تفسير الجزء 20 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العشرون
20
سورة النمل (56-93)
سورة القصص
سورة العنكبوت (1-45)

﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي الۡجَٰهِلِينَ﴾ [القصص:55]


وإذا سَمِعوا القَبيحَ مِنَ القَول، والأذَى والسبَّ مِنَ المشرِكين، أعرَضوا عَنهم، وقالوا في حِلْمٍ وأناة: لَنا حِلْمُنا ولكمْ سفَهُكم، أو لَنا دِينُنا ولكمْ دِينُكم، لا نَشتُمُكمْ كما تَشتُمونَنا، لا نُريدُ مَسلَكَ الجاهِلين، ولا نُحِبُّ صُحبتَهمْ ولا مُجاورَتَهم.

﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُهۡتَدِينَ﴾ [القصص:56]


إنَّكَ أيُّها الرَّسولُ لا تَقدِرُ على أنْ تَهديَ مَنْ أحبَبتَ هِدايتَه، إنَّما عَليكَ البَلاغ، واللهُ يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى الإسْلام، وهوَ أعلَمُ بمَنْ يَستَحِقُّ الهِدايَةَ ممَّنْ يَستَحِقُّ الضَّلال.

وقدْ ثبتَ في الصَّحيحَينِ أنَّها نزَلَتْ في أبي طالِبٍ عَمِّ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، فقدْ عرَضَ عَليهِ الإسلامَ قُبَيلَ وفاتِهِ فأبَى؛ خَوفًا مِنْ أنْ تُعَيِّرَهُ قُرَيشٌ بذلك!

﴿وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ الۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [القصص:57]


وقالَ المشرِكونَ للرَّسولِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: إذا اتَّبَعْنا دِينَ الإسْلامِ فسيَجتَمِعُ العرَبُ عَلَينا ويُخرِجونَنا مِنْ دِيارِنا. وقدْ كذَبوا، ألا يَرَى هؤلاءِ المشرِكونَ كيفَ عصَمنا دِماءَهمْ وجعَلناهُمْ في حرَمٍ آمِن، بحُرمَةِ بيتِ الله، بينَما العرَبُ مِنْ حَولِ مكَّةَ يتَقاتَلونَ ويَتذابَحون؟ ويُجلَبُ إلى مكَّةَ أنواعُ الثِّمارِ والبَضائعِ الموجودَةُ مِنْ حولِها وهمْ بوادٍ غَيرِ ذي زَرع، رِزقًا مِنْ عندِنا، ولكنَّ أكثرَهمْ لا يَتدَبَّرونَ ذلك، ولا يَتفَكَّرونَ فيما يَقولُهُ اللهُ بحَقّ، ولذلكَ قالُوا ما قالُوا.

﴿وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۭ بَطِرَتۡ مَعِيشَتَهَاۖ فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ وَكُنَّا نَحۡنُ الۡوَٰرِثِينَ﴾ [القصص:58]


وقدْ أهلَكنا كثيرًا مِنْ أهلِ القُرَى، الذينَ طغَوا وبَطِروا وكفَروا بنِعمَةِ اللهِ ولم يُقَدِّرُوها، وهذهِ آثارُ مساكنِهمُ التي دَمَّرْناها، تَمرُّونَ بها في أسفَارِكم، لم تُسكَنْ مِنْ بَعدِهم، إلاّ سَكنًا قَليلاً، مِنْ قِبَلِ المارَّةِ والمسافِرين، ونحنُ الذينَ نُميتُهم، ثمَّ يَرجِعُ إلَينا جَميعُ ما آتَيناهُمْ مِنَ النِّعَمِ التي كانوا يَتفاخَرونَ بها، ونُحاسبُهمْ عَليها.

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ الۡقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبۡعَثَ فِيٓ أُمِّهَا رَسُولٗا يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِي الۡقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَٰلِمُونَ﴾ [القصص:59]


واللهُ لا يُهلِكُ أهلَ مَدينَةٍ أو قَريَةٍ حتَّى يَبعثَ في أعظَمِها رَسولاً يُنذِرُهمْ ويُبَيِّنُ لهمْ ما يأتونَ وما يَذَرون، ممَّا نوحي إليهِ مِنْ آياتِنا النَّاطِقَةِ بالحَقّ، ولا نُهلِكُ أحدًا منهمْ إلاّ إذا كذَّبوهُ وكفَروا بآياتِنا ونِعَمِنا عَليهم.

﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَزِينَتُهَاۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [القصص:60]


وما كسَبتُمْ مِنْ مَالٍ أو أحرَزتُمْ أمرًا مِنْ أمُورِ الدُّنيا، فهوَ مَتاعٌ قَليلٌ وزِينَةٌ مؤقَّتَةٌ مَصيرُها الزَّوالُ والفَناء، وما أَعَدَّهُ اللهُ لعِبادِهِ المؤمِنينَ مِنَ الثَّوابِ العَظيمِ والنَّعيمِ المُقيم، أفضَلُ وأبقَى، فالبَاقي خَيرٌ مِنَ الفاني، أفلا تتَفهَّمونَ ذلكَ وتَتدَبَّرونَ ما يَقولُ لكمْ رَبُّكم؟

﴿أَفَمَن وَعَدۡنَٰهُ وَعۡدًا حَسَنٗا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعۡنَٰهُ مَتَٰعَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا ثُمَّ هُوَ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ مِنَ الۡمُحۡضَرِينَ﴾ [القصص:61]


وهلْ يَستَوي مَنْ وعَدناهُ الجنَّةَ والنَّعيمَ المُقيمَ مِنَ المؤمِنين، فهمْ مُدرِكونَهُ لا مَحالَة، ومَنْ مَتَّعناهُ في الدُّنيا بمالٍ فانٍ ونَعيمٍ زائلٍ مِنَ الكافِرين، معَ ما فيها منَ المُنَغِّصاتِ والهُمومِ والأمرَاض، ثمَّ يُحضَرونَ يَومَ القِيامَةِ للعَذاب؟

﴿وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ فَيَقُولُ أَيۡنَ شُرَكَآءِيَ الَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ﴾ [القصص:62]


ويُنادِيهمُ اللهُ في ذلكَ اليَومِ الرَّهيب، تَوبيخًا وإهانَةً لهم: أينَ هيَ الأصْنامُ التي زَعَمتُمْ أنَّها آلِهَة، وجعَلتُموها شُرَكاءَ مَعي في العِبادَة؟

﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيۡهِمُ الۡقَوۡلُ رَبَّنَا هَـٰٓؤُلَآءِ الَّذِينَ أَغۡوَيۡنَآ أَغۡوَيۡنَٰهُمۡ كَمَا غَوَيۡنَاۖ تَبَرَّأۡنَآ إِلَيۡكَۖ مَا كَانُوٓاْ إِيَّانَا يَعۡبُدُونَ﴾ [القصص:63]


قالَ الذينَ وجبَ عَليهمُ العَذاب، مِنَ الشَّياطينِ ودُعاةِ الكُفرِ والضَّلال: هؤلاءِ الذينَ أضلَلناهُمْ لمْ نُكْرِهْهُمْ على اتِّباعِنا، بلْ زَيَّنَّا في قُلوبِهمُ الكُفرَ والضَّلالَ كما هوَ نحنُ عَليه، فاستَجابوا لَنا وصَاروا ضُلاّلاً، ونحنُ نتبَرَّأُ إليكَ ممَّا اختارُوهُ مِنَ الكُفرِ والمَعاصي لهوًى في نفُوسِهم، وما كانوا يَعبدونَنا، بلْ كانوا يَعبدُونَ أهواءَهمْ وشَهواتِهم.

﴿وَقِيلَ ادۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَرَأَوُاْ الۡعَذَابَۚ لَوۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ يَهۡتَدُونَ﴾ [القصص:64]


وقيلَ للمُشرِكين: أينَ همْ شُرَكاؤكمُ الذينَ جعَلتُموهُمْ آلِهَة؛ ليُخَلِّصوكُمْ ممّا أنتُمْ فيهِ مِنَ العَذابِ والهَوان، وقدْ كنتُمْ تَزعُمونَ في الدُّنيا أنَّهمْ سيَنصُرونَكم؟ فنادَوهم، فلمْ يُجيبُوهم، ورأوا العَذابَ أمامَهم، وعرَفوا أنَّهمْ صَائرونَ إليه، ووَدُّوا حينَئذٍ لو كانوا مِنَ المؤمِنينَ المُهتَدين.

﴿وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبۡتُمُ الۡمُرۡسَلِينَ﴾ [القصص:65]


وفي ذلكَ اليَومِ يَسألُ اللهُ الكافِرين: ماذا كانَ جوابُكمْ للأنبِياءِ الذينَ أرسَلتُهمْ إليكم؟

﴿فَعَمِيَتۡ عَلَيۡهِمُ الۡأَنۢبَآءُ يَوۡمَئِذٖ فَهُمۡ لَا يَتَسَآءَلُونَ﴾ [القصص:66]


فعَمُوا عنِ الأنبَاء، وخَفِيَتْ واشتَبهَتْ عَليهمُ الأخبَارُ والأعذَار، ولم يَهتَدوا إلى الحُجَجِ والأدِلَّةِ التي كانوا يواجِهونَ بها الأنبِياءَ في الحياةِ الدُّنيا عِنادًا واستِكبارًا، وعَلِموا أنَّها لنْ تُفيدَهمْ شَيئًا، فما كانَ يَسألُ بَعضُهمْ بَعضًا عنْ ذلكَ ليَردُّوا على السُّؤال.

﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَعَسَىٰٓ أَن يَكُونَ مِنَ الۡمُفۡلِحِينَ﴾ [القصص:67]


فأمَّا مَنْ تابَ مِنَ الشِّرك، وجمعَ بينَ الإيمَانِ الصَّحيحِ والعمَلِ الحسَنِ في الدُّنيا، فعسَى أنْ يَكونوا مِنَ السُّعَداءِ النَّاجينَ يَومَ القيامَة. و "عسى" مِنَ اللهِ الكريمِ تَحقيق، إذا داوَموا على التَّوبَةِ والإيمَان.

﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ الۡخِيَرَةُۚ سُبۡحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [القصص:68]


واللهُ يَخلقُ ما يَشاء، مِنْ ذَوي الأروَاح، ومِنَ النَّباتِ والجَماد، وهوَ الذي يَختارُ ما يَشاء، ويتَصرَّفُ كما يُريد، ويُوَجِّهُ الأمورَ كما يَشاء، لا يُنازِعُهُ ولا يُشارِكُهُ في ذلكَ أحَد، ولا يُقتَرَحُ عَليهِ شَيء، وما شاءَ هوَ الذي يَكون، وما لم يَشَأ لم يَكن. وما كانَ لأحَدٍ أنْ يَختارَ ومَرجِعُ الأمُورِ كُلِّها إلى الله، تنَزَّهَ وتقدَّسَ أنْ يُشرِكَهُ في اختيارِهِ أحَد، كالأصْنامِ والأندادِ وغيرِها ممّا يُدَّعَى أُلوهيَّتُه.

﴿وَرَبُّكَ يَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ﴾ [القصص:69]


واللهُ يَعلَمُ ما تَنطَوي عليهِ سَرائرُهم، وما تُخفي صُدورُهمْ مِنَ النيَّاتِ والاعتِقادات.

﴿وَهُوَ اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ الۡحَمۡدُ فِي الۡأُولَىٰ وَالۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُ الۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [القصص:70]


وهوَ اللهُ ذو الأُلوهيَّةِ والمَعبوديَّةِ على خَلقِهِ أجمَعين، لا مَعبودَ بحَقٍّ سِوَاه، ولا رَبَّ يَخلُقُ ويَختارُ سِواه، وهوَ المَحمودُ في كُلِّ ما يَفعَلُ ويَختار، في الدُّنيا وفي الآخِرَة، لعَدْلِهِ وحِكمَتِه، ولهُ الحُكمُ النَّافِذُ في كُلِّ شَيء، ولا رادَّ لِما يَقضي، ولا مُعَقِّبَ لِما يَحكُم، وإليهِ تُرجَعونَ جَميعًا يَومَ البَعث، ليُجازي كُلاًّ بما عَمِل.

﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيۡكُمُ الَّيۡلَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ اللَّهِ يَأۡتِيكُم بِضِيَآءٍۚ أَفَلَا تَسۡمَعُونَ﴾ [القصص:71]


قُلْ للمُشرِكينَ أيُّها الرَّسُول: أخبِروني، إذا أدامَ اللهُ عَليكمُ ظَلامَ اللَّيلِ إلى قيامِ السَّاعَة، مَنْ غَيرُهُ يَقدِرُ على أنْ يَأتيَ بنَهارٍ تُبصِرونَ فيهِ وتَعمَلون، ألا تَسمَعونَ وتُفَكِّرون، وتَفهَمونَ فتُؤمِنون؟

﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيۡكُمُ النَّهَارَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ اللَّهِ يَأۡتِيكُم بِلَيۡلٖ تَسۡكُنُونَ فِيهِۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾ [القصص:72]


وقُلْ لهم: أرأيتُمْ لو أدامَ اللهُ عَليكُمُ النَّهارَ بضِيائهِ وحَرِّهِ إلى قيَامِ السَّاعَة، مَنْ غَيرُ اللهِ يأتيكمْ بلَيلٍ تَستَريحونَ فيهِ مِنْ عمَلِ النَّهار، أفلا ترَونَ ما يُحيطُ بكمْ مِنَ الآياتِ الدالَّةِ على قُدرَةِ اللهِ ووَحدانيَّتِه؟

﴿وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ الَّيۡلَ وَالنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [القصص:73]


فكانَ مِنْ فَضلِ اللهِ ونِعمَتِهِ عَليكمْ أنْ خلقَ لكمُ اللَّيلَ لتَسكنوا فيهِ وتَستَريحوا مِنْ عمَلِ النَّهار، وخلقَ النَّهارَ لتَعمَلوا فيهِ وتَطلبُوا الرِّزق، لتَعرِفوا نِعمَةَ ربِّكمْ بذلكَ وتَشْكروهُ عَليها.

﴿وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ فَيَقُولُ أَيۡنَ شُرَكَآءِيَ الَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ﴾ [القصص:74]


ويَومَ القِيامَةِ يُقولُ اللهُ لمَنْ عبدُوا معَهُ آلهةً أُخرَى، تَوبيخًا وإهانَةً لهم: أينَ همْ شُرَكائيَ الذينَ زَعَمتُمْ أنَّهمْ آلِهَة، وأشرَكتُموهُمْ مَعي في العِبادَة؟

﴿وَنَزَعۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا فَقُلۡنَا هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ فَعَلِمُوٓاْ أَنَّ الۡحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [القصص:75]


وأخرَجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ نبيَّهمُ الذي أُرسِلَ إليهمْ ليَشهدَ عَليهمْ بما كانوا عَليه، وقُلنا للمُشرِكينَ يَومَئذ: هاتُوا دَليلَكمْ على صِحَّةِ ما ادَّعَيتُموهُ مِنْ أنَّ للهِ شُرَكاء. فعَلِموا أنَّهُ الإلهُ الواحِدُ الذي لا شَريكَ له، وغابَ عَنهمْ ما كانوا يَدَّعونَهُ مِنَ الشِّركِ في الدُّنيا.

﴿۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ الۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِالۡعُصۡبَةِ أُوْلِي الۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الۡفَرِحِينَ﴾ [القصص:76]


إنَّ قارونَ الغَنيَّ كانَ مِنْ بَني إسْرائيل، في عَصرِ موسَى عَليهِ السَّلام، فتكبَّرَ على قَومِهِ وظلمَهم، وأعطَيناهُ مِنَ الأمْوالِ المُدَّخَرَةِ ما إنَّ مفاتيحَ خزائنِهِ يَثقُلُ حَمْلُها على جَماعَةٍ قَويَّةٍ مِنَ النَّاس، لكَثرَتِها، فقالَ لهُ صالِحو قَومِهِ يَنصَحونَه، لا تَبْطَرْ ولا تَتفاخَرْ بما أُوتِيتَ مِنْ مَال، فاللهُ لا يُحِبُّ الأَشِرينَ البَطِرين، الذينَ يتطاوَلونَ على النَّاس، ولا يَشكرونَ اللهَ على ما أغناهُمْ بهِ وأنعَمَ عَليهم.

﴿وَابۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ اللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ الۡفَسَادَ فِي الۡأَرۡضِۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [القصص:77]


واطلُبْ بهذهِ الأموَالِ التي أعطاكَها اللهُ طاعتَهُ وشُكرَهُ والإنفاقَ منها فيما يُرضِيه، ليَجلُبَ لكَ ذلكَ الرِّضَى والثَّوابَ في الدَّارِ الآخِرَة، ولا تَترُكْ حظَّكَ مِنَ الدُّنيا، ممَّا أحلَّ اللهُ لكَ منها مِنَ المأكَلِ والمَشرَبِ والمَلبَس، والمَسكَنِ والمَنْكَح، وأَحسِنْ بطاعَةِ اللهِ كما أحسَنَ إليكَ بنِعمَتِه، وأحسِنْ إلى خَلقِهِ كما أحسَنَ هوَ إليك، ولا تَطلُبْ بأموالِكَ الفسَادَ في الأرضِ والإساءَةَ إلى الخَلق، واللهُ لا يُحِبُّ مَنْ أفسدَ وعصَى، وأجرمَ وبَغَى.

﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ أَوَلَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ اللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ الۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [القصص:78]


قالَ لهمْ قارُونَ غَيرَ آبِهٍ بنُصحِهم: هذهِ الأموَالُ التي عِندي حصَّلتُها بعِلمي وخِبرَتي في المَكسَبِ والتِّجارَة. أوَلمْ يَسمَعْ قارونُ مِنْ كلامِ الأنبِياءِ أو ممَّا يَقُصُّهُ النَّاسُ أنَّ اللهَ قدْ أهلكَ مِنْ قَبلِهِ مِنَ القُرونِ الماضيَةِ مَنْ كانَ أشَدَّ قُوَّةً منهُ وأكثرَ جَمعًا للأموَالِ والخَدَمِ والحشَم، ولم يَكنْ ذلكَ عنْ محَبَّةٍ لهم، ولذلكَ أهلَكَهم؛ لكُفرِهم، وعدَمِ شُكرِهمْ لنِعَمِ اللهِ عَليهم.

ولا يُسألُ ُأمثالُ هؤلاءِ المشرِكينَ المُجرِمينَ عنْ ذُنوبِهمْ يَومَ القيامَة، لكَثرَتِها التي تُوجِبُ العَذاب، وكفى بالشِّرْكِ مُوجِبًا للعَذاب، فيَدخُلونَ النَّارَ بغَيرِ سُؤالٍ ولا حِساب، وإنَّما يُسألونَ سُؤالَ تَقريعٍ وتَوبِيخ.

﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ﴾ [القصص:79]


وفي يَومِ خُروجِ قارُونَ على قَومِهِ بزِينَةٍ عَظيمَةٍ ومَوكبٍ فاخِر، معَ خدَمِهِ وحشَمِه، قالَ الذينَ يُريدونَ زُخرُفَ الدُّنيا وزِينتَها: يا لَيتَ لنا مِنَ الأموَالِ والخدَمِ والزِّينَةِ مثلَما أُعطِيَ قارُون، لا شَكَّ أنَّهُ ذو حَظٍّ وافِرٍ وحَياةٍ سَعيدَة.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ اللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا الصَّـٰبِرُونَ﴾ [القصص:80]


وقالَ لهمْ أهلُ العِلمِ والتَّقوَى: بئسَ ما قُلتُم، إنَّ ما عندَ اللهِ مِنَ الثَّوابِ والأجْرِ في اليَومِ الآخِرِ أفضَلُ ممَّا تتَمَنَّونَهُ في الحيَاةِ الدُّنيا، هذا لمَنْ آمنَ بصِدقٍ وعَمِلَ العمَلَ الصَّالِح، ولا يُؤتَى ذلكَ إلاّ الصَّابِرونَ على طاعَةِ الله، الصابِرونَ عنِ المعاصِي والشَّهوات.

﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ الۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الۡمُنتَصِرِينَ﴾ [القصص:81]


وفي يَومِ زِينَتهِ وفَخرِهِ وطُغيانِهِ خسَفنا بهِ وبِدارِهِ وأموالِهِ الأرْض، فابتلَعَتْهم، وغارَتْ بهم، فما كانتْ هُناكَ جَماعَةٌ مِنْ أنصارِهِ تَدْفَعُ عنهُ نِقمَةَ اللهِ وعَذابَه، وما كانَ هوَ قادِرًا على الانتِصارِ لنَفسِه.

﴿وَأَصۡبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِالۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ اللَّهَ يَبۡسُطُ الرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [القصص:82]


وأصبَحَ الذينَ رَأوا قارُونَ في زِينَتِهِ وتمَنَّوا أنْ يَكونُوا في مَكانِهِ ومَنزِلَتِه بالأمسِ القَريبِ يَقولون، وقدْ نَدِموا على ما قالُوا: عجبًا! إنَّ اللهَ سُبحانَهُ يُعطي المالَ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ولا يَعني هذا أنَّهُ يُحِبُّهمْ ويَرضَى عَنهم، ويَمنَعُهُ ممَّنْ يَشاءُ ولا يَعني أنَّهُ يَكرَهُهمْ ويُهينُهم، فلَهُ الحِكمَةُ في ذلك، ولولا لُطْفُ اللهِ بنا وتَجاوزُهُ عنْ تَقصيرِنا فيما تَمنَّيناه، لخسَفَ بنا الأرْضَ كما خسَفَ بقارُون. ألمْ ترَ أنَّ الكافِرينَ بنِعمَةِ اللهِ لا يَسعَدونَ ولا يَفوزون؟

﴿تِلۡكَ الدَّارُ الۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي الۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَالۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾ [القصص:83]


تلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ ونَعيمُها المُقيم، نَجعَلُها لعِبادِنا المؤمِنينَ المُتَواضِعين، الذينَ لا يَتعاظَمونَ ولا يَتجَبَّرونَ على الخَلق، ولا يَبغونَ ظُلمًا وعُدوانًا عَليهم، والعاقِبَةُ الحَميدَةُ لمَنْ كانَ صالِحًا تَقيًّا.

﴿مَن جَآءَ بِالۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّـَٔاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [القصص:84]


مَنْ جاءَ بالحسَنةِ يَومَ القِيامَة، فلَهُ ثَوابٌ أكبَرُ منها وأفضَل، ومَنْ جاءَ بالسَّيِّئة، فلا يُجزَى المُسِيؤونَ إلاّ بمِقدارِ ما عَمِلوا مِنْ سَيِّئات، ولا يُزادونَ عَليها(104).

(104) مَن جاءَ اللهَ يومَ القيامةِ بإخلاصِ التوحيد، فلهُ خير، وذلكُ الخيرُ هو الجنةُ والنعيمُ الدائم، ومَن جاءَ بالسيِّئة، وهي الشركُ بالله، فلا يُثابُ إلاّ جزاءَ ما كانَ يعمل. (الطبري، باختصار). أي: ثوابُ الله خيرٌ من حسنةِ العبد، فكيف والله يضاعفهُ أضعافاً كثيرة؟.. (ابن كثير). {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}: كالشركِ والرياءِ والجهلِ ونحوها... (روح البيان).

﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيۡكَ الۡقُرۡءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٖۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ مَن جَآءَ بِالۡهُدَىٰ وَمَنۡ هُوَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾ [القصص:85]


إنَّ الذي أنزلَ عَليكَ القُرآنَ أيُّها الرَّسُول، وأوجبَ عليكَ العملَ بهِ وتَبليغَهُ للنَّاس، سيُعيدُكَ إلى مَولِدِكَ بمَكَّةَ كما أُخرِجتَ منها، وقُلْ لِمَنْ خالفَكَ وكذَّبَك: إنَّ اللهَ أعلَمُ بمَنْ هوَ مُهتَدٍ وهوَ على صِراطٍ مُستَقيم، ومَنْ هوَ في ضَلالٍ وخطأ ظاهِر.