﴿قَالُوٓاْ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَابۡعَثۡ فِي الۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ﴾ [الشعراء:36]
قالَ لهُ جُلَساؤهُ مِنْ ذَوي مَشورَتِه: أَخِّرْ أمرَهُ وأخيهِ هارون، وأرسِلِ الشُّرطَةَ ليَجمَعوا لكَ مِنْ مَدائنِ مِصرَ،
﴿يَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٖ﴾ [الشعراء:37]
ليَأتوكَ بكُلِّ خَبيرٍ حاذِقٍ بالسِّحر.
﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ﴾ [الشعراء:38]
فجُمِعَ السَّحَرَةُ مِنَ الأقاليمِ المِصريَّةِ القَريبَةِ والبَعيدَة، وأمَرُوهمْ بالحضُورِ وقتَ الضُّحى مِنْ يَومِ الزِّينَة.
﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلۡ أَنتُم مُّجۡتَمِعُونَ﴾ [الشعراء:39]
وقيلَ لجمَاهيرِ الناسِ حَثًّا لهمْ على المُبادَرَةِ والمُشاهَدَة: هلْ أنتُمْ مُجتَمِعونَ جاهِزون، لنَنظُرَ ما يَفعَلُ الفَريقَان؟
﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الۡغَٰلِبِينَ﴾ [الشعراء:40]
قالوا: ولنَكونَ في جانبِ السَّحَرَةِ إذا غلَبوا موسَى وأخاه.
﴿فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرۡعَوۡنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ الۡغَٰلِبِينَ﴾ [الشعراء:41]
فلمَّا جاءَ السَّحَرَةُ في الوَقتِ المُحَدَّد، جلَسوا إلى فِرعَونَ يُحَيُّونَه، وقالوا له: هلْ لنا جائزَةٌ عندَكَ إذا غَلَبْنا موسَى في صَنيعِه؟
﴿قَالَ نَعَمۡ وَإِنَّكُمۡ إِذٗا لَّمِنَ الۡمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء:42]
قالَ لهمْ فِرعَون: نعم، لكمْ أجرٌ عَظيم، وسأُقَرِّبُكمْ عندي وأجعَلُكمْ مِنْ جُلَسائي.
﴿قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلۡقُواْ مَآ أَنتُم مُّلۡقُونَ﴾ [الشعراء:43]
ثمَّ قالَ موسَى عليهِ السَّلامُ للسَّحَرَة: أَلقُوا هذا الذي بأيدِيكمْ على الأرْض.
﴿فَأَلۡقَوۡاْ حِبَالَهُمۡ وَعِصِيَّهُمۡ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحۡنُ الۡغَٰلِبُونَ﴾ [الشعراء:44]
فألقَى السَّحَرَةُ حِبالَهمْ وعِصِيَّهمُ التي بأيدِيهم، وقالوا كما يَقولُ الجَهَلَة: بقُوَّةِ فِرعَونَ وعظَمَةِ سُلطانِهِ نحنُ الغالِبونَ لا موسَى.
﴿فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلۡقَفُ مَا يَأۡفِكُونَ﴾ [الشعراء:45]
ثمَّ ألقَى موسَى عَصاه، فإذا هيَ تَخطِفُ وتَبتَلِعُ بسُرعَةٍ جَميعَ ما صنَعَهُ السحَرةُ مِنْ إفْكٍ وكَذِب، فإنَّ ما قامُوا بهِ كانَ تَخييلاً وتَمويهًا على صُوَرِ الحيَّات، لا حَقيقَتُها.
﴿فَأُلۡقِيَ السَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ﴾ [الشعراء:46]
فخَرَّ السَّحَرَةُ ساجِدين، ليَقينِهمْ أنَّ ما جاءَ بهِ موسَى خارِجٌ عنْ حدودِ السِّحر.
﴿قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الشعراء:47]
وقالوا في إيمانٍ وخُشوعٍ: آمنّا برَبِّ النَّاسِ أجمَعين، خالِقِهمْ ومالِكِ أمرِهم.
﴿رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ﴾ [الشعراء:48]
رَبِّ موسَى وهارون، وفِرعَونُ ليسَ رَبًّا كما يَدَّعي هوَ وأتباعُهُ الجاهِلون.
﴿قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحۡرَ فَلَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الشعراء:49]
ولجأَ فِرعَونُ مرَّةً أُخرَى إلى التَّهديدِ والوَعيد، وقدْ أُفحِمَ وانقَطَعَتْ حُجَّتُهُ منِ اتِّهامِ موسَى بالسِّحر، فتوَجَّهَ إلى السَّحَرَةِ قائلاً: أآمَنتُمْ بما جاءَ بهِ موسَى قبلَ أنْ أسمحَ لكمْ بذلك؟! كانَ عَليكمْ أنْ تَنتَظِروا أمري، فـأنا رَئيسُكم، فإذا سَمحتُ لكمْ بذلكَ آمنتُم، وإذا منَعتُكمْ منهُ امتَنَعتُم!
وقالَ في خُبْثٍ وهوَ يَكذِب: إنَّ موسَى هوَ السَّاحِرُ الكبيرُ فيكم، وقدْ دَبَّرتُمْ هذا الأمرَ بلَيلٍ لتَقومُوا بمؤامَرَةٍ على البلَد {إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} [سورة الأعراف: 123]. وسَترَونَ ما أفعَلُهُ بكم، سأقطَعُ أياديكمْ اليُمنَى معَ أرجُلِكمُ اليُسرَى، ولأُصَلِّبنَّكمْ في جُذوعِ النخلِ لتَموتوا جُوعًا وعطَشًا(99).
(99) الصُّلب: الذي هو تعليقُ الإنسانِ للقتل، قيل: هو شدُّ صُلبهِ على خشب... (مفردات الراغب).
﴿قَالُواْ لَا ضَيۡرَۖ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء:50]
قالَ السَّحَرَةُ وقَدْ آمَنوا غَيرَ مُبالِينَ بتَهديدِ فِرعَون: لا يَضُرُّنا ذلكَ وقدْ آمنَّا برَبِّنا ولِقائه، وسنَصبِر، وعندَما نُرجَعُ إليهِ نرَى الثَّوابَ الكبيرَ عندَه.
﴿إِنَّا نَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَٰيَٰنَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الشعراء:51]
إنَّنا نأمُلُ مِنْ رَبِّنا أنْ يَرحمَنا ويَغفِرَ لنا ذُنوبَنا وما أمَرتَنا بهِ مِنَ السِّحر، لمُبادَرَتِنا إلى الإيمانِ مِنْ بَينِ قَومِنا، وتَصديقِنا بنَبيِّ اللهِ موسَى وما جاءَ بهِ مِنَ المُعجِزات.
﴿۞وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِيٓ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء:52]
وبعدَ سَنواتٍ مِنَ الدعوَةِ بينَ فِرعَونَ وآلِه، لم يَزِدْهُمْ ذلكَ إلاّ عِنادًا واستِكبارًا عنِ اتِّباعِ الحقّ، فأمَرنا موسَى أنْ اخرُجْ ببَني إسْرائيلَ ليلاً، فإنَّ فِرعَونَ وجُندَهُ سيُلاحِقُكمْ في الصَّباح.
﴿فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِي الۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ﴾ [الشعراء:53]
فبعثَ فِرعَونُ شُرطَتَهُ إلى أنحاءِ أقاليمِ مِصرَ يَجمَعونَ لهُ الجَيش، ليَتْبَعوا موسَى وقَومَه.
﴿إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ لَشِرۡذِمَةٞ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء:54]
وخاطبَهمْ قائلاً: إنَّ بَني إسْرائيلَ عِصابَةٌ قَليلَة،
﴿وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَآئِظُونَ﴾ [الشعراء:55]
وقدْ أغضَبونا بمُخالَفَتِهمْ أمرَنا، وخُروجِهمْ منْ أرضِنا بغَيرِ إذنٍ منّا،
﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَٰذِرُونَ﴾ [الشعراء:56]
ونحنُ جَميعًا حَذِرونَ مُحتاطُونَ مِنْ شَرِّهم، ونُريدُ أنْ نَقضِيَ عَليهم.
﴿فَأَخۡرَجۡنَٰهُم مِّن جَنَّـٰتٖ وَعُيُونٖ﴾ [الشعراء:57]
وأرادَ اللهُ بهذا أنْ يُخرِجَهم. فأخرَجناهمْ مِنْ بسَاتينِهمْ وأنهارِهمُ التي كانتْ على حافَّتَي النِّيل،
﴿وَكُنُوزٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ﴾ [الشعراء:58]
ومِنْ أموالِهمُ التي خزَنوها تحتَ الأرض، ومَساكنِهمُ الرائعَة، ومَجالسِهمُ الحسَنَة.
﴿كَذَٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَٰهَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ﴾ [الشعراء:59]
وهكذا مَلَّكْنا بَني إسْرائيلَ أموالَهمْ وكنوزَهم، بعدَ أنْ عادُوا إلى مِصر.
﴿فَأَتۡبَعُوهُم مُّشۡرِقِينَ﴾ [الشعراء:60]
فلَحِقَهمْ فِرعَونُ وجُنودُهُ معَ طُلوعِ الشَّمس.
﴿فَلَمَّا تَرَـٰٓءَا الۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ﴾ [الشعراء:61]
فلمّا تقارَبَ الجَيشان، بحَيثُ رأى كُلُّ واحِدٍ منهما الآخَر، قالَ أصحابُ موسَى: سيَلحَقُ بنا فِرعَونُ وجَيشُهُ ولا طاقَةَ لنا بهم.
﴿قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ﴾ [الشعراء:62]
قالَ لهمْ موسى، مُذَكِّرًا إيّاهمْ بوَعدِ اللهِ له: كلاّ، لنْ يَصِلَ إليكمْ فِرعَون، وإنَّ ربِّي أمرَني أنْ أسلُكَ هذا المسلَك، وهوَ الذي يَدُلُّني على طَريقِ النَّجاة.
﴿فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ اضۡرِب بِّعَصَاكَ الۡبَحۡرَۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَالطَّوۡدِ الۡعَظِيمِ﴾ [الشعراء:63]
فأمَرنا موسَى بوَحي مِنْ عندِنا، أنِ اضرِبِ البَحرَ بعَصاك. فضرَبهُ بها، فانشَقَّ البَحر، فكانَ كُلُّ جانبٍ منهُ كالجبَلِ الكَبير.
﴿وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ الۡأٓخَرِينَ﴾ [الشعراء:64]
وقرَّبْنا هُنالِكَ فِرعَونَ وجنودَه، حتَّى دخَلوا فيما انفَلقَ مِنَ البَحر، في أثرِ موسى وصَحبه.
﴿وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ﴾ [الشعراء:65]
وأنجَينا موسَى ومَنْ معَهُ مِنْ بَني إسرائيلَ مِنَ الهَلاكِ على أيدي أعدائهم، ومِنَ الغرَقِ في البَحر.
﴿ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا الۡأٓخَرِينَ﴾ [الشعراء:66]
ثمَّ أغرَقنا فِرعَونَ ومَن معَه، بأنْ أطبَقْنا عليهمْ ما انفَلقَ مِنَ البَحر، ولم يَنجُ منهمْ أحَد.