تفسير الجزء 1 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الأول
1
سورة الفاتحة
سورة البقرة
(1 – 141)

﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۖ بَل لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ﴾ [البقرة:116]


وقالتِ النصارَى ومنْ أشْبَهَهُمْ منَ اليهود، وبعضُ مشركي العرب: اتَّخذَ اللهُ ولداً! تَقَدَّسَ وتعالَى عنْ ذلكَ علوّاً كبيراً. لقدْ كذَبوا واقْتَرَفُوا إثماً كبيراً بهذا القول، فلهُ تعالى مُلكُ السماواتِ والأرض، وهوَ المتصرِّفُ في أحيائها وجماداتِها، وهوَ خالِقُهمْ ورازِقُهم، ومسيِّرُهمْ كما يَشاء، فالجميعُ عبيدٌ له ومُلكٌ له، فكيفَ يَكونُ لهُ ولدٌ منهم، والولدُ يَكونُ مُتَوَلِّداً مِنْ شَيئينِ مُتناسِبَين، واللهُ ليسَ لهُ مثيلٌ ولا نَظير، ولا صَاحِبَةَ له، فكيفَ يَكونُ لهُ ولد؟ فهو الربُّ، والكلُّ مَربُوبٌ تحتَ مَشِيئتِه.

﴿بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ [البقرة:117]


خالقُ السماواتِ والأرضِ على غيرِ مثالٍ سَبَق، في وَحدةٍ وتَناسقٍ كونيٍّ رائع، وهَندسَةٍ ونظامٍ فائق، وتَوازنٍ بيئيٍّ وحيوانيِّ مُوافِق، يَدُلُّ جميعُها على الواحدِ الأحد، فهو بارئها ومُوجِدُها مِنْ غَيرِ أصل، وعلى غيرِ مثال، وإنَّما أمرُهُ -جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- إذا قدَّرَ أمراً وأرادَ إيجادَهُ قال: "كُنْ"، فيوجَدُ على وَفْقِ ما أراد. وكذا كان أمرُ عيسى عليه السلام.. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ لَوۡلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوۡ تَأۡتِينَآ ءَايَةٞۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّثۡلَ قَوۡلِهِمۡۘ تَشَٰبَهَتۡ قُلُوبُهُمۡۗ قَدۡ بَيَّنَّا الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:118]


وقالَ المشرِكونَ الأُمِّيُّونَ لمحمَّدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في تَحَدٍّ وعِناد: لِيُكَلِّمْنَا الله، أو لِيَنْزِلْ علينا أمرٌ خارِقٌ. كذلكَ كانَ اليهودُ وغيرُهم، عندَما طَلبوا مِنْ أنبيائهمْ أموراً خارقة، استكبارًا وتعنُّتًا، كما طلبَ قومُ موسى عليهِ السلامُ أنْ يَرَوا اللهَ جَهرة، فقدْ تشابَهتْ قلوبُهمْ في الكفرِ والضلال. وقدْ وَضَّحْنَا بالأدلَّةِ صِدْقَ الرسُلِ بما لا يَحتاجُ إلى أمورٍ خارِقة، وَهِيَ كَافِيَةٌ لمنْ أرادَ الإيمانَ والطَّاعة. أمّا المعاندُ المستكبِر، فلا تُفيدُهُ الأدلةُ ولا الخوارِق.

﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِالۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَٰبِ الۡجَحِيمِ﴾ [البقرة:119]


أيُّها النبيُّ الكريم، لقدْ أرسلناكَ بالصِّدقِ وَمَعَكَ القرآنُ، تُبَلِّغُ الدِّينَ وَتُؤَدِّي الأمانةَ، تُبَشِّرُ الطائعينَ بالجنَّة، وَتُنْذِرُ العاصينَ بالنارِ يومَ القيامة، ولنْ تُسْأَلَ عنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ بِك، فإِنَّما تَبِعَتُهُمْ على أنفسِهم.

﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ الۡيَهُودُ وَلَا النَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ اتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة:120]


وليستِ اليهودُ ولا النصارَى براضينَ عنكَ أبداً أيُّها النبيّ، ولو قدَّمتَ إليهمُ الأدلةَ تِلْوَ الأدلة، أو تَوَدَّدْتَ لهمْ ما تودَّدَت، فلا يَنْقُصُهُمُ الاقتناعُ بأنَّكَ على الحقّ، إنَّما هوَ المعاندةُ والتعصُّب، فَلَنْ يَرْضَوْا عنكَ حتَّى تَعتنِقَ دينَهُم، وتَتَّبِعَ أَقْوَالَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ، وتَترُكَ ما معكَ منَ الحقّ! فَدَعْ طَلَبَ ما يُرْضِيهِمْ ويوافِقُهم، وأقبِلْ على طَلَبِ رضا اللهِ بدعوتِهم إلى الحقّ، فإنَّ الدينَ الصحيحَ الكاملَ هو ما بعثكَ اللهُ به، وما عداهُ فليسَ بِهُدًى، ولا مساومةَ على الإيمانِ الحقّ، في صغيرٍ منهُ أو كبير، فمنْ شاءَ فليؤمنْ بذلك، ومنْ أرادَ غيرَ ذلكَ فهوَ حُرّ. فإذا تابعتَهُمْ في آرائهمُ الزائفة، ومقولاتِهُم الفاسدة، وطرائقِهُمُ الملتوية، بعدَ ما نزلَ عليكَ الوحْيُ، وعلمتَ أنَّ دينكَ هوَ الصَّحيح، فقدْ مِلْتَ عنِ الهُدَى، ولنْ يَكونَ اللهُ والياً أمرَك، ولا ناصرَكَ ومؤيِّدَك، ولنْ يدفعَ عنكَ عقابَه.

وهذا مِنْ بابِ التهيِيجِ والإلهاب، ولا يُتَوَهَّمُ إمكانُ اتِّباعهِ صلى الله عليه وسلم لهم، ولكنَّهُ تنبيهٌ لأمَّتهِ على الحذرِ مِنْ أهلِ الكتاب، الذينَ لا يُفيدهمْ أيُّ تنازلٍ بالحوارِ وغيرِه، ولن يَرْضَوْا إلا بالانضواءِ تحتَ مظلَّةِ دينِهم.

﴿الَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [البقرة:121]


إنَّ الذينَ أنزلنا علَيْهِمُ الكُتُبَ منَ المتقدِّمين، فأقاموها حَقَّ إقامتِها، وآمَنوا بها حقَّ الإيمان، دونَ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ ولا تَأْوِيل، وَصَدَّقُوا ما فيها مِنَ الأخبار، ومنْ ذلكَ مَبعَثُ محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفيها صفتهُ والأمرُ باتِّباعهِ ونُصْرَتِه؛ قادَهُمْ هذا الالتزامُ إلى اتِّباعِ الحقِّ، ومنْ لم يلتزمْ بذلكَ وكفر، كان أمرُهمْ إلى خُسْرَانٍ ظَاهِر، حيثُ اشْتَرَوُا الكفرَ بالإيمان.

﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ اذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ الَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [البقرة:122]


يا بَني إسْرائيل، اذكروا النِّعَمَ التي أنعمتُها عليكم، منها تفضيلُكمْ على العالمينَ -في وقتٍ ما- فلا تَحسُدوا بني عمِّكمْ منَ العربِ على ما رَزَقَهُمُ اللهُ منْ إرسالِ الرسولِ الخاتمِ منهم، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ الحسَدُ على مخالفتهِ وتَكذيبهِ صلى الله عليه وسلم.

﴿وَاتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة:123]


واحذَروا حِسابَ ذلكَ اليومِ، الذي لا تَقضي نفسٌ عنْ نفسٍ شيئاً منَ الحقوقِ والجزاء، ولا يُقْبَلُ منها فِديةٌ، ولا يُفِيدُها واسِطةُ أحَد، ولا يُنْتَصَرُ لهمْ فيُمْنَعُوا مِنَ العذاب.

﴿۞وَإِذِ ابۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي الظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة:124]


واذكرْ أيُّها النبيُّ لهؤلاءِ المشركينَ وأهلِ الكتابَين، الذينَ يدَّعُونَ أنَّهمْ على ملَّةِ النبيِّ إبراهيمَ وهمْ ليسَوا بذاك، اذْكُرْ لهمْ شأنَ هذا النبيِّ العظيم، الَّذي اخْتَبَرَهُ اللهُ بِأَوَامِرَ وشَرائعَ ونَوَاهٍ، فقامَ بها كُلَّهَا، فجزاهُ اللهُ خيراً على ما فَعل، وقالَ له: سأجعلُكَ قُدوةً وإماماً للناسِ يَقتدونَ بكَ في التوحيد، ويَحذُونَ حَذْوَك، فسألَ عليهِ السلامُ أنْ تكونَ هذهِ الإمامةُ في ذُرِّيَّتِهِ أيضاً، فأُجيب: سيَكونُ منهمْ مَنْ لا يَفِي بالأوامرِ والتكاليف، بلْ يَظْلِمُ ويَفْسُق، ولنْ يَكونَ عهدُ الإمامةِ لأمثالِ هؤلاء، فشأنُها عظيم، بلْ هوَ لمنْ يختارُهُمُ اللهُ منْ أهلِ الإيمانِ والصَّلاح.

﴿وَإِذۡ جَعَلۡنَا الۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالۡعَٰكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة:125]


واذكرْ أيضاً أيُّها النبيُّ أنَّنا جَعلنا البيتَ الحرامَ مثوًى ومَرجِعاً للناسِ ومهوًى لهم، يأتونَ إليهِ منْ كلِّ مكانٍ بشَوق، ويَعودونَ إلى أهليهمْ وهمْ لا يرَونَ أنَّهمْ قَضَوا منهُ حاجتَهم. وجعلناهُ أمناً لهم، فلا يَعتدي عليهمْ أحدٌ وهمْ هناك، وحتَّى الحيواناتُ البريَّةُ في أمانٍ هناكَ فلا تُصاد.

واجعلوا مِنْ مقامِ إبراهيمَ مكاناً تُصَلُّونَ فيه، وهو الحَجَرُ الذي كانَ يقومُ عليهِ لبناءِ الكعبة.

وفي حديثِ عمرَ الصحيحِ عندَ البُخَارِيِّ قولُهُ رضي الله عنه: "وافقتُ ربِّي في ثلاث، فقلت: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا مِنْ مقامِ إبراهيم مُصَلًّى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}..."

وأمَرْنا إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلامُ بأنْ يُطَهِّرا البيتَ منَ الأذَى والنَّجَس، ويُعِدَّاهُ للحجَّاجِ والطائفينَ حولَه، والمجاورينَ المقيمينَ عندَه، والقائمينَ في الصلاة، الراكعينَ الساجِدين.

﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ اجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَارۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ الثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِۖ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [البقرة:126]


واذكرْ أيضاً عندما دعا إبراهيمُ عليهِ السلامُ فقال: ربِّ اجعلْ هذا البلدَ آمناً مِنَ الخَوف، لا يَرْعَبُ أهلُهُ، وارْزُقِ المؤمنينَ منهمْ أنواعَ الثمَرات(11). فاستجابَ اللهُ له، وقال: وأرزُقُ مَنْ كَفَرَ منهمْ وأَمْهِلُهُمْ، فالرزقُ شاملٌ للبَرِّ والفاجِر، وهذا مِنْ مَتَاعِ الدنيا في زمانٍ قليل، ثم أدْفَعُ الكافرَ إلى عَذابِ النار، وبئسَ المكان.

(11) خَصَّ إبراهيمُ المؤمنين بطلبِ الرزقِ لهم حرصاً على شيوعِ الإيمانِ لساكِنيه؛ لأنهم إذا علموا أن دعوةَ إبراهيمَ خَصَّتِ المؤمنين تجنَّبوا ما يحيدُ بهم عن الإيمان، فجَعلَ تيسيرَ الرزقِ لهم على شرطِ إيمانهم باعثاً لهم على الإيمان، أو أرادَ التأدبَ مع الله تعالى فسألَهُ سؤالاً أقربَ إلى الإجابة... ومقصدُ إبراهيمَ من دعوتهِ هذه أن تتوفرَ لأهلِ مكةَ أسبابُ الإقامةِ فيها، فلا تضطرُّهم الحاجةُ إلى سكنَى بلدٍ آخر؛ لأنه رجا أن يكونوا دعاةً لما بُنيتِ الكعبةُ لأجله، من إقامةِ التوحيدِ وخصالِ الحنيفية، وهي خصالُ الكمال. (مقتطفات من التحرير والتنوير).

﴿وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ الۡقَوَاعِدَ مِنَ الۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [البقرة:127]


واذكرْ لقومِكَ أيُّها النبيُّ بناءَ إبراهيمَ وابنهِ إسماعيلَ البيتَ، ورفعَهُما الأسُسَ منه، وهما يَدعُوان: ربَّنا تقبَّلْ منّا القُرَبَ والطاعاتِ ومنها هذا البناءُ، فأنتَ تسمعُ الدعاءَ وتعلمُ النيَّةَ في جميعِ الأعمال.

﴿رَبَّنَا وَاجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:128]


ربَّنا واجعَلنا مُسْتَسْلِمَيْنِ لأمرِك، خَاضِعَيْنِ لطاعتك، مُخْلِصَيْنِ لَك، لا نُشْرِكُ في عبادتِنا لكَ أحداً، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا كذلك. وَبَصِّرْنا عِبَاداتِنا وعَلِّمْنا مَناسِكَنا ومُتَعَبَّداتِنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إنَّك كثيرُ قَبُولِ التوبةِ مِنْ عِبادِك، رَحيمٌ بهم.

﴿رَبَّنَا وَابۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [البقرة:129]


ربَّنَا وابعثْ لأهلِ الحَرَمِ منْ أنفُسِهِمْ رسولاً منهم، منْ ذُرِّيَّةِ إبراهيم، يقرأُ عليهمْ ويبلِّغهمْ ما يُوحَى إليهِ منَ البيِّنات، ويعلِّمُهمُ القرآنَ والسنَّة، والطاعةَ والإخلاص، ويُطهِّرُهمْ منْ دنَسِ الشرك، فأنتَ العزيزُ الذي لا يُقهَرُ ولا يُغْلَبُ على ما يُريد، الحكيمُ الذي لا يَفعلُ إِلا ما تَقتضيهِ الحِكْمةُ والمصْلَحة.

﴿وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ اصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي الدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي الۡأٓخِرَةِ لَمِنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [البقرة:130]


ولا يَبعُدُ عنْ طريقةِ إبراهيمَ ومِنهَجهِ إلا الشخصُ المُذِلُّ لنفسِه، المُستخِفُّ بها، الذي يُفَضِّلُ الضَّلالَ على الحقّ. فَنبيُّ اللهِ إبراهيمُ إمامُ الحُنَفَاء، وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَد جَانَبَ الحقَّ الصَّريح، والدِّينَ الصَّحيح، والهدايةَ والرَّشاد، الذي اصْطُفِيَ عليهِ في الدُّنيا، وقدِ اخْتِيرَ للنبوَّةِ والحكمةِ منْ بينِ سائرِ الخلق، وهوَ في الآخِرةِ منَ المشهودِ لهمْ بالثباتِ على الاستِقامة، والصَّلاحِ والسَّعادة.

وهوَ ردٌّ على الكفَّارِ فيما ابتَدعوهُ وأحدَثوهُ منَ الشِّركِ وعِبادةِ الأصنامِ المخالفِ لِمِلَّةِ إبراهيمَ عليهِ السلام، فَأَيُّ ضَلالٍ أَكبرُ مِنْ هَذَا، وأيُّ سَفَهٍ أعظمُ مِنْ عَدَمِ اتِّباعِ ملَّتِهِ القائمةِ على التوحيدِ الخالصِ البيِّن؟

﴿إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [البقرة:131]


فقد أمرَهُ اللهُ بالإخلاصِ والاستِسلامِ له، والانقيادِ لأوامرِه، فأجابَ إلى ذلك، وأطاعَ وأخلصَ على أحسنِ ما يَكون، مُفَوِّضاً أمرَهُ كلَّهُ إلى الله.

﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِـۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصۡطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [البقرة:132]


وقدْ أوصَى خليلُ اللهِ إبراهيمُ عليهِ السلامُ بَنِيه، وكذا وصَّى يعقوبُ بَنِيه، بهذهِ المِلَّة، وهي الإسلامُ لله، فقالا: يا بَنِيَّ، إنَّ الدِّينَ الذي رضِيَهُ اللهُ لكمْ هوَ صَفوةُ الأديان، لا دينَ غيرُهُ عندَ الله، فاثبُتُوا عليهِ ولا تُفارِقوهُ أبداً، واحرِصُوا على ذلكَ وحافِظوا عليهِ حتَّى الموت، بإحسانِكم في الحياة، ومتابعتِكم لطاعةِ اللهِ والعملِ الصالح، فإنَّ المرءَ يموتُ غالباً على ما كانَ عليه، كما يُبْعَثُ على ما ماتَ عليه، وإِنَّ مَنْ قَصَدَ الخيرَ وُفِّقَ لهُ ويُسِّرَ عَليه، والذي نَوَى الصلاحَ وَعَزَمَ عليهِ ثَبَّتَهُ الله.

﴿أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ الۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ [البقرة:133]


أمْ كنتُمْ حاضِرين، أيُّها المشرِكون، ويا أهلَ الكتاب، ما قالَهُ يعقوبُ عليهِ السلامُ لبَنيهِ حينَ حضرتْهُ الوفاةُ: أيَّ شيءٍ تَعبدونَهُ بعدَ مَوتي؟ وهوَ يريدُ بذلكَ تقريرَ بَنيهِ على التوحيدِ والإسلام، وأخْذَ ميثاقِهِمْ على الثباتِ عَليهما.

فقالوا كما هوَ مُرادُ أبيهم: نعبدُ الإلهَ المتفَقَ على وجودهِ وإلهيَّتهِ ووجوبِ عبادتِه، الذي عبدتَهُ أنتَ وآباؤكَ إبراهيمُ وإسماعيلُ وإسحاقُ، إلهاً واحداً، نوحِّدهُ ولا نُشرِكُ بهِ شيئاً، ونحنُ مطيعونَ لهُ، خاضِعونَ لأمرِه.

والإسلامُ هو ملَّةُ الأنبياءِ كلِّهم، وإنْ تَنَوَّعَتْ شرائعُهُمْ واختلَفتْ.

وَعَدُّ إسماعيلَ منْ آبائهِ منْ بابِ التَّغْلِيب، فهوَ عَمُّ يَعقوب، عليهمُ الصلاةُ والسلام.

﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:134]


كانتْ تلكَ أُمَّةً مَضَتْ، لها أعمالُها التي عَمِلَتْها، ولكمْ أعمالُكُمُ التي كَسَبتُمُوهَا، لا يَنْفَعُكُمُ انتِسَابُكُمْ إلى صالحِيهمْ إذا لم تَفعلوا مثلَهُمُ الأعمالَ الصالحة، كما أنَّكمْ لا تُؤَاخَذونَ بسيِّئاتِهمُ التي عَمِلوها.

﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِـۧمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [البقرة:135]


وجاءَ بعضُ اليهودِ والنصارَى إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ كُلٌّ أنَّهُ على حقّ، وَطَلَبُوا منهُ اتِّبَاعَهُمْ ليكونَ مَنَ المهتدين، في حديثٍ حسَن. قلْ لهمْ أيُّها الرسولُ الكريم: بَلْ نَرْجِعُ جميعاً، نحنُ وأنتُم، إلى طريقةِ إبراهيمَ ومِنهَجِه، فهو أبونا وأبوكم، وأصلُ ملَّتهِ الإسلامُ المستقيمُ، وما كانَ منَ المشركين، بينما أنتمْ تُشرِكون.

﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَالۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ [البقرة:136]


قولوا جميعاً أيُّها المؤمنون: آمنَّا بالله، وبما أُنْزِلَ إلى إبراهيم، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، والأسباطِ، وموسَى، وعيسَى، وسائرِ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلام، منَ الكتبِ السماويَّة، والآياتِ البيِّنات، والمعْجِزاتِ الباهرات، ولا نفرِّقُ بينَهم، كَدَأْبِ اليهودِ والنصارَى، الذينَ آمَنوا ببعضٍ وكفَروا ببَعض، ونسلِّمُ أمرَنَا جميعاً إلى الله، مُخلِصينَ لهُ ومُذعِنين.

﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ اهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ اللَّهُۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [البقرة:137]


فإنْ آمنَ أهلُ الكتابِ والمشرِكونَ بمثلِ ما آمنتمْ بهِ أيُّها المؤمنون، منَ الإيمانِ بجميعِ كتبِ اللهِ ورُسلِه، ولم يُفَرِّقُوا بينَهم، فقدْ أصابُوا الحقّ، وكانوا منَ المهتَدين، وإنْ أعرَضوا عنِ الإيمانِ بالوجهِ المذكور، فقدِ استقرُّوا في خلافٍ عَظيمٍ بعيدٍ عنِ الحقّ، ولا قرارَ لهمْ على أصلٍ ثابت، وسوفَ يَكفيكَ اللهُ شِقَاقَهُمْ هذا عندَ النصْرِ عليهم. واللهُ يَسمَعُ ما يَقولونَه، ويعلمُ ما يُضمِرونَهُ في قلوبِهم، وهوَ مُعَاقِبُهُمْ عليه.

﴿صِبۡغَةَ اللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبۡغَةٗۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَ﴾ [البقرة:138]


إنَّهُ دينُ اللهِ الواضحُ المُبِين، والعلامةُ التي وضعَها على عبادهِ المؤمنينَ المتَّقين، فطَهَّرَهُمْ بالإيمانِ مِنْ أَوْضَارِ الكفر، وَزَيَّنَ قلوبَهُمْ بآثارهِ الجميلة، فلا أفضلَ منْ هذه السِّمَةِ الجليلة، والعلامةِ المبارَكة. وَنَحْنُ شاكرونَ للهِ عابدونَ لهُ على هذهِ النعمةِ الكبيرة، وسائِرِ نِعَمِه.

﴿قُلۡ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡ وَلَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُخۡلِصُونَ﴾ [البقرة:139]


قلْ لليهودِ والنصارَى أيُّها النبيّ: أتُنَاظِرُونَنا في توحيدِ اللهِ والإخلاصِ لهُ واتِّبَاعِ أوامرِه، وهوَ ربُّنَا وربُّكُم، المتصرِّفُ فينا وفيكم، المستحِقُّ لإخلاصِ العبادةِ له، لا شَريكَ له؟ فلنا أعمالُنَا الحسَنةُ في السمعِ والطاعة، وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمُ المخالِفةُ في الشِّركِ والضَّلال، ونَحْنُ مَخْلِصُونَ في تلكَ الأعمال، لا نَبْتَغِي بها إلا وَجْهَ الله، فكَيْفَ تُنَاظِرُونَنا وَتَدَّعُونَ أنَّكمْ على حَقٍّ وَتَطْمَعُونَ في دخولِ الجنَّةِ وأنتُمْ مُشرِكونَ ضالُّون؟!

﴿أَمۡ تَقُولُونَ إِنَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَالۡأَسۡبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ قُلۡ ءَأَنتُمۡ أَعۡلَمُ أَمِ اللَّهُۗ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ اللَّهِۗ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:140]


أمْ تقولونَ يا أهلَ الكتابِ إنَّ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا يهوداً أو نصارَى؟ أأنتمْ أعلمُ بذلكَ أمِ الله؟ بَلِ اللهُ أعلمُ. إنَّهمْ كانوا على مِلَّةِ التوحيدِ الخالِص، وأنتُمْ تقرَؤونَ في كُتُبِكُمْ أنَّهمْ كانوا على الحنيفيَّةِ الأولَى التي لا شركَ فيها، كما تقرَؤونَ أَنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم سيُبْعَثُ في آخِرِ الزمانِ على ملَّةِ إبراهيمَ حنيفاً، والأنبياءُ المذكورونَ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ ما كانوا يهوداً ولا نصارَى، لأنَّهم كانوا قبل موسَى وعيسَى عليهما السلام، ولكنَّكمْ تكتُمُونَ الحقّ، تكتُمُونَ هذهِ الشهادةَ الثابتةَ العَظيمةَ، فاخترتمُ الضَّلال، وعِلْمُ اللهِ محيطٌ بعملِكم، وسوف يَجْزِيكُمْ بما تستَحِقُّونَهُ منِ افْتِرائكُمْ على الأنبياء.

﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة:141]


- لَقَدْ مَضَتْ تلكَ الأمَّة، فَلَها أعمالُهَا، ولكمْ أعمالُكُمُ التي اكتَسبتُموها، ولن يُغْنِيَ عنكمُ انتسابُكُمْ إليهمْ واتِّكَالُكُمْ عَلَى أعمالِهمْ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةٍ لهمْ في أعمالِهمُ الطيِّبَة، فلا تَغُرَّنَّكُمُ النسبَةُ إليهم، حتَّى تَكونوا مثلَهُمْ في الطَّاعَةِ واتِّباعِ الرسُل.