وقالَ المشرِكونَ الأُمِّيُّونَ لمحمَّدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في تَحَدٍّ وعِناد: لِيُكَلِّمْنَا الله، أو لِيَنْزِلْ علينا أمرٌ خارِقٌ. كذلكَ كانَ اليهودُ وغيرُهم، عندَما طَلبوا مِنْ أنبيائهمْ أموراً خارقة، استكبارًا وتعنُّتًا، كما طلبَ قومُ موسى عليهِ السلامُ أنْ يَرَوا اللهَ جَهرة، فقدْ تشابَهتْ قلوبُهمْ في الكفرِ والضلال. وقدْ وَضَّحْنَا بالأدلَّةِ صِدْقَ الرسُلِ بما لا يَحتاجُ إلى أمورٍ خارِقة، وَهِيَ كَافِيَةٌ لمنْ أرادَ الإيمانَ والطَّاعة. أمّا المعاندُ المستكبِر، فلا تُفيدُهُ الأدلةُ ولا الخوارِق.
وليستِ اليهودُ ولا النصارَى براضينَ عنكَ أبداً أيُّها النبيّ، ولو قدَّمتَ إليهمُ الأدلةَ تِلْوَ الأدلة، أو تَوَدَّدْتَ لهمْ ما تودَّدَت، فلا يَنْقُصُهُمُ الاقتناعُ بأنَّكَ على الحقّ، إنَّما هوَ المعاندةُ والتعصُّب، فَلَنْ يَرْضَوْا عنكَ حتَّى تَعتنِقَ دينَهُم، وتَتَّبِعَ أَقْوَالَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ، وتَترُكَ ما معكَ منَ الحقّ! فَدَعْ طَلَبَ ما يُرْضِيهِمْ ويوافِقُهم، وأقبِلْ على طَلَبِ رضا اللهِ بدعوتِهم إلى الحقّ، فإنَّ الدينَ الصحيحَ الكاملَ هو ما بعثكَ اللهُ به، وما عداهُ فليسَ بِهُدًى، ولا مساومةَ على الإيمانِ الحقّ، في صغيرٍ منهُ أو كبير، فمنْ شاءَ فليؤمنْ بذلك، ومنْ أرادَ غيرَ ذلكَ فهوَ حُرّ. فإذا تابعتَهُمْ في آرائهمُ الزائفة، ومقولاتِهُم الفاسدة، وطرائقِهُمُ الملتوية، بعدَ ما نزلَ عليكَ الوحْيُ، وعلمتَ أنَّ دينكَ هوَ الصَّحيح، فقدْ مِلْتَ عنِ الهُدَى، ولنْ يَكونَ اللهُ والياً أمرَك، ولا ناصرَكَ ومؤيِّدَك، ولنْ يدفعَ عنكَ عقابَه.
وهذا مِنْ بابِ التهيِيجِ والإلهاب، ولا يُتَوَهَّمُ إمكانُ اتِّباعهِ صلى الله عليه وسلم لهم، ولكنَّهُ تنبيهٌ لأمَّتهِ على الحذرِ مِنْ أهلِ الكتاب، الذينَ لا يُفيدهمْ أيُّ تنازلٍ بالحوارِ وغيرِه، ولن يَرْضَوْا إلا بالانضواءِ تحتَ مظلَّةِ دينِهم.
إنَّ الذينَ أنزلنا علَيْهِمُ الكُتُبَ منَ المتقدِّمين، فأقاموها حَقَّ إقامتِها، وآمَنوا بها حقَّ الإيمان، دونَ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ ولا تَأْوِيل، وَصَدَّقُوا ما فيها مِنَ الأخبار، ومنْ ذلكَ مَبعَثُ محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وفيها صفتهُ والأمرُ باتِّباعهِ ونُصْرَتِه؛ قادَهُمْ هذا الالتزامُ إلى اتِّباعِ الحقِّ، ومنْ لم يلتزمْ بذلكَ وكفر، كان أمرُهمْ إلى خُسْرَانٍ ظَاهِر، حيثُ اشْتَرَوُا الكفرَ بالإيمان.
يا بَني إسْرائيل، اذكروا النِّعَمَ التي أنعمتُها عليكم، منها تفضيلُكمْ على العالمينَ -في وقتٍ ما- فلا تَحسُدوا بني عمِّكمْ منَ العربِ على ما رَزَقَهُمُ اللهُ منْ إرسالِ الرسولِ الخاتمِ منهم، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ الحسَدُ على مخالفتهِ وتَكذيبهِ صلى الله عليه وسلم.
واحذَروا حِسابَ ذلكَ اليومِ، الذي لا تَقضي نفسٌ عنْ نفسٍ شيئاً منَ الحقوقِ والجزاء، ولا يُقْبَلُ منها فِديةٌ، ولا يُفِيدُها واسِطةُ أحَد، ولا يُنْتَصَرُ لهمْ فيُمْنَعُوا مِنَ العذاب.
واذكرْ أيضاً أيُّها النبيُّ أنَّنا جَعلنا البيتَ الحرامَ مثوًى ومَرجِعاً للناسِ ومهوًى لهم، يأتونَ إليهِ منْ كلِّ مكانٍ بشَوق، ويَعودونَ إلى أهليهمْ وهمْ لا يرَونَ أنَّهمْ قَضَوا منهُ حاجتَهم. وجعلناهُ أمناً لهم، فلا يَعتدي عليهمْ أحدٌ وهمْ هناك، وحتَّى الحيواناتُ البريَّةُ في أمانٍ هناكَ فلا تُصاد.
واجعلوا مِنْ مقامِ إبراهيمَ مكاناً تُصَلُّونَ فيه، وهو الحَجَرُ الذي كانَ يقومُ عليهِ لبناءِ الكعبة.
وفي حديثِ عمرَ الصحيحِ عندَ البُخَارِيِّ قولُهُ رضي الله عنه: "وافقتُ ربِّي في ثلاث، فقلت: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا مِنْ مقامِ إبراهيم مُصَلًّى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}..."
واذكرْ أيضاً عندما دعا إبراهيمُ عليهِ السلامُ فقال: ربِّ اجعلْ هذا البلدَ آمناً مِنَ الخَوف، لا يَرْعَبُ أهلُهُ، وارْزُقِ المؤمنينَ منهمْ أنواعَ الثمَرات(11). فاستجابَ اللهُ له، وقال: وأرزُقُ مَنْ كَفَرَ منهمْ وأَمْهِلُهُمْ، فالرزقُ شاملٌ للبَرِّ والفاجِر، وهذا مِنْ مَتَاعِ الدنيا في زمانٍ قليل، ثم أدْفَعُ الكافرَ إلى عَذابِ النار، وبئسَ المكان.
(11) خَصَّ إبراهيمُ المؤمنين بطلبِ الرزقِ لهم حرصاً على شيوعِ الإيمانِ لساكِنيه؛ لأنهم إذا علموا أن دعوةَ إبراهيمَ خَصَّتِ المؤمنين تجنَّبوا ما يحيدُ بهم عن الإيمان، فجَعلَ تيسيرَ الرزقِ لهم على شرطِ إيمانهم باعثاً لهم على الإيمان، أو أرادَ التأدبَ مع الله تعالى فسألَهُ سؤالاً أقربَ إلى الإجابة... ومقصدُ إبراهيمَ من دعوتهِ هذه أن تتوفرَ لأهلِ مكةَ أسبابُ الإقامةِ فيها، فلا تضطرُّهم الحاجةُ إلى سكنَى بلدٍ آخر؛ لأنه رجا أن يكونوا دعاةً لما بُنيتِ الكعبةُ لأجله، من إقامةِ التوحيدِ وخصالِ الحنيفية، وهي خصالُ الكمال. (مقتطفات من التحرير والتنوير).
وقدْ أوصَى خليلُ اللهِ إبراهيمُ عليهِ السلامُ بَنِيه، وكذا وصَّى يعقوبُ بَنِيه، بهذهِ المِلَّة، وهي الإسلامُ لله، فقالا: يا بَنِيَّ، إنَّ الدِّينَ الذي رضِيَهُ اللهُ لكمْ هوَ صَفوةُ الأديان، لا دينَ غيرُهُ عندَ الله، فاثبُتُوا عليهِ ولا تُفارِقوهُ أبداً، واحرِصُوا على ذلكَ وحافِظوا عليهِ حتَّى الموت، بإحسانِكم في الحياة، ومتابعتِكم لطاعةِ اللهِ والعملِ الصالح، فإنَّ المرءَ يموتُ غالباً على ما كانَ عليه، كما يُبْعَثُ على ما ماتَ عليه، وإِنَّ مَنْ قَصَدَ الخيرَ وُفِّقَ لهُ ويُسِّرَ عَليه، والذي نَوَى الصلاحَ وَعَزَمَ عليهِ ثَبَّتَهُ الله.
كانتْ تلكَ أُمَّةً مَضَتْ، لها أعمالُها التي عَمِلَتْها، ولكمْ أعمالُكُمُ التي كَسَبتُمُوهَا، لا يَنْفَعُكُمُ انتِسَابُكُمْ إلى صالحِيهمْ إذا لم تَفعلوا مثلَهُمُ الأعمالَ الصالحة، كما أنَّكمْ لا تُؤَاخَذونَ بسيِّئاتِهمُ التي عَمِلوها.
وجاءَ بعضُ اليهودِ والنصارَى إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ كُلٌّ أنَّهُ على حقّ، وَطَلَبُوا منهُ اتِّبَاعَهُمْ ليكونَ مَنَ المهتدين، في حديثٍ حسَن. قلْ لهمْ أيُّها الرسولُ الكريم: بَلْ نَرْجِعُ جميعاً، نحنُ وأنتُم، إلى طريقةِ إبراهيمَ ومِنهَجِه، فهو أبونا وأبوكم، وأصلُ ملَّتهِ الإسلامُ المستقيمُ، وما كانَ منَ المشركين، بينما أنتمْ تُشرِكون.
أمْ تقولونَ يا أهلَ الكتابِ إنَّ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا يهوداً أو نصارَى؟ أأنتمْ أعلمُ بذلكَ أمِ الله؟ بَلِ اللهُ أعلمُ. إنَّهمْ كانوا على مِلَّةِ التوحيدِ الخالِص، وأنتُمْ تقرَؤونَ في كُتُبِكُمْ أنَّهمْ كانوا على الحنيفيَّةِ الأولَى التي لا شركَ فيها، كما تقرَؤونَ أَنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم سيُبْعَثُ في آخِرِ الزمانِ على ملَّةِ إبراهيمَ حنيفاً، والأنبياءُ المذكورونَ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ ما كانوا يهوداً ولا نصارَى، لأنَّهم كانوا قبل موسَى وعيسَى عليهما السلام، ولكنَّكمْ تكتُمُونَ الحقّ، تكتُمُونَ هذهِ الشهادةَ الثابتةَ العَظيمةَ، فاخترتمُ الضَّلال، وعِلْمُ اللهِ محيطٌ بعملِكم، وسوف يَجْزِيكُمْ بما تستَحِقُّونَهُ منِ افْتِرائكُمْ على الأنبياء.