تفسير الجزء 15 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الخامس عشر
15
سورة الإسراء
سورة الكهف (1-74)

﴿قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الإسراء:62]


وقالَ إبليسُ اللَّعينُ يُخاطِبُ ربَّهُ في جُرأةٍ ووَقاحَة: أرأيتَ هذا المَخلوقَ الذي كرَّمتَهُ وفضَّلْتَهُ عليَّ، إذا مدَدتَ في عُمُري وأبقَيتَني إلى يَومِ القِيامَة، لأستَولَينَّ على ذُرِّيَّتِهِ وأُضِلَّنَّهمْ عنِ الهُدَى، إلاّ القَليلَ منهم.

﴿قَالَ اذۡهَبۡ فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمۡ جَزَآءٗ مَّوۡفُورٗا﴾ [الإسراء:63]


قالَ لهُ ربُّه: اذهَب، فقدْ أخَّرتُكَ إلى يَومِ القِيامَة، واعمَلْ على ضَلالِ مَنْ شِئتَ منهم، فمَنْ آثرَ طاعتَكَ على طاعَتي فإنَّ جَزاءَكَ وجَزاءَ مَنْ تَبِعَكَ جَهنَّمُ، جَزاءً وافِرًا كامِلاً لا يُنقَصُ لكمْ منه.

﴿وَاسۡتَفۡزِزۡ مَنِ اسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي الۡأَمۡوَٰلِ وَالۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الإسراء:64]


استَخِفَّ واخدَعْ منِ استَطَعتَ منهمْ بصَخَبِكَ وتَهويلِكَ وتَزيينِك، وصِحْ عَليهمْ بجنودِكَ كُلِّهم، راكبِهمْ وماشِيهم، وتسلَّطْ عَليهمْ بما تَقدِرُ عَليه لإضلالِهم(72)، وشارِكْهمْ في أموالِهم، بكَسبِها منَ الحَرام، وإنفاقِها في الحَرام، وجَعْلِ نَصيبٍ منها للأصْنام. وشَارِكْهمْ في الأولاد، بتَربيَتِهمْ على الكُفرِ والمَعصِيَة، أو قَتلِهمْ خَوفًا منَ الفَقر، أو تَسميَتِهمْ بما يَكرَهُ الله، وعِدْهُمْ بالمُغرِياتِ الكاذِبَة، أَمِّلْهُمْ بالعمُرِ الطَّويل، والمُلكِ العَريض، وشَفاعَةِ الأصْنامِ لهمْ إذا وقَعوا في الضِّيق، وقُلْ لهم: لا جَنَّةَ ولا نارَ ولا بَعث. وما مَواعيدُ الشَّيطانِ لهمْ إلاّ حِيَلٌ وتَكذيب، وتَزيينٌ للباطِلِ بما يُظَنُّ أنَّهُ حَقّ.

(72) قالَ ابنُ عباس ومجاهد وقتادة: إن خيلًا ورَجِلًا من الجنِّ والإنس، فما كان من راكبٍ يقاتلُ في معصيةِ الله فهو من خيلِ إبليس، وما كان من راجلٍ يقاتلُ في معصيةِ الله فهو من رَجِلِ إبليس. ويجوزُ أن يكونَ استفزازهُ بصوتهِ وإجلابهِ بخيلهِ ورَجِلهِ تمثيلًا لتسلُّطهِ على من يُغويه، فكأنهُ مغوارٌ أوقعَ على قومٍ فصوَّتَ بهم صوتًا يُزعجهم من أماكنهم ويُقلِعُهم عن مراكزهم، وأجلبَ عليهم بجندهِ من خيّالة ورجّالةٍ حتى استأصلَهم. (روح البيان). تمثيلٌ لحالِ صرفِ قوَّتهِ ومقدرتهِ على الإضلالِ بحالِ قائدِ الجيش، يجمعُ فرسانَهُ ورجّالته.. ولما كان قائدُ الجيشِ ينادي في الجيشِ عند الأمرِ بالغارة، جازَ أن يكونَ قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} من جملةِ هذا التمثيل... والمعنى: أجْمِعْ لمن اتَّبعَكَ من ذريةِ آدمَ وسائلَ الفتنةِ والوسوسةِ لإضلالهم. (التحرير والتنوير).

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٞۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلٗا﴾ [الإسراء:65]


إنَّ عِباديَ المؤمِنين، المُتحَصِّنينَ منكَ بالإيمانِ والتوَكُّل، ليسَ لكَ عَليهمْ تسَلُّطٌ ونُفوذٌ بإغوَائهم، فهمْ في حِفظِ اللهِ وحِراسَتِه، وكفَى باللهِ حافِظًا ومُعينًا.

﴿رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزۡجِي لَكُمُ الۡفُلۡكَ فِي الۡبَحۡرِ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا﴾ [الإسراء:66]


وكانَ عَليكمْ أنْ تَعرِفوا عَداوةَ الشَّيطانِ لكمْ فتَبتَعِدوا عَنه، وتتَوجَّهوا إلى رَبِّكمُ الذي يُسَخِّرُ لكمْ ما شاءَ ويُسَهِّلُ لكمْ مَصالِحَكم، فهوَ الذي يَدفَعُ لكمْ السُّفُنَ في البَحرِ لتَطلُبوا رزقَكمْ بالتِّجارةِ فيه، وتتَنقَّلوا منْ بلَدٍ إلى بلَد، وهذا منْ فَضلِهِ عَليكمْ ورحمَتِهِ بكم.

﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى الۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ الۡإِنسَٰنُ كَفُورًا﴾ [الإسراء:67]


وإذا أصابَكمُ الخَوفُ في البَحر، فقَويَتِ الرِّيح، وهاجَ المَوج، وتَمايَلَتِ السَّفينَةُ مُنذِرَةً بالغَرَق، ذهَبَ عَنكمْ كُلُّ مَنْ كنتُمْ تَدعونَهمْ وتَعبدونَهمْ إلاّ الله، وعرَفتُمْ أنَّهُ لنْ يُغيثَكمْ إلاّ هو، فلمّا خلَّصَكمْ منْ ذلكَ الكَرْب، وأنقذَكمْ مِنْ هَولِ البَحرِ وأموَاجِه، وأوصلَكمْ سالِمينَ إلى البَرّ، أعرَضتُمْ عنْ تَوحيدِ رَبِّكم، ورجَعتُمْ إلى الشِّركِ والمَعصِيَة. وهذهِ عادَةُ الإنسَان، الذي يَنسَى النِّعَم، ويَجحَدُ المَعرُوف، إلاّ مَنْ عصَمَ الله، وتثَبَّتَ على الإيمان.

﴿أَفَأَمِنتُمۡ أَن يَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ الۡبَرِّ أَوۡ يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ وَكِيلًا﴾ [الإسراء:68]


وإذا نجَوتُمْ فصِرتُمْ في طرَفِ البَرّ، أفظَنَنتُمْ - أيُّها الغافِلونَ - أنَّكمْ ناجُونَ مِنْ بَطشِ اللهِ وانتِقامِه؟ أفأمِنتُمْ أنْ يُزَلزِلَ الأرضَ مِنْ تحتِ أقدامِكم، أو يُثيرَ بَركانًا فيَقذِفَكمْ منه، فيُهلِكَكمْ جَميعًا؟ ولنْ تَجِدوا مَنْ يَحمِيكمْ منْ عَذابِهِ وسَخَطِه.

﴿أَمۡ أَمِنتُمۡ أَن يُعِيدَكُمۡ فِيهِ تَارَةً أُخۡرَىٰ فَيُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ قَاصِفٗا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغۡرِقَكُم بِمَا كَفَرۡتُمۡ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ عَلَيۡنَا بِهِۦ تَبِيعٗا﴾ [الإسراء:69]


أمْ أمِنتُمْ أنْ يَرُدَّكمُ اللهُ إلى البَحرِ الذي أنجاكُمْ منهُ مرَّةً أُخرَى، فيَبعثَ عَليكمْ رِيحًا شَديدَةً جِدًّا، تُدَوِّي لسُرعَتِها، وتَكسِرُ ما تَمرُّ بهِ لقُوَّتِها، فيُغرِقَكمْ بسبَبِ كُفرِكمْ وإعْراضِكمْ عنِ اللهِ تعالَى؟ ولنْ تَجِدوا مَنْ يُتابِعُ أمرَ غَرَقِكمْ فيَثأرَ لكم.

﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي الۡبَرِّ وَالۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا﴾ [الإسراء:70]


ولقدْ جَعلنا بني آدمَ ذَوي كَرامَةٍ وشرَف، ومَحاسِنَ وفَضائل، بما أودعَ اللهُ فيهمْ مِنْ فِطرَة، وأكرمَهمْ مِنْ عَقل، وجعلَهمْ خُلَفاءَ في الأرْض، وسخَّرَ لهمْ ما في السَّماواتِ والأرْض.

وسهَّلنا لهمُ التنقُّلَ في البَرِّ والبَحرِ بما ذَلَّلناهُ لهمْ منَ الدوابِّ والسُّفُنِ وغَيرِها منَ المَراكب، ورزَقناهمْ أنواعَ المطاعِمِ والمشَارِب، ممّا لَذَّ وطابَ ونفَع. وقدْ فضَّلنا بني آدمَ بهذا التَّكريم، وباستِخلافِهِ في الأرْض، على كَثيرٍ منَ المَخلوقات، تَفضيلاً كبيرًا بيِّنًا.

﴿يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا﴾ [الإسراء:71]


ويَومَ القِيامَةِ نُنادي كُلَّ جَماعَةٍ بنِسبَتِهمْ إلى الإمامِ والقائدِ الذي اتَّبَعوه، فمَنْ أُعطِيَ صَحيفَةَ عمَلِهِ بيَمينِه، فأولئكَ يَقرَؤونَها بفَرَحٍ وابتِهاج، ولا يُنقَصُونَ منْ أجُورِ أعمالِهمْ شَيئًا، ولو كانَ مِثقالَ القِشرِ الرَّفيعِ الذي في وسَطِ النَّواة.

﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي الۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا﴾ [الإسراء:72]


ومَنْ كانَ في هذهِ الدُّنيا ضالاًّ لا يُبصِرُ سَبيلَ الرُّشد، ولا يَهتَدي إلى طَريقِ الحَقِّ الذي بيَّنَهُ لهُ اللهُ في كتُبِهِ وعلى ألسِنةِ رسُلِه، فهوَ في الآخِرَةِ أيضًا لا يَهتَدي إلى مَنْ يُسعِفُهُ ويُنجِيه، فهوَ ثمَرَةُ عمَلِهِ السَّيِّء، ومَنْ كانَ غافِلاً لاهِيًا وأفاقَ على جِدٍّ لَقيَ ما لا يُحِبّ، بلْ هوَ أكثَرُ ضَلالاً منهُ في الدُّنيا، لعدَمِ إمكانِ تَدارُكِ ما فاتَه، ولا عَودَتِهِ إلى الدُّنيا ليَعملَ صالِحًا.

﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ الَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا﴾ [الإسراء:73]


وقدْ كادَ المشرِكونَ أنْ يوقِعُوكَ في الفِتنَة، ويَصرِفوكَ عمّا أوحَيناهُ إليكَ منَ الأحْكام، لِما يُراجِعونَكَ فيهِ ويَقتَرِحونَه، ويَطلبونَ منكَ أنْ تَختَلِقَ على اللهِ غَيرَ ما أوحاهُ إلَيك، ولو وافَقتَهمْ على ذلكَ لاتَّخَذوكَ صَديقًا ووَليًّا لهم.

﴿وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡـٔٗا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:74]


ولو لمْ نُثَبِّتْكَ على الحَقِّ لَكِدْتَ أنْ تَميلَ إليهمْ شَيئًا قَليلًا، لشِدَّةِ كَيدِهمْ واحتيالِهم.

﴿إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ الۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ الۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا﴾ [الإسراء:75]


ولو أنَّكَ مِلتَ إليهمْ ولو شَيئًا قَليلًا، لأذَقناكَ عَذابًا مُضاعَفًا في الحَياةِ الدُّنيا، وعَذابًا مُضاعَفًا في الحَياةِ الآخِرَة، ثمَّ لا تَجِدُ مُعينًا يَمنَعُكَ مِنْ عَذابِنا.

وقدْ عصَمَ اللهُ رسولَهُ الكريمَ منْ فِتنَةِ المشرِكينَ والركونِ إليهم. وهذا دَرسٌ كبيرٌ للمُسلِمينَ بعدَمِ التنازُلِ لهمْ عنْ شَيءٍ منْ أحكامِ دينِهمْ للكافِرين، فهوَ نظامٌ مُتكامِلٌ لا يَصلُحُ التَّفريطُ بجُزءٍ منه. وفَرقٌ بينَ العِزَّةِ بالإسْلامِ والفَخرِ به، وبينَ التَّنازُلِ عنهُ أو عنْ بَعضِه.

﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ الۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الإسراء:76]


وقدْ كادَ مُشرِكو مكَّةَ أنْ يُزعِجُوكَ بعداوَتِهمْ ومَكرِهمْ ليُخرِجوكَ منها، ولو أنَّهمْ فعَلوا ذلكَ لمَا بَقُوا في مَكَّةَ بعدَكَ إلاّ زمَنًا يسيرًا حتَّى يَهلِكوا.

قالَ مُفَسِّرون: وقدْ كفَّهمُ اللهُ عنْ ذلكَ حتَّى أمرَ رسولَهُ بالهِجرَة.

وذكرَ آخَرونَ أنَّهمْ فعَلوا ذلك، فعاقَبَهمُ الله، حَيثُ أمكنَ مِنهمْ رسولَهُ يَومَ بَدر، فقتَلَ أشرافَهمْ وسبَى ذَرارِيهم... أو أنَّهُ دخلَ مكَّةَ وقَهرَ أهلَها ثمَّ أطلقَهمْ حِلْمًا وكرَمًا. صلى الله عليه وسلم.

وللتَّوفيقِ بينَ الأمرينِ يُقال: إنَّ المشرِكينَ كانوا سببًا في خُروجهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، ثمَّ أمرَهُ اللهُ بالهِجرة.

﴿سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا﴾ [الإسراء:77]


وهذهِ طَريقَتُنا معَ رسُلِنا مِنْ قَبلِك، إذا أخرَجَهمْ قَومُهمْ مِنْ بينِ أظهُرِهمْ عاقَبناهُم، ولا تَجِدُ لطَريقَتِنا تَبديلاً أو تَغييرًا.

﴿أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ الۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ الۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا﴾ [الإسراء:78]


أقِمِ الصَّلاةَ مِنْ مَيلانِ الشَّمسِ - وهوَ انحِرافُها منْ وسَطِ السَّماءِ - إلى بُدوِّ اللَّيل. فتَدخلُ فيهِ الصَّلواتُ الأربَعة: الظُّهر، والعَصر، والمَغرِب، والعِشاء. وقُرآنُ الفَجر: صلاةُ الصُّبح. إنَّ صلاةَ الفَجرِ يَشهَدُهُ ملائكةُ اللَّيلِ وملائكةُ النَّهار. وتَفسيرُ "مَشهودًا" بذلكَ منْ قَولِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما رَواهُ ابنُ خُزَيمةَ والتِّرمِذيُّ في حَديثٍ صَحيح.

﴿وَمِنَ الَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا﴾ [الإسراء:79]


وقُمْ بعدَ نَومِكَ وصَلِّ صلاةَ التَّهَجُّدِ أيُّها النبيّ، زيادَةً على سَائرِ الفَرائضِ عَليك، ووَاظِبْ عَليها، ليُقيمَكَ اللهُ يَومَ القِيامَةِ مَقامًا يَحمَدُكَ فيهِ الأوَّلونَ والآخِرون، ويُكرِمَكَ فيهِ إكرامًا عَظيمًا. ويَبدو أنَّهُ مَقامُ الشَّفاعَةِ للنَّاس، حيثُ يُريحُهمُ اللهُ بشَفاعَتِهِ مِنْ شِدَّةِ وهَولِ يَومِ الحَشرِ وكَرْبِه، بأنْ يُحاسِبَهمُ اللهُ ويَقضيَ بينَهم، ويَعتَذِرُ مِنْ ذلكَ المَقامِ جَميعُ الأنبياءِ عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام.

والتهَجُّد، أو قِيامُ اللَّيل، فيهِ صلاةُ الوِتر، وهوَ إحدَى عَشرَةَ رَكعَة، أو ثلاثَ عَشرَةَ رَكعَة، وهوَ سُنَّةٌ للمُسلِمينَ عُمومًا، ولهُ فَضلٌ كبير، وثَوابٌ عَظيم. يَقولُ عَليهِ الصلاةُ والسَّلام: "عَليكمْ بقِيامِ اللَّيل، فإنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحينَ قَبلَكم، وإنَّ قيامَ اللَّيلِ قُربَةٌ إلى الله، ومَنهاةٌ عنِ الإثم، وتَكفيرٌ للسَيِّئات، ومَطرَدَةٌ للدَّاءِ عنِ الجسَد". وهوَ حَديثٌ صَحيح، واللَّفظُ للتِّرمِذيّ.

وحُكمُ قيامِهِ بما يَخصُّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلم مُبيَّنٌ في تَفسيرِ آخِرِ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ المُزَّمِّل.

﴿وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَاجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا﴾ [الإسراء:80]


وقُلْ في دُعائكَ أيُّها الرَّسول: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}: وهوَ الإدخَالُ المَرْضِيُّ لمَكانٍ لا يُرَى فيهِ مَكروه، وفُسِّرَ بالمّدينَةِ المنوَّرَةِ مَهجَرهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام. {وأًخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}: أَمْنًا لا أرَى فيهِ مَكروهًا، وهوَ مكَّةُ المُكّرَّمَة. ففي حَديثِ ابنِ عَبّاسٍ الصَّحيح: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمَكَّة، ثمِّ أُمِرَ بالهِجرَة، فنَزَلَتْ عَليه: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ...}. اهـ.

واجعَلْ لي مِنْ عندِكَ قوَّةً كبيرَةً ومَنَعَةً أستَعينُ بها على الأعداءِ وأنتَصِرُ عَليهم.

﴿وَقُلۡ جَآءَ الۡحَقُّ وَزَهَقَ الۡبَٰطِلُۚ إِنَّ الۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا﴾ [الإسراء:81]


وقُلْ أيُّها الرَّسُول: جاءَ الإسلامُ الحَنيف، والشَّرْعُ العَظيم، وزالَ الشِّركُ والكُفر، فلا عِبادَةَ للأصنامِ بعدَ اليَوم، ولا ثَباتَ للبَاطل، ولا مَكانَ لهُ معَ وجودِ الحَقّ.

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّـٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا﴾ [الإسراء:82]


ونُنَزِّلُ منَ القُرآنِ ما يَكونُ شِفاءً وعِلاجًا لأمراضِ النَّفسِ والقَلب، مِنْ ضلالَةٍ وجَهالَة، ووَسوَسَةٍ وشَكّ، وزَيغٍ وقَلَق، وهَوًى وطمَع، وانحِرافٍ وزَلَل، فيُسَكِّنُ النَّفس، ويُطَمْئنُ القَلب.

وهوَ رَحمَة، ففيهِ الإيمانُ الصَّحيح، والدَّليلُ إلى الحَقّ، والثَّباتُ عَليه، والرَّغبَةُ في الخَيرِ والعمَلِ الصَّالِح، والتَّمهيدُ إلى رِضَى اللهِ ودُخولِ جَنَّتِه.

وهذا كُلُّهُ للمُؤمِنينَ بالقُرآن، المُتَّبِعينَ لهَديه، الذينَ جَعلوهُ دُستورًا لهم، يَتحاكَمونَ إليه، ويَجتَمِعونَ عَليه.

أمَّا الكافِرونَ به، فليسَ القُرآنُ شِفاءً لهمْ ولا رَحمَة، فهمْ يَكفُرونَ بمُنزلِه، ويُكَذِّبونَ المُنزَلَ عَليه، فيَزدادونَ ضَلالًا، وظُلمًا وفَسادًا، لبُعدِهمْ عنهُ ومُناقضَتِهمْ لأحكامِه، فهمْ خائبونَ خاسِرون.

﴿وَإِذَآ أَنۡعَمۡنَا عَلَى الۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَـُٔوسٗا﴾ [الإسراء:83]


وإذا أنعَمنا على الإنسَانِ بالمَالِ والعافيَة، ونالَ ما يَرغَبُ ويَشتَهي، بَطِرَ واستَعلَى، ولَجَّ في الظُّلمِ وطغَى، وأعرَضَ عنْ طاعَةِ الله، فلمْ يَذكُرْهُ ولم يَشْكُرْه.

وإذا أصابَتْهُ المَصائبُ والحَوادِث، ونالَتْ منهُ الشَّدائدُ والنَّوازِل، انكفَأ على نَفسِه، فحَزِنَ وقَنَطَ، وظَنَّ أنْ لنْ يَحصُلَ لهُ خَيرٌ بعدَ هذا؛ لضَعفِهِ وشِدَّةِ جَزَعِهِ، إلاّ مَنْ رَحِمَ الله.

﴿قُلۡ كُلّٞ يَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِيلٗا﴾ [الإسراء:84]


قُلْ أيُّها الرَّسُول: كُلٌّ منَ المؤمِنِ والكافِرِ يَعمَلُ على ناحيَتِه، ومَذهَبِهِ ومِنهَجِه، الذي يوافِقُ حالَهُ ووِجهَتَه، ورَبُّنا أعلَمُ منّا ومِنكمْ بمَنْ هوَ أهدَى طَريقًا، ومَنْ هوَ أَضَلّ، وسيَجزي كُلاًّ بما عَمِل.

﴿وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ الرُّوحِۖ قُلِ الرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الإسراء:85]


ويَسألُكَ المشرِكونَ عنْ حَقيقَةِ الرُّوح، فقُلْ لهم: هوَ مِنْ عِلمِ الغَيبِ الذي اختَصَّ اللهُ به، وسِرٌّ منْ أسرارِهِ الذي أودَعَهُ في بَعضِ كائناتِه، ولم يُطْلِعْكُمْ على أمرِه، وعِلمُكمْ مَحدودٌ بالنسبَةِ إلى عِلمِ الله، وما وهبَكمْ منهُ إلاّ القَليل.

﴿وَلَئِن شِئۡنَا لَنَذۡهَبَنَّ بِالَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيۡنَا وَكِيلًا﴾ [الإسراء:86]


وإذا أرَدنا أذهَبنا هذا القُرآنَ المُوحَى بهِ إليك، وحرَمناكَ والبشَريَّةَ منْ هذا العِلمِ النَّافِع، والخَبَرِ الصادِق، والخَيرِ العَميم، الذي هوَ شِفاءٌ ورَحمَة، ثمَّ لا تَجِدُ مَنْ يَتَعَهَّدُ لكَ بإعادَةِ ما حرَمناكَ منهُ إلَيك،

﴿إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ إِنَّ فَضۡلَهُۥ كَانَ عَلَيۡكَ كَبِيرٗا﴾ [الإسراء:87]


ولكنْ لا نَشاءُ ذلك، رحمَةً منَ اللهِ بكَ وبالنَّاس، وفَضلُهُ كَبيرٌ عَليك، ومِنَّتُهُ عَظيمَةٌ على الخَلقِ أجمَعين، بإنزالِ هذا القُرآن، وغَيرِ ذلكَ مِنْ نِعَمِه.

﴿قُل لَّئِنِ اجۡتَمَعَتِ الۡإِنسُ وَالۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا الۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا﴾ [الإسراء:88]


قُلْ أيُّها الرَّسُول: لو أنَّ الإنسَ والجِنَّ كُلَّهمُ اجتَمَعوا وتَعاوَنوا على أنْ يأتوا بمِثلِ هذا القُرآنِ لَما قَدَروا على ذلك، ولو بذَلوا كُلَّ ما في وسْعِهمْ منْ عِلمٍ وإبداعٍ ومَوهِبَةٍ ومَهارَة، فهوَ كلامُ اللهِ المُعجِزُ المُحْكَم، لا يَقدِرُ مَخلوقٌ على أنْ يأتيَ بمِثلِه، ولا بعَشرِ آياتٍ منه، ولا بسورةٍ قَصيرَةٍ منهُ لا تتَجاوزُ الثَّلاثَ آيات. ولو كانَ منْ كلامِ الخَلقِ لأتَوا بمِثلِه.

﴿وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا﴾ [الإسراء:89]


ولقدْ بيَّنَّا للنَّاسِ وكرَّرنا لهمْ في هذا القُرآنِ بأساليبَ شَتَّى، الأدِلَّةَ والبَراهينَ التي تُوَضِّحُ الحقَّ لهم، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يُريدون الصَّواب، أو لا يُريدونَ العمَلَ به، فيُعانِدونَ ويَجحَدون، ويُفَسِّرونَ الأمُورَ ويُتابِعونَها كما يوافِقُ أهَواءَهُمْ ومَصالِحَهمُ الدُّنيَويَّةَ الظَّاهِرَة.

﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ الۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا﴾ [الإسراء:90]


وقالَ لكَ مُشرِكو مكَّةَ في تحَدٍّ وعِناد: لا نُسَلِّمُ بأنَّ هذا القُرآنَ مِنْ عندِ الله، ولا نُؤمِنُ بنبوَّتِك، حتَّى تَفجُرَ عَينًا تَجري في أرضِنا كالنَّهر.

﴿أَوۡ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَعِنَبٖ فَتُفَجِّرَ الۡأَنۡهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفۡجِيرًا﴾ [الإسراء:91]


أو يَكونَ لكَ بُستانٌ فيهِ أشجَارُ النَّخيلِ والعِنَبِ الكثيرَة، وتُفَجِّرَ(73) فيها العُيونَ واليَنابيعَ فتَجري في خِلالِها الأنهارُ جرَيانًا.

(73) أي: تُجريها بقوة. (فتح القدير).

﴿أَوۡ تُسۡقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمۡتَ عَلَيۡنَا كِسَفًا أَوۡ تَأۡتِيَ بِاللَّهِ وَالۡمَلَـٰٓئِكَةِ قَبِيلًا﴾ [الإسراء:92]


أو تُسقِطَ عَلينا السَّماءَ قِطَعًا كما زعَمتَ أنَّ ربَّكَ إنْ شَاءَ فَعَل، أو تأتيَ باللهِ والمَلائكةِ مُقابَلَةً وعِيانًا يَشهَدونَ بصِحَّةِ ما تَقول.