وخُذوا أحكامَ الحلالِ والحرامِ منَ اللهِ الخالقِ الرَّازق، فإنَّهُ لا يُحِلُّ إلاّ طيِّباً، ولا يُحَرِّمُ إلا ما خَبُثَ وكانَ فيهِ ضَرر.
وقدْ حرَّمَ عليكمْ أكلَ المَيْتةِ التي لم تُذبَح، ما عدا السمكَ والجراد. وكذلكَ حرَّمَ الدَّم، ولحمَ الخِنزير، سواءٌ ذُبِحَ أو ماتَ حتفَ أنفِه، وما ذُبِحَ على غيرِ اسمِ الله، منَ الأصنامِ والطواغيتِ ونحوِها.
ومَنْ ألجأتْهُ الضرورةُ إلى أكلِها وقد فقدَ غيرَها منَ الأطعِمَة، فلا بأسَ مِنْ أكلِها، مِنْ غيرِ بغيٍ ولا اعتداء: منْ غيرِ أنْ يُؤْثِرَ نفسَهُ في هذهِ الضرورةِ على مُضطرٍّ آخَرَ مثلِه، ولا أنْ يأكلَ زيادةً على سَدٍّ جَوْعَتِه، فاللهُ يَغفرُ لهُ عندئذٍ ما أكلَ منَ الحرام، وهوَ رحيمٌ إذْ أحلَّ لهُ ذلكَ في حالِ الاضطِرار.
إنَّ الذينَ يَكتمُونَ ما أنزلَ اللهُ في الكتُبِ مِنْ صِفَةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وخاصَّةً اليهود، حتَّى لا تَذهبَ وجاهتُهمْ ورئاستُهمْ أمامَ العرب، وكانوا يتلقَّونَ منهمُ التُّحَفَ والهَدايا تعظيماً لشأنِهمْ وعلمِهم، كما يأكلونَ الرِّشا مُقابلَ تَحليلٍ أو تَحريم، فخَشُوا إنْ همْ أظهَروا أوصافَهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يتَّبعَهُ الناسُ ويَتركوهم، فكتَموا ذلك، إبقاءً على ما كانَ يَحصلُ لهمْ مِنْ ثَمنٍ قليلٍ مُقابلَ أمرٍ عَظيم، فباعُوا دينَهم مُقابلَ نَزْرٍ يَسيرٍ منَ المال، فكانوا منَ الخاسرين.
وسوفَ يأكلونَ ناراً تتأجَّجُ في بُطونِهمْ يومَ القيامة، جزاءَ ما كانوا يأكلونَهُ مقابلَ كِتْمانِ الحقّ. ولا يكلِّمُهمُ اللهُ غَضباً عليهم. ولا يُثنِي عليهمْ خَيراً، بلْ يُعَذِّبُهمْ عَذاباً مؤلماً شَديداً.
وقدِ استَحقُّوا كلَّ هذا العَذاب؛ لأنَّ اللهَ لم يُنـزِلْ كُتبَهُ على الأنبياءِ عبَثاً، ولم يأخذِ المواثيقَ منَ الأممِ بدونِ حساب، بلْ إنَّ كلَّ ذلكَ حقٌّ والتزامٌ ومَسؤولية، فمنْ أبَى وخان، وجحدَ وكتم، استحقَّ العذابَ والنَّكال.
وهؤلاءِ الذينَ اختلَفوا في الكتاب، فآمنوا ببَعضهِ وكفروا ببَعضهِ الآخَر، وأوَّلوا منهُ أشياء، ثمَّ وصَفوا القُرآنَ بأوصافٍ باطِلة، همْ في اختلافٍ شديدٍ وبُعدٍ عنِ الحقِّ والصَّواب، مستوجِبٍ لأشدِّ العذاب.
عندما أمرَ اللهُ المسلِمينَ أوَّلاً بالتوجُّهِ إلى بيتِ المَقدِس، ثمَّ أمرَهمْ بالتحوُّلِ إلى الكعبة، شقَّ ذلكَ على طائفةٍ منْ أهلِ الكتابِ وبعضِ المسلمين، فبيَّنَ في هذه الآيةِ العظيمةِ أنَّ المهمَّ في هذا هوَ التسليمُ والطاعةُ والامتثالُ لأمرِ الله.
فليستِ الغايةُ منَ التوجُّهِ إلى المشرقِ والمغربِ هوَ الجهةُ بعينِها، ولا القيامُ بحركاتٍ ظاهرةٍ نحوَها، فلا تَكمُنُ الخيريَّةُ في هذهِ الأمورِ مجرَّدةً عنِ الدافعِ منْ ورائها وطاعةِ الآمرِ بها، فجِماعُ الخيرِ هوَ في العَقيدةِ الصَّحيحَة، والطاعةِ لله، والتسليمِ بأمرِه، الذي يُعطي القيمةَ والقَبولَ لتلكَ الأعمال، الإيمانُ بهِ عزَّ وجلَّ أوَّلاً إيماناً عميقاً، وباليومِ الآخِرِ وما فيهِ منْ جَزاءٍ وحِساب، ونَعيمٍ وعَذاب، وبالملائكةِ جُندهِ ورسلهِ بينَهُ وبينَ عباده، وبالكتابِ الحقِّ المُنـزَلِ منْ عندِ اللهِ على رسولهِ لهدايةِ عبادِه، آخِرُها القُرآن، الذي نسخَ كلَّ ما قبلَهُ منَ الكتُب. وبأنبياءِ اللهِ كلِّهم، حتَّى خاتمِهم محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، منْ غيرِ تَفرقةٍ بينهمْ كما فعلَ أهلُ الكتاب.
والمؤمِنُ الصادقُ أيضاً هوَ مَنْ أنفقَ مِنْ مالِهِ وهوَ محبٌّ لهُ راغِبٌ فيه، فأعطاهُ لأهلهِ وأقربائه، ولليتامَى الذينَ فَقدوا آباءَهمْ وكانوا صِغاراً ضُعَفاء، والمساكينِ الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم، وابنِ السبيلِ الذي نَفِدَتْ نفقتُهُ وهوَ بعيدٌ عنْ وطنه، والسائلينَ الذينَ ألجأتهمُ الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال، وفي الرِّقاب: العبيدِ الذينَ يُريدونَ أن يُصبِحوا أحرَاراً ولا يجدونَ المبلغَ الكافيَ لإعطائهِ أسيادَهمْ منْ أجلِ ذلك.
ثمَّ حافظَ على عباداتِه، فأقامَ الصلاةَ المفروضةَ بشروطِها وأركانِها، وأدَّى زكاةَ مالِه. وأنْ يكونَ منَ الأوفياءِ بعهودِهمْ إذا عاهدوا، فلا يَخونُ ولا يَغْدِرُ كالمنافقينَ ومَنْ حَذا حَذْوَهم.
ومنَ الصابرينَ إذا أصابَهُ مَكروه، كفَقرٍ أو مَرض. وكذلكَ في حالِ القِتالِ ولقاءِ العدوّ.
فهؤلاءِ الذينَ اتَّصفوا بهذهِ الصفاتِ، همُ الذينَ صدَقوا ربَّهمْ في إيمانِهم، فاتَّبعوا الحقّ، وتحرَّوا البِرّ، وأحرَزوا الخير، وابتَعدوا عنِ المحارمِ والموبِقاتِ وسائرِ الرذائل، وفعلوا الطاعاتِ المطلوبةَ منهم؛ امتثالاً لأمرِ اللهِ وخَشيةً منه.
أيُّها المؤمِنون، لقدْ فُرِضَتْ عليكمُ المُماثلةُ والمساواةُ في أمرِ القَتلِ عَمداً، بأنْ يُقتَلَ القاتلُ بالصِّفةِ التي قُتِل بها المقْتول، وأنْ يُقتَلَ الحُرُّ بالحُرِّ، كما يُقْتَلُ العَبدُ بالعَبد، وتُقتَلُ الأنثَى بالأنثَى؛ إقامةً للعدلِ بينَ الناس.
وكانتْ أحياءٌ في الجاهليةِ إذا قُتِلتْ منهمُ امرأةُ لم يرضَوا إلا بقتلِ رجلٍ منْ طرفِ القاتِل، وإذا قُتِلَ منهمْ عبدٌ طَلبوا قتلَ حُرّ، وإذا قُتِلَ منهمْ وَضيعٌ طَلبوا قتلَ شَريف؛ تعالياً وتمُعُّناً في الانتِقام. فبيَّنتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ حكمَ النوعِ إذا قُتِلَ نوعُه، كالأنثَى بالأنثَى، ولم تتعرَّضْ لأحدِ النوعينِ إذا قُتِلَ الآخَر، وهذا ما بيَّنتْهُ السنَّةُ منْ بعد، كأنْ يُقْتَلُ الذكَرُ بالأنثَى أيضاً؛ لاعتبارِ المماثلةِ في الدِّين، ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافر، ولا حرٌّ بعَبد.
فإذا عفا أهلُ القتيل، بأنْ طَلبوا بدلَ الدَّمِ دِيَةً، وهوَ مِقدارٌ منَ المالِ يؤدَّى إليهم، فليُكنْ ذلكَ مُطالبةً جَميلةً ومَعقُولة، وليؤدِّ القاتلُ الدِّيَةَ بإحسانٍ وإكرام، دونَ بَخْسٍ ولا مُماطَلة.
وتشريعُ الدِّيَةِ رحمةٌ منَ اللهِ لهذهِ الأمَّة، وكانَ التشريعُ في الدياناتِ السابقةِ العفوَ أو العقوبة، ولم تكنْ هناكَ دِيَة.
وإذا حدثَ أنْ قُتِلَ القاتلُ بعدَ أخذِ الدِّيَةِ أو قبولِها، فلفاعلهِ عذابٌ منَ اللهِ مؤلمٌ شَديد.
والقَتلُ أوفَى للقَتل، وأوقَفُ لسفكِ الدماء، فإنَّهُ إذا قُتِلَ القاتلُ سكنتِ الفِتنة، وإلا زادتْ وسقطَ أكثرُ مِنْ قتيل، معَ استحكامِ العداوةِ والبَغضاءِ بينَ الفريقين، وربَّما الأهلِ والأرحام.
ففي قتلِ القاتلِ حياة، ولو بدا في صورتهِ قَتلاً، لأنَّهُ حُكمٌ عَدْلٌ باستيفاءِ حقٍّ مِنْ سفكِ دمٍ بَريء؛ هذا لمنْ تدبَّرَ وكانَ منَ العقلاء، وإنَّما شُرِعَ القِصاصُ لتَبتَعِدوا منَ القَتل، فلا تَقتُلوا حتَّى لا تُقتَلوا.
فُرِضَ عليكمْ إذا اقتربَ أجَلُ أحدِكمْ إنْ تركَ مالاً أنْ يوصيَ منهُ لوالديهِ وأقربائهِ بالعَدل، حقًّا مؤكَّداً على المؤمنين.
وكان هذا في ابتداءِ الإسلام، حيثُ كانتِ الوصيَّةُ فَريضةً للوالدَينِ والأقرَبين، ثمَّ نُسِخَتْ بآيةِ الميراث، وصارَ كلٌّ يأخذُ حقَّهُ بأمرٍ مُوجبٍ منَ اللهِ ورسولِه، ولم يَعُدِ الورثةُ بحاجةٍ إلى وصيَّة، بلْ لا تَجوزُ لهم، ومنهمُ الوالدان، للحديثِ الصحيح: "لا وصيَّةَ لوارِث".
ويبقَى حقُّ الأقرَبين، فإنَّهُ تُستَحبُّ الوصيَّةُ لهمْ منَ الثلثِ المسمُوحِ بهِ للموصي، استئناساً بآيةِ الوصيَّةِ وشُمولِها، وللآياتِ والأحاديثِ الواردةِ بالأمرِ ببرِّ الأقاربِ والإحسانِ إليهم.
فمَنْ غيَّرَ الوصيَّةَ وحرَّفها، بزيادةٍ أو نَقص، أو كِتْمان، عنِ الأوصياء، أو الأولياء، أو الشهود، بعدَما سمعَ قولَ الموصِي أو وصلَ إليه وتحقَّقَ لديه، فإنَّ إثمَ التغييرِ والتبديلِ على مَنْ فعلَ ذلكَ وخانَ الأمانة، ولا شَيءَ على الموصِي.
وإنَّ اللهَ سميعٌ لِما قالَ الموصِي، عليمٌ بتحريفِ المبدِّلِ وخيانتِه، ويَنتَظِرُهُ عِقابٌ شَديد.
وهوَ أيامٌ مَعدودات.
وكانَ ذلكَ في ابتداءِ الإسلام، يَصومونَ منَ كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّام، ثمَّ نُسِخَ بصومِ شهرِ رمضان، كما يأتي في الآيةِ التالية.
أو أنَّ المقصودَ بالمعدوداتِ الشهر، ويكونُ التقليلُ تسهيلاً على المكلَّفين، فهيَ قليلةٌ بالنسبةِ لأيامِ السنة.
فمنْ كانَ مريضاً مرضاً يَضرُّهُ الصوم، أو يَعْسُرُ مَعه، أو كانَ مُسافراً سَفراً تُقْصَرُ بهِ الصَّلاة، فلا بأسَ عليهِ أن يُفطِر، على أنْ يَقضيَ ما فاتَهُ منْ ذلكَ بعدُ.
أمّا الذينَ يَصومونَهُ ولكنْ بمشقَّةٍ بالغة، كالشيخِ الكبير، والمريضِ الذي لا يُرجَى بَرْؤه، فيُعطِي بدلَ صيامِ كلِّ يومٍ طعامَ مِسكين، وهوَ قَدْرُ ما يأكلهُ في يَومِه. فمنْ زادَ على ذلكَ فهوَ أفضَل.
والصومُ خيرٌ لمنْ أُبيحَ لهُ الإفطارُ إذا لم يَجِدْ في ذلكَ مشقَّة.
وإذا تبيَّنتُمْ هذا وكنتُمْ مِنْ أهلِ العلمِ والتدبُّر، علمتُمْ أنَّ الصومَ خيرٌ منْ ذلك.
وهناكَ تفسيرٌ آخرُ للآية، وهوَ قولُ الجمهور، فقدْ كانَ المسلِمونَ في أوَّلِ الأمرِ مخيَّرينَ بينَ صيامِ عدَّةِ أيّام، أو إطعامِ مَساكين، فيكونُ مَعناها: وعلى الذينَ يَستطيعونَ الصِّيام، إذا أُفطِروا، فِدية. ثمَّ نُسِختْ، وصارتِ الفِديةُ للعاجزِ إذا أُفطِر.
شَهرُ رمَضان، الذي أَنزَلَ اللهُ فيهِ القُرآنَ العظيم، في لَيلةِ القَدْرِ منه، هادياً للنَّاسِ منَ الضَّلالةِ إلى الإيمان، فيهِ آياتٌ واضِحاتٌ تَهدي إلى الحقِّ مِنَ الحدودِ والأحكام، لمنْ تدبَّرَها وآمنَ بها حقَّ الإيمان. وبها يُفَرَّقُ بينَ الحقِّ والباطل، والحلالِ والحرام.
ولهذا اختارَهُ اللهُ ليَكونَ شهرَ الصَّومِ للمُسلمين، فمَنْ حضَرهُ وكانَ مُقيماً سالماً وجبَ عليهِ صيامُهُ كلِّه.
أمّا مَنْ كانَ بهِ مرضٌ يَشُقُّ عليهِ الصيامُ مَعه، أو يُؤذِيه، أو كانَ في حالِ سفرٍ لمسافةٍ تَقْصُرُ به الصلاة، فلهُ أنْ يُفْطِر، لكنْ عليهِ أنْ يَقضيَ هذهِ الأيامَ إذا تعافَى، أو أقام، في الأشهرِ التاليةِ منه.
وإنَّما رَخَّصَ اللهُ لكمُ الفِطْرَ في حالاتٍ تيسيراً عليكم، ورحمةً ورأفةً بِكم.
وإنَّما أمرَكمْ بقضاءِ ما فات، لتُكْمِلوا عددَ أيامِ الشَّهرِ المفروضِ عليكمْ صَومُه. ولتَذكروا اللهَ وتُعظِّموهُ وتكبِّروهُ عندَ انقضاءِ الصوم، ليلةَ الفطرِ ويومَ العيد؛ شُكراً لهُ على ما هَداكمْ إلى هذهِ الطاعةِ العَظيمة، التي تَزيدُ مِنْ حسَناتِكم، وتُقَرِّبُكمْ مِنْ رحمةِ الله، ويُدخِلُكمْ بها الجنَّة.
ولتَشكروهُ على هذهِ النِّعمةِ الجَليلة، وما يسَّرَهُ عليكمْ مِنَ الفِطْرِ فيهِ للضَّرورَة.
كانَ أمرُ الصومِ في شهرِ رمضانَ أوَّلاً يختلفُ شَيءٌ منهُ عمّا شُرِعَ مِنْ بعد، فكانَ مَسموحاً للصائمِ أنْ يأكلَ ويَشرَبَ ويَنكِحَ بعدَ الإفطارِ ما لم يَنَم، فإذا نامَ حَرُمَ عليهِ ذلك. وهذا التحريمُ يَنالُ الذي لم يُفْطِرْ أيضاً، فلو نامَ ولم يُفْطِرْ لم يَجُزْ لهُ الإفطارُ بعدُ. فشقَّ ذلكَ على الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، وأُغميَ على رَجلٍ منهم، كما وقعَ بعضُهمْ على نسائه، فنـزلتِ الآيةُ الكريمة، ففَرِحوا فرَحاً شَديداً، وفيها:
لقدْ أحَلَّ اللهُ لكمُ الجِماعَ في ليلةِ الصيام، فأنتُمْ سَكَنٌ وسِترٌ لنِسائكم، تَلمَسوهنَّ وتُضاجِعوهنَّ ولا تَصبِرونَ عنهنَّ مع كثرةِ ملابَستِكمْ لهنّ. وهنَّ كذلك.
وقدْ عَلِمَ اللهُ أنَّكمْ كنتُمْ تَخونونَ أنفُسَكمْ وتُعَرِّضونَها للعِقابِ بمواقعَتِهنَّ وقدْ نُهيتُمْ عنْ ذلك، فتابَ عليكمْ عندما تُبتُمْ منْ ذلكَ وعَفا عنكم، فلا بأسَ الآنَ منْ مباشرتِهنّ، واطلبوا ما قدَّرَهُ اللهُ لكمْ منَ الذرِّية.
وكُلوا واشرَبوا في الليلِ حتَّى يتبيَّنَ لكمْ بَياضُ النَّهارِ مِنْ سَوادِ الليل، وهوَ الفَجر، ثمَّ أكمِلوا صومَكمْ مِنْ هذا الوقتِ حتَّى يَحِينَ المَغرِبُ مِنَ الليل.
ولا تُجامِعوا نساءَكمْ وأنتُمْ مُقيمونَ في المساجدِ بنيَّةِ الاعتِكاف، إذا خَرجتُمْ منها إلى البيوتِ لحاجَة.
وتلكَ الأحكامُ المذكورةُ في الصِّيامِ والاعتِكافِ حُدودٌ حَدَّها اللهُ فلا تَقرَبوها، فَضلاً مِنْ أنْ تَتجاوزوها. فلا تَقرَبوا الحدَّ الحاجزَ بينَ الحلالِ والحرامِ خشيةَ أنْ تَقعوا فيه. وهوَ مبالغةٌ في النهي عنْ تخطِّيه.
وهكذا يبيِّنُ اللهُ الأحكامَ المشروعةَ للناسِ بوضوحٍ ليَهتدوا بها، ولئلّا يُخالِفوا أوامرَهُ ونَواهيه.
ويسألُكَ الناسُ -أيُّها الرسولُ الكريمُ- عنْ فائدةِ الأهلَّةِ(12) والحِكمةِ منها، فقلْ لهم: لقدْ جعلَها اللهُ مواقيتَ للناس، يعرفونَ بَها أوقاتَ عباداتِهم، منَ الصيام، والزَّكاة، والحجّ، والكَفّارات، ويَعرِفونَ بها حُلولَ أجَلِ الدَّين، وعِدَّةَ النساء، وأوقاتَ الزراعة، وما إلى ذلك.
وليسَ منَ الخيرِ أنْ تَدخُلوا البيوتَ منْ فُرَجٍ وأنقابٍ وتَتركوا الأبوابَ إذا كنتُمْ مُحْرِمين، ولكنَّ الخيرَ مَنْ خَشِيَ اللهَ وتركَ مخالفةَ أمرِه، فادخُلوا البيوتَ مِنْ أبوابِها كالعادةِ ولو كنتُمْ مُحْرِمين، وكونُوا على طاعةٍ واستِقامةٍ لتَفوزوا بالبِرِّ والهُدَى.
وكانتِ الأنصارُ وقبائلُ منَ العربِ تَفعلُ ذلك، فنـزلتِ الآيةُ الكريمة.
(12) جمعُ هلال، مثلُ رداء وأردية، سمِّيَ هلالاً لأن الناسَ يرفعون أصواتَهم بالذكرِ عند رؤيته، من قولهم: استهلَّ الصبيُّ إذا صرخَ حين يولد، وأهلَّ القومُ بالحجِّ إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية. (البغوي).
وتطوَّرَ أمرُ الجهاد، فقالَ اللهُ ما معناه: واقتُلوا المشركينَ أينَما وجَدتُموهم، دِفاعاً وهُجوماً، وأخرِجُوهم منْ ديارِهم كما أخرجُوكمْ منْ ديارِكم، وما همْ عليهِ منَ الكفرِ والشِّركِ أعظمُ منَ القَتل، فقدْ كانوا يَفْتِنونَكمْ عنْ دينِكم، ويُعَذِّبونَكم، ويُصادِرونَ أموالَكم، ولا يَسمحونَ لكمْ بإقامةِ شعائرِ دينِكم، ويُقاتلونَكم ليُبيدُوكم، انطلاقاً منْ ملَّةِ الكفرِ التي همْ عليها.
ولا تَبدَؤوهم بالقِتالِ عندَ المسجدِ الحرامِ حتَّى يَبدَؤوا همْ به، فإذا قاتلوكمْ فيهِ فلا تُبالوا بقِتالِهم، فإنَّ هذا جزاءُ الكافرينَ المُعتَدين، يُفْعَلُ بهمْ مثلَما فَعلوا.
قالَ بعضُ الأنصارِ لبعضِهمْ سِرًّا: إنَّ أموالَنا قدْ ضاعت، وإنَّ اللهَ قدْ أعزَّ الإسلام، وكَثُرَ ناصِروه، فلو أنّا أقَمنا في أموالِنا فأصلَحْنا ما ضاعَ منها. فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ فيهم.
قالَ أبو أيُّوبٍ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه، كما في الحديثِ الصحيح: فكانتِ التهلُكَةُ: الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وتَرْكَنا الغَزوَ.
وفي الآيةِ توجيهٌ عامٌّ وأمرٌ للمسلمينَ بما هوَ مَطلوبٌ منهم: أنفِقوا مِنْ أموالِكم في الجهادِ وسُبلِ الخَير، وإنَّ تَرْكَ ذلكَ خَسارةٌ وهلاك، فأحسِنوا أعمالَكمْ وأخلاقَكم، وأنفِقوا على الجهادِ وأهلِ الحاجة، فإنَّ اللهَ يُريدُ الخيرَ بالمحسنين.
وإذا بدأتمُ الحجَّ والعمرةَ فأتِمُّوا مناسِكَهُما، فإذا حُبِسْتُمْ ومُنِعتُمْ منَ الوصولِ إلى البيتِ الحرامِ ولم تتمكَّنوا منْ إتمامِ المناسِك، فبإمكانِكمُ التحلُّلُ منها بذَبحِ هَدْي، منْ إبِلٍ أو بقرٍ أو شياه.
والتحَـلُّلُ هو الخروجُ منَ الإحرامِ بالطريقِ الشرعيّ.
ولا تَحلِقوا رؤوسَكمْ -وهوَ علامةٌ على التحلُّلِ- حتَّى تَعلموا أنَّ الهَدْيَ المَبعوثَ إلى الحرمِ قدْ بلغَ المكانَ الذي يَحِلُّ فيهِ ذَبحُه. وهوَ للآمِنِ الحرَم، وللمُحصَرِ مَكانُ الإحصار. وفي المَسألَةِ اختِلافٌ وتَفصيل. قالَ القُرطُبيُّ في تَفسيرِه: جُمهورُ النَّاسِ على أنَّ المُحصَرَ بعَدوٍّ يُحِلُّ حَيثُ أُحصِر، ويَنحَرُ هَديَهُ إنْ كانَ ثَمَّ هَدْي، ويَحلِقُ رَأسَه. اهـ.
فمنْ كانَ مريضاً مَرضاً يُحْوِجهُ إلى الحَلق، أو بهِ أذًى مِنْ رأسه، كقَملٍ وجِراحة، فعَليهِ فِديةٌ إنْ حَلق: وهوَ أنْ يصومَ ثلاثةَ أيام، أو يَتصدَّقَ على ستَّةِ مساكين، أو يَذبحَ شاةً أو غيرَها ممّا ذُكِر، يَتصدَّقُ ويَذبَحُ في الحرَم.
فإذا تمكَّنتُمْ منْ أداءِ المناسك، فمنْ كانَ منكمْ مُتَمتِّعاً بالعُمرةٍ إلى الحجّ، أي اعتمرَ ثمَّ نوَى الحجّ، أو نَواهما معاً، أي قرنَ بينَهما، فعليهِ أنْ يَذبحَ ما قَدَرَ عليهِ منَ الهَدْي، وأقلُّهُ شاة، فإنْ لم يقدِرْ على ذلكَ فليصُمْ ثلاثةَ أيّامٍ في الحَجّ، وسبعةً إذا رجعَ إلى وطنِه، فهيَ عشرةُ أيّام.
وهذا التمتُّعُ للناسِ ما عدا أهلَ مكةَ والحرم، ويُلْحَقُ بهمْ مَنْ كانَ قريباً منَ الحرمِ على مسافةِ قَصرِ الصَّلاةِ عندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله.
واخشَوا اللهَ ونفِّذوا ما يأمرُكمْ بهِ ويَنهاكمْ عنه، واللهُ يُعاقِبُ مَنْ خالفَهُ عُقوبةً شديدة.
وأشهُرُ الحجِّ معروفة، وهي شوَّالٌ وذو القَعْدَةِ وعَشرٌ مِنْ ذي الحِجَّة، فمنْ نوَى فيهنَّ الحجَّ وأوجبَهُ على نفسِه، فليلتَزمْ بآدابِه: فلا يجوزُ فيهِ الجِماعُ ولا دواعيه، ولا ارتكابُ المعاصي والفواحشِ والمحظورات، ويعني التأكيدَ على ذلكَ في أثناءِ الحجِّ الذي قُصِدَ لطاعةِ الله، ولا جِدالَ ولا مُخاصَمةَ في الحجّ، فلا يُماري الحاجُّ أخاهُ حتَّى يُغضِبَه، ولا يسبُّهُ ولا يُنازعُه، وخاصَّةً رفقتَهُ وخدَمَه.
وما تَفعلوا منْ أعمالٍ صالحةٍ يَعْلَمْها الله، ويَجزِ بها خيرَ الجزاء.
واجلُبوا معكمْ منَ الزادِ ما يَكفُّ وجوهَكمْ عنِ السؤالِ في الحجِّ ولا تَتواكلوا.
وإنَّ خيرَ ما تزوَّدتمْ بهِ هو ما ينفعُكمْ في الآخِرَةِ منَ التقوَى والعملِ الصالحِ والطَّاعة.
واخشَوا عِقابي إذا خالفتُمْ ما أمرتُكمْ بهِ يا ذَوي الأفهامِ وأهلَ العقولِ الراجِحة.
ولا حرجَ عليكم إذا تكسَّبتُمْ وتاجَرتُمْ في الحجّ.
وإذا دُفِعتُمْ مِنْ عرفاتٍ بعدَ الوقوفِ به، فاذكروا اللهَ بالتَّلبيةِ والتهليلِ والدعاءِ عندَ المَشْعَرِ الحَرام. وهوَ جبلٌ بآخرِ المُزْدَلِفة، وقدْ وقفَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هناكَ "فاستقبلَ القِبلة، فدعاهُ وكبَّرَهُ وهلَّلَهُ ووحَّده"، كما في صحيحِ مسلم.
واذكروا اللهَ كما هَداكمْ لمعالِم ِدينهِ ومناسكِ حَجِّه، وعلَّمَكمْ ما لم تَكونوا تَعلَمون.
ثمَّ اندفِعوا منْ عرفاتٍ كما كانَ الناسُ يَندفعونَ منهُ مِنْ لدنْ إبراهيمَ عليهِ السلام، للمَبيتِ بمُزْدَلِفةَ ورَمي الجِمارِ وإكمالِ سائرِ المناسك.
وكانتْ قريشٌ وما وَلَدتْ لا تَقِفُ بعرفاتٍ مثلَ باقي القبائل، ولا تُفيضُ منه، فنـزلتِ الآيةُ فيهم، كما رواهُ البخاريُّ وغيرُه.
واستغفِروا اللهَ مِنْ جاهليَّتِكمْ في تَغييرِ المناسك، فإنَّهْ يَغفِرُ ذنبَ المستَغفرِ ويَرحمُه.
فإذا أنهيتُمْ مناسكَ الحجِّ فاحمَدوا اللهَ واشكروهُ على توفيقهِ إيّاكم، وادعوهُ وزِيدوا منْ ذِكرهِ كما يَلهَجُ الصبيُّ بذكرِ أمِّهِ وأبيه، وكما تَذكرونَ آباءَكمْ في مفاخرِهمْ وأيّامِهم، بلْ أكثرَ ذكراً، فإنَّهُ ربُّكمْ وربُّ آبائكمْ والمُنعِمُ عليكمْ جَميعاً.
ومنَ الناسِ مَنْ لم يُوَفَّقْ في الدُّعاء، فيَقولُ أحدُهم: ربَّنا زِدْنا منَ النِّعَمِ والخَيراتِ في الدُّنيا، واجعَلْ هذا العامَ عامَ خِصْبٍ وغَيْث. فمِثْلُ هذا لا نَصيبَ لهُ في الآخِرَة، لأنَّهُ لم يَسألْ لنفسهِ خيرَها.
وهناكَ مَنْ يَدعو فيُحْسِنُ الدُّعاء، ويَجمَعُ فيهِ بين خَيرَي الدُّنيا والآخِرَة، فيَقول: ربَّنا أعطِنا جِماعَ الخَيرِ في الدنيا والآخِرَة.
وهوَ كأنْ يدعوَ لنفسهِ بالرزقِ الواسع، والزوجةِ الصالحة، والمركبِ الهنيء، والثناءِ الطيِّب، والعلمِ النافِع.
كما يدعو لنفسهِ بحُسنِ الخاتمة، والأمنِ يومَ الحشرِ والحِساب، ودخولِ الجنَّةِ معَ الأبرار، والوقايةِ منْ عذابِ النار.
واذكُروا اللهَ وكبِّروهُ في أيّامِ التَّشريق، وهيَ يومُ عيدِ الأضحى معَ الأيّامِ الثلاثةِ التاليةِ له، وهيَ أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وذِكر، لا يجوزُ صومُها. فمنْ أرادَ أنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنىً ثانيَ أيّامِ التشريقِ فلا حرجَ عليه، ومَنْ أرادَ أنْ يَبقَى إلى اليومِ الثالثِ ويرميَ الجِمارَ فلا حرجَ عليهِ أيضاً.
وكانوا في الجاهليَّةِ يُعَيِّرونَ المُتَعَجِّلَ ويؤثِّمونَ المتأخِّر، فبيَّنتِ الآيةُ عدمَ القَدْحِ في ذلك. وهوَ اللائقُ بمنْ حجَّ للهِ والتزمَ بالمناسكِ كما شَرعَ الإسْلام.
فكُونوا على تَقوًى منَ الله وخَشيةٍ منه، بامتِثالِ الأوَامرِ وتَركِ المحظوراتِ، واحذَروا الإخلالَ بما ذُكِرَ منَ الأحكام، وتيقَّنوا بأنَّكمْ ستَعودونَ إلى الحياةِ بعدَ موتِكم، فيحاسِبُكمُ اللهُ على أعمالكمْ ويجازيُكمْ عَليها.