واذكروا أيُّها اليَهودُ مِنْ مواقِفِكمْ في مخالفةِ الأنبياءِ ومُعانَدَتِهِمْ واتِّباعِ أهوائكمْ في ذلك، أنْ آتينا موسى التوراةَ، التي حَرَّفْتُمُوها وبَدَّلْتُمُوها، وخالَفتُمْ أوامِرَها وأوَّلتُموها. وأَتْبَعناهُ برسلٍ آخَرِينَ كانوا يَحكمونَ بما في التوراة، حتَّى جاءَ عيسى ختامُ أنبياءِ بني إسرائيل، فأيَّدناهُ بالمعجِزاتِ الكبيرة، كالإخبارِ بما في الغَيب، وإبراءِ المرضَى، وإحياءِ الموتَى بإذنِ الله. وقوَّيْناهُ بجبريلَ كذلك، يكونُ معهُ ويُصَدِّقُ ما جاءَكمْ به، وأنزلنا عليهِ الإنجيلَ فيهِ مخالفةٌ لِبَعضِ أحكامِ التوراة، فما وافقَ ذلكَ أهواءَكمْ ونزواتِكمُ المتقلِّبة، معَ كلِّ ما أُيِّدَ به، فعانَدتموهُ وتعالَيتُمْ على موافَقتِه، وانصرفتُمْ إلى مُجادَلَتِهِ ومُخالَفته. أَوَكُلَّمَا أرسلنا إليكمْ رسولاً استَكبرتُمْ عنْ قَبولِ الحقّ، ففَريقٌ منكمْ يُكذِّبهم، وآخَرُ يَقتلُهم؟!
ولمّا جاءَ اليهودَ القُرآنُ الكَريم، المُنـزَلُ على محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهوَ مُصَدِّقٌ لمِا في التوراة، وكانوا قبلَ مَبعثهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يَستَنصِرونَ بهِ على أعدائهمُ المشركينَ إذا قاتَلوهم، يَقولون: إنَّ نبيًّا يُبْعَثُ نتَّبعُه، قدْ أظلَّ زمانُهُ، نقتلُكمْ معهُ قَتْلَ عادٍ وإرَم. فَلَمَّا بُعِثَ صلى الله عليه وسلم مِنْ قُرَيشٍ وهمْ يعرفونَ أَنَّهُ هو، بصفاته، كفَروا بهِ وجَحَدُوا ما كانوا يَقولونَ فيه؛ لأنَّهُ ليسَ منهم، فلعنةُ اللهِ عليهمْ بسببِ كفرِهم، وسُخْطُ اللهِ وعَذابُهُ على الجاحِدينَ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارتُهمْ أنْ شَرَوُا الحقَّ بالباطِل، فكفَروا بما جاءَ به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَسداً وبُغضاً وتكبُّراً أنْ لم يَكنْ منهم. و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام: 124]، فيَصطفي مَنْ يشاءُ مِنْ عبادهِ لتَحَمُّلِ أعباءِ الرسالة، وَلَيْسُوا همُ الذين يحدِّدونَ الرسُول.
لقدِ استحقُّوا بِهَذا غَضَباً مُضاعَفاً: عندما ضيَّعوا التوراةَ وهيَ معَهم، ثمَّ كَفَروا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقَدْ خَسِرُوا في تجارتِهمْ عندما لم ينضمُّوا إلى لواءِ الإسلامِ المجيد، كما سَيَنْدَمُونَ في الآخرةِ بما يَنتظِرهمْ مِنَ العذابِ جَزَاءَ كُفْرِهمْ هذا، وسوفَ يَكونُ عَذاباً مُهِيناً وَمُذِلاًّ لَهُم.
وإذا قيلَ لليهودِ أو أهلِ الكتابِ عامَّةً: آمِنوا بما أُنْزِلَ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصَدِّقُوهُ واتَّبِعُوه، قالوا: نَكتفي بما أُنْزِلَ عَلينا مِنَ التَّوراةِ والإنجيل، وفيهما الحقّ، ولا نُقِرُّ بغيرِهما، فيَكفرونَ بالقُرآن، وهمْ يَعلمونَ أنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا فِيهِمَا، وهمْ كاذبونَ مُعانِدون.
فقلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إذا كنتُمْ تَدَّعُونَ صِدْقَ الإيمانِ فيما أُنْزِلَ عَليكم، فَلِمَ قَتَلتُمُ الأنبياءَ الذينَ جاؤُوكمْ بتصديقِ التوراةِ والحُكْمِ بها وأنتمْ تَعلمونَ صِدْقَهُمْ؟ بَلْ هُوَ الْهَوَى والتشهِّي، والبغيُ والاستِكبار، وليسَ هذا مِنْ صفاتِ المؤمنين.
ومِنْ إِعْرَاضِكُمْ عنِ الحقِّ ومخالفتِكمْ للمِيثاق، عندما رَفَعْنَا فوقَكمُ الجبل، وأخَذنا عليكمُ العهدَ بالإيمانِ والطاعةِ بِقُوَّةٍ وَإِرادَةٍ وعزم، فوافَقتُمْ على ذلك، ولكنَّكمْ عُدْتُمْ إلى عِصيانِكمْ وَعِنَادِكُم واتِّبَاعِ أهوَائكُم.
لقدْ أُشْرِبَ في قلوبِهمْ حُبُّ العجلِ وعبادتهُ بكفرِهم، وكأنَّهُ مَوقِفُهُمُ المفضَّلُ بعدَ كلِّ أمر! فبئسَ هذا الإيمان، إنْ كانَ مِنْ إيمان، الذي يأمرُكمْ بالكفرِ بآياتِ اللهِ ومخالفةِ الأنبياء، ثمَّ الكفرِ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خاتمِ النبيِّين، المبعوثِ للناسِ أجمَعين.
فكيف تدَّعونَ الإيمانَ بما عندكمْ وَقَدْ نَقَضتُمْ هذهِ المواثيق، وكفرتُمْ بآياتِ الله، وعَبَدتُمُ العِجْل؟!
لقدْ زَعَمَتِ اليهودُ أن جِبرِيلَ عليهِ السلامُ عَدُوٌّ لَهُمْ، لأنه وَلِيُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَو كانَ وَلِيَّهُ غَيْرُهُ لاتَّبَعُوهُ، كما في الحديثِ الصَّحيح! اخترَعوا هذهِ القصَّةَ المُضحِكةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ جِبرِيلَ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وما هُوَ إِلا عبدٌ مُنَفِّذٌ، لا يَزيدُ على ما أمرَهُ اللهُ به، وقدْ قالَ لهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ وليِّيَ جبريلُ عليه السلام، ولم يَبعثِ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ"، كما رواهُ أحمدُ وغيرُهُ بإسنادٍ صَحيح. فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبرِيلَ فإنَّهُ الروحُ الأمينُ الذي نَزَلَ بالقرآنِ على قلبِكَ بإذنِ اللهِ ومَشِيئَتِه، الكتابِ المصدِّقِ للكتبِ السماويةِ المُتَقَدِّمَة، هُدًى لِلْقُلُوبِ المؤمِنة، وتبشيراً لهمْ بالجنَّة.
ولقدْ أنزلنا إليكَ يا محمَّدُ (صلى الله عليهِ وسلم) دَلائِلَ وَعَلامَاتٍ واضحاتٍ على نبوَّتِكَ وصدقِ ما جئتَ به، ولا يكفرُ بها إلا الفاسِقونَ المنحرِفونَ عنِ الفطرةِ السَّليمة.
أَوَكُلَّما عَاهَدَ اليهودُ على الالتزام بأمرٍ نَكَلَ فريقٌ منهمْ ورفضَ العَهدَ؟ وهذا دأبُهمْ حتَّى خانُوا العَهدَ الذي أبرَموهُ معَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عندَ مَقدَمهِ إلى المدينة .. بلْ أكثرهمْ لا يؤمنونَ بالرسولِ المبعوثِ إليهمْ وإلى الناسِ كافَّة، الذي يَجدونَ صفتَهُ في كتبِهم، وقد أُمِرُوا باتِّباعهِ ومناصَرتِه.
ولما بُعِثَ الرسولُ الذي انتَظروه، وقدْ جاءَ مُصَدِّقاً لِما معهمْ منَ الكتابِ عامَّة، طَرَحتْ طائفةٌ منهمُ الكتابَ الذي بأيديهمْ وراءَ ظهورِهم(10)، لمِا فيهِ منَ البِشارةِ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وكأنَّهم لا يَعلمونَ ما فيها!
لقدْ تَركوا الكتابَ وأقبَلوا على السِّحر! تركوا ما ينفَعُهُمْ وأقبَلوا على ما يَضُرُّهُمْ ويَضُرُّ غَيرَهُمْ، كما يأتي.
(10) مثَلٌ لتركِهم وإعراضِهم عنه بالكليةِ بما يُرمَى به وراءَ الظهر، استغناءً عنه، وقلةَ التفاتٍ إليه. (روح البيان).
واتَّبَعَ اليهودُ الذينَ أَعْرَضُوا عنِ التوراةِ وخالَفوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، اتَّبعوا ما تَرويهِ الشياطينُ وتُخْبِرُ بهِ في مُلْكِ سُليمانَ، وتَكْذِبُ عليهِ وتقول: إِنَّهُ كانَ ساحراً، وإنَّ ما سُخِّرَ لهُ كانَ بما يَستخدمهُ منْ سحر. وكانَ عليه السلامُ نبيًّا كريماً قانِتاً، وما كانَ كافراً كما قالتْ يَهودُ أوِ الشياطينُ لَعَنَهُمُ اللهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [سورة ص: 30]، ولكنَّ الشياطينَ همُ الذينَ كفَروا، حيثُ يُعَلِّمُونَ السِّحر. وَلَمْ يَنْزِلِ السِّحرُ على المَلَكَيْنِ هارُوتَ وَمَارُوتَ في بابل، بَلْ كانا هُناك لحكمةٍ لا نَعرفُها، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بما شاء.
فإذا أَتاهُمَا مَنْ يريدُ تَعَلُّمَ السحرِ قالا لهم: إنَّما نحنُ هُنا فتنةٌ وابتِلاء، فلا تَعمَلوا بالسِّحر، فإنَّ منِ اعتَقدَ إباحتَهَ أو جَوازَ العملِ بهِ كَفَر، فيَتعلَّمونَ مِنْ علمِ السِّحرِ ما هوَ مَذموم، مِنْ شَرٍّ وأذًى، فَيُفَرِّقُون بينَ الزوجين، معَ ما جَعلَ اللهُ بينهما منْ محبَّةٍ ورَحمة. وهمْ لا يَتمكَّنونَ منَ الضررِ بأحدٍ إلاّ إذا قدَّرَ اللهُ وخلَّى بينَ السَّحَرةِ وما أرادوا، فإذا شاءَ سلَّطهمْ على المسحُور، وإذا لم يَشأ لم يُسَلِّطهم، فلا يَستطيعونَ مَضرَّةَ أحدٍ إلا بإذنِ الله.
وهكذا صَاروا يَتعلَّمونَ ما يَضرُّهمْ في دينِهمْ ولا ينفَعُهُم، لأنَّهمْ يَقصِدونَ بهِ الشرّ. وقدْ علمَ اليَهودُ الذينَ استَبدلوا السحرَ بالإيمانِ ومتابعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أنَّهمْ ليسَ لهمْ نصيبٌ عندَ اللهِ في الآخِرَة، فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارَتُهم.
قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ في قصَّةِ هاروتَ وماروت: حاصِلُها راجِعٌ في تفصيلِها إلى أخبارِ بَني إسرائيل، إذْ ليسَ فيها حديثٌ مَرْفُوعٌ صَحيحٌ مُتَّصِلُ الإسنادِ إلى الصادقِ المصدوقِ المعصومِ الذي لا يَنطقُ عنِ الهوى. وظاهرُ سياقِ القرآنِ إجمالُ القصَّةِ مِنْ غيرِ بَسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحنُ نُؤمنُ بما وردَ في القرآنِ على ما أرادهُ اللهُ تعالى، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الحال.
أيُّها المؤمنون، لا تَتشبَّهوا باليهودِ والمشرِكينَ في مقالِهم وفَعالِهم، ولا يَكنْ في كلامِكمْ تَوريةٌ فيها تَنقيصٌ، فَلا تَقُولُوا: "رَاعِنَا"، الذي فيه تَوريةٌ بالرعونة، وهوَ الهوَجُ والحُمْق، مثلَما يَقولُ اليهودُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولو كان قصدَكمْ أنتُمْ المراعاةُ والمراقَبةُ والتأنِّي، ولكنْ قولوا: "انْظُرْنا" أي أَنْظِرْنا وَأَمْهِلْنا.
ولليهودِ الكافرينَ عذابٌ مُوجِعٌ لِما اجترَؤوا عليه وَجَعَلُوا ما يَقولونَ سَبَباً للتهاونِ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ الكافِرين، سَواءٌ أكانوا مشرِكينَ أمْ منْ أهلِ الكتاب، شَديدو العَدَاوَةِ لَكُم، لا يُريدونَ لكمُ الخيرَ ألبتَّة، فلا تتَشَبَّهُوا بهمْ ولا تُوَادُّوهُم، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ تَغْلِي بالحقدِ والحسدِ على ما خَصَّكُمُ اللهُ بهِ منْ رحمتهِ الواسعةِ وفَضْلِهِ الكَبِير، فَأَنْزَلَ الوحْيَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهوَ بين ظَهْرَانَيْكُم، فَاسْتَمْسِكُوا بهذا الذي يَحْسُدُونَكُمْ عليه، واشْكُروا فَضلَه، لِيَحْفظَهُ فيكمْ ويزيدَكُمْ منه، وليسَ هناكَ أجَلُّ مِنْ نِعمَةِ الإيمانِ والاستجابةِ لدعوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاحرِصوا على ذلك.
ما نُبَدِّلُ مِنْ آية، أو نَنقُلُ حُكماً منها إلى غَيرِه، كتَحويلِ أمرٍ إلى نَهي، أو مَحظورٍ إلى مُباح، منَ التشريعاتِ والتكاليفِ التي تُلائمُ أحوالَ الناسِ وأمورَهمُ المتطوِّرة، أو نُنْسِيهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونَمحو ما نشاء، إلاّ كانَ الذي أُثْبِتَ خَيْراً منَ السابق، أو مثلَهُ، بحسَبِ مُقْتضَياتِ الأحوالِ وصلاحِ البَشريَّة، واللهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فهوَ القادرُ على ما يشاء.
أمْ تريدونَ - لبعضِ الصحابةِ - أنْ تَسألوا رسولَكُم على وجهِ التَّعَنُّتِ كما سألتْ بنو إسرائيل نَبِيَّهُمْ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ تكذيباً وعِناداً؟
فاحذَروا، واعلَموا أنَّ مَنْ يَستَبدلِ الكفرَ بالإيمانِ فقدْ خرجَ عنِ الطريقِ المستقيمِ ودخلَ في ظُلماتِ الجهلِ والضَّلال، وهوَ حالُ مَنْ كانَ يَسألُ الأنبياءِ ما لا يَحتاجونَ إليه، على وجهِ التَّعَنُّتِ والكفر، فَيَعْدِلُونَ عنْ تصديقِهمْ واتِّبَاعِهمْ إلى مخالفتِهمْ وتكذيبِهم، فإيّاكمْ وهذا، وإيَّاكُمْ أنْ يَقُودَكُمُ اليهودُ إِلَى مثلِ هذا، فَإِنَّ نِهَايَتَه الضَّلالُ.
إِنَّ كثيراً من اليهودِ والنصارَى يَتَمَنَّوْنَ لو قَدَرُوا عَلَى أَنْ يُعِيدُوكُمْ إلى الكفرِ كما كنتُم، وَأَنْ يَسْلبُوا منكمْ هذا الخيرَ الذي هُدِيتُمْ إليه؛ حسَداً وحِقداً مِنْ نفوسِهم، التي لا تحبُّ الخيرَ للناس، بَعْدَما تَبَيَّنَ أنَّ محمَّداً رسولُ الله، كَمَا يَجِدُونَهُ مكتوباً عِنْدَهُمْ في التوراةِ والإنجيل، فَكَفَرُوا بهِ حسداً وَبَغْياً أنْ لم يَكُنْ مِنهُم.
ولكنْ لا تقابِلوهمْ أنتُمْ بهذا الخُلقِ السيِّئ، بلْ كونوا أَرْفَعَ منْ هذا وأعلَى، فَلا تُؤَاخِذُوهمْ ولا تؤنِّبوهم، بلِ اعْفُوا واصفَحوا الآن، حتَّى يأتيَ أمرُ الله، وهو الإِذْنُ بالقِتال، أو هوَ قتلُ بني قُرَيْظَة، وَإِجْلاءُ بني النَّضِير، وإِذْلالُهُم بضربِ الجِزْيَةِ عَليهم. واللهُ قادرٌ على كلِّ شَيء، وعلى الانتِقامِ منهمْ إذا أراد.
وَصَلُّوا للهِ وداوِموا على عِبادته، وادفَعوا زكاةَ أموالِكم، واشتَغِلوا بما يَنفعُكمْ وتَعُودُ عاقبتُهُ عليكمْ بالخَيرِ يومَ القيامة، فإنَّكمْ مَهْمَا عَمِلتُمْ مِنْ خَيرٍ أو شَرّ، في السرِّ أو في العَلن، فإنَّهُ بَصيرٌ به، يَدَّخِرُهُ لكمْ ثمَّ يُحاسبُكمْ عليه.
إنَّ القاعدةَ في الأمر، هيَ أنَّ مَنْ أسلمَ وجهَهُ للهِ بالطَّاعة، واتَّبَعَ هَدْيَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأحسنَ في عملهِ بالإخلاص، فهذا أجْرُهُ مضمونٌ عندَ الله، فلا يَخَافَنَّ على ما يَستَقبِلُه، ولا يحزننَّ على ما تَركَه.
ثمَّ ادَّعَى كُلُّ طرفٍ ضَلالَ الآخَرِ وتَنَاقُضَهُ، مع بُغضهِ وعداوتهِ له، فقالتِ اليهود: إنَّ النَّصارَى ليستْ على حقّ، كفراً بِنُبُوَّةِ عيسى عليهِ السلامُ والإنجيلِ، وقالتِ النَّصارَى: ليستِ اليهودُ على حقّ، جَحداً بنبوَّةِ موسى عليهِ السلامُ وكفراً بالتوراة، كما حدثَ لوفدِ نجرانَ معَ أحبارٍ لِليهودِ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، في حديثٍ سندهُ حسن. بينما كُلٌّ يَتلو في كتابهِ تَصديقَ مَنْ كفرَ به! وكَلٌّ منهما كانَ مشروعاً في وقته، ولكنَّهمْ تجاحَدوا ذلك عِناداً وكُفراً، ومقابلةً للتَضليلِ بالتضليل. وأطرافٌ وطوائفُ أخرَى قالتْ ذلك. فاللهُ يَجمَعُهمْ جميعاً في يومِ المَعاد، ويَفْصِلُ بينهمْ بقَضائهِ العَدل، ويَقْسِمُ لكلِّ فريقٍ ما يَستَحِقُّهُ مِنَ العِقاب.
وليسَ هناكَ أظلمُ ممَّنْ منعَ ذكرَ اللهِ في المساجِد، وسعَى في تَعطيلِها أو هَدمِها وخَرابِها، وما كانَ ينبغي لهؤلاءِ إلاّ أنْ يَدخلوها بِخَشيَةٍ وخُضوع، فَضلاً منَ الاجتراءِ على تخريبِها أو تعطيلِها. وقدْ تجرَّأَ المشركونَ فَمَنَعُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الحُديبيةِ منْ دخولِ المسجدِ الحرام! فلا تُمَكِّنُوا أحداً منهمْ مِنْ دخُولِهِ إذا قدَرتُمْ على ذلك.
وقد مُنِعُوا حقًّا عندما نَصَر اللهُ الإسلام، كما أوصَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُجلَى اليهودُ والنصارَى منْ جزيرةِ العرب، فكانَ ذلكَ خِزياً لهمْ لا يوصَف، بالقتلِ والسبيِ والإذْلال، ولهمْ عذابٌ كبيرٌ على ما انتَهكوا منْ حُرمةِ البيتِ وامتَهنُوه، منْ نَصْبِ الأصنامِ حولَه، والدعاءِ إلى غيرِ اللهِ عندَه، وغيرِ ذلكَ منْ أفاعيلِهمُ المُنكَرة.
الأرضُ كلُّها لله، شَرقُهَا وغَربُهَا، لا يَختَصُّ بمُلكِها والتصرُّفِ فيها إلا هوَ سُبحانَه، وإذا مُنِعتُمْ منَ العبادةِ في المسجدِ الأقصى، أو المسجدِ الحرام، ففي أيِّ مكانٍ أدَّيتمُ الصلاةَ وتوجهتُمْ فيهِ نحوَ القِبلة، فهُناكَ الجهةُ التي أمرَ اللهُ بها، وعِلمُهُ محيطٌ بجميعِ المعلومات، وهوَ برحمتهِ يريدُ التوسِعةَ على عبادِه، فهوَ العليمُ بمصالحِهمْ وأعمالِهمْ في الأماكنِ كلِّها.
وفي حديثٍ قدْ يَكونُ حسَناً بشواهده، أنَّ طائفةً منَ الصحابةِ كانوا في سَرِيَّة، فاختلفوا في اتجاهِ القِبلةِ ليلاً، فلمّا أصبحوا تبيَّنَ أنَّهمْ اتَّجهوا إلى غيرِ القِبلةِ في صلاتِهم، فنزلتِ الآيةُ الكريمة.
وقالَ ابنُ الجوزيِّ في "نواسخِ القرآن": هذا الحكمُ باقٍ عندَنا، وإنَّ منِ اشتَبَهتْ عليهِ القِبلةُ فصلَّى بالاجتِهاد، فصَلاتُهُ مجزيَّةٌ صَحيحَة.