تفسير الجزء 20 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العشرون
20
سورة النمل (56-93)
سورة القصص
سورة العنكبوت (1-45)

﴿فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ﴾ [القصص:24]


فسَقَى موسَى لهما رَحمَةً بهما، ثمَّ مضَى إلى ظِلِّ شَجَرَةٍ مِنْ شِدَّةِ الحَرّ، وناجَى ربَّهُ قائلاً: اللهمَّ إنِّي فَقيرٌ مُحتاجٌ إلى نِعمَتِكَ وفَضلِك.

﴿فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى اسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ الۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ الۡقَوۡمِ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [القصص:25]


ورجَعَتْ إحدَى الفَتاتَينِ إلى موسَى عَليهِ السَّلامُ وهيَ تَمشي في حَياءٍ وقالَتْ له: إنَّ أبي يَطلُبُ منكَ المَجيءَ إليهِ ليُعطيَكَ أُجرَةَ سَقيك. فمضَى إليه، وسردَ عَليهِ ما جرَى لهُ في مِصر، وقَتْلَهُ القِبطيَّ، فقالَ له: لا تَخَف، لقدْ أنقَذَكَ اللهُ مِنْ قَومِ فِرعَونَ الكافِرينَ المُعتَدين.

والمَشهورُ أنَّ ذلكَ الرجُلَ هوَ شُعَيبٌ عَليهِ السَّلام، وذكرَ بَعضُهمْ أنَّهُ غَيرُه.

﴿قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَـٰٓأَبَتِ اسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ اسۡتَـٔۡجَرۡتَ الۡقَوِيُّ الۡأَمِينُ﴾ [القصص:26]


قالَتْ إحدَى الفَتاتَينِ لأبيها: يا أبتِ، اتَّخِذْهُ أجيرًا ليَرعَى أغنامَنا ويَقومَ بأمرِها، فإنَّهُ قَويٌّ أَمين، وإنَّ خَيرَ مَنِ استُؤجِرَ مَنْ جمَعَ بينَ القُدرَةِ والأمانَة.

قالَ صاحبُ "تيسيرِ الكريمِ الرحمنِ في تَفسيرِ كلامِ المنَّان": وهذانِ الوَصفانِ يَنبَغي اعتبارُهما في كُلِّ مَنْ يَتوَلَّى للإنسَانِ عمَلاً، بإجارَةٍ أو غَيرِها، فإنَّ الخَللَ لا يَكونُ إلاّ بفَقدِهما، أو فَقدِ أحَدِهما، وأمّا باجتِماعِهما فإنَّ العمَلَ يَتِمُّ ويَكمُل. اهـ. يَعني القوَّةَ والأمانة.

﴿قَالَ إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ابۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرٗا فَمِنۡ عِندِكَۖ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أَشُقَّ عَلَيۡكَۚ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [القصص:27]


قالَ والِدُ الفَتاةِ لموسَى عَليهِ السَّلام: إنِّي أُريدُ أنْ أُزَوِّجَكَ إحدَى ابنتَيَّ اللَّتَينِ رأيتَهما، على أنْ تَعمَلَ أجيرًا عِندي ثماني سَنوات، فإذا أكمَلتَها عَشرًا فهوَ تَفضُّلٌ منك، ولا أُريدُ أنْ أُكَلِّفَكَ بما لا تُطيق، وستَجِدُني إنْ شاءَ اللهُ حسَنَ المُعامَلة، وافِيًا بالعَهد.

﴿قَالَ ذَٰلِكَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَۖ أَيَّمَا الۡأَجَلَيۡنِ قَضَيۡتُ فَلَا عُدۡوَٰنَ عَلَيَّۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٞ﴾ [القصص:28]


قالَ لهُ موسَى عَليهِ السَّلام: ذاكَ الشَّرطُ بيني وبَينَك، وأيَّ الأجلَينِ أتمَمْتُ، الثَّمانيَ أو العَشْرَ، فلا حرَجَ عَليّ، واللهُ شَهيدٌ على ما تعاهَدنا عَليه.

﴿۞فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارٗاۖ قَالَ لِأَهۡلِهِ امۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٖ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ﴾ [القصص:29]


ولمَّا أتَمَّ موسَى مدَّةَ عملهِ بمَديَن، ومضَى بأهلِهِ(103) نَحوَ مِصر، أبصَرَ نارًا منَ الجِهَةِ التي تَلي الجبَلِ بسَيناء، فقالَ لهم: أَقيموا مَكانَكم، لعَلِّي أجيئُكمْ مِنْ هُناكَ بخَبَرٍ يَدُلُّنا على الطَّريق، أو بشُعلَةٍ منها لتَتدَفَّؤوا بها.

(103) بامرأتهِ صفوريا وولده. (روح البيان).

﴿فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ الۡوَادِ الۡأَيۡمَنِ فِي الۡبُقۡعَةِ الۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّيٓ أَنَا اللَّهُ رَبُّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [القصص:30]


فلمَّا أتَى النَّارَ نُودِيَ مِنْ جانبِ الوادي ممَّا يَلي الجبَلَ عنْ يَمينِهِ، في القِطعَةِ المُبارَكَةِ مِنْ ناحيَةِ الشَّجَرَة: يا موسَى، إنَّ الذي يُكَلِّمُكَ هوَ أنا اللهُ ربُّ الخلائقِ أجمَعين.

﴿وَأَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰٓ أَقۡبِلۡ وَلَا تَخَفۡۖ إِنَّكَ مِنَ الۡأٓمِنِينَ﴾ [القصص:31]


وألْقِ عَصاكَ على الأرض. فلمَّا رآها تتَحرَّكُ وتَضطَرِبُ كأنَّها حيَّة، هربَ مِنَ الخَوفِ ولم يَرجِع، فناداهُ رَبُّه: يا موسَى لا تَخَفْ ممَّا ترَى، فأنتَ في سَلامٍ وأمانٍ هُنا.

﴿اسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَاضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ﴾ [القصص:32]


أدخِلْ يَدكَ في جَيبِكَ - وهوَ فَتحَةُ القَميصِ مِنْ أعلَى الصَّدرِ - ثمَّ أخرِجْها، تَخرُجْ بَيضاءَ مُتَلألِئةً تَشِعُّ نورًا، مِنْ غَيرِ مرَضٍ ولا أذًى كالبرَصِ ونَحوِه. واضْمُمْ إلى جَنْبِكَ عَضُدَكَ وذِراعَكَ ليَخِفَّ ما أصابَكَ مِنَ الرُّعب. وهاتانِ المُعجِزَتانِ: العَصا واليَد، دَليلانِ مِنَ اللهِ على صِحَّةِ نبوَّتِك، إلى فِرعَونَ وقَومِهِ مِنَ الكُبَراءِ والأتْباع، إنَّهمْ كانوا قَومًا مُخالِفينَ للحَقّ، خارِجينَ عنْ طاعَةِ الله.

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلۡتُ مِنۡهُمۡ نَفۡسٗا فَأَخَافُ أَن يَقۡتُلُونِ﴾ [القصص:33]


قالَ موسَى مُناجيًا رَبَّه: يا رَبّ، لقدْ قَتَلتُ واحِدًا مِنْ قَومِ فِرعَون، وأخافُ أنْ يَقتُلوني بهِ إذا قبضَ عَليَّ فِرعَونُ ورِجالُه.

﴿وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّي لِسَانٗا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِيَ رِدۡءٗا يُصَدِّقُنِيٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ [القصص:34]


وأخي هارونُ هوَ أكثَرُ فَصاحَةً منِّي، فاجعَلْهُ نَبيًّا مِثلِي، وأرسِلْهُ مَعي إلى فِرعَونَ ليَكونَ مُعينًا لي، يُبيِّنُ لهمْ ما أقول، ويُجادِلُهمْ بكَلامي، فإنَّي أخافُ أنْ يُكَذِّبوني فيما أقُول، ولا يُفصِحُ لِساني كثيرًا عندَ مُحاجَجتِهم. وكانتْ في لسانِهِ حُبْسَة، عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام.

﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجۡعَلُ لَكُمَا سُلۡطَٰنٗا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيۡكُمَا بِـَٔايَٰتِنَآۚ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الۡغَٰلِبُونَ﴾ [القصص:35]


فاستَجابَ لهُ رَبُّهُ وقالَ له: سنُقَوِّي أمرَكَ بأخِيك، ونُؤيِّدُ جانِبَكَ به، ونَجعَلُ لكُما حُجَّةً وبُرهانًا عَليهم، ولنْ يَقدِروا على إلحاقِ الأذَى بكما، ولنْ يَكونَ لهمْ غلَبَةٌ عَليكما، بسَبَبِ ما أيَّدْتُكما بهِ مِنْ آياتِنا الربَّانيَّةِ العَظيمَة، فأنتُما ومَنِ اتَّبعَكُما مِنَ المؤمِنينَ الغالِبونَ على القَومِ الكافِرين.

﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَا بَيِّنَٰتٖ قَالُواْ مَا هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّفۡتَرٗى وَمَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا الۡأَوَّلِينَ﴾ [القصص:36]


فلمَّا جاءَهمْ موسَى بمُعجِزاتِنا القاطِعات، ودلائلِنا الواضِحات، قالوا له: ما هذا الذي جئتَ بهِ إلاّ سِحرٌ اخترَعتَهُ مِنْ عِندِك، وما هوَ منْ عندِ الله، ولم نَسمَعْ بدَعوَةِ التَّوحيدِ التي تَدعو إليها في آبائنا وأجدادِنا السَّابقين.

﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيٓ أَعۡلَمُ بِمَن جَآءَ بِالۡهُدَىٰ مِنۡ عِندِهِۦ وَمَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ الدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [القصص:37]


وقالَ لهمْ موسَى: اللهُ أعلَمُ بمَنْ جاءَ بالهُدَى والحَقِّ مِنْ عِندِهِ سُبحانَه، أنا أمْ أنتُم، وهوَ أعلَمُ بمَنْ ستَكونُ لهُ العاقِبَةُ المَحمُودَةُ والمَرضيَّة، في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة، ولنْ يَفوزَ المشرِكون، ولنْ يَنجوا مِنَ العِقاب.

﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَـٰٓأَيُّهَا الۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى الطِّينِ فَاجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ الۡكَٰذِبِينَ﴾ [القصص:38]


وقالَ فِرعَونُ الطَّاغيَة: أيُّها السَّادَةُ والوجَهاء، إنِّي لا أعرِفُ لكمْ إلهًا غَيري.

ثمَّ توَجَّهَ إلى وزيرِهِ قائلاً له: يا هامان، اصنَعْ لي آجُرًّا، وابْنِ لي منهُ بِناءً عاليًا، لأنظُرَ إلى إلهِ موسَى، الذي ذكرَ أنَّهُ إلهُهُ وإلهُ العالَمين، وأنا أظُنُّهُ كاذِبًا في ادِّعائهِ هذا.

وقدِ اكتُشِفَ أنَّ الطِّينَ هوَ مادَّةُ بِناءِ الأهرامات، معَ خَلطِهِ بالتُّرابِ الكلسيِّ المتوَفِّرِ في المِنطَقَة، واستِخدامِ حرَارَةٍ عاليَةٍ فيه، وهوَ الآجُرّ، يَعني طَبيخَ الطِّين، أو ما يَكونُ أقوَى منه، وليسَتْ أحجارًا قُطِّعَتْ مِنْ صُخورٍ أو جِبالٍ كما ذُكِرَ مِنْ قَبل. وهيَ مِنْ صُنعِ الفَراعِنة، الذي يَدُلُّ عل جِنسِ ما قامَ بهِ هامانُ مِنْ بِناءِ الصَّرحِ العالي، الذي دمَّرهُ اللهُ تعالَى {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} {سورة الأعراف: 137}.

﴿وَاسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي الۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ الۡحَقِّ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ إِلَيۡنَا لَا يُرۡجَعُونَ﴾ [القصص:39]


وطغَى فِرعَونُ وتجبَّرَ هوَ وجنودُهُ في أرضِ مِصرَ وأكثَروا فيها الفَساد، بغَيرِ أمرِ حَقٍّ ولا نظَرِ إصْلاح، فضَلُّوا وكفَروا، وظَنُّوا أنَّهمْ لنْ يُبعَثوا بعدَ الموتِ للحِسابِ والجَزاء.

﴿فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي الۡيَمِّۖ فَانظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [القصص:40]


فجمَعنا فِرعَونَ وجُنودَهُ وألقَيناهُمْ في البَحر، وأغرَقناهُمْ فيهِ جَميعًا، فانظُرْ أيُّها الرَّسُولُ كيفَ كانَ مآلُ المُشرِكينَ المُعتَدين، ليَكونوا عِبرَةً للعالَمين.

﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى النَّارِۖ وَيَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ﴾ [القصص:41]


وجعَلناهُمْ قُدوَةً في الضَّلال، يَدعونَ إلى الكُفرِ والمَعاصِي وتَكذيبِ الرُّسُل، ممَّا يؤَدِّي بهمْ إلى النَّار، وفي يَومِ القيامَةِ لا يَنصُرُهمْ أحَد، ولا يَدفَعُ عنهمُ العَذاب.

﴿وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ فِي هَٰذِهِ الدُّنۡيَا لَعۡنَةٗۖ وَيَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ الۡمَقۡبُوحِينَ﴾ [القصص:42]


ولعَنَّاهُمْ في هذهِ الدُّنيا، ويَلعَنُهمُ المَلائكَة، والمؤمِنونَ يَلعَنونَهمْ خلَفًا عنْ سلَفٍ حتَّى قيامِ السَّاعَة، وهمْ في يَومِ القيامَةِ مِنَ المُبعَدينَ المَطرودينَ مِنْ رَحمَةِ الله، وسيَكونونَ في أَسوَإِ حالٍ وأشَدِّ عَذاب.

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَهۡلَكۡنَا الۡقُرُونَ الۡأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص:43]


ولقدْ أنزَلنا على موسَى التَّوراة، بعدَما أهلَكنا القُرونَ الأولَى، كقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ وغَيرِهم، ليَتدَبَّرَ النَّاسُ ما فيها ويتَفَكَّروا ويَعتَبِروا، وتَكونَ بَصيرَةً لهمْ مِنَ العَمَى والضَّلال، وهِدايَةً لهمْ إلى الحَقّ، ورَحمَةً تَنالُهمْ منَ الله، لعلَّهمْ بذلكَ يَتذَكَّرونَ ما فيها مِنَ المَواعِظِ وأسبابِ الهِدايَة.

﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى الۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـٰهِدِينَ﴾ [القصص:44]


وما كُنتَ - أيُّها النبيُّ - بجانبِ الجبَلِ الغَربيِّ في سَيناء، عِندَما ناجَى موسَى رَبَّه، وأحكَمنا أمرَ نبوَّتهِ وما ألزَمناهُ وقَومَه، وما كُنتَ مِنَ الحاضِرينَ لَمَّا أوحِيَ إليهِ هُناك، وهذا إخبارٌ لكَ بالغُيوبِ الماضِيَة، وهوَ مُعجِزَةٌ لكَ وبُرهانٌ على نبوَّتِك.

﴿وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَاوَلَ عَلَيۡهِمُ الۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ﴾ [القصص:45]


ولكنَّا خلَقنا بينَ زَمانِكَ وزَمانِ موسَى أُمَمًا كثيرَة، فطالَتْ عَليهمُ المُدَّة، فنَسُوا عهدَ اللهِ ومِيثاقَه، وتغيَّرَتِ الأحكامُ والشَّرائع، فكانَ لا بُدَّ مِنْ وَحيٍ جَديد، وشَريعَةٍ جَديدَة، تُجَدِّدُ عهدَ النَّاسِ برَبِّهم.

وما كُنتَ مُقيمًا بينَ أهلِ مَدْيَنَ مثلَ موسَى وشُعَيبٍ عَليهِما السَّلامُ تُذَكِّرُهمْ وتَعِظُهم، ولكنَّا بَعثناكَ رَسُولاً، وأنزَلنا عَليكَ الكِتاب، ولولا ذلكَ لَما عرَفتَ خبَرَهما وخبَرَ غَيرِهما مِنَ الأنبِياءِ والأُمَم.

﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذۡ نَادَيۡنَا وَلَٰكِن رَّحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص:46]


ولم تَكُنْ مَوجودًا – كذلكَ - بناحيَةِ الجبَلِ وقتَ نِدائنا موسَى وتَكليفِهِ بدَعوَةِ فِرعَونَ وقَومِه، ولكنْ أرسَلناكَ بالقُرآنِ لتُنذِرَ بهِ قَومَكَ أوَّلاً، وهذا مِنْ رَحمَةِ اللهِ بهم، أنْ قَصَّ عَليهمْ مثلَ هذهِ الأنبَاء، ولم يُرسَلْ إليهمْ رَسولٌ منذُ عهدِ إسماعيلَ عَليهِ السَّلام. أو أنَّ المَقصودَ بالقَومِ أهلُ الفَترَة، بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلام، وهيَ نحوُ ستَّةِ قُرون؛ ليَتَّعِظوا بإنذارِك، ولعلَّهمْ يَهتَدون.

﴿وَلَوۡلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوۡلَآ أَرۡسَلۡتَ إِلَيۡنَا رَسُولٗا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [القصص:47]


ولو أصَابَتْهُمْ عُقوبَةٌ بسبَبِ كُفرِهمْ ومَعاصِيهم، لقالوا: ربَّنا هلاّ أرسَلتَ إلينا رَسُولاً مِنْ عندِكَ مُؤيَّدًا بمُعجِزاتٍ، فنَتَّبِعَ آياتِكَ الظَّاهِرَةَ على يَديه، ونَكونَ مِنَ المؤمِنينَ بما جاءَ بهِ مِنْ عندِك؟

﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الۡحَقُّ مِنۡ عِندِنَا قَالُواْ لَوۡلَآ أُوتِيَ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰٓۚ أَوَلَمۡ يَكۡفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۖ قَالُواْ سِحۡرَانِ تَظَٰهَرَا وَقَالُوٓاْ إِنَّا بِكُلّٖ كَٰفِرُونَ﴾ [القصص:48]


ولمَّا جاءَ أهلَ مكَّةَ الأمرُ الحَقُّ المُنْزَلُ مِنْ عِندِنا، وهوَ القُرآن، قالوا: هلاَّ أُوتيَ محمَّدٌ مِنَ المُعجِزاتِ كما أُوتيَ موسَى منها؟

أوَ لمْ يَكفُرْ فِرعَونُ وقَومُهُ بالآيَاتِ التي أُيِّدَ بها موسَى، كما كفرَ مُشرِكو مَكَّةَ بمُعجِزَةِ القُرآن الذي أُنزِلَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنَّ محمَّدًا وموسَى ساحِرانِ تَعاوَنا بتَصديقِ كُلِّ واحِدٍ منهما الآخَرَ وتأييدِهِ إيَّاه، وقالوا: نحنُ نَكفرُ بالتَّوراةِ والقُرآن!

﴿قُلۡ فَأۡتُواْ بِكِتَٰبٖ مِّنۡ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهۡدَىٰ مِنۡهُمَآ أَتَّبِعۡهُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [القصص:49]


قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: فهاتُوا كِتابًا آخرَ مِنْ عندِ اللهِ يَكونُ أعظمَ وأجلَّ مِنَ القُرآنِ والتَّوراةِ أَسِرْ على هَديه، إذا كنتُمْ صَادقينَ في قَولِكمْ بأنَّهما غَيرُ مُوحًى بهما مِنْ عندِ الله.

والتَّوراةُ أعظَمُ كتابٍ سَماويٍّ بعدَ القُرآن، وقدْ حكمَ بها نَبيُّونَ كُثُرٌ بعدَ موسَى عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، والإنجِيلُ نزلَ مُتَمِّمًا لها. وقدْ بُدِّلا وحُرِّفا، ونُسِخَتْ جَميعُ الكتبِ السَّماويَّةِ بالقُرآنِ الكريم.

﴿فَإِن لَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكَ فَاعۡلَمۡ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهۡوَآءَهُمۡۚ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيۡرِ هُدٗى مِّنَ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [القصص:50]


فإذا لم يَستَجِبِ المشرِكونَ لِما جِئتَهمْ بهِ مِنْ عندِ الله، فاعلمْ أنَّ مَوقِفَهمْ هذا ليسَ عنْ حُجَّةٍ ودَليل، بلْ هوَ عِنادٌ مِنْ عندِ أنفُسِهم، ومُتابَعَةٌ لأهوَائهمُ الضَّالَّةِ وأفكارِهمُ الزَّائغَة، وليسَ هُناكَ أضَلُّ ممَّنْ تابعَ هَواهُ ورَغبتَهُ بغَيرِ دَليلٍ مِنَ اللهِ العَليمِ الحَكيم، واللهُ لا يَهدي مَنْ ظلمَ نَفسَهُ فأعرَضَ عنِ الدِّينِ الحَقِّ واتَّبعَ هَواه.

﴿۞وَلَقَدۡ وَصَّلۡنَا لَهُمُ الۡقَوۡلَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص:51]


ولقدْ أنزَلنا القُرآنَ مُتواصِلاً بَعضَهُ إثْرَ بَعض، بحَسبِ ما تَقتَضيهِ الحِكمَة، ليَتذَكَّرَ القَومُ بذلكَ أمرَ اللهِ بعدَ كُلِّ قِصَّةٍ وحادِثَةٍ وخبَر، وليَكونَ أكثرَ تأثيرًا في نفُوسِهم.

﴿الَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِهِۦ هُم بِهِۦ يُؤۡمِنُونَ﴾ [القصص:52]


العُلماءُ الأولياءُ الذينَ آتَيناهمُ الكِتابَ مِنْ قَبل، همُ الذينَ يؤمِنونَ بالقُرآن.

﴿وَإِذَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦٓ إِنَّهُ الۡحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلِهِۦ مُسۡلِمِينَ﴾ [القصص:53]


إنَّهمْ مؤمِنو أهلِ الكِتاب، الذينَ إذا سَمِعوا آياتِ القُرآنِ تُتلَى عَليهمْ قالوا: آمَنَّا بأنَّهُ كلامُ اللهِ تعالَى، إنَّهُ الحَقُّ الذي كُنَّا نَعرِفُهُ في كتُبِنا، فقدْ كُنَّا مُسلِمينَ مُوَحِّدينَ قَبلَ نُزولِ القُرآن، وكنَّا مُصَدِّقينَ بالرَّسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ذكرَ صِفَتِهِ والحَديثَ عنِ القُرآنِ مَوجودٌ في التَّوراةِ والإنجِيل.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِالۡحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ﴾ [القصص:54]


أولئكَ المؤمِنونَ منْ أهلِ الكِتابِ يُعطَونَ ثَوابَهمْ مرَّتين، لإيمانِهمْ بكتابِهمْ أوَّلاً، ثمَّ لإيمانِهمْ بالقُرآنِ الكريم؛ وذلكَ لصَبرِهمْ وثَباتِهمْ على الحقّ. وهمْ يَدفَعونَ الأذَى بالعَفوِ والمَغفِرَة، ويُنفِقونَ ممَّا رزَقناهُمْ مِنَ الحَلالِ في طاعَةِ الله.