تفسير الجزء 20 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العشرون
20
سورة النمل (56-93)
سورة القصص
سورة العنكبوت (1-45)

﴿وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ اللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ﴾ [النمل:87]


ويَومَ يَنفُخُ إسْرافيلُ في الصُّورِ - وهوَ قَرْنٌ - في آخِرِ عمُرِ الدُّنيا، يَعتَري الفزَعُ والرُّعبُ كلَّ مَنْ في السَّماواتِ والأرْض، إلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ألاّ يَفزَع، كالشُّهَداء، فهمْ أحياءٌ عندَ رَبِّهم، لا يَصِلُ إليهمُ الفزَع. وهذهِ هيَ النَّفخَةُ الأولَى، والثانيَةُ تَكونُ نَفخَةَ الصَّعْق، وهوَ المَوت، ثمَّ نَفخَةَ النُّشورِ مِنَ القُبور. وهذا قَولُ ابنِ كثيرٍ وآخَرين.

وكُلُّ المَبعوثينَ عندَ النفخَةِ جَاؤوا ليَقِفوا بينَ يَدي اللهِ للحِسابِ صاغِرينَ مُنقادِين.

﴿وَتَرَى الۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِۚ صُنۡعَ اللَّهِ الَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ﴾ [النمل:88]


وترَى الجِبالَ يَومَئذٍ كأنَّها ثابِتَةٌ باقِيَةٌ على ما كانتْ عَليه، والحَقُّ أنَّها زائلَةٌ عَنْ أماكنِها، وتَسيرُ كسَيرِ السَّحاب، حتَّى تقعَ على الأرضِ فتَستَويَ بها. وهذا مِنْ صُنعِ اللهِ الذي أجادَ وأحكمَ كُلَّ ما خلَق، واللهُ عَليمٌ بأفعالِ عِبادِه، ظواهِرِها وبَواطنِها، خَيرِها وشَرِّها، وسيُجازيهمْ على ذلكَ كُلِّه.

وذهبَ مُفَسِّرونَ إلى أنَّ المَقصودَ بالحَديثِ في الجِبالِ هُنا ما يَجري لها في الدُّنيا. ويَقولُ المُفَكِّرُ الإسلاميُّ زَغلولُ النجَّارُ في مَوقعِه: الجِبالُ ليسَتْ كُتَلاً هامِدَة، ولكنَّها تتحرَّكُ جانبيًّا بالتضاغُطِ والتثَنِّي والطَّيّ، كما تَتحرَّكُ رأسيًّا بالتصَدُّعِ والرَّفعِ مِنْ أسفَلَ إلى أعلَى بواسِطَةِ مُختَلِفِ قُوَى الأرضِ الداخليَّة، وبفِعْلِ عَوامِلِ التَّعريَة...

ثمَّ يَقول: والجِبالُ تَمُرُّ معَ الأرضِ مرَّ السَّحاب، وتَترَنَّحُ معَها في دوَرانِها حَولَ مِحوَرِها، وتَجري معَها في مَدارِها حولَ الشَّمس، ولعلَّ هذهِ الحركاتِ هيَ صورَةٌ منْ صُوَرِ الخُضوعِ للهِ الخالِقِ سُبحانَهُ وتعالَى، بالعِبادَة، والطَّاعَة، والتَّسبيحِ والذِّكْر، والسُّجود.

﴿مَن جَآءَ بِالۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ﴾ [النمل:89]


مَنْ أطاعَ اللهَ وعَمِلَ صالِحًا فيُجازَى خَيرًا يَومَ القِيامَة، ويُعطَى أفضَلَ مِنْ حسَنَتِهِ تلك، وهمْ آمِنونَ سالِمونَ مِنْ خَوفِ ذلكَ اليَومِ العَصِيب.

﴿وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فِي النَّارِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النمل:90]


ومَنْ أتَى اللهَ في ذلكَ اليَومِ مُشرِكًا، مُسيئًا لم يُحسِنْ في شَيء، أُلقُوا في النَّارِ على وجُوهِهمْ مَنكوسِين. هلْ تُحاسَبونَ وتُجزَونَ إلا على ما كنتُمْ تَعمَلونَ مِنْ أعمال؟

﴿إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الۡبَلۡدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ الۡمُسۡلِمِينَ﴾ [النمل:91]


قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسول: إنَّما فُرِضَ عَليَّ أنْ أعبُدَ الله، رَبَّ مَكَّةَ التي فيها بَيتُهُ الحَرام، وهيَ أحَبُّ البِلادِ إلى رَسولِه، التي جعلَها اللهُ حرَمًا، آمِنًا، لا يُسفَكُ فيها دَم، فإذا سُفِكَ غُلِّظَتِ العُقوبَةُ وإنْ كانتْ خطَأ، ويأمَنُ فيها اللَّاجِئ... ولا يُقطَعُ شَوكُها، ولا يُنَفَّرُ صَيدُها... وغَيرُ ذلكَ منَ الأحكامِ الخاصَّةِ بها. وهوَ رَبُّها ورَبُّ كُلِّ شَيء، خَلقًا ومُلكًا وتَدبيرًا، لا يُشارِكُهُ فيها أحَد. وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المؤمِنينَ الموَحِّدينَ المُخلِصين، الطائعينَ لربِّ العالَمين، وأنْ أثبُتَ على ذلك.

﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ الۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ اهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ الۡمُنذِرِينَ﴾ [النمل:92]


وأُمِرْتُ أنْ أُواظِبَ على قِراءَةِ القُرآنِ على النَّاسِ وأُبَلِّغَهُمْ وأُنذِرَهمْ به، فمَنِ اهتدَى بهِ واتَّبعَ أحكامَه، فإنَّ منفَعَةَ اهتِدائهِ تَعودُ على نَفسِه، ومَنْ ضَلَّ عَنهُ وكفرَ بهِ فقُل: إنَّ مُهِمَّتي أنْ أُنذِرَكمْ بالقُرآن، وليسَ عليَّ مِنْ ضَلالِكمْ شَيء، إنَّما وَبالُ ذلكَ عَليكم.

﴿وَقُلِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [النمل:93]


وقُلْ: الحَمدُ للهِ الذي أنعَمَ عَليَّ بالنبوَّة، ووَفَّقَني لتَبليغِ كتابِه، وتأديَةِ رِسالَتِه، وسيُريكمُ اللهُ عَلاماتٍ وأدِلَّةً تدلُّ على قُدرَتِهِ ووَحدانيَّتِه، في أنفُسِكمْ وفي السَّماواتِ والأرْض، تَعرِفونَها مَعرِفَةً تدلُّكمْ على الحقِّ والباطل، واللهُ غَيرُ غافِلٍ عنْ عمَلِ النَّاس، فهوَ شَهيدٌ على كُلِّ شَيء، وسيُجازي كُلاًّ بما عَمِل، فاحذَروا، فقدْ بُلِّغتُم.

سورة القصص - مكية - عدد الآيات: 88

28

﴿طسٓمٓ﴾ [القصص:1]


الحروفُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ صَحيح، واللهُ أعلَمُ بمَعناها.

﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ الۡكِتَٰبِ الۡمُبِينِ﴾ [القصص:2]


هذهِ آياتُ القُرآنِ الكريم، المُبَيِّنِ لحقَائقِ الأمُور، وصَحيحِ القَصَصِ والأخبَار.

﴿نَتۡلُواْ عَلَيۡكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرۡعَوۡنَ بِالۡحَقِّ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [القصص:3]


نَذكرُ لكَ مِنْ خبَرِ نَبيِّ اللهِ موسَى بنِ عِمرانَ وفِرعَونَ المُتكَبِّر، بالصِّدْقِ والعَدْلِ كما حدَث، لمَنْ يُصَدِّقُ بما في القُرآن، فهوَ الذي يَستَفيدُ ويَعتَبِر.

﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي الۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [القصص:4]


لقدْ تجَبَّرَ فِرعَونَ وطغَى لمَّا ملَكَ مِصر، وجعلَ أهلَها فِرَقًا وطبَقات، ليُثيرَ بينَهمُ العَداوَةَ والبَغضاء، يَظلِمُ بَني إسْرائيلَ خاصَّةً ويَقهَرُهم، وكانوا خيارَ النَّاسِ في ذلكَ الوَقت، فكانَ يَستَخدِمُهمْ في أخَسِّ الأعمال، وفي أشَقِّها على النَّفس، لهُ ولرَعيَّتِه، ويَقتُلُ كُلَّ ولَدٍ يُولَدُ فيهم، وذلكَ لمَّا أُخبِرَ بأنَّهُ سَيولَدُ مَولُودٌ فيهمْ يَكونُ زَوالُ مُلكِهِ على يَدِه، ويُبقي نِساءَهمْ أحيَاءً للسُّخرَةِ والخِدمَة، فكانَ بهذا مِنْ أكبَرِ المُجرِمينَ المُفسِدينَ في الأرض.

﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسۡتُضۡعِفُواْ فِي الۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ الۡوَٰرِثِينَ﴾ [القصص:5]


ونُريدُ أنْ نُنعِمَ على الذينَ كانوا يُستَضعَفونَ ويُذَلُّونَ مِنْ بَني إسْرائيل، ونجعلَهمْ أئمَّةً وعُلَماءَ يُقتَدَى بهم، وخُلَفاءَ يَرِثونَ مُلْكَ فَرعَونَ وقَومِه.

﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي الۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ﴾ [القصص:6]


وأنْ نُثَبِّتَ أمرَهمْ في مِصرَ وغَيرِها، ونجعلَهمُ المُتَصَرِّفينَ فيها، ونُرِيَ فِرعَونَ وهامانَ(101) الطَّاغيَتينِ وجُنودَهما المُجرِمين، ما كانوا يَخافونَهُ مِنْ أمرِ المُستَضْعَفين، مِنْ ذَهابِ مُلكِهمْ على يَدِ واحِدٍ منهم.

(101) هو وزيرُ فرعونَ وأكبرُ رجاله، فذُكِرَ لمحلِّهِ من الكفر، ولنباهتهِ في قومه، فله في هذا الموضعِ صَغارٌ ولعنةٌ لا شرف. (ابن عطية).

﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي الۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الۡمُرۡسَلِينَ﴾ [القصص:7]


وقذَفنا في قَلبِ أُمِّ موسَى بإلهامٍ مِنْ عِندِنا، أنْ أَرضِعي ابنَكِ مُدَّة، وأخفِيهِ ما أمكَنَكِ إخفَاؤه، فإذا خَشِيتِ مِنْ مَعرِفَةِ جواسيسِ فِرعَونَ به، فضَعيهِ في صُندوقٍ وألقِيهِ في نَهرِ النِّيل، ولا تَخافي مِنْ ضَياعِهِ أو غَرْقِه، ولا تَغتَمِّي بمُفارقَتِه، فسَنَرُدُّهُ إليكِ قَريبًا لتُرضِعيه، ونَجعَلُهُ مِنْ أنبِياءِ اللهِ المُرسَلين.

﴿فَالۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًاۗ إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ﴾ [القصص:8]


فألقَتْهُ في النَّهرِ كما أُمِرَت، فمرَّ بدارِ فِرعَون، فعثَرَ عَليهِ أهلُهُ وأصحابُهُ وأخَذوه، ليَكونَ لهمْ في المُستَقبَلِ عَدوًّا، وهَمًّا وغَمًّا. إنَّ فِرعَونَ المُتَكَبِّر، ووَزيرَهُ هامَانَ الظالِم، وجُنودَهما أجمَعين، كانوا عاصينَ آثِمينَ، فعاقَبَهمُ اللهُ على ذلك.

﴿وَقَالَتِ امۡرَأَتُ فِرۡعَوۡنَ قُرَّتُ عَيۡنٖ لِّي وَلَكَۖ لَا تَقۡتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [القصص:9]


ولمّا هَمَّ فِرعَونُ بقَتلِه، خَوفًا مِنْ أنْ يَكونَ مِنْ بَني إسْرائيلَ المذكورِ أمرُهُ معَهم، قالَتْ لهُ امرأتُهُ آسيَة: هذا الغُلامُ نأنَسُ بهِ صَغيرًا فلا تَقتُلوه، وقدْ يَنفَعُنا كبيرًا فيَكونُ سنَدًا لأُسرَتِنا أو دَعمًا لمُلكِنا، أو نَتبَنَّاهُ فيَكونُ بَهجَةً لنا في البَيت(102). فسَمِعوا منها ذلك، وهمْ لا يَشعُرونَ بعاقِبَةِ أمرِهمْ معَه، وأنَّ هلاكَهمْ يَكونُ بسبَبِهِ وعلى يَدِه.

(102) {قُرَّةُ عَيْنٍ}: قرَّت عينهُ تَقَرّ: سُرَّت. (مفردات الراغب).

﴿وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِي بِهِۦ لَوۡلَآ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [القصص:10]


وأصبحَ فؤادُ أُمِّ موسَى خالِيًا إلاّ مِنْ ذِكرِ موسَى وهَمِّه، وكادَتْ أنْ تَذكُرَ حَقيقَةَ أمرِهِ مِنْ شِدَّةِ قَلَقِها عَليه، لولا أنْ ثَبَّتْنا قلبَها وألهمنَاها الصَّبرَ وأنزَلنا عَليها السَّكينَة، لتَكونَ مِنَ المُصَدِّقينَ بما وعَدناهَا به، مِنْ رَدِّ ولَدِها إليها.

﴿وَقَالَتۡ لِأُخۡتِهِۦ قُصِّيهِۖ فَبَصُرَتۡ بِهِۦ عَن جُنُبٖ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [القصص:11]


وقالَتْ لأُختِه: اتَّبِعي أثرَهُ على الشَّاطِئِ وتطَلَّبي خبَرَه. فكانتْ تُبصِرُهُ عنْ بُعد، وهمْ لا يَشعرُونَ أنَّها تُراقِبُه.

﴿۞وَحَرَّمۡنَا عَلَيۡهِ الۡمَرَاضِعَ مِن قَبۡلُ فَقَالَتۡ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰٓ أَهۡلِ بَيۡتٖ يَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ نَٰصِحُونَ﴾ [القصص:12]


ومَنعناهُ مِنَ المَراضِعِ مِنْ أوَّلِ أمرِه، فما كانَ يَقبَلُ ثَدْيًا، فقالَتْ أُختُهُ لآلِ فِرعَون: هَلْ تُريدونَ أنْ أدُلَّكمْ على أهلِ بَيتٍ يَضمَنونَ هذا الوَليدَ لأجلِكمْ ويُرضِعونَه، ولا يُقَصِّرونَ في خِدمَتِهِ وتَربَيتِه؟

﴿فَرَدَدۡنَٰهُ إِلَىٰٓ أُمِّهِۦ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَ وَلِتَعۡلَمَ أَنَّ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [القصص:13]


فقَبِلَ آلُ فِرعَونَ رأيَها، فأعَدنا موسى إلى أُمِّهِ لتَقَرَّ عَينُها بهِ ولا تَحزَنَ عَليه، ولتَيْقَنَ أنَّ ما وعدَها اللهُ بهِ مِنْ رَدِّهِ إليها حَقٌّ وصِدقٌ لا خُلْفَ فيه، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ الحِكمَةَ مِنْ أفعالِ الله، ويَشكُّونَ في وَعدِهِ لهم.

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَاسۡتَوَىٰٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [القصص:14]


ولمَّا بلغَ موسَى سِنَّ الرِّجالِ واستَوَى في شَخصيَّتِه، آتَيناهُ الفَهْمَ والعِلمَ بالدِّينِ والشَّريعَة، وكما أحسَنَّا إلى موسَى، فكذلكَ نَجزي مَنْ أحسَنَ على إحسانِه.

﴿وَدَخَلَ الۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَاسۡتَغَٰثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى الَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ الشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ﴾ [القصص:15]


ودخَلَ موسَى مَدينَةً مِنْ مدُنِ مِصرَ في وَقتٍ غَيرِ مَعهودٍ لا يَتوَقَّعُهُ أهلُها، فوجدَ فيها رَجُلَينِ يَتضارَبان، أحَدُهما مِنْ طائفَتِهِ مِنْ بَني إسْرائيل، والآخَرُ مِنْ أعدائهِ مِنْ قَومِ فِرعَون، فطلبَ الإسرائيليُّ المُساعَدَةَ والنَّجدَةَ مِنْ موسَى على عَدوِّهِ القِبطيّ، فضَرَبَهُ موسَى بقَبضَةِ كَفِّهِ فقَتَلَه، فلمَّا رأى موسَى أنَّهُ قُتِل، ولم يَكنْ مِنْ قَصدِهِ ذلك، قالَ نادِمًا: هذا مِنْ إغْواءِ الشَّيطانِ وإثارَتِهِ لي، إنَّهُ بَيِّنُ الضَّلالَة، ظاهِرُ العَداوَةِ للإنسَان.

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي فَاغۡفِرۡ لِي فَغَفَرَ لَهُۥٓۚ إِنَّهُۥ هُوَ الۡغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص:16]


فالتَجأ إلى رَبِّهِ ودَعاهُ قائلاً: اللهمَّ إنِّي ظَلَمتُ نَفسِي بقَتلِ ذلكَ الرَّجُل، فاغفِرْ لي ذَنبي. فعَفا اللهُ عَنهُ وغفَرَ له، إنَّهُ يَغفِرُ ذُنوبَ عِبادِهِ المؤمِنينَ التَّائبين، ويَرحَمُهمْ ولا يُعَذِّبُهمْ عَليها.

﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِيرٗا لِّلۡمُجۡرِمِينَ﴾ [القصص:17]


فدَعا رَبَّهُ وقالَ شاكِرًا: اللهمَّ كما مَنَنتَ عَليَّ فغَفَرتَ لي، فلَنْ أكونَ مُعِينًا للمُجرِمينَ المُخالِفينَ لأمرِك.

﴿فَأَصۡبَحَ فِي الۡمَدِينَةِ خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسۡتَنصَرَهُۥ بِالۡأَمۡسِ يَسۡتَصۡرِخُهُۥۚ قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰٓ إِنَّكَ لَغَوِيّٞ مُّبِينٞ﴾ [القصص:18]


وغدَا في المدينَةِ خائفًا يَتوَقَّعُ أنْ يَنالَهُ ضرَرٌ مِنْ أهلِها، ويترَصَّدُ بحَذَرٍ ما يَكونُ مِنْ هذا الأمْر. وبينَما هوَ في أحَدِ طرُقِها، إذا بالإسْرائيليِّ الذي استَعانَ بهِ بالأمسِ يَصيحُ ويَستَغيثُهُ على قِبطيٍّ آخَر، فقالَ لهُ موسَى: إنَّكَ ضالٌّ مُنحَرِفٌ كَثيرُ الشرّ.

﴿فَلَمَّآ أَنۡ أَرَادَ أَن يَبۡطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوّٞ لَّهُمَا قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ أَتُرِيدُ أَن تَقۡتُلَنِي كَمَا قَتَلۡتَ نَفۡسَۢا بِالۡأَمۡسِۖ إِن تُرِيدُ إِلَّآ أَن تَكُونَ جَبَّارٗا فِي الۡأَرۡضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الۡمُصۡلِحِينَ﴾ [القصص:19]


فلمَّا أرادَ موسَى أنْ يَضرِبَ القِبطيَّ، عَدوَّهُ وعَدوَّ الإسْرائيليّ، قالَ لهُ الإسرائيليُّ (على ما رُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ وأكثَرِ المفسِّرين) وقدْ ظَنَّ أنَّ موسَى قصَدَهُ ليَفتِكَ به، لِمَا رأى مِنْ غضَبِهِ عَليه: يا موسَى، أتُريدُ أنْ تَقتُلَني كما قتَلتَ القِبطيَّ بالأمس؟ ما تُريدُ إلاّ أنْ تَكونَ ظالِمًا مُتعالِيًا في الأرض، وما تُريدُ أنْ تَكونَ ممَّنْ يُصلِحُ بينَ النَّاسِ بالحُسنَى.

﴿وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا الۡمَدِينَةِ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ الۡمَلَأَ يَأۡتَمِرُونَ بِكَ لِيَقۡتُلُوكَ فَاخۡرُجۡ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّـٰصِحِينَ﴾ [القصص:20]


وجاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ موسَى مِنْ آخِرِ المَدينَة، يُسرِعُ في المَشي إليه، وقالَ له: يا موسَى، إنَّ أصحابَ الرَّأي مِنْ قَومِ فِرعَونَ يتَشاوَرونَ في أمرِكَ بقَصدِ قَتلِك، فاخرُجْ منْ مِصرَ قَبلَ أنْ يَظفَروا بك، وأنا أنصَحُكَ بذلك، وأخافُ عَليكَ منهم.

﴿فَخَرَجَ مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الۡقَوۡمِ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [القصص:21]


فخرَجَ مِنَ المَدينَةِ وهوَ خائفٌ وَجِل، يتلَفَّتُ ويَخشَى أنْ يُلحَقَ به، وقالَ داعيًا رَبَّه: اللهمَّ خَلِّصني مِنْ فِرعَونَ وقَومِهِ الظَّالِمين.

﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلۡقَآءَ مَدۡيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص:22]


ولمَّا سلَكَ طَريقًا واضِحًا يأخذُهُ إلى مَدينَةِ مَدْيَن، استَبشَرَ بذلكَ وقال: عسَى أنْ يُيَسِّرَ لي رَبِّي أمرًا أفضَل، ويُرشِدَني إلى الطَّريقِ الأقوَم، فأنجُو وآمَن.

﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ النَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ الرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ﴾ [القصص:23]


ولَمَّا وصَلَ إلى البِئرِ التي يَشرَبُ منها أهلُ مَدْيَن، وَجدَ حَوْلَها جَماعَةً يَسقونَ منها أنعامَهم، ووَجدَ أبعدَ منهمُ امرأتَينِ تَمنعانِ غَنمَهُما مِنَ الماء، فرَقَّ لهما وقال: ما خبَرُكما ولماذا لا تَسقيان؟ قالَتا: لا نَسقي حتَّى يَصرِفَ الرُّعاةُ مَواشِيَهم، ولا نُزاحِمُ الرِّجالَ حتَّى لا نؤذَى، ووالِدُنا شَيخٌ كبيرٌ في السِّنّ، وليسَ لنا رَجُلٌ يَقومُ مَقامَه.