أُمِرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَستَقبلَ في صَلاتهِ الصخرةَ مِنَ بيتِ المَقدسِ أوَّلاً، فكانَ هوَ والمسلمونَ على ذلك، ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهراً، كما في صحيحِ البخاريّ. وكانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يَبتَهِلُ إلى اللهِ أنْ يَجعلَ قِبْلَتَهُ الكعبة، قبلةَ إبراهيمَ عليهِ السلام، فأُجيبَ إلى ذلك، فحصلَ شكٌّ وزيغٌ عنِ الحقِّ منْ أهلِ النفاقِ والريبِ والكفَرةِ من اليهود، وقالوا: ما الذي صَرفهمْ عنْ قِبلتِهمُ الأولى؟ وخاصَّةً أنَّ اليهودَ كانوا يتذرَّعونَ بأنَّ الاتجاهَ إلى بيتِ المقدسِ يَعني أنَّ دينَهمْ هوَ الأصل، وأنَّهُ هوَ الصَّحيح. فصَاروا يُلقُونَ بذورَ الشكِّ والشائعاتِ في صفوفِ المجتمعِ الإسلاميّ، حولَ مصيرِ صلواتِهمُ السابقة، وسببِ الانتقالِ منْ قِبلةٍ إلى أخرى، وأنَّهُ يدلُّ على عدمِ السدادِ، فليسَ بوحي...!
فسمّاهمُ اللهُ تعالَى "السفهاء"، وهمُ الذين خفَّتْ عقولُهم، وامتَهنوها بالتقليدِ والإعراضِ عنِ التدبُّرِ والنظَر، أو أنَّ السفيهَ هوَ الكذّابُ المتعمِّدُ خلافَ ما يَعلم، أو الظَّلومُ الجَهول. فإنَّ اللهَ تعالَى لهُ مطلقُ الحكمِ والتصرُّفِ في الأمر، فلهُ المَشرِقُ والمَغرِب، الجهاتُ كلُّها له، فأينَما حدَّدَ القِبلةَ يتوجَّهُ المؤمنونَ إليها دونَ اعتراض، ما عَليهمْ إلا الطاعَةُ وامتثالُ الأمر. والكعبةُ أشرفُ بيوتِ اللهِ في الأرض، فهي بناءُ إبراهيمَ عليهِ السلام. ويَهدي اللهُ مَنْ شاءَ مِنْ عبادهِ إلى نَهجهِ الصحيحِ إذا رأى فيهمْ نيَّةً وتوجُّهاً إليه، أمّا السفهاءُ ففي الغَيِّ والضلالِ يَتَخبَّطون.
وكذلكَ جَعلناكمْ –يا أمَّةَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم- خيارَ الأُمَم، لتَكونوا شُهداءَ عَليهمْ يومَ القيامة، بأنَّ اللهَ أرسلَ الرسلَ إليهمْ فبلَّغوا ونصَحوا، ولأنَّ دينَكمْ هوَ الحقُّ مِنْ بينِ أديانِ الأممِ ومَذاهبِها؛ فقدْ وجَّهكمُ اللهُ إلى قِبلةِ إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخصَّكمْ بأكملِ الشرائع، وأقومِ المناهج، وأوضَحِ المذاهب. ثمَّ يكونُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكمْ يومَ القيامة، بأنَّهُ بلَّغكمْ رسالةَ ربِّه.
وقد كانَ الأمرُ باستقبالِ المسجدِ الأقصَى أولاً امتحاناً، ليتبيَّنَ منْ يُطيعُ اللهَ ومَنْ يُخالِفُه، وخاصَّةً أنَّ العربَ كانوا متعلِّقينَ بالبيتِ كيفَما كان، وكانَ التحوُّلُ منهُ صَعباً عليهم، فأرادَ اللهُ أنْ يَصرِفَ قلوبَ مَنْ أسلمَ منهمْ إلى الطَّاعةِ المطلَقة، والتخلُّصِ منْ الرواسبِ الجاهليَّة، مهما كانَ شأنُها، حتَّى تأخذَ هذهِ التربيةُ مأخذَها منَ النفوسِ وتتدرَّبَ على الطاعةِ والامتِثال، وهو وإنْ كانَ عَظيماً على النفوس، إلاّ أنَّهُ سَهلٌ على القلوبِ المؤمنةِ المُهتدية، التي أيقنتْ بتصديقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما جاءَ بهِ هوَ الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وأنَّ اللهَ يَفعلُ ما يشاءُ ويَحكمُ ما يُريد، فما على المسلمِ إلاّ الطاعةُ والامتِثال.
وما كان اللهُ ليُضِيعَ صلواتِكمُ التي توجَّهتُمْ فيها إلى بيتِ المقدسِ سابقاً، فلا يَضِيعُ ثوابُها عندَه، إنَّهُ رؤوفٌ رحيمٌ بعبادِه، يوصِلُ إليهمُ النِّعمَةَ الصافيةَ بفضلهِ ورَحمتِه.
كانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة، كما في صحيحِ البخاريّ، فقالَ لهُ ربُّه: لَنُعطينَّكَ طلبَك، ولنُمَكِّننَّكَ منِ استقبالِ القبلةِ التي تُحِبُّها وتَشتاقُ إليها، فحوِّلْ وجهَكَ نحوَ المسجدِ الحرام، وحيثُما كنتُمْ أيُّها المسلمونَ في أنحاءِ الأرضِ جميعاً اتَّجِهوا إلى هذهِ القِبلة، إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.
وإنَّ اليهودَ والنصارَى يَعلمونَ أنَّ توجُّهَكمْ إلى البيتِ هوَ الحقّ، بما في كتبِهمْ مِنْ صفةِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، ولعلمِهمْ أنَّ الكعبةَ هيَ بيتُ اللهِ الأوَّل، الذي بنَى قواعدَهُ واتَّجهَ إليه إبراهيمُ عليهِ السلام، ولكنَّهمْ لا يَقتَنِعونَ بالأدلَّة، ويَكتمونَ ما في كتبِهمْ مِنْ عِلمٍ ولا يُظهرونَه، واللهُ ليسَ بغافلٍ عمّا يَعملون، وسيُجازيهمْ في الدنيا والآخرةِ على ذلك. وليسَ بغافلٍ عنْ ثوابِ المؤمنينَ وجزائهمْ كذلك.
فلو أقمتَ لليهودِ والنصارَى الحُجَّةَ تِلوَ الحُجَّةِ على صِحَّةِ ما جئتَ به، وأيَّدكَ اللهُ بالمعجِزاتِ في ذلك، لَمَا تَركوا أهواءَهم، ولمَا تَوجَّهوا إلى القِبلةِ التي ولّاكها ربُّك. ولنْ تتَّجهَ إلى قبلتهمْ أيضاً، ولنْ تتَّبِعَ أهواءَهم؛ لمتابعتِكَ أمرَ الله، وطلبِكَ رِضاه. ولنْ يتَّبعَ اليهودُ قِبلةَ النصارَى، ولا النصارَى يتَّبعونَ قبلةَ اليهود، فالعَداوةُ بينَهما شَديدة. ولو أنَّكَ اتَّبعتَ مرادَهمْ بعدَ الذي وجَّهكَ اللهُ إليهِ ورضيَهُ لكَ مِنَ القِبلة، لكنتَ مُؤثِراً الباطلَ على الحقّ.
وهوَ على الفَرَضِ والتقدير، وتحذيرٌ للأمَّةِ منْ أهواءِ أهلِ الكتابِ وأضاليلِهم.
إنَّ ما أُنزِلَ إليكَ أيُّهاِ الرسولُ هوَ الحقُّ الذي علَّمَكَ ربُّك، لا مِريَةَ فيهِ ولا شكّ، فلا تكنْ منَ الشاكِّينَ في ذلك.
وهوَ إيحاءٌ مِنْ ربِّ العزَّةِ إلى أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعدمِ التأثُّرِ بأباطيلِ اليهود، وبالتنبُّهِ إلى أحابيلِهم.
ثمَّ تجديدٌ وتأكيدٌ للمرَّةِ الثالثةِ لأهميَّته، ولقطعِ الطريقِ على الشُّبَهِ والتشكيكاتِ التي زادَ سعيرُها في المجتمعِ الإسلاميِّ الجديدِ منْ قِبَلِ الأعداءِ المتربِّصينَ بالإسلام، للقضاءِ عليهِ وهو ما زالَ في أوَّله، ولقطعِ النظرِ كذلكَ عنْ أيِّ شَيءٍ ممّا عَداه، فالكعبةُ هي القِبلةُ الأخيرةُ لمنْ أسلمَ وجهَهُ للهِ إلى أنْ تَقومَ القيامة. فكلَّما خَرجتَ وأينَما كنتَ أيُّها النبيُّ اتَّجِهْ نحوَ المسجدِ الحرام، وأينما كنتُمْ أيُّها المسلمونَ جميعاً توجَّهوا نحوَه؛ حتَّى لا يَبقَى أدنَى شكٍّ عندَ أهلِ الكتابِ أنَّكمْ أمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الموعودَة، حيثُ يجدونَ عندَهمْ أنَّ قِبلتَكمْ ستَكونُ الكعبة، ولو أنَّهمْ فَقدوا ذلكَ منكمْ لاحتجُّوا بما يَقولونَ منْ أنَّكمْ لستُمْ تلكَ الأمَّة.
وحتَّى لا يكونَ لأيِّ مشركٍ أو كافرٍ تأثيرٌ عليكمْ في جدالِهمْ وعنادِهمْ معكم، وما يَبثُّونَهُ مِنْ شُبَهٍ وشائعاتٍ لغَرضٍ في نفوسِهم، كقولِ بعضِهمْ لكم: ما دمتُمُ استقبلتُمُ البيتَ فستَرجِعونَ إلى دينِ آبائكم! فلا تَحسُبوا حِساباً لهمْ ولا لأقاويلِهم، فلا سلطانَ لهمْ عليكمْ ولنْ يضرُّوكم، بلِ اتَّقُوا ربَّكمْ واخشَوْهُ في السرِّ والعَلَن، فهو الضارُّ النافِع، وأهلٌ لأنْ يُخشَى، وبيدهِ الأمرُ كلُّه، وحتَّى أُكمِلَ نعمتي عليكمْ فيما شرعتُ لكمْ منِ استقبالِ القِبلة. ولعلَّكمْ بهذا تَهتدونَ إلى ما ضلَّتْ عنهُ الأمم، فهدَيناكمْ إليهِ وخصَصناكمْ به، ولذلكَ كنتُمْ أشرفَ الأممِ وأفضلَها.
وإذا كانَ الشكرُ منْ آدابِ المؤمنين، فإنَّهُ لا بدَّ لهمْ منَ الصبرِ أيضاً، فعَليكمْ به، فإنَّهُ خَيرُ صِفةٍ تتحلَّونَ بها لتحمُّلِ البلايا والرزايا ومشاقِّ الدعوة، والعزمِ على الطاعةِ والقرُبات، وتركِ المآثمِ والمحرَّمات.
وكذا الصلاةُ، التي تشدُّ العزيمة، وتجدِّدُ الطاقة، وتملأ القلبَ نُوراً، ولذلكَ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ –أي هجمَ عليهِ أو غلبَهُ- صلَّى، كما في حَديثٍ حسنٍ رواهُ أحمدُ وأبو داود.
ذلكَ أنَّ اللهَ معَ الصابرين، يؤنِسُهم، ويُؤيِّدُهم، ويُثبِّتُهم، ويَزيدُ مِنْ قوَّتِهمُ الضَّعيفة.
إنَّ الطوافَ بينَ جبلَي الصفا والمروةِ ممّا شرعَهُ اللهُ تعالَى لإبراهيمَ عليهِ السلامُ في مناسكِ الحجّ، فمنْ نوَى حجًّا أو عُمْرةً فليَجعَلْ ذلكَ مِنْ مناسكِه، ومَنْ زاد َفي السعي بينَهما، أو زادَ مِنْ نَفْلٍ، فإنَّ اللهَ يُثِيبُهُ عليه، وهوَ عليمٌ بما يَستحِقُّهُ منَ الجزاء، ولا يَنقُصُ أحداً ثوابَ عَملِه.
والمقصُود: لا جُناحَ عليهِ مِنْ فِعلِ السَّعي بينَهما، وليسَ مَعناه: لا جناحَ مِنْ تَركِ السَّعي، وإلاّ لكانَ التعبير: لا جُناحَ عَليهِ ألاّ يَطَّوَّفَ بهما. وكانَ الأنصارُ يتَحرَّجونَ منَ السَّعي بينَهما لأنَّهمْ لم يَكونوا يُحِلُّونَهُ في الجاهليَّة، فجاءَ التَّعبيرُ هكذا.
إنَّ أهلَ الكتاب، وخاصَّةً اليهود، يُخفُونَ ما أنزَلنا على الرسُلِ منَ الدلالاتِ البيِّنةِ على حَقائقَ مُهمَّة، وما جَاؤوا بهِ منَ الهَدي النافعِ للقلوب، كالإيمانِ بمبعثِ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ووجوبِ اتِّباعِه، حيثُ بيَّنَهُ اللهُ تعالَى في الكتبِ التي أنزلها.
قالَ أبو السعودِ في تفسيره: "والمرادُ بكتمهِ إزالتُه ووضعُ غيرهِ في موضعه، فإنَّهمْ محَوا نعتَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وكتبوا مكانَهُ ما يُخالِفُه". وقدْ جعلَ الكتمَ بهذا منْ أنواعِ التحريفِ والتبديل.
فهؤلاءِ الساكتونَ عنِ الحقّ، الكاتمونَ ما أنزلَ اللهُ منْ خيرٍ وهُدًى، يَطردُهمُ اللهُ ويُبعِدهمْ مِنْ رحمتِه، كما يَلعنُهمْ كلُّ مَنْ يتأتَّى منهمُ اللعنُ والدعاءُ عليهم، مِنَ الملائكةِ ومؤمني الجنِّ والإنس، فهمْ مَنبوذونَ مِن أهلِ الحقِّ كلِّهم.
إنَّ مَشاهدَ الخلقِ في الكونِ عَظيمةٌ دَقيقة، يَنبغي أنْ يُنظرَ فيها بتَعمُّقٍ منْ جوانبِها العلميَّةِ والحِكْمية، ليُستدلَّ بها على الخالقِ الأعظم.
فهذهِ السماواتُ بارتفاعِها، وإحكامِ خَلْقِها، وما فيها منْ شُموسٍ وكواكب، وصخورٍ وذرَّات، وجاذبيَّةٍ ودوَران، وبُعدِها عنِ الأرض، أو بعضِها عَن بَعض، بمسافاتٍ لا تكادُ تُتَخيَّل، كملايينِ السنواتِ الضوئيةِ وما يُقالُ في هذا، عدا ما لم يُكتَشَفْ منها.
والأرضُ في جبالِها ووِهادِها، وبحارِها وأنهارِها، وخِصْبِها وصَحرائها، وإنسِها وجنِّها، وحيواناتِها وجمادِها، ونباتاتِها وأشجارِها، بملايينِ أصنافِها وأنواعِها، الدقيقةِ والعَجيبة، وأحيائها المائيةِ في سلوكِها ومعيشتِها، وما فيها مِنْ مَنافع، مِنْ مَعادنَ ولآلئ، وماءٍ وهواء، وكلِّ ما سُخِّر للإنسان.
ومَجيءُ النهارِ يَتلوهُ الليل، ثمَّ يَتلوهُ النهارُ وهكذا، مِنْ تعاقبِ النورِ والظُّلمَة، باستِمرارٍ ودقَّةٍ مُتناهية.
وهذهِ السفنُ والبواخرُ والأساطيلُ التي تَجري في البَحر، سخَّرَهُ اللهُ للناسِ هكذا ليَنتَفعوا بهِ في أسفارِهم، ونَقلِ بضائعِهمْ مِنْ مَكانٍ إلى آخر، وليَستَخرِجوا منهُ ما يَنفعُهمْ مِنْ مَؤونةٍ ومِيرةٍ وتِجارة.
والمطرُ الذي يَنـزلُ منَ السَّحابِ بأمرِ الله، تحيا بهِ زُروعٌ وثِمار، وأناسيُّ وحيَوانات، تُفَجَّرُ بهِ عيون، ويُخَزَّنُ منهُ في الأرضِ للآبار، بعدَ أنْ كانتِ الأرضُ يابِسةً لا حياةَ فيها.
وما نُشِرَ في الأرضِ مِنْ كلِّ حيّ، عاقلٍ وغيرِ عاقل، على اختلافِ أشكالِها وألواِنها ومنافعِها، وصِغَرِها وكِبَرِها.
وهذهِ الرياحُ بأنواعِها واتِّجاهاتِها، وما هوَ منها للرَّحمةِ وما هوَ منها للعَذاب، وما تَجمَعُهُ أو تُفَرِّقهُ منَ السُّحُب، فتقفُ بها في مكانٍ أو تسوقُها إلى حيثُ أمرَها الله، أو ما تَحمِلُهُ منْ حُبوبِ اللِّقاحِ منَ الأشجارِ والنباتاتِ المذكَّرةِ وتَضعهُ على المؤنَّثةِ لتُنتِجَ الثمارَ بإذنِ الله.
وهذهِ الغيومُ المنتَشِرَةُ فوقَ الأرض، في تَشكيلِها وأنواعِها ودلالاتِها، وحركتِها وتسخيرِها وانتقالِها.
كلُّ هذا وغيرهُ حقائقُ عظيمةٌ ودلالاتٌ بيِّنةٌ على وجودِ اللهِ ووَحدانيتِه، وقُدرتهِ وحكمتِه، هذا إذا تفكَّرَ بها الإنسان، وألقَى عنْ عقلهِ بَلادةَ الأُلفةِ وغِشاوةَ الغَفلة، ونظرَ في هذهِ المخلوقاتِ بفكرٍ متعمِّقٍ وحِسٍّ مُتَجَدِّد، وقلبٍ مُتَطلِّعٍ إلى الحقّ.
وعلى الرغمِ منَ الدلالاتِ السابقةِ على وحدانيَّةِ اللهِ وتفرُّدهِ بالخَلقِ والتدْبير، إلاّ أنَّ هناكَ صِنفاً منَ الناسِ أشرَكوا بالله، وعبَدوا معَهُ نُظَراءَ وأمثالاً، على هوَى أنفسِهمْ وما تُسَوِّلُ لهمُ الشياطين، في تقليدٍ جاهلٍ أو حُمْقٍ فاضِح، كعبادةِ أحْجارٍ وأشْجار، أو نجومٍ وكواكب، ويُدافِعونَ عنها ويُحاربونَ عليها، ويحبُّونَها كمَحبَّتِهمُ الله! وهوَ الواحدُ الأحد، الذي لم يتَّخذْ صاحبةً ولا ولداً، ولا مثيلَ لهُ ولا نَظير.
أمّا المؤمنون، فإنَّهمْ يَعبدونَ اللهَ على نُورٍ منْ ربِّهمْ وبُرهان، ويُحبُّونَهُ حُبًّا خالِصاً لا شائبةَ فيه، وهمْ أكثرُ حبًّا لهُ منْ حبِّهمْ أنفسَهمْ وما يملكون؛ لتَمامِ معرفتِهمْ به، وتوحيدِهمْ وتعظيمِهمْ له، ولجوئهمْ إليهِ وحُسنِ توكُّلِهمْ عليه.
ولو عاينَ المشركونَ ومَنْ تابعَهمْ ما أُعِدَّ لهمْ منَ العَذابِ يومَ القيامة، لعَلِموا أنَّ جميعَ الأشياءِ تحتَ قَهرهِ وسُلطانه، وأنَّ القوَّةَ والتصرُّفَ لهُ وحدَه، وأنَّ عذابَهُ شَديدٌ مؤلم، وإذاً لانتَهَوا عمّا همْ فيهِ مِنْ ضَلال.
وهؤلاءِ الذينَ كانوا أعلاماً في الكُفرِ والضَّلالِ والدَّعواتِ الهدَّامة، ولهمْ أنصارٌ وتابِعون، عندما يُكشَفُ لهمُ الحِساب، ولا يرَونَ أمامَهمْ سِوَى النار، التي لا مناصَ لهمْ منها، يَتبرَّؤونَ مِنْ تابِعيهم، لأنَّ ذلكَ يَزيدُهمْ عَذاباً، ويَقولونَ لهم: لا علاقةَ لنا بكم، ولم نُجبِرْكُمْ على متابَعتِنا، وكانتْ لكمْ عقولٌ فلمَ خُدِعتُمْ وشاركتُمونا؟
وتَنقطعُ بينهمُ الأواصرُ والعلاقاتُ السَّابقة، وتنقلبُ إلى حقدٍ وعَداوةٍ وتخاصُم، حيثُ انتَهتِ الأعمال، وحانَ وقتُ الجزاء.
وإذا طُلِبَ منَ المشرِكينَ وأهلِ الكتابِ أنْ يتَّبعوا كتابَ اللهِ الذي أنزلَهُ على رسولهِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم قالوا: لا نتَّبعُه، بلْ نتَّبعُ ما وَجدْنا عليهِ آباءَنا، لأنَّهمْ كانوا خَيراً منّا!
أيَقتَدونَ بهمْ ويَقتَفونَ أثرَهمْ ولو كانوا لا يَفهمونَ شيئاً ولا يهتدونَ إلى الصواب؟ ولو كانوا غافلينَ وجاهلينَ ضالِّين؟
إنَّ مَثَلَ الذينَ كفَروا في غيِّهمْ وضلالِهم وجهلِهمْ وعدمِ تدبُّرهمْ فيما أُلقيَ إليهمْ منَ الآيات، كالبَهائمِ التي لا تَفقَهُ ما يُقالُ لها، فإذا دعاها أو هتفَ بها راعِيها لا تَفهَمُه، إنَّما تَسمعُ لحنَهُ ودويَّ صوتِه.
فهمْ صُمٌّ عنْ سَماعِ الحقّ، وخُرْسٌ لا يَتفوَّهونَ به، وعُميٌ عنْ رؤيةِ طَريقه، ولو كانتْ لهمْ حَواسُّ ظاهِرَة، ما داموا لا يَنتفعونَ بها. إنَّهم لا يَفهمونَ شيئاً لأنَّهمْ لا يتدبَّرونَ الآياتِ والحقائق، ولا يتأمَّلونَ فيما يرونَهُ منَ الدلائلِ الواضحةِ والأمورِ النافِعة.