلِّمَ بهِ الموتَى في قُبورِهمْ فأحياهُمْ بقِراءَتِه، لكانَ هذا القُرآنُ هوَ المُتَّصِفَ بذلكَ دونَ غَيرِه، لِما فيهِ منَ الإعجاز، وعَجائبِ آثارِ قُدرَةِ اللهِ وهَيبتِه. ولكنَّ اللهَ أرادَ لهُ أنْ يكونَ كتابَ هِدايَةٍ يُخاطِبُ الأحياءَ العُقَلاء.
وحَقًّا لقدْ صنعَ القُرآنُ أُمَّةً عَظيمة، ونَقلَ شُعوبًا مِنْ ظُلُماتِ الجَهلِ إلى نُورِ العِلمِ والإيمان، والعِزِّ والنَّصرِ والأمَان... ومازالَ كذلكَ لو جُعِلَ دُستورًا في الحياة.
ومَرجِعُ الأمورِ كُلِّها إلى اللهِ وحدَه، فهوَ الذي يَهدي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه ويُضِلُّ مَنْ يَشاء، ويَحكمُ بما يُريدُ في الكونِ كُلِّه، فهوَ المتصَرِّفُ فيه، ولا مُعَقِّبَ لحُكمِه.
ولو أرادَ اللهُ أنْ يَهديَ النَّاسَ جَميعًا لهَداهُمْ فكانوا كالملائكةِ الذينَ جُبِلوا على الطَّاعة، ولكنَّهُ سُبحانَهُ خَلقَ في الإنسَانِ عَقلاً وإرادَة، ووَهبَهُ الاختِيارَ بعدَ أنْ أعطاهُ المَقدِرَةَ على التَّمييزِ بينَ الخَيرِ والشرّ. فهلْ ما يزالُ المؤمِنونَ يَطمَعونَ بإيمانِ النَّاسِ كُلِّهم؟ فَلْيَترُكوهمْ لأمرِ اللهِ إذاً، فهوَ أعلمُ بالكافِرينَ وبقُلوبِهمُ المَريضَة، وأعمالِهمُ الخَبيثة، فليسَ هناكَ أبلَغُ ولا أعظمُ منَ القُرآنِ الذي بينَ أيديهم، فهوَ حُجَّةُ اللهِ بينَ خَلْقِه، فمَنْ تركَهُ ولم يَهتَدِ بهِ فأنَّى لهُ الهِداية؟
ولاتَزالُ المصائبُ والدَّواهي وأنواعُ البَلاءِ تَنزِلُ بالكافِرين، منَ القَتلِ والأسْرِ والسَّلبِ والقَحْط، لتَماديهِمْ في الكُفرِ واستِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الدِّينِ الحقّ، عسَى أنْ يَتنَبَّهوا بذلكَ ويَرتَدِعوا. أو تَنزِلُ المصائبُ بمَنْ حولَهمْ فتُرَوِّعُهمْ وتُزَلزِلُ قُلوبَهم، ليَتَّعِظوا ويَعتَبِروا، حتَّى يأتيَ وعدُ اللهِ الذي أمهَلَهمْ إلى حينِه، فيَموتوا، أو يَقومُوا للحِساب. واللهُ لا يُخلِفُ وَعدًا، بلْ هوَ أوفَى مَنْ وفَّى بوَعَدٍ وعَهد، وهوَ آتيهِمْ لا رَيبَ فيه، فليَختاروا ما شَاؤوا، فإنَّهمْ مُحاسَبونَ على اختِيارِهم، وعلى أعمالِهم.
أفمَنْ كانَ رَقيبًا على كُلِّ نَفس، ومُهَيمِنًا عَليها في كُلِّ حَال، عالِمًا بما فعَلتْ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، في السِّرِّ والعَلَن، وهوَ اللهُ سُبحانَه، كمَنْ ليسَ بهذهِ الصِّفَة، مِنَ الأصْنامِ التي يَعبدُها المشرِكون، وهيَ لا تُحَرِّكُ ساكِنًا، ولا تَنفَعُ نَفسَها ولا عابدِيها، ومعَ ذلكَ فهمْ يَعبدُونَها ويُحِبُّونَها ويُقَدِّمونَ لها الذَّبائحَ والنُّذور؟!
قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: سَمُّوا أصنامَكمْ بما شِئتُم، مِنْ آلهَةٍ أو غَيرِها، فإنَّها ليسَتْ في حقيقَتِها سِوَى أحجارٍ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ أحدًا، أمْ أنَّكمْ أيُّها المشرِكونَ تُريدونَ أنْ تُخبِروا اللهَ بوجُودِ شُركاءَ لهُ في الأرضِ وهوَ لا يَعلم؟ أمْ أنَّكمْ تُسَمُّونَهمْ شُركاءَ في ألفاظٍ ظاهِرةٍ جَوفاءَ لا مَعنَى لها حَقيقَة؟
بلْ سوَّلَتْ لهمْ نُفوسُهمْ تَزيينَ هذا الشِّرك، وحبَّبَتْ إليهمْ تَمويهَ هذهِ الأباطيلِ حتَّى ظَنُّوها حَقيقَة، فوصَلوا إلى دَرجَةِ عِبادَتِها، والدِّفاعِ عَنها، وامتَنعوا عنِ اتِّباعِ الطَّريقِ الحقّ، لتَمادِيهمْ في الضَّلال، وإغواءِ الشَّيطانِ لهم، حتَّى خُتِمَ على قُلوبِهم، فلا يَرونَ شَيئاً إلاّ الكُفر؟! ومَنْ أضَلَّهَ اللهُ لنُفورِهِ مِنَ الحقّ، فلا هاديَ لهُ إليه، ولا قائدَ لهُ إلى النُّور.