﴿يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ الۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ﴾ [الروم :7]
إنَّما يَعلَمونَ ظاهِرَ ما هُمْ فيهِ مِنَ الحيَاةِ الدُّنيا، كأمرِ التكَسُّبِ والتِّجارَة، والغِراسِ والحَصاد، والشَّهواتِ والمَلذَّات، وهمْ سَاهونَ عنِ الدَّارِ الآخِرَة، جاهِلونَ بها، لا يَتفَكَّرونَ فيها ولا يَعمَلونَ لها.
﴿أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِالۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ﴾ [الروم :8]
ألا يَتفَكَّرونَ في أنفُسِهمْ وطَبيعَةِ تَكوينِهمْ وهَيئتِهم، وفيما حَولَهمْ مِنْ أعاجِيبِ الخَلق، وهذهِ السَّماواتِ الكبيرَة، والأرْضِ وما فيها، وما بينَهما، وأنَّ اللهَ لم يَخلُقْهما إلاّ بالحَقِّ والعَدل، ولحِكمَةٍ وفائدَة، وهُما مَخلوقانِ إلى أجَلٍ مُحَدَّد، هوَ يَومُ القيامَة، ولكنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بالبَعثِ والحِساب، فهمْ مُعرِضونَ عمَّا يَنتَظِرُهمْ بعدَ المَوت.
﴿أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ الۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [الروم :9]
أوَلمْ يَسِيروا في الأرْضِ ليَنظُروا في آثارِ المُكَذِّبينَ مِنْ قَبلِهم، ويَسألوا العُلماءَ عنْ قِصَصِهم، ويَقرَؤوا في الكتُبِ عنْ مَآلِهم، ويَعتَبِروا مِنْ عاقِبَةِ أمرِهمْ وهَلاكِهم؟ فقدْ كانوا أقوَى منهمْ أبدانًا، وحرَثوا الأرضَ للزراعَةِ وقَلَّبوا تُرابَها لاستِخراجِ ما فيها مِنْ مَاءٍ ومَعدِنٍ وغَيرِه، واستَغَلُّوها وعمَروها بالغَرسِ والصِّناعاتِ والعِمارات، أكثرَ ممَّا عمَرها مُشرِكو مَكَّة.
وقدْ جاءَتْهمْ رسُلُهمْ مُبَشِّرينَ ومُنذِرين، ومُؤيَّدينَ بمُعجِزاتٍ مِنْ عندِ رَبِّهم، فكذَّبوهمْ وعانَدوهم، وجحَدوا برسَالاتِ رَبِّهم، فأهلَكناهُم، وما ظَلمَهمُ اللهُ بمُعاقَبتِهم، بلْ كانَ ذلكَ جَزاءَ فسادِهمْ وجَرائمِهمْ ومَعاصيهم، وعِنادِهمْ واستِكبارِهم، فهمُ الذينَ ظَلموا أنفُسَهمْ بذلك.
﴿ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـٰٓـُٔواْ السُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الروم :10]
ثمَّ كانتِ النَّارُ عاقِبَةَ الذينَ أسَاؤوا العمَل، لأنَّهمْ كذَّبوا بمُعجِزاتِ اللهِ الظاهِرَة، واستَهزَؤوا بها واحتقَروها، مع أنَّهُ لم يَكنْ بمَقدورِ أحَدٍ أنْ يأتيَ بمِثلِها.
﴿اللَّهُ يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [الروم :11]
اللهُ سُبحانَهُ يُنشِئُ الخَلقَ ابتِداءً ولم يَكونوا شَيئًا، ثمَّ يُعيدُ نَشأتَهُ بعدَ مَوتِهِ يومَ البَعث، ثمَّ تُرجَعونَ إليهِ - أيُّها الناسُ - ليُجازِيَكمْ على أعمالِكم.
﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبۡلِسُ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [الروم :12]
وعندَما تَقومُ القيامَة، يَيْأسُ المشرِكونَ مِنْ كُلِّ خَير، فيَسكتونَ ويَكتَئبون، وتَنقَطِعُ حُجَّتُهم.
﴿وَلَمۡ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآئِهِمۡ شُفَعَـٰٓؤُاْ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ كَٰفِرِينَ﴾ [الروم :13]
ولم تَنفَعْهُمْ عِبادَتُهمْ للأصْنامِ وغَيرِها، التي اتَّخَذوها آلِهَةً مِنْ دونِ الله، فلمْ تَشفَعْ لهمْ يَومَ القيامَةِ وقدْ قُذِفوا في النَّار، فجحَدوها وتبرَّؤوا منها عندَما تبيَّنَ لهمْ حقيقَةُ أمرِها.
﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوۡمَئِذٖ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الروم :14]
في ذلكَ اليَومِ العَصيب، الذي يُحاسَبُ فيهِ كُلٌّ على عمَلِه، يتميَّزُ المؤمِنونَ عنِ الكافِرين، ويَتفَرَّقُ بَعضُهمْ عنْ بَعض، فلا يَجتَمِعونَ بعدَها أبدًا.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ﴾ [الروم :15]
فأمَّا الذينَ آمَنوا بحَقّ، وعَمِلوا صالِحًا بإخْلاص، فهمْ في ريَاضِ الجنَّةِ النَّضِرَةِ الجَميلَةِ يَنعَمونَ ويَسعَدون.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَلِقَآيِٕ الۡأٓخِرَةِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ فِي الۡعَذَابِ مُحۡضَرُونَ﴾ [الروم :16]
وأمَّا الذينَ كفَروا بالله، وجحَدوا بالمُعجِزاتِ التي أيَّدَ بها رسُلَه، وبالأدلَّةِ والبَراهينِ الدالَّةِ على وَحدانيَّتِهِ وقُدرَتِه، وبالبَعثِ والحِسابِ بعدَ المَوت، فأولئكَ مُقيمونَ في العَذاب، لا يَغيبونَ عنهُ أبدًا.
﴿فَسُبۡحَٰنَ اللَّهِ حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ﴾ [الروم :17]
فتقَدَّسَ اللهُ وتنَزَّهَ عمَّا يَصِفُهُ بهِ المشرِكونَ مِنْ نَقصٍ وعَيب، فسَبِّحوهُ أيُّها المؤمِنونَ ونَزِّهوهُ عنْ كُلِّ ما لا يَليقُ بشأنِه، عندَ المسَاءِ واللَّيلُ يُقْبِل، وعندَ الصَّباحِ والنَّهارُ يُسفِر.
﴿وَلَهُ الۡحَمۡدُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَعَشِيّٗا وَحِينَ تُظۡهِرُونَ﴾ [الروم :18]
ولهُ الفَضلُ والنِّعمَةُ ولهُ الثَّناءُ الحسَن، المَحمودُ في السَّماواتِ والأرْض، يَحمَدُهُ أهلُها ويُصَلُّونَ له، حينَ يَشتَدُّ اللَّيلُ بظَلامِه، وعِندَما يَتجلَّى النَّهارُ بضِيائه.
﴿يُخۡرِجُ الۡحَيَّ مِنَ الۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ الۡمَيِّتَ مِنَ الۡحَيِّ وَيُحۡيِ الۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ﴾ [الروم :19]
هوَ اللهُ الخالِقُ القادِر، الذي يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّت، فيُخرِجُ الزَّرْعَ مِنَ الحَبَّة، والفَرْخَ مِنَ البَيضَة، ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ، فيُخرِجُ الحَبَّةَ منَ الزَّرع، والبَيضَ مِنَ الطَّيرِ وغَيرِه، ويُميتُ أشياءَ لتَكونَ مادَّةً لحياةٍ أُخرَى في الإنسَانِ والكَون. كما يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها، فيُخرِجُ نَباتَها وزَرعَها، كذلكَ يُحييكمْ بعدَ موتِكم، فيُخرِجُكمْ أحياءً مِن قُبورِكمْ إلى المَحشَرِ للحِساب.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم :20]
ومِنْ آياتِهِ الدالَّةِ على كمَالِ قُدرَتِه، أنْ خلقَ أصلَكمْ مِنْ تُراب، ثمَّ إذا أنتُمْ بشَرٌ كُثُرٌ تَنتَشِرونَ في الأرْض.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم :21]
ومِنْ آياتِهِ العَظيمَةِ أنْ خلقَ لأجلِكم، إناثًا مِنْ جِنسِكم، تتَزوَّجونَ بهنَّ، لتَميلوا إليهِنَّ وتتَآلَفوا معَهنَّ وتَطمَئنُّوا، وجعلَ بينَكمْ وبَينَهُنَّ محَبَّةً ورَأفَة، ولو لم تَكنْ بينَكمْ صِلَةُ رَحِم. وفي ذلكَ آياتٌ وعِبَر، لمَنْ أُوتيَ فِكرًا ووَعيًا، وتَدبُّرًا وفَهمًا.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَاخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ﴾ [الروم :22]
ومِنْ آياتِهِ الكبيرَةِ الدالَّةِ على كمَالِ قُدرَتِه، خَلقُ السَّماواتِ العَظيمَة، بارتِفاعِها وسَعَتِها، وما فيها مِنْ كواكِبَ ونجومٍ وأجْرام، تَسيرُ وتَدورُ بموازينَ دَقيقَة، دونَ أنْ يَتصادمَ بَعضُها ببَعض.
وخلقَ الأرْضَ وما فيها مِنْ بِحارٍ ويابِسَة، وجِبالٍ ووُديان، وحيَواناتٍ بأنواعِها البرِّيَّةِ والبَحريَّة، وشجَرٍ وزَرع، ومَعدِنٍ ونِفْط...
ومِنْ آياتِه اختِلافُ لُغاتِكم، فلكُلِّ قَومٍ لُغَتُه، ولكُلِّ قَبيلَةٍ لَهجَتُها، وهيَ بالآلاف، ولا يَفهمُ قَومٌ مِنْ قَومٍ إلاّ أنْ يَتعَلَّموا لُغتَهم، أو تُتَرجَمَ لهم!
ومِنْ آياتِهِ كذلكَ اختِلافُ ألوانِكم، بينَ أبيضَ وأسوَد، وأحمرَ وأصفَر، وكُلُّكمْ أبناءُ رَجُلٍ واحِد.
وفي ذلكَ كُلِّهِ بَراهينُ على قُدرَةِ اللهِ وكمَالِ إبداعِه، لمَنْ أُوتيَ عِلمًا وفَهمًا وتدَبُّرًا.
يَذكرُ العُلماءُ في هذا العَصرِ أنَّ لكُلِّ شَخصٍ لونُهُ الخاصُّ به، وأنَّ العَينَ البشَريَّةَ تُفَرِّقُ بينَ درَجاتٍ عَديدَةٍ جدًّا مِنَ اللَّونِ الواحِد. ويُلاحَظُ أنَّ الذينَ بَشَرَتُهمْ سَوداء، أو شَديدَةُ السُّمرَة، يَعيشُونَ في خَطِّ الاستِواء، والمادَّةُ الدَّاكِنَةُ مِنْ خصائصِها امتِصاصُ الأشِعَّةِ فوقَ البنَفسَجيَّةِ الضَّارَّة.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِالَّيۡلِ وَالنَّهَارِ وَابۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ﴾ [الروم :23]
ومِنْ آياتِهِ أنْ هيَّأ لكمْ أسبَابَ الرَّاحَةِ بالنَّوم، ومَكَّنَكمْ مِنْ طلَبِ الرِّزقِ ليلاً ونَهارًا، وفي ذلكَ أدِلَّةٌ على قُدرَتِهِ سُبحانَه، لمَنْ شأنُهُ أنْ يَعيَ ما يَسمَع، ويَعتَبِرَ ممَّا يَرَى.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ يُرِيكُمُ الۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَيُحۡيِۦ بِهِ الۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾ [الروم :24]
ومِنْ آياتِهِ سُبحانَهُ أنْ يُريَكمُ البَرقَ لتَخافُوا مِنَ الصَّواعِقِ التي تَقتُلُ وتُحرِق، وهيَ تُذَكِّرُ بعَذابِهِ ونِقمَتِه، وتَدلُّ على قوَّتِهِ وقُدرَتِه، وقدْ تَكونُ إشارَةً إلى رَحمَةٍ فتَطمَعونَ في المطَرِ الذي تَحتاجونَ إليه. ويُنَزِّلُ الماءَ مِنَ السَّحابِ فيُحيي بسبَبِهِ الأرْض، مِنْ زَرعٍ وثَمَر، بعدَ أنْ كانتْ جَدْبَةً يابِسَةً لا نَباتَ فيها، وفي ذلكَ آيَةٌ على قُدرَةِ اللهِ على الإحيَاءِ والبَعثِ بعدَ المَوت، لمنِ استَعمَلَ عَقلَهُ وكانَ منَ المُتبَصِّرين.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالۡأَرۡضُ بِأَمۡرِهِۦۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمۡ دَعۡوَةٗ مِّنَ الۡأَرۡضِ إِذَآ أَنتُمۡ تَخۡرُجُونَ﴾ [الروم :25]
ومِنْ آياتِهِ سُبحانَهُ أنْ يَدومَ قيامُ السَّماءِ والأرْضِ ويَثبُتا هكذا بأمرِه دونَ أنْ يَعتَريَ نظامَهما خلَلٌ وعَيب، ثمَّ إذا أمرَكمْ بالخُروجِ مِنَ القُبورِ يَومَ القيامَة، إذا أنتُمْ تَخرُجونَ منها وتُبعَثونَ للحِسابِ والجَزاء.
﴿وَلَهُۥ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ﴾ [الروم :26]
ولهُ كُلُّ مَنْ في السَّماواتِ والأرْضِ، خَلْقًا، ومُلكًا، وتَصَرُّفًا، والكُلُّ خاضِعونَ لهُ ومُطيعون، لا يتأخَّرونَ عنْ أمرِهِ ولا يَمتَنِعون، طَوعًا وكَرْهًا.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ الۡمَثَلُ الۡأَعۡلَىٰ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الروم :27]
هوَ اللهُ الخالِقُ القادِر، الذي يَخلُقُ ابتِداء، ثمَّ يُعيدُ الخَلقَ بعدَ المَوت، والإعادَةُ أسهَلُ عَليهِ منَ الخَلق، وكِلاهُما بالنسبَةِ إلى قُدرَةِ اللهِ سَواء. والمُرادُ تَقريبُ الأمرِ إلى عُقولِ الجهَلةِ المُنكِرينَ للبَعث، فإعادَةُ إيجادِ شَيءٍ لهُ أثَر، أيسَرُ مِنْ إيجادِهِ مِنَ العدَم.
ولهُ جَلَّ شَأنُهُ الحِكمَةُ التامَّة، والصِّفَةُ الكامِلَة، و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورَى: 11]، كما عُرِفَ بذلكَ بينَ المعتَدِّ بهم مِن أهلِ السَّماواتِ والأرض، وهوَ العَزيزُ الذي غلبَ كُلَّ شَيءٍ وقهرَه، الحكيمُ في أقوالِهِ وأفعالِه.
﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾ [الروم :28]
ضربَ اللهُ لكمْ مثَلاً يَتبيَّنُ فيهِ بُطلانُ الشِّرك، تَفهَمونَهُ مِنْ أنفُسِكم: هلْ يَرضَى أحَدُكمْ أنْ يَكونَ عَبيدٌ لهُ شُرَكاءَ لهُ في مالِه، فتَكونونَ أنتُمْ وهمْ سَواءً في المَال؟ تَخافونَ أنْ يَشارِكوكمْ ويُقاسِموكمْ فيهِ كما تَخافونَ أنْ يَشارِكَكمُ الحُرُّ في مالٍ بينَكما؟ إنَّ أحدَكمْ لا يَرضَى ذلكَ ولا يَخافُ منه، لأنَّ هذا الأمرَ غَيرُ جارٍ أصلاً، فالعَبيدُ كالمالِ مَملوكون. فإذا لم تَرضَوا بهذا لأنفُسِكم، ولم تَخافُوا منه، فكيفَ تَرضَونَ أنْ تَكونَ أصنامُكمُ التي تَعبدُونَها شُرَكائي وهيَ مِنْ عَبيدي ومَخلوقاتي؟!
وبمِثلِ هذا نُفَصِّلُ الآياتِ ونُبَيِّنُها، لقَومٍ يَستَعمِلونَ عُقولَهم، ويتدَبَّرونَ في ضَربِ الأمثَالِ لهم.
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ فَمَن يَهۡدِي مَنۡ أَضَلَّ اللَّهُۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ﴾ [الروم :29]
بلِ اتَّبعَ المشرِكونَ أهواءَهمُ الزائغَة، وأفكارَهمُ المُنحَرِفَةَ بعبادَتِهمُ الأصنَام، دونَ أنْ يَكونَ لهمْ مُستَنَدٌ عِلميّ، فلا يَقدِرُ أحَدٌ على هدايَتِهمْ وقدْ أضَلَّهمُ الله؛ لعِنادِهمْ واستِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الحَقّ، ولا ناصِرَ لهمْ مِنْ أمرِ الله، ولا مُنقِذَ لهمْ مِنْ عذابِه.
﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الروم :30]
فلا تَلتَفِتْ إليهمْ ولا تَحزَنْ عَليهم، واهتَمَّ بما أمرَكَ اللهُ به، وسَدِّدْ وجهَكَ نَحوَ دينِه، مائلاً مِنْ كُلِّ باطِلٍ إليه، واستَقِمْ عَليه، فهوَ ما هداكَ اللهُ إليه، وفطرَ النَّاسَ عَليه، لأنَّهُ دِينُ التَّوحيد، الذي يُطابِقُ الفِطرَةَ السَّليمَة، لا يَنحَرِفُ عَنهُ إلاّ مُعانِدٌ مُستَكبِر. لا تَغييرَ لدِينِ الله، فالدِّينُ والفِطرَةُ: الإسلام، الذي هوَ دِينُ الأنبِياءِ جَميعًا، الدِّينُ الذي لا عِوَجَ ولا انحِرافَ فيهِ عنِ الحَقّ، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمون، ولذلكَ فهمْ يَصُدُّونَ عَنه.
﴿۞مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [الروم :31]
فتوَجَّهوا إلى اللهِ تائبينَ مُخلِصينَ في طاعَتِكم، واخشَوهُ وراقِبوهُ في أقوالِكمْ وأعمالِكم، ووَاظِبوا على إقامَةِ الصَّلاة، ولا تَكونوا مِنَ المُشرِكينَ بالله،
﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ﴾ [الروم :32]
مِنَ الذينَ اختلَفوا في دِينِهمْ وبَدَّلوهُ وصاروا يَعبدُونَ أصنامًا وغَيرَها على اختِلافِ أهوائهم، وكانوا فِرَقًا وأحزابًا عَديدَة، كُلٌّ يَتْبَعُ إمامَهُ ورَئيسَه، وكُلُّ فِرقَةٍ مِنْ هؤلاءِ المُنحَرِفينَ مَسرُورُون، ظَنًّا منهمْ بأنَّهمْ على حَقّ!
﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرّٞ دَعَوۡاْ رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيۡهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنۡهُ رَحۡمَةً إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ﴾ [الروم :33]
وإذا أصابَ النَّاسَ شِدَّةٌ وبَلاء، دعَوا اللهَ وحدَه، ورجَعوا إليه، ولم يَستَغيثوا بالأصْنامِ والأوْثان، فإذا فرَّجَ عَنهم، وأنعَمَ عَليهمْ مِنْ فَضلِه، إذا قِسمٌ مِنْ هؤلاءِ الذينَ دعَوهُ في حالِ الاضطِرارِ يُشرِكونَ به، ويَعبدونَ معَهُ الأصنام!
﴿لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡۚ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ﴾ [الروم :34]
ليَكونَ عاقِبتَهمْ في ذلكَ كفرُهم بما أنعَمنا عَليهمْ مِنَ الأمنِ والعافيَة، والمالِ والولَد، فتمَتَّعوا بهذهِ الشَّهواتِ الفانيَةِ أيُّها الكافِرون، فسَوفَ تَعلَمونَ نَتيجةَ ما تُقْدِمونَ عَليهِ وتَنسَونَ فيهِ أمرَ رَبِّكم.
﴿أَمۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِۦ يُشۡرِكُونَ﴾ [الروم :35]
أمْ أنزَلنا على المُشرِكينَ عِلمًا فهوَ يَنطِقُ بشِركِهم، أو حُجَّةً تَحتَجُّ لهمْ وتأمرُهمْ بالشِّرك؟ ليسَ لهمْ شَيءٌ مِنْ ذلك.
﴿وَإِذَآ أَذَقۡنَا النَّاسَ رَحۡمَةٗ فَرِحُواْ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ﴾ [الروم :36]
وإذا أسبَغنا على النَّاسِ نِعمَة، مِنْ صِحَّةٍ ومَال، وجاهٍ ووَلَد، بَطِروا وأَشِروا، وعصَوا وأفسَدوا، بدلَ أنْ يَشكروا ربَّهمْ ويَزيدوا مِنْ طاعَتِهمْ له. وإذا أصابَهمْ قَحطٌ وبَلاء، بسبَبِ أعمالِهمُ السيِّئةِ وجَرائمِهمُ المُتَكرِّرَة، إذا هُمْ آيسُونَ مِنَ الخَير، لا يَتوقَّعونَ بعدَها رَحمَةً مِنْ رَبِّهم!
﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ اللَّهَ يَبۡسُطُ الرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الروم :37]
أوَلَا يَنظرونَ كيفَ يوَسِّعُ اللهُ الرِّزقَ على مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه، ويُضَيِّقُ على آخَرينَ منهم؟ إنَّ في هذا لَعِبَرًا لمَنْ يؤمِنُ بأنَّ اللهَ بيَدِهِ كُلُّ شَيء، مِنْ رِزقٍ وغَيرِه، ولو أنَّهمْ تفَكَّروا في هذا وتدَبَّروه، لعَلِموا أنَّ المُتصَرِّفَ في رِزقِهمْ وأمرِهمْ كُلِّهِ هوَ اللهُ سُبحانَه، فلمْ يَبطَروا، ولم يَيأَسُوا.