تفسير الجزء 20 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العشرون
20
سورة النمل (56-93)
سورة القصص
سورة العنكبوت (1-45)

﴿وَمَا كُنتَ تَرۡجُوٓاْ أَن يُلۡقَىٰٓ إِلَيۡكَ الۡكِتَٰبُ إِلَّا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرٗا لِّلۡكَٰفِرِينَ﴾ [القصص:86]


وما كُنتَ تَظُنُّ أنَّكَ ستَكونُ نَبيًّا يُوحَى إليكَ بهذا القُرآن، ولكنْ أنزلَهُ اللهُ رَحمَةً منهُ بكَ وبالعِباد، وإذا منحَكَ اللهُ هذهِ النِّعمَةَ العَظيمَة، فلا تَكنْ عَونًا للكافِرينَ على دينِهم، بلْ عادِهِمْ وخالِفْهم.

﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنۡ ءَايَٰتِ اللَّهِ بَعۡدَ إِذۡ أُنزِلَتۡ إِلَيۡكَۖ وَادۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [القصص:87]


ولا تهتَمَّ بالمشرِكينَ ومَكائدِهم، ولا تَدَعْ لاقتِراحاتِهمْ ومُلابساتِهمْ تأثيرًا عَليكَ، فيَكونوا سبَبًا لمَنعِكَ مِنْ قِراءَةِ القُرآنِ وتَبليغِه، بعدَ أنْ أنزلَهُ اللهُ عَليكَ واصطَفاكَ مِنْ بَينِ النَّاسِ لتَبليغِه، وادْعُ إلى عِبادَةِ رَبِّكَ وحدَهُ لا شَريكَ له، ولا تَكنْ مِنَ المشرِكينَ بمُظاهَرَتِهمْ وإعانَتِهمْ على ضَلالِهم.

وظاهِرُ الخِطابِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمُرادُ تَحذيرُ أُمَّتِه.

﴿وَلَا تَدۡعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۘ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ الۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [القصص:88]


ولا تَعبُدْ معَ اللهِ أحَدًا، فلا عِبادَةَ إلاّ لهُ جَلَّ جَلالُه، كُلُّ شَيءٍ سيَفنَى ويَعْدَمُ إلاّ ذاتَهُ العَليَّة، فهوَ الحَيُّ القَيُّوم، الذي يَبقَى ويَدومُ ولا يَموت، لهُ القضاءُ النَّافِذُ في مُلكِه، لا يُشارِكُهُ فيهِ أحَد، وإليهِ تُرجَعونَ يَومَ القِيامَة، ليُحاسِبَكمْ على أعمالِكم، ويُجازيَكمْ عَليها بما تَستَحِقُّون.

سورة العنكبوت - مكية - عدد الآيات: 69

29

﴿الٓمٓ﴾ [العنكبوت:1]


حروفٌ مُقَطَّعَةٌ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حديثٌ ثابِتٌ صَحيح.

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ﴾ [العنكبوت:2]


أظَنَّ النَّاسُ أنَّهمْ سيُترَكونَ أنْ يَقولوا آمَنَّا دونَ أنْ يُبْتَلوا في أنفُسِهمْ وأمْوالِهم، ليَتبيَّنَ الصَّادِقُ في إيمانِهِ مِنَ الكاذِب، والمُخلِصُ مِنَ المُنافِق؟

﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ الۡكَٰذِبِينَ﴾ [العنكبوت:3]


ولقدِ اختبَرنا المؤمِنينَ مِنْ قَبلِهم، فليُميِّزَنَّ اللهُ الذينَ صدَقوا في قَولِهمْ آمَنَّا، والكاذِبينَ منهمْ في ذلك، بأوامِرِنا ونَواهينا لهم، فيتبَيَّنُ المُطيعُ والعاصِي منهم.

﴿أَمۡ حَسِبَ الَّذِينَ يَعۡمَلُونَ السَّيِّـَٔاتِ أَن يَسۡبِقُونَاۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾ [العنكبوت:4]


أمْ ظَنَّ الذينَ يَعصُونَ ويُفسِدونَ أنَّهمْ سيُعجِزونَنا فلا نتمَكَّنُ مِنْ مُحاسبَتِهمْ والانتِقامِ منهم؟ ألا بئسَ ما حكَموا بهِ حينَ ظَنُّوا ذلك.

﴿مَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَأٓتٖۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [العنكبوت:5]


مَنْ كانَ يؤمِنُ بالبَعثِ بعدَ الموتِ، والحِسابِ على الأعمال، ويِرجو الثَّوابَ عَليها مِنْ رَبِّه، فإنَّ السَّاعَةَ آتيَةٌ لا رَيْبَ فيها، والثَّوابَ والعِقابَ مُحَقَّقّ، ولنْ يُخَيِّبَ اللهُ راجيَ رِحمَتِهِ مادامَ عَمِلَ صالِحًا. وهوَ سُبحانَهُ يَسمَعُ دُعاءَ عِبادِه، ويَعلَمُ طاعتَهمْ وإخلاصَهم.

﴿وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفۡسِهِۦٓۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:6]


ومَنْ جاهَدَ في طاعَةِ اللهِ تعالَى، فإنَّ مَنفعَةَ جِهادِهِ وطاعَتِهِ تَعودُ على نَفسِه، واللهُ غَيرُ مُحتاجٍ إلى عِبادَةِ العِباد، ولا يَضُرُّهُ مَعصِيَتُهم.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَحۡسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [العنكبوت:7]


والذينَ آمَنوا وأخلَصوا، وقامُوا بأعمَالِ صالِحَةٍ تُوافِقُ شَريعَةَ رَبِّهم، لنَعفُوَنَّ عَنهم، ونَمحوَ عَنهمْ ما اقتَرَفوهُ مِنْ سَيِّئات، ونُثيبُهمْ على أعمالِهمُ الصَّالِحَةِ التي عَمِلوها أحسنَ الثَّواب.

﴿وَوَصَّيۡنَا الۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [العنكبوت:8]


وأمَرنا الإنسَانَ بالإحسَانِ إلى والِدَيه، يَبَرُّهما ويَعطِفُ عَليهما، ويَتعَهَّدُهما ويُشفِقُ عَليهِما، ويُنفِقُ عَليهِما. وإذا حرَصا على أنْ تُشرِكَ بي شَيئًا لا يَصِحُّ ولا يَستَقيم، ولكنَّهُ عَقيدَتُهما، فلا تَسمَعْ منهما، ولا تُطِعْهُما فيه، فـ"لا طاعَةَ لمَخلوقٍ في مَعصِيَةِ الله" كما صَحَّ في الحَديث. ثمَّ إليَّ مَرجِعُكمْ جَميعًا، مَنْ آمَنَ ومَنْ كفَر، لأَجزيَ كُلاًّ بما عَمِل.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ لَنُدۡخِلَنَّهُمۡ فِي الصَّـٰلِحِينَ﴾ [العنكبوت:9]


والذينَ آمَنوا وصدَقوا في إيمانِهم، وعَمِلوا الأعمالَ الحسَنَةَ في الدُّنيا، نَجعَلُهمْ في زُمرَةِ الصَّالِحين، ولهمُ الثَّوابُ العَظيمُ يَومَ الدِّين.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِۖ وَلَئِن جَآءَ نَصۡرٞ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَيۡسَ اللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:10]


ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقولونَ آمَنَّا باللهِ ولم يَثبُتِ الإيمانُ في قُلوبِهم، فإذا أُوذُوا في سَبيلِ اللهِ وامتُحِنوا بسبَبِ إيمانِهم، جعَلوا ما يُصيبُهمْ مِنَ الأذَى مثلَ عَذابِ اللهِ في شِدَّتِه، وأنَّهُ لا عَذابَ أكبَرُ منه، فجَزِعوا مِنْ ذلكَ ولم يَصبِروا، وارتَدُّوا.

وإذا حصلَ للمُؤمِنينَ نَصرٌ وغَنيمَةٌ يَقولونَ لهم: نحنُ إخوانُكمْ في الدِّين، وكُنَّا معَكمْ على عَدوِّكم. أوَليسَ اللهُ مُطَّلِعًا على ما تُخفيهِ صُدورُ النَّاسِ جَميعًا مِنْ خَيرٍ وشَرّ، ومِنْ عَقائدَ وأسرارٍ ومَواقِف؟

﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ﴾ [العنكبوت:11]


وليَبلُوَنَّ اللهُ النَّاسَ بحِكمَتِه، ليَنظُرَ الصَّادِقَ فيهمْ والكاذِب، ويُمَيِّزَ المؤمنَ مِنَ المُنافِق.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلۡنَحۡمِلۡ خَطَٰيَٰكُمۡ وَمَا هُم بِحَٰمِلِينَ مِنۡ خَطَٰيَٰهُم مِّن شَيۡءٍۖ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ﴾ [العنكبوت:12]


وقالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ لمَنْ آمَن: ارجِعوا إلى الكُفرِ وسنَحمِلُ خطاياكُمْ وآثامَكمْ إذا كنتُمْ تُؤَاخَذونَ عَليها يَومَ القِيامَةِ كما تَدَّعون. وهمْ كاذِبونَ في ادِّعائهمْ هذا، فإنَّهمْ غَيرُ قادِرينَ على نَزعِ خطايا غَيرِهمْ وحَملِها عَنهم.

﴿وَلَيَحۡمِلُنَّ أَثۡقَالَهُمۡ وَأَثۡقَالٗا مَّعَ أَثۡقَالِهِمۡۖ وَلَيُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [العنكبوت:13]


وسَوفَ يَحمِلُ هؤلاءِ الكافِرونَ آثامَ ما اقتَرَفوهُ مِنْ ذُنوبٍ في الدُّنيا، وآثامَ مَنْ تسبَّبوا في إضلالِهمْ وحَمَلوهمْ على الكُفر، دونَ أنْ يَنقُصَ مِنْ ذُنوبِ الآخَرينَ شَيء، ويُحاسَبونَ على كُلِّ ذلك، ويُسألونَ عمَّا اختَلَقُوهُ مِنَ الكذِبِ والباطِلِ على النَّاس، بزَعمِهمْ حَملَ خَطاياهُمْ عَنهم، وبتَزيينِ الشَّرِّ لهم.

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ﴾ [العنكبوت:14]


وقدْ أرسَلنا نُوحًا إلى قَومِهِ ليَدعُوهمْ إلى دِينِ الله، فمكثَ فيهمْ تِسعَمِئةٍ وخَمسينَ عامًا لأجلِ ذلك، فأعرَضوا عَنهُ وكذَّبوه، فعاقبَهمُ اللهُ بالطُّوفانِ وأغرَقَهمْ جَميعًا، وكَانوا مُصرِّينَ على كُفرِهمْ وضَلالِهم.

﴿فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَصۡحَٰبَ السَّفِينَةِ وَجَعَلۡنَٰهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:15]


وأنجَينا نُوحًا ومَنْ رَكِبَ معَهُ في السَّفينَةِ مِنْ أهلِهِ والمؤمِنينَ معَهُ مِنَ الغَرَق، وجعَلناها عِبرَةً وعِظَةً للنَّاس، لبقائها زمَنًا طَويلاً على جبَلِ الجُوديّ، يُشاهِدُها المارَّة. وقدِ التُقِطَتْ صُورَةٌ لمَوقِعِ مَهبِطِ السَّفينَةِ على الجبَلِ بولايةِ شِرْناق منَ الفضَاء، وبدا فيها بقايا السَّفينَةِ المُتحَجِّرَةِ واضِحة. واللهُ أعلَم.

﴿وَإِبۡرَٰهِيمَ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِ اعۡبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُۖ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [العنكبوت:16]


وأرسَلنا إبراهيمَ إلى قَومِهِ - وكانوا يَعبدُونَ الأصنامَ - فقالَ لهم: اعبدُوا اللهَ وحدَهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا، واحذَروا غضَبَهُ ونِقمتَهُ إذا استَمرَرتُمْ في الإشرَاكِ به، فإنَّ رجوعَكمْ إلى الحقِّ وطاعتَكمْ لرَبِّكمْ خَيرٌ لكمْ وأفضَلُ ممّا أنتُمْ فيهِ مِنْ جَهلٍ وضَلال، إذا كنتُمْ تَعلَمونَ الحقَّ مِنَ الباطِل، وتُمَيِّزونَ بينَ الخَيرِ والشرّ.

﴿إِنَّمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوۡثَٰنٗا وَتَخۡلُقُونَ إِفۡكًاۚ إِنَّ الَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ لَكُمۡ رِزۡقٗا فَابۡتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزۡقَ وَاعۡبُدُوهُ وَاشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [العنكبوت:17]


إنَّ الذي تَعبدُونَهُ تَماثيلُ مَصنوعَةٌ مِنْ حجَرٍ وشَجَر، ثمَّ تَكذِبونَ وتَقولونَ إنَّها آلِهَة. وهؤلاءِ الذينَ تَعبدُونَهمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يستَطيعونَ أنْ يَجلُبوا لكمْ رِزقًا، فاطلبُوا رِزقَكمْ مِنْ بارِئكم، فهوَ رازِقكُمْ ورازِقُ مَنْ في الأرْضِ والسَّماء. وأخلِصوا العِبادَةَ لهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا، واشكرُوهُ على نِعَمِهِ التي لا تُحصَى عَليكم، فإليهِ مَرجِعُكمْ يَومَ الدِّين، ليُحاسبَكمْ على أعمالِكم، ويُجازيَكمْ عَليها بما تَستَحِقُّون.

﴿وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدۡ كَذَّبَ أُمَمٞ مِّن قَبۡلِكُمۡۖ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الۡبَلَٰغُ الۡمُبِينُ﴾ [العنكبوت:18]


وإنْ تُكَذِّبوني ولا تُصَدِّقوا بالبَعثِ والحِسابِ بعدَ الموت، فقدْ سبقَ أنْ كذَّبتْ أُمَمٌ رُسُلَهمْ مِنْ قَبلِكم، فأهلَكَهمُ الله، فلمْ يَضرُّوا سِوَى أنفُسِهم، وما على الرَّسُولِ إلاّ أنْ يُبَلِّغَكمْ ما أمرَهُ اللهُ به، وليسَ عَليهِ أنْ يَنتَزِعَ التَّصديقَ مِنْ قُلوبِكم.

﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ كَيۡفَ يُبۡدِئُ اللَّهُ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥٓۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٞ﴾ [العنكبوت:19]


أوَلمْ يَنظُروا كيفَ يُبدِئُ اللهُ الخَلق، فيُوجِدُهمْ بعدَ أنْ لم يَكونوا شَيئًا، ثمَّ يُعيدُهمْ أحياءً يَومَ القِيامَةِ بعدَ إماتَتِهم، أوَلا يَستَدِلُّونَ بالخَلقِ على البَعث؟ وإنَّهُ على اللهِ لسَهلٌ يَسير.

﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَانظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ الۡخَلۡقَۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشۡأَةَ الۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [العنكبوت:20]


قُلْ لقَومِكَ - الخِطابُ لإبراهيمَ أو لنَبيِّنا، عَليهما الصَّلاةُ والسَّلام -: امشُوا في الأرْض، وانظُروا كيفَ بدَأ اللهُ خَلقَ الأشياء، مِنْ خِلالِ مَعرِفَةِ أطوارِ الحياة، للحيَوانِ والنَّبات، وفي الآخِرَةِ يَخلُقُ اللهُ الأشياءَ مرَّةً أُخرَى، حينَ يَبعَثُها بعدَ المَوت، واللهُ قادِرٌ على كُلِّ شَيء، فالذي خلقَ أوَّلَ مرَّة، قادِرٌ على إعادَةِ الخَلق.

﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرۡحَمُ مَن يَشَآءُۖ وَإِلَيۡهِ تُقۡلَبُونَ﴾ [العنكبوت:21]


واللهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مِنَ العِباد، وهمُ الذينَ اختاروا طَريقَ الضَّلالِ وكفَروا بالحِسابِ والجَزاء، ويَرحَمُ مَنْ يَشاءُ منهم، وهمُ الذينَ آمَنوا واختاروا طَريقَ الحقِّ والهُدَى، وصبَروا على ما كَلَّفَهمُ اللهُ به، وآمَنوا بالبَعثِ والحِساب، وانتَظَروا ثَوابًا ورَحمَةً مِنْ رَبِّهم، فإليهِ تُرجَعونَ جَميعًا أيُّها النَّاس، مؤمِنُكمْ وكافِرُكم، فيُحاسِبُ كُلاًّ بما عَمِل، ويُجازيهمْ بالعَدل.

﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ فِي الۡأَرۡضِ وَلَا فِي السَّمَآءِۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ﴾ [العنكبوت:22]


وما أنتُمْ بمانِعينَ اللهَ مِنْ أنْ يُجرِيَ حُكمَهُ وقَضاءَهُ فيكم، أينَما كنتُمْ ومَهما تحصَّنتُم، في الأرْضِ أو في السَّماء، فكُلُّ شَيءٍ مُلْكُهُ، وحُكمُهُ وتَصَرُّفُهُ نافِذٌ في كُلِّ مَكان، ولا أحَدَ يَقدِرُ على مَنعِ عَذابَ اللهِ إذا قَدَّرَهُ عَليكم، ولا أنْ يَدفعَهُ عَنكمْ إذا نَزلَ بِكم.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحۡمَتِي وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [العنكبوت:23]


والذينَ كفَروا بالمُعجِزاتِ التي أيَّدتُ بها رسُلي، وبالكتُبِ التي أنزَلتُها عَليهم، وجحَدوا بالبَعثِ والنُّشور، فهؤلاءِ يائسونَ مِنْ رَحمَةِ اللهِ وجنَّتِه، فلا نَصيبَ لهمْ فيها يَومَ القِيامَة، ولهمْ عَذابٌ شَديد.

﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ اقۡتُلُوهُ أَوۡ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [العنكبوت:24]


فلمَّا دعَا إبراهيمُ قَومَهُ إلى التَّوحيد، وبالغَ في مُحاورَتِهمْ ودَعوَتِهمْ إلى الدِّينِ الحَقّ، ودحَضَ شُبُهاتِهمُ الفاسِدَةَ والسَّخيفَة، ولم تَكنْ عِندَهمْ حُجَّةٌ للردِّ عَليه، عانَدوا وكابَروا، وقالوا: اقتُلوا إبراهيمَ أو أحرِقوهُ بالنَّار. فأَلقَوهُ في نَارٍ كبيرَة، ولكنَّ اللهَ سلَّمَهُ منها، وجعلَها عَليهِ بَردًا وسَلامًا. وفي إنقاذِهِ منها، وحِفظِهِ مِنْ حَرِّها، وسَلبِ مادَّةِ الإحراقِ منها، دلائلُ بَيِّنَةٌ على قُدرَةِ اللهِ تَعالَى، لمَنْ تأمَّلَ فيها وصَدَّقَ بها.

﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوۡثَٰنٗا مَّوَدَّةَ بَيۡنِكُمۡ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ ثُمَّ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضٖ وَيَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا وَمَأۡوَىٰكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِينَ﴾ [العنكبوت:25]


وقالَ إبراهيمُ عَليهِ السَّلامُ في وَعظِهِ وإنذارِهِ لقَومِه: إنّما عَبدتُمْ هذهِ الأصْنامَ لتتَوادَدوا بينَ بَعضِكمُ البَعض، وتَتآلَفوا وتَتواصَلوا عندَ اجتِماعِكمْ على عِبادَتِها في الحيَاةِ الدُّنيا، أمَّا في يَومِ القِيامَةِ فيَتحَوَّلُ هذا التَّحابُبُ بينَكمْ إلى كُفرٍ وبُغض، فتَجحَدونَ ما كانَ بينَكمْ مِنْ ذلك، ويَلعَنُ الأتباعُ منكمُ المَتبُوعين، والعَبَدَةُ مَعبوديهم، ومَنزِلُكمُ الذي تأوونَ إليهِ جَميعًا هوَ النَّار، ولا مُعينَ لكمْ يَومَئذٍ ولا مُنقِذَ ليُخَلِّصَكمْ منها.

﴿۞فَـَٔامَنَ لَهُۥ لُوطٞۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [العنكبوت:26]


وآمنَ لوطٌ بدَعوَةِ إبراهيم، عَليهما السَّلام، وكانَ مِنْ أقرِبائه. وقالَ إبراهيم: سأترُكُ قَوميَ الكُفَّارَ وأُهاجِرُ إلى الجِهَةِ التي أمرَني بها رَبِّي حَيثُ لا أُمنَعُ مِنْ عِبادَتِه، واللهُ قَويٌّ يَمنَعُ عنِّي أعدَائي ولا يُغالَب، حَكيمٌ في أمرِهِ ونَهيه، فلا يأمرُ إلاّ بما فيهِ صَلاحي.

﴿وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالۡكِتَٰبَ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَجۡرَهُۥ فِي الدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي الۡأٓخِرَةِ لَمِنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [العنكبوت:27]


ولمَّا فارقَ قَومَهُ أقرَّ اللهُ عَينَهُ وأجابَ دُعاءَه، فوهبَ لهُ إسحَاق، وقدْ كانَ عَجوزًا كبيرًا في السِّنّ، وكذلكَ زوجَتُه. ثمَّ وهبَ لهُ يَعقوب، زيادَةً عمَّا سأل، وهوَ ابنُ ابنِهِ إسحَاق. وجعلَ في ذُرِّيَّتِهِ النبوَّةَ والكِتاب، فلمْ يُبعَثْ نَبيٌّ بعدَهُ إلاّ وهوَ منْ سُلالَتِه. وجعلَهُ مِنَ السُّعداءِ في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة، فآتاهُ النبوَّة، وهيَ أكمَلُ ما يَكونُ بهِ الإنسَان، معَ الثَّناءِ عَليهِ منْ جَميعِ أهلِ الأدْيان، فكانَ إمامًا للنَّاس، وخَليلَ الله، وهوَ في الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحينَ الذينَ يُضاعَفُ لهمُ الثَّواب، ويَكونُ في أعلى دَرجاتِ الجنَّة.