تفسير الجزء 15 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الخامس عشر
15
سورة الإسراء
سورة الكهف (1-74)

﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا﴾ [الإسراء:31]


ولا تَقتُلوا أولادَكمْ خَوفًا منَ الفَقرِ والحاجَة، نحنُ نَرزُقُ أولادَكمْ وإيّاكُمْ معَهم، فاللهُ يَرزُقُ الجَميع. إنَّ وَأْدَهُمْ وقَتلَهمْ - كما كانتْ تَفعَلُ قبائلُ جاهِليَّةٌ معَ بَناتِها - ذَنْبٌ عَظيم، وإثمٌ كَبير.

﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ الزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا﴾ [الإسراء:32]


ولا تَقتَرِبوا منَ الزِّنا، ولا تَتعاطَوا أسبابَهُ ودَواعيه، فإنَّها تُقَرِّبُ إلى الزِّنا. وهوَ من كبائرِ الذنوبِ والفَواحش، ومَسلَكٌ سَيِّء، يورِثُ الانحِلالَ الخُلُقيِّ في المُجتَمَع، وتَضيعُ فيهِ الأنساب، ويُفْقَدُ فيهِ العِرضُ والشَّرَف، ويموتُ أجَلُّ خُلُقٍ في الإنسانِ وهوَ الحَياء، وتَتَفَكَّكُ الأُسَر، وتَنتَشِرُ الأمراضُ الجِنسيَّةُ بشَكلٍ وبائيّ، مِثلُ الزُّهْريّ، والهِربِس، والإيْدز، والسَّيَلان، والفُطريّات، وأمْراضٍ أُخرَى تُصيبُ الجِهازَ التَّناسُليّ، وتَشَوُّهاتٍ خَلقيَّةٍ تَنتَقِلُ إلى الأبناءِ والأحْفاد. معَ أمراضٍ اجتماعيَّةٍ أُشيرَ إلى بَعضِها، وهوَ يؤدِّي إلى الطَّلاق، وسوءِ التربِية، والأمراضِ النفسيَّة، والجَريمَة، ويُشَجِّعُ العُزوبيَّة، والإقدامَ على الاغتِصاب، ويَنتَشِرُ الإجهاض...

﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ النَّفۡسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي الۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا﴾ [الإسراء:33]


ولا تَقتُلوا النَّفسَ التي حرَّمَ اللهُ قَتْلَها بسبَبٍ منَ الأسبابِ إلاّ بسبَبِ الحقّ، كالقِصاص، والرِّدَّة، والزِّنا بعدَ الإحصان. ومَنْ قُتِلَ بغَيرِ حَقّ، فقدْ جَعَلنا لمَنْ يَلي أمرَهُ سُلطَةً على القاتِل، إنْ شاءَ قتَلَهُ قِصاصًا، وإنْ شاءَ عفا عنهُ مُقابِلَ الدِّيَة، وإنْ شاءَ عفا عنهُ ولم يأخُذْ منهُ شَيئًا. ولا يَتجاوزَنَّ الوليُّ الحقَّ المَشروعَ له، فيَقتُلَ غَيرَه، أو يَقتُلَ اثنينِ، أو يُمَثِّلَ بالقاتِل، فهوَ مَنصورٌ بما رُسِمَ لهُ منِ استيفاءِ حَقِّه، وكفَى.

﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ الۡيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِالۡعَهۡدِۖ إِنَّ الۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا﴾ [الإسراء:34]


ولا تتَعرَّضوا لمالِ اليَتيمِ - أيُّها الأولياءُ والأوصِياءُ - إلاّ بما فيهِ صَلاحُهُ وتَثميرُهُ، حتَّى يَبلُغَ الحُلُم.

وأوفُوا بالعُهودِ والعُقودِ التي تَتعاهَدونَ عَليها، فكُلٌّ مَسؤولٌ ومُحاسَبٌ على ما عاهدَ عَليهِ وعَقَدَهُ. وتَكونُ في مَضمُونِها وشُروطِها مُوافِقَةً لأحكامِ الشَّريعَة.

﴿وَأَوۡفُواْ الۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِالۡقِسۡطَاسِ الۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا﴾ [الإسراء:35]


وأتِمُّوا المَكيلَ والمِيزانَ بالعَدل، في البَيعِ والشِّراء، وزِنوا بالمِيزانِ السَّويّ، الذي لا اعوِجاجَ فيهِ ولا انحِراف، فذلِكَ خَيرٌ وأفضَلُ في مُعامَلاتِكمْ وأحسَنُ عاقِبةً لآخِرَتِكم، وقتَ الثَّوابِ والعِقاب.

﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ السَّمۡعَ وَالۡبَصَرَ وَالۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا﴾ [الإسراء:36]


ولا تَتَّبِعْ ما لا عِلمَ لكَ به، ولا يَختَلِطْ عَليكَ الوَهمُ واليَقين، فيَلزَمُ التثَبُّتُ منْ صحَّةِ الخبَرِ والواقِعَة، ولولا ذلكَ لاختلَطَ الحَقُّ بالباطِل، وأُخِذَ النَّاسُ بالظَّنِّ والخبَرِ الوَاهي، وجَوارِحُ الإنسانِ أمانَةٌ عِندَه، كالسَّمع، والبَصَر، والفؤاد، فكُلُّها مَسؤولَةٌ تُحاسَبُ على وظيفَتِها.

﴿وَلَا تَمۡشِ فِي الۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ الۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ الۡجِبَالَ طُولٗا﴾ [الإسراء:37]


ولا تَمشِ في الأرضِ خُيَلاءَ مُتكبِّرًا، فإنَّكَ لنْ تَقطَعَ الأرضَ بمَشيكَ على هذهِ الهَيئة، ولا تَستَطيعُ أنْ تُطاوِلَ الجِبالَ بتَمايُلِكَ وإعجابِكَ بنَفسِك، ولنْ ينفَعَكَ هذا شَيئًا.

﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا﴾ [الإسراء:38]


كلُّ ما ذُكِرَ منَ الأفعالِ والصِّفاتِ السيِّئةِ فيما سَبقَ مَكروهَةٌ عندَ الله، مَبغوضَةٌ إليه.

﴿ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ الۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا﴾ [الإسراء:39]


وذلِكَ الذي ذَكرناهُ منَ الأمرِ بالصِّفاتِ الحَميدَة، والنهي عنِ الصِّفاتِ المَرذولَة، هوَ بَعضُ ما أوحَيناهُ إليكَ منَ الأحكامِ المُحكَمَة، لتأمُرَ الناسَ بها.

ولا تُشرِكْ باللهِ في عِبادَتِهِ شَيئًا، فتُرمَى في نَارِ جَهنَّم، مَطرودًا مُبعَدًا منْ رَحمَةِ اللهِ وفَضلِه.

والمُخاطَبُ رَسولُ اللهِ صلى الله عَليه وسلم، والتَّنبيهُ فيهِ للأمَّة، فالتَّوحيدُ رأسُ العَقيدَةِ ومَبدَأ الأمر، والتَّحذيرُ منَ الشِّركِ يأتي في أوَّلِ التَّحذِيرات.

﴿أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِالۡبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنَٰثًاۚ إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِيمٗا﴾ [الإسراء:40]


كيفَ تَقولونَ إنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ أيُّها المشرِكونَ الجاهِلون؟ فهلِ اختارَ لكمْ رَبُّكمْ أولادًا ذُكورًا واتَّخَذَ لنَفسِهِ منَ الملائكَةِ إناثًا؟ كيفَ تَجعَلونَ لرَبِّكمْ شَيئًا تَكرَهونَهُ لأنفسِكم؟ إنَّكمْ تَقولونَ قَولاً مُستَنكَرًا مِنْ أساسِه، عَظيمًا في جُرأتِهِ وشَناعَتِه.

﴿وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا الۡقُرۡءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا نُفُورٗا﴾ [الإسراء:41]


ولقدْ ذكَرنا في هذا القُرآن، وكرَّرنا فيه، ونوَّعنا أسلوبَ ما نَدعوهُمْ بهِ إلى الإيمانِ والإسْلام، بالحُجَجِ والبيِّنات، والتَّرغيبِ والترهيب، والمَوعِظَةِ والحِكمَة، ليَتذَكَّروا ويَتَّعِظوا، ويَفقَهوا ويَتدَبَّروا، ولكنَّ ذلكَ لم يَزِدْهُمْ إلاّ بُعدً عنِ الحقّ، وإعراضًا عنه.

﴿قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥٓ ءَالِهَةٞ كَمَا يَقُولُونَ إِذٗا لَّابۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ ذِي الۡعَرۡشِ سَبِيلٗا﴾ [الإسراء:42]


قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: لو كانَ معَ اللهِ آلِهَةٌ أخرَى - كما يَزعُمُ المشرِكونَ - لنافَسَتْهُ في المُلكِ وطلبَتْ مُغالبتَهُ بالقُوَّةِ والقَهْرِ كما يَفعَلُ مُلوكُ الدُّنيا.

﴿سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا﴾ [الإسراء:43]


تَنزَّهَ اللهُ وتَقدَّسَ عمَّا يَقولُ المشرِكونَ منَ الإفكِ العَظيمِ الذي يَفتَرونَه، وتَعالَى عنِ الشِّركِ والشُّبَهِ تَعاليًا كبيرًا، فهوَ الإلهُ الواحِدُ الأحَد، الذي لا شَريكَ لهُ ولا شَبيه.

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَٰوَٰتُ السَّبۡعُ وَالۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا﴾ [الإسراء:44]


تُقَدِّسُهُ السَّماواتُ السَّبعُ والأرضُ ومَنْ فيهنّ، مِنَ المَلائكة، والإنْس، والجِنّ، وما مِنْ شَيءٍ في الوُجودِ إلاّ ويُسَبِّحُ اللهَ ويَحمَدُه، ويَشهَدُ بوَحدانيَّتِه، ويَنطِقُ بعظمتِه، مِنْ حيَوانٍ ونَباتٍ وجَماد، طَوعًا أو كَرْهًا، كُلٌّ بطَريقتِهِ ولُغَتِه، ولكنَّكمْ لا تَفهَمونَ تَسبيحَهم، فأنتُمْ غَيرُ مُطَّلِعينَ على أسْرارِ خَلقِهم، ولا تَعرِفونَ لُغَتَهم.

وكانَ اللهُ حَليمًا إذْ لم يُعاجِلكُمْ بالعُقوبَةِ وقَدْ بارَزتُموهُ بالمَعصيَة، بلْ أمهَلَكمْ إلى حِين، وإذا تُبتُمْ ورجَعتُمْ إلى الحقّ، عفا عَنكمْ وغَفَرَ لكمْ ذُنوبَكم.

وقدْ أكَّدَ عالِمٌ يابانيٌّ مُتخَصِّص، هوَ رَئيسُ مَعهدِ هادو للبحوثِ العِلميَّة، أنَّ أيَّةَ ذَرَّةٍ في عالَمِ الوجودِ لها إدراكٌ وفَهمٌ وشُعور، وتُعَظِّمُ خالِقَها وتُسَبِّحُهُ عنْ بَصيرَة.

﴿وَإِذَا قَرَأۡتَ الۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا﴾ [الإسراء:45]


وإذا قَرأتَ القُرآنَ أيُّها النبيّ، جَعلنا بينَكَ وبينَ المشرِكينَ الذينَ لا يؤمِنونَ باليَومِ الآخِرِ مانِعًا وحائلاً يَحجُبُ قُلوبَهمْ عنْ فَهمِهِ والانتِفاعِ به. وكانَ يَتواصَى بَعضُهمْ بينَ بَعضٍ ألاّ يَستَمِعوا إلى القُرآن، فإذا سَمِعوهُ جاهَدوا ألاّ يُلامِسَ قُلوبَهمْ وألاّ يتأثَّروا به! فعاقبَهمُ اللهُ بذلك.

﴿وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي الۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا﴾ [الإسراء:46]


وجعَلنا على قُلوبِهمْ - عندَما يَسمَعونَ القُرآنَ - طبَقَةً كالغِلافِ فلا يَفهَمونَه، وفي آذانِهمْ ثِقْلاً فلا يَنتَفِعونَ بسَماعِه. وإذا وحَّدْتَ اللهَ أثناءَ قِراءَتِكَ القُرآن، انصَرَفوا راجِعين؛ نفُورًا منْ كَلِمَةِ التوحيد، التي تَعني تَغييرَ عَقيدَتِهمُ الشِّركيَّةِ وحَياتِهمُ الجاهليَّة.

﴿نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَسۡتَمِعُونَ بِهِۦٓ إِذۡ يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰٓ إِذۡ يَقُولُ الظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًا﴾ [الإسراء:47]


نحنُ أعلَمُ بما يَتناجَى بهِ رؤساءُ المشرِكينَ عندَما كانوا يَستَمِعونَ إلى قِراءَتِكَ سِرًّا، فقالَ كُبراؤهمُ الذينَ ظَلَموا أنفُسَهمْ وظَلَموا قَومَهم: إذا اتَّبَعتُمْ محمَّدًا فإنَّما تتَّبِعونَ رَجُلاً مَسَّهُ السِّحْر، فهوَ مَجنُون.

﴿انظُرۡ كَيۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ الۡأَمۡثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا يَسۡتَطِيعُونَ سَبِيلٗا﴾ [الإسراء:48]


انظُرْ أيُّها النَّبيُّ كيفَ مَثَّلوكَ وبمَ شَبَّهوك، فقالوا هُنا إنَّكَ مَسحورٌ مَجنُون، ومِنهمْ مَنْ قالَ إنَّكَ كاهِن، وقالَ غَيرُهمْ إنَّكَ شاعِر... لقدْ صَدُّوا فِطرَتَهمْ عنْ سَماعِ الحقِّ فنطَقوا بالكُفر، فضَلُّوا ولم يَستَطيعوا أنْ يَسلُكوا طَريقَ الهِدايَة، ولا عَلَّلوا مَوقِفَهمْ بكلامٍ مُفيدٍ أو حُجَّةٍ مُقنِعَة.

﴿وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقٗا جَدِيدٗا﴾ [الإسراء:49]


وقالَ المشرِكونَ مُتعَجِّبينَ مُنكِرين: أإذا مِتنا وتَحوَّلَتْ أجسادُنا إلى عِظامٍ وتُراب، فهلْ نَحيا ونُبعَثُ مِنْ جَديدٍ كما كُنّا أحياءً مِنْ قَبل؟

﴿۞قُلۡ كُونُواْ حِجَارَةً أَوۡ حَدِيدًا﴾ [الإسراء:50]


قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: كُونوا حِجارَةً قاسِيَة، أو حَديدًا صُلبًا، ممّا هوَ أمتَنُ وأثخَنُ منَ العِظامِ والتُّراب،

﴿أَوۡ خَلۡقٗا مِّمَّا يَكۡبُرُ فِي صُدُورِكُمۡۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَاۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖۚ فَسَيُنۡغِضُونَ إِلَيۡكَ رُءُوسَهُمۡ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا﴾ [الإسراء:51]


أو كونوا أيَّ خَلقٍ يَكبُرُ في أفهَامِكمْ ممّا هوَ أشَدُّ وأبعَدُ عنِ الحَياةِ منَ الحِجارَةِ والحَديد.

فسيَقولونَ لك: منِ الذي يَرُدُّنا إلى الحياةِ بعدَ كُلِّ هذا؟

قُلْ لهم: إنَّ الذي خَلقَكمْ أوَّلَ مرَّةٍ هوَ الذي يُحييكُمْ مَرَّةً أخرَى، وليسَتِ المرَّةُ الثانيَةُ في الإحياءِ أصعبَ على اللهِ منَ الأُولَى، فاللهُ ليسَ كالبَشَرِ في مَحدوديَّةِ قُدرَتِه، بلْ هوَ قَويٌّ قادِر، يأمرُ بالخَلقِ فيَكونَ كما يُريد، في الوَقتِ الذي يُريد.

فيَستَنكِرونَ هذا الجوابَ مِنك، ويُحَرِّكونَ رؤوسَهمْ نَفيًا واستِهزاء. ويَقولونَ استِبعادًا لأمرِ البَعث: متَى سيَكونُ ذلك؟ فقُلْ لهم: عسَى أنْ يَكونَ ذلكَ اليومُ قَريبًا، فهوَ آتٍ لا بُدّ، فاحذَروا ولا تَغفُلوا.

﴿يَوۡمَ يَدۡعُوكُمۡ فَتَسۡتَجِيبُونَ بِحَمۡدِهِۦ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الإسراء:52]


يَومَ يَدْعوكمُ اللهُ مِنْ قُبورِكمْ للحَشر، فتَقومُونَ جَميعًا وتُبعَثونَ استِجابةً لأمرِه، حامِدينَ لهُ على كَمالِ قُدرَتِه، وتَظنُّونَ أنَّكمْ لم تَمكُثوا في الدُّنيا، أو في القُبور، إلاّ زمَنًا قَليلاً.

﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ الشَّيۡطَٰنَ يَنزَغُ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّ الشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٗا مُّبِينٗا﴾ [الإسراء:53]


وقُلْ لِعباديَ المؤمِنينَ يَتَحَلَّوا باللِّينِ والحِلمِ في كلامِهمْ وحِوارِهمْ معَ الآخَرين، ويَقولوا الكَلِمَةَ الطيِّبَة، ويَختاروا أحسَنَ الكلامِ ومُهَذَّبَه، ليَكونَ أوقعَ في النَّفس، وأكثرَ تأثيرًا، وأفضلَ استِجابَة. والشَّيطانُ يَتحيَّنُ الخَطأ ليَنفُخَ فيهِ ويَجعلَهُ سبَبًا للعَداوَةِ والبَغضاءِ بينَ المؤمِنين، وهوَ ظاهِرُ العَداوَةِ لهم. والكَلِمَةُ الطيِّبَةُ تُبعِدهُ عنْ مجلسِ أصحابِها وأحاديثِهم، فيَكونونَ مُتآلِفينَ مُتوادِّين، بَعيدينَ عنْ همَزاتِهِ ونزَغاتِه.

﴿رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِكُمۡۖ إِن يَشَأۡ يَرۡحَمۡكُمۡ أَوۡ إِن يَشَأۡ يُعَذِّبۡكُمۡۚ وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا﴾ [الإسراء:54]


ورَبُّكمْ مُطَّلِعٌ على نفُوسِكم، ويَعلَمُ استِعدادَ كُلٍّ منكمْ وقابليَّتَهُ للهُدَى أو الضَّلال، فإنْ شَاءَ رَحِمَكمْ فوفَّقَكمْ للإيمان، وإنْ شَاءَ خَذَلَكمْ عنِ الإيمانِ فأماتَكمْ على الكُفرِ والضَّلال، بعِلمِهِ وحِكمَتِه، وعَذَّبَكمْ يَومَ القيامَةِ بكُفرِكمْ به، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف: 49]. وما جَعلناكَ - أيُّها الرَّسولُ - كَفيلاً بهِدايَةِ المشرِكين، وقادِرًا على إصْلاحِ قُلوبِهم، إنَّما أنتَ نَذير، مُبَلِّغ.

﴿وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ النَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا﴾ [الإسراء:55]


وعِلمُ اللهِ مُحيطٌ بمَنْ في السَّماواتِ والأرض، يَعلَمُ أحوالَهمْ ودرجاتِهمْ في العِلمِ والإيمان، فيَختارُ مَنْ شاءَ لنبوَّتِهِ ووِلايَتِه. وقدْ فضَّلنا بعضَ النبيِّينَ على آخَرينَ منهم، فقدْ كلَّمَ اللهُ موسَى تَكليمًا، وآتَى عيسَى مُعجِزات، كإحياءِ المَوتَى بإذنِ الله، وفضَّلَ محمَّدًا صلى الله عَليه وسلم على العالَمين، فهوَ رَسولُ اللهِ إلى النَّاسِ كافَّة، ورسالَةُ الإسْلامِ نسَخَتْ سائرَ الرِّسالاتِ السَّابقَة. وآتَينا داودَ الزَّبور، وكُلُّهُ دُعاءٌ وتَمجيدٌ وثناءٌ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وقدْ جَعلنا لهُ فَضلاً وشرَفًا، لعِلمِهِ وطاعَتِهِ لا لمُلكِه. على أنبياءِ اللهِ جَميعًا صَلواتُ اللهِ وسلامُه.

﴿قُلِ ادۡعُواْ الَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ الضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا﴾ [الإسراء:56]


قُلْ للمشرِكينَ أيُّها الرَّسُول: ادعُوا هذهِ الأصنامَ أو الجِنَّ أو المَلائكةَ الذينَ تَعبُدونَهمْ ليَكشِفوا عَنكمْ ما يُصيبُكمْ مِنْ فَقرٍ ومرَضٍ وقَحطٍ وغَيرِه، أو يُحَوِّلوها إلى غَيرِكم. إنَّهمْ لا يَملِكونَ ذلكَ ولا يَقدِرونَ عَليه، فهمْ ليسُوا آلِهة، إنَّما الإلهُ الحقُّ الذي يَقدِرُ على ذلك، هوَ اللهُ وحدَه، وهوَ الذي يَستَحِقُّ العِبادَةَ لا غَيرُه.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا﴾ [الإسراء:57]


إنَّ أولئكَ الذينَ يَدعُوهمُ المشرِكونَ ويَعبدونَهم (وكانوا جِنًّا أسلَموا) يَطلبونَ منَ اللهِ القُرْبَ إليهِ بطاعَتِهِ وعِبادَتِه، ويَنظُرونَ في أفضَلِ وأحسَنِ ما يَتقَرَّبونَ بهِ إليهِ سُبحانَهُ ليَفعَلوه، ويَرجونَ بذلكَ رَحمتَهُ وعَفوَه، ويَخافونَ عَذابَهُ ويَتَّقونَه، وإنَّ عَذابَ اللهِ شَديدٌ مُخيف، يَحذَرُهُ العاقِلون، ويَحتَرِزُ منهُ العَارِفون.

وفي الصَّحيحَينِ وغَيرِهما أنَّها نزَلتْ في نَفَرٍ منَ العرَبِ كانوا يَعبدونَ نفَرًا منَ الجِنّ، فأسلمَ الجِنِّيون، والإنسُ الذينَ كانوا يَعبدونَهمْ لا يَشعُرون.

﴿وَإِن مِّن قَرۡيَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابٗا شَدِيدٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا﴾ [الإسراء:58]


وليسَ هُناكَ قَريَةٌ أو مَدينَةٌ مِنْ مدُنِ الكفَّارِ إلاّ ونحنُ مُهلِكوها ومُبيدو أهلِها قَبلَ أنْ تَقومَ القِيامَة، أو مُعَذِّبوهُمْ عذابًا أليمًا، وهذا حُكمٌ كتبَهُ اللهُ في اللَّوحِ المَحفُوظ، لا يَتغَيَّر.

﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِالۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا الۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِالۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا﴾ [الإسراء:59]


وما صرَفَنا أنْ نبعَثَ الآياتِ والمُعجِزاتِ التي اقترحَها كُفَّارُ قُرَيش، إلاّ خَشيَةَ ألاّ يؤمِنوا بها، فإنَّهمْ إنْ كفَروا بها أهلَكنَاهم، وقدْ سبقَ أنْ أنزلنا مُعجِزاتٍ على أقوامٍ سابقِين، فكذَّبوا بها فأهلَكنَاهُم.

وفي مُسنَدِ أحمدَ بإسنادٍ صَحيح، أنَّ أهلَ مَكَّةَ سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجعلَ لهمُ الصَّفا ذَهَبًا، وأنْ يُنَحِّيَ الجِبالَ عنهمْ فيَزدَرِعوا، فقيلَ له: إنْ شِئتَ أنْ تستأنيَ بهم، وإنْ شِئتَ أنْ نؤتيَهمُ الذي سَألوا، فإنْ كفروا أُهلِكوا كما أهلكتُ مَنْ قَبلَهم. قال: "لا، بلْ أستأني بهم". فأنزلَ اللهُ هذهِ الآية. اهـ.

وقدْ آتَينا ثَمودَ النَّاقَةَ مُعجِزَةً واضِحةً دالَّةً على قُدرَةِ الخالِقِ وإبداعِه، وعلى صِدقِ رَسولِه، وكانَ ذلكَ بطلَبِ قَومِه، فكفَروا بكَونِها منْ عندِ الله، وكذَّبوا رسُولَه، وعقَروها، وقدْ حُذِّروا مِنْ ذلك. ونُرسِلُ المُعجِزاتِ وآياتِ القُرآن، أو العِبَرَ والدَّلالات، تَخويفًا وإنذارًا للعِباد، ليؤمِنوا ويَرتَدِعوا عمَّا همْ عليه.

﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا الرُّءۡيَا الَّتِيٓ أَرَيۡنَٰكَ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الۡمَلۡعُونَةَ فِي الۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا يَزِيدُهُمۡ إِلَّا طُغۡيَٰنٗا كَبِيرٗا﴾ [الإسراء:60]


وقدْ قُلنا لكَ أيُّها النبيُّ إنَّ النَّاسَ في قبضَةِ قُدرَةِ اللهِ وتحتَ تَصَرُّفِه، وقدْ منعَهمُ اللهُ مِنْ إيذائكَ وعصَمَكَ منهم.

وما جَعَلنا الرُّؤيا التي أرَيناكَ رأيَ العَين، وهيَ الإسراءُ والمِعراج، إلاّ اختِبارًا للنَّاسِ وامتِحانًا لهم، لنَعلَمَ الصَّادِقَ منهمْ في إيمانِه، والكاذِبَ أو الضَّعيفَ فيه.

وقدِ ارتدَّ بعضُ النَّاسِ بعدَ حادِثَةِ الإسراء، وازدادَ آخَرونَ يَقينًا.

روَى البُخاريُّ في صَحيحِهِ قَولَ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما في هذا: هيَ رؤيا عَينٍ أُرِيَها رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم ليلَةَ أُسرِيَ بهِ إلى بَيتِ المَقدِس. اهـ.

وكذلِكَ شَجرَةُ الزَّقُّومِ المَلعونَةُ التي ذكرَها اللهُ في القُرآنِ وخوَّفَ بها المُكَذِّبين، التي أرَيناكَها في رِحلَتِكَ في المعْراج، فكذَّبوا بها.

وفي مُسنَدِ أبي يَعلَى وأحمدَ بسنَدٍ صَحيح، أنَّ أبا جَهلٍ قال: يُخَوِّفُنا محمَّدٌ بشَجرَةِ الزَّقُّوم، هاتُوا تَمرًا وزُبْدًا تزَقَّموا!

والآياتُ التي وردَ فيها ذِكرُ شجَرَةِ الزَّقُّومِ في سُورَةِ الصافّات (62-66)، والدُّخَان (43-46).

ونُخَوِّفُ الكافِرينَ بالوَعيدِ والعَذاب، فلا يَزيدُهمْ ذلكَ إلاّ تَماديًا في الكُفرِ والضَّلال.

﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ اسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا﴾ [الإسراء:61]


واذكُرْ إذْ قُلنا للمَلائكةِ اسجُدوا لآدمَ سَجدَةَ تَكريمٍ لا سَجدَةَ عِبادَة، بعدَ أنْ سوَّينا خَلقَهُ ونفَخنا فيهِ مِنْ رُوحِنا، فسجدَ لهُ جَميعُ الملائكةِ مُلَبِّينَ أمرَ الله، إلاّ إبليسَ أبَى أنْ يَسجُد، وقالَ احتِقارًا لهُ ومُستَعْليًا عَليه: أأسجُدُ لهذا الذي خَلقْتَهُ مِنْ طِين؟

لقدْ عصَى إبليسُ أمرَ ربِّه، وغفَلَ، أو تغافَلَ عنِ النَّفخَةِ الربَّانيَّةِ التي أودعَها في الطِّينِ الذي خلقَ منهُ آدَم، وعادَاهُ منذُ أوَّلِ خَلقِه