تفسير الجزء 21 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الحادي والعشرون
21
سورة العنكبوت (46-69)
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب (1-30)

﴿۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ الۡكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِالَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾ [العنكبوت:46]


ولا تُجادِلوا أهلَ الكتاب، مِنَ النَّصارَى وغَيرِهم، إلاّ بالأسلوبِ الحسَن، والحوارِ الهادِئِ المشفُوعِ بالنُّصح، كمُقابَلةِ الخُشونَةِ باللِّين، والغضَبِ بالحِلمِ والأناة، إلاّ مَنِ اعتدَى منهمْ وعانَد، وكابرَ وخاصَم، ولم يَنفَعْ فيهمُ الرِّفق، ولا قَبولُ الحُجَّةِ المُقنِعَة، والدليلِ القاطِع، فيُدافَعونَ بما يَليقُ بهم، وقُولوا لهم: آمَنَّا بما أُنزِلَ إلينَا مِنَ القُرآن، وبما أُنزِلَ إليكمْ مِنَ التَّوراةِ والإنجِيل، وإلهُنا وإلهكمْ واحِدٌ لا شَريكَ له، ونحنُ مُخلِصونَ لهُ في عِبادَتِه، مُطيعونَ لأوامرِه.

﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ الۡكِتَٰبَۚ فَالَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَمِنۡ هَـٰٓؤُلَآءِ مَن يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا الۡكَٰفِرُونَ﴾ [العنكبوت:47]


وكما أنزَلنا الكتُبَ السَّابقَةَ على الأنبِياء، كذلكَ أنزَلنا عَليكَ القُرآن، فالذينَ آتَيناهمُ الكتابَ مِنَ اليَهودِ والنَّصارَى، مِنْ أحبارِهمُ المُخلِصينَ وعُلمائهمُ المؤمِنينَ الصَّادِقين، يُؤمِنونَ بالقَرآنِ الكريم، ومِنَ العرَبِ مَنْ يؤمِنُ بهِ كذلك، وما يُكَذِّبُ بمُعجِزاتِنا التي أيَّدْنا بها رسُلَنا إلاّ المُكابِرونَ المُصِرُّونَ على الكُفر.

﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّارۡتَابَ الۡمُبۡطِلُونَ﴾ [العنكبوت:48]


وقَبلَ أنْ يَنزِلَ عَليكَ القُرآنُ ما كُنتَ تَقرأ كتابًا ولا تُحسِنُ كِتابَة، وكُلُّ قَومِكَ يَعرِفونَ هذا منك، ولو كنتَ تَقرَأ أو تَكتُب لشَكَّ المشرِكونَ في أمرِك، واتَّهَموكَ بالنَّقلِ والتأليفِ والترْكيب، ولقالَ أهلُ الكتاب: إنَّ الذي نَجدُهُ عندَنا في وَصفِ النبيِّ الجَديدِ أنَّهُ أُمِّيٌّ وأنتَ لستَ كذلك.

﴿بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا الظَّـٰلِمُونَ﴾ [العنكبوت:49]


فليسَ القُرآنُ ممّا يُرتابُ فيه، بلْ هوَ آياتٌ واضِحات، راسِخاتٌ في صُدورِ المؤمِنينَ الحافِظينَ له، لا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يُحَرِّفَه، وما يَكفرُ بآياتِنا إلاّ المُكابِرونَ المُعتَدون، الذينَ يَعرِفونَ الحقَّ ثمَّ يُعرِضُونَ عنه.

﴿وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَٰتٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّمَا الۡأٓيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ﴾ [العنكبوت:50]


وقالَ المشرِكون: هَلاّ أُنزِلَتْ على هذا النبيِّ مُعجِزاتٌ كما أُنزِلَتْ على الأنبِياءِ السَّابِقين، مثلُ عَصا موسَى وناقَةِ صالح؟ قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسُول: إنَّ ذلكَ بيدِ الله، يأتي بها إنْ شَاء، ولو عَلِمَ هِدايتَكمْ بها لأجابَكمْ إليها، ولو أنَّها أُنزِلَتْ ولم تؤمِنوا بها لأهلكَكم، وإنَّما أنا مُنذِرٌ مَبِينٌ للعالَمينَ أجمَعين، وما عليَّ إلاّ البلاغ.

﴿أَوَلَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [العنكبوت:51]


أوَلمْ يَكفِهمْ مُعجِزَةً هذا القُرآنُ الذي أنزَلناهُ عَليك، وهوَ يُقرَأُ عَليهمْ ويَعرِفونَهُ جَيِّدًا، وفيهِ مِنَ الإعجازِ والتحَدِّي ما يَكفي دَليلاً أنَّهُ مِنْ عندِ الله، فلم يَستَطِعْ أحَدٌ أنْ يأتيَ بمِثْلِهِ أو بآياتٍ مِنْ مِثلِه؟ وفي بقائهِ مَحفوظًا مِنْ غَيرِ أنْ يَنالَهُ تَغييرٌ أو تَبديل، وكونِهِ مُتَحَدًّى بهِ إلى آخِرِ الدَّهر، آيَةٌ أُخرَى عَظيمَة، وهوَ نِعمَةٌ كبيرَةٌ للنَّاس، وتَذكِرَةٌ وعِظَةٌ لمَنْ آمَنَ واهتدَى به، ففيهِ بيانٌ للحقّ، ودَحضٌ للباطِل، وفيهِ أحداثٌ وعِبَر، وقَصَصٌ وتَوجيهات، وأحكامٌ ووَصايا، كُلُّها لأجلِ مَصلحَةِ الإنسانِ وسعادَتِه.

﴿قُلۡ كَفَىٰ بِاللَّهِ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ شَهِيدٗاۖ يَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۗ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالۡبَٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [العنكبوت:52]


قُلْ لهمْ أيُّها النبيُّ الكريم: اللهُ سُبحانَهُ عالِمٌ بما أُرسِلتُ بهِ وبما أُبَلِّغُهُ لكم، وعالِمٌ بكمْ وبتَكذيبِكمْ رسالتَه، والأمرُ إليهِ في الحُكمِ بَيني وبينَكم، وهوَ اللَّطيفُ العالِمُ بكُلِّ ما في السَّماواتِ والأرْض، فلا يَخفَى عَليهِ شَيء. والذينَ آمَنوا بالأصْنامِ وطاوَعوا الطَّواغيت، وكفَروا باللهِ وهو خالِقُهمْ ورازِقُهمْ ومالِكُ أمرِهم، همُ الخاسِرونَ النادِمون، الذينَ يُجزَونَ شَرًّا على أعمالِهمُ السيِّئةِ يَومَ القيامَة.

﴿وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِالۡعَذَابِ وَلَوۡلَآ أَجَلٞ مُّسَمّٗى لَّجَآءَهُمُ الۡعَذَابُۚ وَلَيَأۡتِيَنَّهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [العنكبوت:53]


ويَستَعجِلُكَ المُشرِكونَ بالعَذاب، ولولا أنَّ اللهَ قَدَّرَ لهمُ العَذابَ في وَقتٍ مُعَيَّن، لحَلَّتْ بهمْ نِقمَتُه، وسيَأتيهمْ فَجأةً وهمْ غافِلونَ عنه.

﴿يَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِالۡعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِالۡكَٰفِرِينَ﴾ [العنكبوت:54]


إنَّهمْ يَستَعجِلونَ العَذابَ وهوَ مُحيطٌ بهم، فهوَ واقِعٌ بهمْ لا مَحالَة، ولنْ يَبقَى كافِرٌ إلاّ ويَدخُلُ جَهنَّم.

﴿يَوۡمَ يَغۡشَىٰهُمُ الۡعَذَابُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۡ وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [العنكبوت:55]


في ذلكَ اليَومِ المَخُوفِ المَهُول، الذي يُؤمَرُ بهمْ إلى النَّار، يَأتيهمُ العَذابُ مِنْ كُلِّ الجِهات، مِنْ فَوقِهم، ومِنْ تَحتِ أرجُلِهم، وبالغُدوِّ والآصَال، ويَقولُ اللهُ لهم: ذُوقوا جَزاءَ ما كنتُمْ تَعمَلونَهُ في الدُّنيا، وما كنتُمْ تَستَعجِلونَهُ مِنَ العَذاب، فقدْ حَلَّ أجَلُه.

﴿يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَاعۡبُدُونِ﴾ [العنكبوت:56]


يا عِباديَ المؤمِنين، إنَّ أرضِي واسِعَة، وفيها ما يُمكِنُ أنْ تُقيمُوا شعائرَ دينِكم، وتَعبدُوهُ كما أمرَكم، فاعبُدوني ولا تُشرِكوا بي شَيئًا، وأطيعوني ولا تُهمِلوا ما أمرتُكمْ به.

وأكثَرُ المُفَسِّرينَ على أنَّهُ أمرٌ للمُستَضعَفينَ في مكَّةَ بالهِجرَة.

﴿كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ الۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾ [العنكبوت:57]


كُلُّ نَفسٍ حَيَّةٍ سيَأتي عَليها المَوت، فلا تُقيموا في دارِ الشِّركِ خَوفًا مِنْ أنْ يُصيبَكمُ الموتُ إذا هاجَرتُم، ثمَّ إلينا مَرجِعُكمْ جَميعًا لنُحاسِبَكمْ على أعمالِكم، ونُجازيَكمْ بما تَستَحِقُّون.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الۡجَنَّةِ غُرَفٗا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ الۡعَٰمِلِينَ﴾ [العنكبوت:58]


والذينَ آمَنوا وأخلَصوا في إيمانِهم، وأتْبَعوا إيمانَهمْ بالعمَلِ الصَّالِحِ المُوافِقِ لِما أمرَ اللهُ به، لنُسكِنَنَّهمْ مَنازِلَ عاليَةً في الجنَّة، تَجري الأنهارُ مِن خلالِ أشجارِها ومَساكنِها، فتَزيدُها بَهجَةً وجَمالاً، ماكثينَ فيها أبدًا، فنِعْمَ هذا الجَزاءُ على ما عَمِلَهُ المؤمِنون،

﴿الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت:59]


الذينَ صبَروا على أذَى المشرِكين، وتحَمَّلوا مَشاقَّ الدَّعوَةِ والجِهاد، فكانوا مِنَ الصَّابرينَ على طاعَةِ رَبِّهم، مُعتَمِدينَ عَليهِ في جَميعِ أحوالِهم.

﴿وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا اللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [العنكبوت:60]


وما أكثرَ الدوابَّ التي تَحتاجُ إلى غِذاءٍ ولا تَقدِرُ على حَمْلِهِ لضَعفِها، ولا تدَّخِرُ شَيئًا لغَد، ثمَّ اللهُ يَرزُقُها وإيَّاكم، فيَيَسِّرُهُ لكمْ حيثُ كنتُم، فلا تَخشَوا الفَقرَ إذا هاجَرتُمْ وترَكتُمْ أموالَكم، وهوَ السَّميعُ لأقوالِكم، العَليمُ بما تُكِنُّونَهُ في قُلوبِكم.

﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ الشَّمۡسَ وَالۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ﴾ [العنكبوت:61]


وإذا سألتَ المشرِكين: مَنِ الذي استقَلَّ بخَلقِ السَّماواتِ والأرْض؟ ومَنِ الذي سَيَّرَ الشَّمسَ والقمَرَ وذَلَّلهما لمصالحِ الإنسَان؟ لقَالوا: هوَ الله. قُلْ لهم: إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فلماذا تَعبُدونَ غَيرَهُ وتدَّعونَ أنَّهمْ آلِهَة؟!

﴿اللَّهُ يَبۡسُطُ الرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥٓۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [العنكبوت:62]


اللهُ سُبحانَهُ هوَ الرَّازِق، الذي يَزيدُ في رِزقِ عِبادٍ لهُ ويَجعَلُهمْ أغنِياء، ويُضَيِّقُ على آخَرينَ فيَكونونَ فُقَراء، واللهُ عالِمٌ بكُلِّ شَيء، وعارِفٌ بمَنْ يَصلُحُ لهُ الغِنَى، ومَنْ يَصلحُ لهُ الفَقر.

﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ الۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُۚ قُلِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [العنكبوت:63]


وإذا سألتَهم: مَنِ الذي أنزَلَ المطرَ مِنَ السَّحاب، فأحيا بهِ الأرْضَ وقدْ كانتْ جَرداءَ قاحِلَة، فأنبَتَتِ الزَّرعَ والثَّمَر، وجرَتْ بهِ الأنهار؟ لقَالوا: اللهُ أنزَلَ المطَر. قُلْ أيُّها النبيّ: الحَمدُ للهِ على إقرارِهمْ بفَضلِ الله، ولكنَّهمْ يُشرِكونَ بهِ في عِبادَتِهمْ أصْنامًا لا تَنفَعُهمْ بشَيء، فأكثَرُ هؤلاءِ المشرِكينَ سُفهاءُ جاهِلون.

﴿وَمَا هَٰذِهِ الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَآ إِلَّا لَهۡوٞ وَلَعِبٞۚ وَإِنَّ الدَّارَ الۡأٓخِرَةَ لَهِيَ الۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ﴾ [العنكبوت:64]


وليسَتْ هذهِ الدُّنيا سِوَى استِمتَاعٍ وعبَث، تَنقَضي لذَّتُها بعدَ قَليل، كاجتِماعِ صِيبانٍ على لُعبَة، فيَبتَهِجونَ بها ساعَةً ثمَّ يتفَرَّقون. والدَّارُ الآخِرَةُ فيها الحيَاةُ الحقيقيَّةُ الدَّائمَة، فلا مَوتَ فيها ولا زَوالَ عنها، ولو عَلِموا ذلكَ لمَا آثَروا عَليها الحيَاةَ الدُّنيا.

﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الۡفُلۡكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى الۡبَرِّ إِذَا هُمۡ يُشۡرِكُونَ﴾ [العنكبوت:65]


وإذا رَكِبَ المشرِكونَ السَّفينَة، وهاجَ بهمُ البَحر، وتحرَّكتْ بهمْ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمال، وخافُوا الغرَق، ترَكوا ما كانوا عليهِ مِنْ شِرك، وتوَجَّهوا في دُعائهمْ واستِغاثَتِهمْ إلى اللهِ وحدَه، وتَذلَّلوا لهُ بالطَّاعَةِ والعِبادَة، فإذا أنقذَهمْ مِنَ الغرَق، وآمنَهمْ ممّا كانوا فيهِ مِنْ خَوف، عادُوا إلى شِركِهمْ وجاهليَّتِهم.

﴿لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ وَلِيَتَمَتَّعُواْۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ﴾ [العنكبوت:66]


وهكذا يُشرِكونَ باللهِ ليَكونُوا كافِرينَ بما أنعَمنا عَليهمْ مِنَ النجاة، ولِيَتَمتَّعوا باجتِماعِهمْ وتَوادِّهمْ على عِبادَةِ الأصْنام، فسَوفَ يَعلَمونَ عاقِبَةَ ما يَفعَلون، عندَما يُحاسَبون، ويُؤمَرُ بهمْ إلى مَآلِهمُ المَعلوم.

﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنٗا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِالۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ اللَّهِ يَكۡفُرُونَ﴾ [العنكبوت:67]


ألمْ يُشاهِدوا ويَعتَبِروا كيفَ جَعلنا بلدَهمْ مكَّةَ مَكانًا آمِنًا مِنَ القَتلِ والأسْر، والسَّلبِ والنَّهب، والنَّاسُ مِنْ حَولِهمْ يَسبي بَعضُهمْ بَعضًا، ويُغِيرونَ ويَنهَبونَ ويَتقاتَلون؟ أوَ بعدَ هذهِ النِّعمَةِ يَعبُدونَ الأصْنام، ويَكفُرونَ بنِعمَةِ اللهِ وفَضلِهِ عَليهم، ويُكذِّبونَ نَبيِّ اللهِ ويَجحَدونَ رِسالةَ رَبِّهم؟

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِالۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُۥٓۚ أَلَيۡسَ فِي جَهَنَّمَ مَثۡوٗى لِّلۡكَٰفِرِينَ﴾ [العنكبوت:68]


وليسَ هُناكَ أعظَمُ كَذِبًا ممَّنِ ادَّعَى معَ اللهِ آلِهَةً وعبَدها معَه، أو كذَّبَ بالقُرآنِ والرَّسولِ حينَ مَجيئه. ولكنْ أليسَ المَثوَى الأخيرُ لهذا الكافرِ جهنَّم، ليَبقَى فيها مُعَذَّبًا وخالِدًا مُخَلَّدًا؟

﴿وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]


والذينَ جاهَدوا المشرِكينَ في سَبيلِنا بإخلاصٍ وتَقوًى، لَنُبَصِّرَنَّهمْ طَريقَنا السويَّةَ التي تأخذُ بيَدِهمْ إلى الفَوزِ والفَلاح، وإنَّ اللهَ معَ المُحسِنين، الذينَ جاهَدوا وتحمَّلوا مشَاقَّ الدَّعوَة، وصبَروا على تَكاليفِ الدِّين، فيُؤيِّدُهمْ ويُعِينُهمْ في الحيَاةِ الدُّنيا، ويَجزيهمْ ثَوابًا عَظيمًا يَومَ القيامَة.

سورة الروم - مكية - عدد الآيات: 60

30

﴿الٓمٓ﴾ [الروم:1]


الحروفُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ صَحيح، واللهُ أعلمُ بمَعناها.

﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم:2]


غُلِبَتِ الرُّومُ في حَربِها معَ الفُرس،

﴿فِيٓ أَدۡنَى الۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ﴾ [الروم:3]


في أقرَبِ أرضِ الرُّومِ إلى فارِس، فاستَولَى سابُورُ مَلِكُ الفُرسِ على بِلادِ الشَّامِ وما وَالاها، وأقاصي بِلادِ الرُّوم، حتَّى اضطُرَّ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ إلى اللُّجوءِ إلى القِسطَنطِينيَّة، وحُوصِرَ فيها مُدَّةً طَويلَة. وبَعدَ أنْ هُزِمَتِ الرُّومُ، ستَنتَصِرُ على فارِس،

﴿فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ الۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [الروم:4]


بعدَ بِضْعِ سنَوات، وهوَ ما بينَ الثَّلاثِ والتِّسْع. والحُكمُ والقضَاءُ للهِ وحدَه، قَبلَ الغلَبَةِ على الرُّومِ وبَعدَها. وعندَما تَنتَصِرُ الرُّومُ يَفرَحُ المُسلِمون،

﴿بِنَصۡرِ اللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم:5]


بنَصرِ اللهِ إيَّاهُمْ على فارِس. وكانَ المشرِكونَ يُحِبُّونَ أنْ تَنتَصِرَ فارِسُ لأنَّهمْ أهلُ شِرك، ويُحِبُّ المُسلِمونَ أنْ تَظهرَ الرُّومُ عَليهمْ لأنَّهمْ أهلُ كِتاب. واللهُ يَنصرُ مَنْ يَشاءُ، فالأمرُ لهُ وحدَه، وهوَ العَزيزُ في انتِقامِهِ مِنْ أعدَائه، الغالِبُ الذي لا يُقْهَر، الرَّحيمُ بعِبادِهِ المؤمِنين.

﴿وَعۡدَ اللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ اللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الروم:6]


ووَعدُ اللهِ بنَصرِ الرُّومِ على الفُرسِ وَعدٌ حَقٌّ لا يُخْلَف، ولكنَّ أكثرَ النَّاس، ومنهمْ مُشرِكو مكَّة، لا يَعلَمونَ ذلك، ولا يَتفَكَّرونَ في كلامِ اللهِ ووَعدِه، وقُدرَتِهِ وحِكمَتِهِ في أفعالِه.