﴿وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّنَ الرَّحۡمَٰنِ مُحۡدَثٍ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهُ مُعۡرِضِينَ﴾ [الشعراء :5]
ولا تأتيهمْ مَوعِظَةٌ وتَذكيرٌ في آياتٍ جَديدَةٍ مِنْ عندِ رَبِّهمُ الرَّحمن، إلاّ أعرَضوا عَنهُ وكفَروا به.
﴿فَقَدۡ كَذَّبُواْ فَسَيَأۡتِيهِمۡ أَنۢبَـٰٓؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الشعراء :6]
فقدْ كذَّبوا بالقُرآنِ وما فيهِ مِنَ الحَقّ، وسَوفَ يأتيهمْ خبَرُ ما كذَّبوا به، مِنَ العُقوبَةِ والعَذاب.
﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى الۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجٖ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء :7]
ألَا يَنظُرونَ إلى قُدرَةِ الخالِقِ العَظيم، وعَجائبِ ما في الأرْضِ التي تَدلُّ على كمَالِ قُدرَتِهِ وإبداعِه، وقدْ أنبتَ فيها مِنْ كُلِّ صِنفٍ حسَنٍ ما يوحي بالنَّضارَةِ والحَياة؟
﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الشعراء :8]
وفي ذلكَ دَلالَةٌ واضِحَةٌ على ما يوجِبُ الإيمانَ بالله، والتسليمَ بقُدرَتِه، ومعَ هذا لا تَجِدُ أكثرَهمْ يؤمِنُ به، ويُصَدِّقُ رسُلَه.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الۡعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء :9]
واللهُ عَزيزٌ قَهَرَ كُلَّ شَيء، رَحيمٌ بعِبادِه، فلا يُعاجِلُهمْ بالعُقوبَةِ وإنْ عَصَوا، بلْ يُمهِلُهمْ إلى أجَل، لئلاّ يَكونَ لهمْ عُذرٌ بعدَ ذلك.
﴿وَإِذۡ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰٓ أَنِ ائۡتِ الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الشعراء :10]
واذكُرْ أيُّها النبيُّ عندَما نادَى رَبُّكَ عَبدَهُ موسَى بنَ عِمرانَ مِنْ جانبِ الطُّورِ الأيمَنِ بسيناء، فاصطَفاهُ نبيًّا، وأمرَهُ أنْ يأتيَ القَومَ الذينَ ظلَموا أنفُسَهمْ بالكُفرِ والمَعاصي، واستَعبَدوا بَني إسْرائيل، وذَبَحوا أبناءَهم،
﴿قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَۚ أَلَا يَتَّقُونَ﴾ [الشعراء :11]
قَومَ فِرعَونَ الفاسِقين، وقُلْ لهمْ يا موسَى: ألَا تَصرِفونَ أنفُسَكمْ عنْ عُقوبَةِ اللهِ بطاعَتِه؟
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ [الشعراء :12]
قالَ موسَى عليهِ السَّلامُ مُناجِيًا رَبَّه: يا رَبّ، إنِّي أخافُ أنْ يُكَذِّبوني أوَّلَ الأمر،
﴿وَيَضِيقُ صَدۡرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَٰرُونَ﴾ [الشعراء :13]
ويَضيقُ صَدري بتَكذيبِهمْ إيّاي، ولا يَنطَلِقُ لِساني منَ الحُبْسَةِ التي فيه، وأخشَى بهذا أنْ أضْعُفَ أثناءَ المُواجَهَةِ معَ فِرعَون، فاجعَلْ أخي هارُونَ أيضًا نبيًّا ليُؤازِرَني ويُساعِدَني في أداءِ رسالَتي، ويَنهضَ بالجدَلِ والمُحاججَةِ مَعي، فهوَ أفصَحُ منِّي لِسانًا،
﴿وَلَهُمۡ عَلَيَّ ذَنۢبٞ فَأَخَافُ أَن يَقۡتُلُونِ﴾ [الشعراء :14]
ولهمْ عَليَّ تَبِعَةُ ذَنْب، وهوَ قَتْلُ القِبطيّ - الذي كانَ سببَ خروجِهِ مِنْ مِصر - فأخافُ أنْ يَقتُلوني به.
﴿قَالَ كَلَّاۖ فَاذۡهَبَا بِـَٔايَٰتِنَآۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ﴾ [الشعراء :15]
قالَ لهُ رَبُّه: كَلاّ لنْ يَقتُلوك، فلا تَخَفْ مِنْ ذلك، اذهَبْ أنتَ وأخوكَ بآيَاتي ومُعجِزاتي، فإنَّني أسمَعُ وأرَى معَكما، وأحفَظُكُما بنَصْري وتأييدِي.
﴿فَأۡتِيَا فِرۡعَوۡنَ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الشعراء :16]
اذهَبا إلى فِرعَونَ المُتكَبِّر، وقُولا له: لقدْ بعثَنا اللهُ رَسولَينِ إليكَ ونَدعوكَ إلى الهُدَى.
﴿أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ﴾ [الشعراء :17]
ودَعْ بَني إسْرائيلَ يَذهَبوا مَعي إلى فِلَسْطِين، ولا تَستَعبِدْهم.
﴿قَالَ أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدٗا وَلَبِثۡتَ فِينَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء :18]
فقالَ فِرعَونُ لموسَى عَليهِ السَّلام: أمَا ربَّيناكَ في بَيتِنا عندَما كُنتَ طِفلاً صَغيرًا، وبَقِيتَ سَنواتٍ تَعيشُ بينَنا؟
﴿وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ الَّتِي فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [الشعراء :19]
ثمَّ قَتَلتَ رَجُلاً منّا، فجَحَدتَ بفَعْلَتِكَ(98) تلكَ نِعمتَنا عَليك؟
(98) الفَعلة بالفتح: المرةُ الواحدةُ من الفعل، يعني قتلَ القبطي. (التفاسير).
﴿قَالَ فَعَلۡتُهَآ إِذٗا وَأَنَا۠ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ [الشعراء :20]
قالَ موسَى عَليهِ السَّلام: لقدْ فعَلتُ ذلكَ حينَئذٍ وأنا مِنَ الجاهِلِين، قَبلَ أنْ أُبْعَثَ رَسولاً.
﴿فَفَرَرۡتُ مِنكُمۡ لَمَّا خِفۡتُكُمۡ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكۡمٗا وَجَعَلَنِي مِنَ الۡمُرۡسَلِينَ﴾ [الشعراء :21]
فخرَجتُ هارِبًا منكمْ إلى مَدْيَنَ لمّا خِفتُ انتِقامَكمْ منِّي، فوَهبَني اللهُ النبوَّةَ وأرسَلَني إليكم.
﴿وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ﴾ [الشعراء :22]
وما ذكَرْتَ مِنْ تَربيَتي في بَيتِكَ عندَما كنتُ صَبيًّا، هيَ نِعمَةٌ في ظاهِرِها، ولكنَّها جاءَتْ مِنْ ظُلمِكَ لبَني إسْرائيلَ وقَتلِكَ أبناءَهم، ولولا ذلكَ لترَبَّيتُ في بَيتِ والِدَيَّ لا بَيتِك.
﴿قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الشعراء :23]
قالَ لهُ فِرعَونُ جاحِدًا مُتَمَرِّدًا: وأيُّ شَيءٍ يَكونُ رَبُّ العالَمين؟ وكانَ يَدَّعي أنَّهُ هوَ الرَّبّ.
﴿قَالَ رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ [الشعراء :24]
قالَ موسَى عَليهِ السَّلام: هوَ خالِقُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما وما فيهما مِنْ مَخلوقات، وهوَ مالِكُهما ومُدَبِّرُ أمرِهِما والمُتَصَرِّفُ فيهمَا كما يَشاء، لا يُعينُهُ ولا يُشرِكُهُ أحَدٌ في ذلك، إنْ كنتُمْ مِنْ أهلِ اليَقينِ والإيمَان.
﴿قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُۥٓ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ﴾ [الشعراء :25]
قالَ فِرعَونُ لمَنْ حَولَهُ مِنْ أشْرافِ قَومِه: ألا تَعجَبونَ ممّا تَسمَعون، مِنِ ادِّعاءِ موسَى أنَّ هُناكَ إلهًا غَيري؟
﴿قَالَ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء :26]
قالَ موسَى عَليهِ السَّلام: هوَ اللهُ الذي خلَقَكمْ وخلقَ آباءَكمُ الأوَّلين.
﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِيٓ أُرۡسِلَ إِلَيۡكُمۡ لَمَجۡنُونٞ﴾ [الشعراء :27]
قالَ فِرعَونُ مُنَفِّرًا قَومَهُ منه: إنَّ هذا الذي يَدَّعي أنَّهُ مَرسَلٌ إليكمْ لا عَقلَ له، فهوَ يتكلَّمُ بكلامٍ لا نَعقِلُهُ ولا نَعرِفُ صحَّتَه.
﴿قَالَ رَبُّ الۡمَشۡرِقِ وَالۡمَغۡرِبِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [الشعراء :28]
قالَ موسَى عَليهِ السَّلامُ مُكمِلاً حديثَه: هوَ اللهُ رَبُّ المَشرِقِ الذي تُشرِقُ منهُ الشَّمس، ورَبُّ المَغرِبِ الذي تَغرُبُ فيهِ الشَّمس، واللهُ هوَ الذي أنشَأهُما هكذا، في نِظامٍ كَونيٍّ رائع، ودِقَّةٍ في الحسَابِ مُتنَاهيَة، ولا أحدَ يَستَطيعُ أنْ يتصَرَّفَ فيهما ويُغَيِّرَ منْ هَيئاتِهما، ومَنِ ادَّعَى أنَّهُ إله، فليَجعَلِ المَشرِقَ مَغرِبًا، والمَغرِبَ مَشرِقًا. هذا لمن تفكَّرَ وعَقَلَ ما يُقالُ له.
﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذۡتَ إِلَٰهًا غَيۡرِي لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ الۡمَسۡجُونِينَ﴾ [الشعراء :29]
لم يَعُدْ يتحمَّلُ فِرعَونُ هذا الحِوارَ المَدعومَ بالحُجَّةِ والدَّليل، فلجَأ إلى التَّهديدِ بالقُوَّةِ وقال: إذا جعَلتَ لنَفسِكَ إلهًا غَيري فسَوفَ أحبِسُك. ويُحكَى مِنْ سَجنِ فِرعَونَ ما لا يُوصَف!
﴿قَالَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكَ بِشَيۡءٖ مُّبِينٖ﴾ [الشعراء :30]
فقالَ موسَى عَليهِ السَّلامُ وهوَ ما يَزالُ يُريدُ أنْ يُقنِعَهُ بالحِوارِ والدَّليل: فما تَقولُ إذا أتَيتُكَ ببُرهانٍ قاطِعٍ ومُعجِزَةٍ باهِرَةٍ تَدُلُّ على صِدْقِ نبوَّتي؟
﴿قَالَ فَأۡتِ بِهِۦٓ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـٰدِقِينَ﴾ [الشعراء :31]
قالَ لهُ فِرعَون: فهاتِ حُجَّتَكَ إنْ كُنتَ صادِقًا في دَعوَاك.
﴿فَأَلۡقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعۡبَانٞ مُّبِينٞ﴾ [الشعراء :32]
فألقَى موسَى عَصاه، فإذا بها تتَحوَّلُ إلى ثُعبانٍ في غايَةِ الجَلاءِ والوضُوح، وليسَ تَخييلاً وتَمويهًا كما يَفعَلُ السَّحَرَة.
﴿وَنَزَعَ يَدَهُۥ فَإِذَا هِيَ بَيۡضَآءُ لِلنَّـٰظِرِينَ﴾ [الشعراء :33]
ونزَعَ موسَى يدَهُ مِنْ أعلى فَتحَةِ قَميصِه، فإذا بها بَيضاءُ تَشِعُّ نُورًا، لمَنْ يَنظُرُ إليها.
﴿قَالَ لِلۡمَلَإِ حَوۡلَهُۥٓ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٞ﴾ [الشعراء :34]
قالَ فِرعَونُ لمَنْ حَولَهُ مِنَ الزُّعماءِ والوجَهاء: إنَّ هذا الرجُلَ خَبيرٌ بارِعٌ في السِّحر.
﴿يُرِيدُ أَن يُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِۦ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ﴾ [الشعراء :35]
قال: ويُريدُ أنْ يَغلِبَكمْ بسِحرِهِ هذا ويُخرِجَكمْ مِنْ أرضِكم، ليَتصَرَّفَ فيها هوَ وقَومُه، فبِماذا تُشيرونَ عليَّ؟