تفسير الجزء 14 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الرابع عشر
14
سورة الحِجر
سورة النحل

﴿إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الحجر:31]


إلاّ إبليسَ، رفضَ أنْ يَكونَ معَ الملائكةِ السَّاجِدين. والملائكةُ لا تَعصي الله، ولذلكَ سَجدَتْ لهُ كما أمرَ الله، وهيَ مَخلوقَةٌ منْ نور، وإبليسُ مِنْ جِنسٍ آخَرَ غَيرِ الملائكة، فهوَ مَخلوقٌ منْ نار {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [سورة الأعراف: 12].

﴿قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الحجر:32]


قالَ اللهُ له: يا إبليس، ما الذي مَنعَكَ أنْ تَسجُدَ لآدمَ كما سَجدَ لهُ جَميعُ الملائكة؟

﴿قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ﴾ [الحجر:33]


قال: ما كنتُ لأسجُدَ لبشَرٍ خلقتَهُ مِنْ طِينٍ مُنتِن، وأنا أفضَلُ وأشرفُ منهُ عُنصُرًا (النَّار). قالَ ذلكَ حسَدًا وبُغضًا لآدَم، وعِنادًا واستِكبارً عنْ قَبولِ أمرِ الله.

﴿قَالَ فَاخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ﴾ [الحجر:34]


قالَ اللهُ له ما مَعناه: فاخرُجْ منَ الجنَّة، فإنَّكَ مَطرودٌ مِنْ كُلِّ خَيرٍ وكَرامة.

﴿وَإِنَّ عَلَيۡكَ اللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ الدِّينِ﴾ [الحجر:35]


وإنَكَ مُبعَدٌ مِنْ رَحمَةِ الله، وتَلحَقُكَ لَعنَتُهُ ولَعنَةُ المؤمنينَ إلى يَومِ القِيامَة؛ جَزاءَ عِصيانِك.

﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾ [الحجر:36]


قالَ إبليس: ربِّي أمْهِلني ولا تُمِتني إلى اليَومِ الذي يُبعَثُ فيهِ آدَمُ وذُرِّيَتُهُ للحِسابِ والجَزاء.

وهذا منْ تمامِ حسَدِهِ وعَداوتِهِ للإنسَان، ليُغويَهم، فيُبعَدوا مِنْ رَحمَةِ الله، كما أبعَدَهُ اللهُ منْ رَحمَتِه، فيَكونُ أخذَ بثَأرِه.

﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الۡمُنظَرِينَ﴾ [الحجر:37]


قالَ اللهُ له تفسيرًا: قدْ أمهَلتُك، فأنتَ منْ جُملَةِ المُؤخَّرين،

﴿إِلَىٰ يَوۡمِ الۡوَقۡتِ الۡمَعۡلُومِ﴾ [الحجر:38]


إلى يَومِ النَّفخَةِ الأولَى، آخِرِ أيَامِ التَّكليف، وهوَ يَومٌ مَعلوم، لا يَبقَى فيهِ على وجهِ الأرضِ حَيّ.

﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي الۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الحجر:39]


قالَ إبليس: رَبِّي، لأنَّكَ أضلَلتَني وطرَدتني منْ رحمَتِك - ولم يَذكُرْ عِصيانَه - فسَوفَ أُزَيِّنُ لبَني آدمَ القَبيحَ حتَّى يَغتَرُّوا بهِ ويَفعَلوه، وأُحَبِّبُ إليهمُ المعَاصي، وأُرَغِّبُهمْ فيها حتَّى يَعمَلوها، ولأُضِلَّنَّهمْ كُلَّهمْ بذلك،

﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ الۡمُخۡلَصِينَ﴾ [الحجر:40]


إلاّ عِبادَكَ الذينَ أخلَصُوا لكَ بالطَّاعَةِ والتوحِيد، واتَّقَوا حُرُماتِك، فلا أَقدِرُ على تَضليلِهم.

﴿قَالَ هَٰذَا صِرَٰطٌ عَلَيَّ مُسۡتَقِيمٌ﴾ [الحجر:41]


قالَ اللهُ تعالَى ما معناه: هذا طَريقُ الحقِّ التي لا مَحيدَ عَنها، فالحقُّ يَرجِعُ إلى اللهِ تعالَى وعَليهِ طَريقُه، ولا يَعْوَجُّ عَليهِ شَيء،

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الۡغَاوِينَ﴾ [الحجر:42]


فإنَّ عِباديَ المُخلَصينَ المُتَّقينَ لا قوَّةَ لكَ على قُلوبِهم، ولا مَدخَلَ لكَ إليها ولا سَبيل.

قالَ سُفيانُ بنُ عُيَينَة: مَعناه: ليسَ لكَ عَليهمْ سُلطانٌ تُلقِيهمْ في ذَنبٍ يَضيقُ عَنهُ عَفوي. اهـ.

إنَّما سُلطانُكَ على منِ اتَّبعَكَ ورَضيَ بطَريقَتِكَ منَ الزَّائغِينَ الشَّارِدين، الذينَ خُدِعوا بتَزيينِكَ الباطِلَ لهم، واستَسلَموا للشَّهواتِ وترَكوا المَكرُمات.

﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الحجر:43]


وإنَّ جَهنَّمَ تَنتَظِرُ إبليسَ وكُلَّ مَنِ اتَّبعَه، فقدْ ضَلُّوا وآثَروا الغِوايَةَ والشَّهوةَ، والخَديعَةَ والإفسَاد، على الإيمانِ والاستِقامَة، والجِدِّ والصَّلاح.

﴿لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنۡهُمۡ جُزۡءٞ مَّقۡسُومٌ﴾ [الحجر:44]


فهذهِ جَهنَّمُ التي حُذِّروا منها، لها سَبعَةُ أبواب، لكُلِّ بابٍ منها صِنفٌ مِنْ أتبَاعِ إبليسَ يَلِجونَ منه، فهمْ درَجاتٌ تحتَ درَجات، فهُناكَ مَنْ ضَلَّ، وهناكَ مَنْ ضَلَّ وأضَلَّ، ومَنْ أضلَّ جَماعةً، أو جيلاً، أو أجيالاً...

﴿إِنَّ الۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّـٰتٖ وَعُيُونٍ﴾ [الحجر:45]


أمّا المؤمِنونَ المتَّقون، الذينَ امتثَلوا أمرَ اللهِ ولم يُخالِفوه، فهمْ في جَنَّاتٍ واسِعة، وأنهارٍ وعُيونٍ تتَفجَّرُ بالماءِ المَعين.

﴿ادۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ﴾ [الحجر:46]


فادخُلوا الجنَّةَ أيُّها المؤمِنونَ بسَلامٍ وأمَان، فلا آفةَ تُصيبُكم، ولا مَوتَ يَختَرِمُكم، ولا خَوفَ يَعتَريكم.

﴿وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ﴾ [الحجر:47]


ونَزَعنا منْ صُدورِ المؤمِنينَ ما كانوا يَجِدونَهُ في الدُّنيا منْ حِقدٍ وحسَدٍ وعَداوة، فصَاروا في الجنَّةِ إخْوانًا جالِسينَ على أسِرَّةٍ مُتقابِلين، مُتحابِّينَ سَالمينَ منْ تلكَ الشوائبِ النفسِيَّة.

﴿لَا يَمَسُّهُمۡ فِيهَا نَصَبٞ وَمَا هُم مِّنۡهَا بِمُخۡرَجِينَ﴾ [الحجر:48]


لا يُصيبُهمْ في الجنَّةِ تعَبٌ وأذًى، وما همْ بخارِجينَ منها، بلْ مُخَلَّدونَ فيها أبدًا.

﴿۞نَبِّئۡ عِبَادِيٓ أَنِّيٓ أَنَا الۡغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الحجر:49]


أخبِرْ عِبادي أيُّها الرَّسُولُ أنَّني أغفِرُ الذُّنوبَ مهما كَبُرَتْ وكَثُرَت، وأرحمُهمْ ولا أُعَذِّبُهمْ بها إنْ همْ تابُوا وأحسَنوا، فلا يَيأسوا أبدًا.

﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الۡعَذَابُ الۡأَلِيمُ﴾ [الحجر:50]


وأنَّ عِقابي هوَ العِقابُ المؤلِمُ المُوجِع، الذي لا يُقَدَّرُ قَدْرُه، فَليَلزموا صِراطي، وليَبتَعِدوا مِنْ سَخَطي وعِقابي.

وهكذا يَبقَى العَبدُ بينَ الخَوفِ والرَّجاء، والرَّهبَةِ والرَّغبَة، فإنَّهُ أحسَنُ لتَربيَةِ نَفسِه.

﴿وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ﴾ [الحجر:51]


وخَبِّرْهُمْ عنْ ضُيوفِ إبراهيم. وكانوا ملائكة، ولم يَعرِفْهمْ أوَّلاً.

﴿إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗا قَالَ إِنَّا مِنكُمۡ وَجِلُونَ﴾ [الحجر:52]


فدخَلوا عَليهِ وقالوا لهُ مُحَيِّين: سلامًا. فردَّ عَليهمْ تَحيَّتَهم، ثمَّ قال: نحنُ خائفونَ منكم. وذلكَ عِندَما قَدَّمَ إليهمُ الطَّعامَ فلمْ يأكُلوه!

﴿قَالُواْ لَا تَوۡجَلۡ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ﴾ [الحجر:53]


قالوا له: لا تَخَف، إنَّا نُبَشِّرُكَ بمَولودٍ ذَكَر، يَكونُ ذا عِلمٍ غَزير. والمَقصودُ إسحاقُ عَليهِ السَّلام.

﴿قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ الۡكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر:54]


قالَ لهمْ إبرَاهيمُ مُستَفهِماً مُتَعَجِّبًا: أبشَّرتُموني بولَدٍ وأنا عَجوزٌ مُسِنّ، وزوجَتي عاقِرٌ لا تَلِد، فبأيِّ شَيءٍ تُبَشِّروني بعدَ هذا؟

﴿قَالُواْ بَشَّرۡنَٰكَ بِالۡحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الۡقَٰنِطِينَ﴾ [الحجر:55]


قالوا له: بشَّرْناكَ بولَدٍ حقًّا ويَقينًا فلا تَكنْ منَ اليائسينَ بذلك.

﴿قَالَ وَمَن يَقۡنَطُ مِن رَّحۡمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا الضَّآلُّونَ﴾ [الحجر:56]


فقالَ لهم: حاشَا أنْ أقنطَ منْ رَحمةِ اللهِ وفَضلِه، فإنَّهُ لا يَيأسُ منْ رَحمَتِهِ إلاّ الخاسِرونَ المُخطِؤون، الذينَ لا يَعرِفونَ سَعَةَ رَحمةِ اللهِ وكمالَ عِلمِهِ وقُدرتِه، بلْ أرجو رحمتَهُ وأنتَظِرُ وَعدَه.

﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا الۡمُرۡسَلُونَ﴾ [الحجر:57]


ثمَّ قالَ لهم: فما سَبَبُ مَجيئكمْ أيُّها الملائكةُ المُرسَلونَ سِوَى هذهِ البِشارة؟

﴿قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ﴾ [الحجر:58]


قالوا: لقدْ أُرسِلنا لإهلاكِ قَومِ لُوطٍ المُشرِكينَ المُجرِمين، الذينَ اتَّخذوا منَ الرِّجالِ شَهوتَهمْ دونَ النساء. وقدْ نَهاهُمْ نبيِّهُمْ عنْ هذا الفِعلِ الشَّنيعِ الذي لم يَسبِقْهمْ إليهِ أحَد، فما انتَهَوا.

﴿إِلَّآ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الحجر:59]


إلاّ آلَ بَيتِ لوط، فإنَّنا سَنُخَلِّصُهمْ جَميعًا منَ العَذاب؛ لإيمانِهم،

﴿إِلَّا امۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الۡغَٰبِرِينَ﴾ [الحجر:60]


إلاّ امرأةَ لوط، التي كانتْ كافِرة، فقضَينا أنْ تبقَى معَ قَومِها في العَذاب.

﴿فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الۡمُرۡسَلُونَ﴾ [الحجر:61]


فلمّا جاءَ الملائكةُ المُرسَلونَ إلى آلِ لوط، في صورَةِ شَبابٍ حِسانِ الوجُوه،