﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اسۡتَوَىٰ عَلَى الۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة :4]
هوَ اللهُ الذي خلقَ السَّماواتِ العَظيمةَ وما فيها مِنْ كواكِبَ ونُجومٍ ومجَرَّات، والأرْضَ وما فيها مِنْ نَباتٍ وحيَوانٍ وجَماد، في ستَّةِ أيَّام، ثمَّ استوَى على العَرش، بالمعنَى الذي أرادَهُ سُبحانَهُ وتَعالَى. ليسَ لكمْ أحَدٌ غَيرُهُ يَتولاّكمْ في أمورِكمْ فيَنفعَكم، ولا شَفيعٌ يَشفَعُ لكمْ عندَهُ إلاّ بإذنهِ إذا حَلَّ بكمُ العَذاب، فهوَ الذي يَتولَّى المصَالِح، ويَدفَعُ النِّقَم، بيدِهِ الأمرُ كُلُّه، أفلا تَسمَعونَ هذهِ المَواعِظَ لتَتذَكَّروا وتَعتَبِروا، وتَعلَموا أنْ لا رَبَّ سِوَاه؟
﴿يُدَبِّرُ الۡأَمۡرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة :5]
الذي يُدَبِّرُ أمرَ الدُّنيا وشُؤونَها(108) ، ويَتنَزَّلُ أمرُهُ وقَضاؤهُ مِنْ أعلَى السَّماواتِ إلى أدنَى الأرَضِين، ثمَّ يَصعَدُ الأمرُ إليهِ بعدَ تَدبيرِه(109) ، في يَومٍ قَدْرُهُ مَسيرَةُ ألفِ سنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَهُ في الدُّنيا.
(108) {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: التدبيرُ حقيقتهُ التفكيرُ في إصدارِ فعلٍ متقَن، أولهِ وآخره... وهو إذا وُصِفَ به الله تعالى كنايةٌ عن لازمِ حقيقته، وهو تمامُ الإتقان. (التحرير، باختصار).
(109) {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}: اختُلِفَ في معناه، وقالَ العلامةُ إسماعيل حقي: أي: يصعدُ ذلك الأمرُ إليه تعالى ويَثبتُ في علمهِ موجودًا بالفعل.
﴿ذَٰلِكَ عَٰلِمُ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ الۡعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [السجدة :6]
ذلكَ هوَ اللهُ العَظيم، الذي يَعلَمُ ما غابَ عنِ البشَرِ عِلمُهُ ورُؤيَتُه، جَليلَهُ وحَقيرَه، كما أحاطَ عِلمُهُ بجَميعِ ما هوَ مُشاهَد، وهوَ العَزيزُ الذي غلبَ كُلَّ شَيءٍ وقهَرَه، الرَّحيمُ بعِبادِهِ في تَدبيرِهِ شُؤونَهم.
﴿الَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ الۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ﴾ [السجدة :7]
الذي أحسنَ خَلْقَ الأشيَاء، فأتقنَها وأحكمَها، وجَعلَ لها ما يُناسِبُها ويُوافِقُها شَكلاً ومَضْمونًا، كما تَقتَضيهِ الحِكمَة، لا تَجِدُ فيها نَقْصًا واختِلافًا، وبدأ خلقَ جِنسِ الإنسَانِ مِنْ طِين، وهوَ آدَمُ أبو البشَر، عَليهِ السَّلام.
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ﴾ [السجدة :8]
ثمَّ جَعلَ ذُرِّيَتَهُ يَتناسَلونَ مِنْ ماءٍ ضَعيفٍ مَمتَهَن، هوَ المَنيُّ، مِنَ الرَّجُلِ والمَرأة.
﴿ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمۡعَ وَالۡأَبۡصَٰرَ وَالۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾ [السجدة :9]
ثمَّ سَوَّاهُ بتَكمِيلِ أعضَائه، ولَحمِهِ وأعصَابِه، ونَفخَ فيهِ الرُّوح، وخلقَ لكمُ السَّمعَ لتَسمَعوا بها ما حَولَكمْ وتَعُوا، والأبصَارَ لتُبصِروا بها كذلك، والأفئدَةَ لتَتفَكِّروا وتَستَدِلُّوا بها على قُدرَتِهِ وعظمَتِه، ولكنَّكمْ قَليلاً ما تَشكُرونَ هذهِ النِّعَمَ التي تَنفَعُكم.
﴿وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي الۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [السجدة :10]
وقالَ المشرِكونَ المُعانِدون: أإذا هلَكنا وغِبنا في الأرْض، واختلَطَتْ أجسادُنا بالتُّرابِ وتبَعثَرَتْ فيه، هلْ نُخْلَقُ ونُبعَثُ مِنْ جَديدٍ بعدَ تلكَ الحَال؟ بلْ همْ جاحِدونَ بالبَعثِ والحِسابِ على الأعمَال، ولو أنَّهمْ آمَنوا بذلكَ لكانوا مؤمِنينَ بقُدرَةِ اللهِ على إحيَاءِ الموتَى.
﴿۞قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ الۡمَوۡتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ﴾ [السجدة :11]
قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسُول: إنَّ مَلَكَ المَوتِ الذي وُكِّلَ بقَبضِ أرواحِكم، يَقبِضُها بأمرِ رَبِّه، ثمَّ تُرجَعونَ إلى اللهِ يَومَ المَعادِ للحِسابِ والجَزاء.
﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ الۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَارۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة :12]
ولو ترَى حالَ المشرِكينَ يَومَ القيامَةِ وقدْ أطرَقوا رُؤوسَهمْ بينَ يَدَي اللهِ ذَليلين، مِنَ الحيَاءِ والخِزي والندَم، ويَقولون: الآنَ يا ربَّنا صِرْنا نَعرِفُ ونُدرِك، ونَسمَعُ ونُبصِر، فأَعِدنا إلى الدُّنيا لنُطيعَكَ ونعملَ الأعمَالَ الصَّالِحَة، ولا نُشرِكَ بكَ شَيئًا، إنَّا مؤمِنونَ بك، مُوقِنونَ بالبَعثِ بعدَ المَوت.
وقدْ عَلِمَ اللهُ أنَّهمْ لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لعَادُوا لِمَا نُهوا عَنه.
﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنۡ حَقَّ الۡقَوۡلُ مِنِّي لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الۡجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجۡمَعِينَ﴾ [السجدة :13]
ولو أرَدنا لهدَينا كُلَّ نَفسٍ إلى الإيمَان، وأجبَرناها على القِيامِ بما يُرضي الله، كالمَلائكَةِ الذينَ لا يَعصُونَهُ فيما أمرَهمْ به، ولكنَّهُ سُبحانَهُ تركَ حُرِّيَّةَ الاختِيارِ للإنسَان، وبيَّنَ لهُ طَريقَ الخَيرِ والشَّرّ، وجعلَهُ مَسؤولاً عمَّا يَختارُ ويَعمَل. وقدْ ثبتَ وتحقَّقَ القَولُ مِنِّي، لأملأنَّ جهنَّمَ مِنَ الكافِرينَ والضَّالِّينَ المُخالِفينَ للحَقّ، مِنَ الجِنِّ والإنسِ أجمَعين، وأنتُمْ منهمْ أيُّها المشرِكون، فقدْ أغوَاكمْ إبليسُ فأطَعتُموه، واختَرتُمُ الضَّلالَ على الهُدَى.
والعُصاةُ مِنَ المسلِمينَ يُعَذَّبونَ في جهنَّمَ ثمَّ يَخرجونَ منها، إلاّ مَنْ عَفا اللهُ عَنهم، فلا يُعَذَّبون.
﴿فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَآ إِنَّا نَسِينَٰكُمۡۖ وَذُوقُواْ عَذَابَ الۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [السجدة :14]
فذوقوا عَذابَ النَّارِ بسبَبِ تَركِكمُ الإيمانَ والعملَ لِلقاءِ هذا اليَوم، إنَّا ترَكناكُمْ في العَذابِ تَرْكَ المَنسِيِّ، وذُوقوا عُقوبَةً شَديدةً دائمَةً في جهنَّم، لا يُطْفَأُ نارُها، ولا يُخفَّفُ عَذابُها، بما كنتُمْ تَعمَلونَ مِنَ الكُفرِ والمَعاصِي.
﴿إِنَّمَا يُؤۡمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَسَبَّحُواْ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ۩﴾ [السجدة :15]
إنَّما يُصَدِّقُ بآياتِنا الذينَ إذا وُعِظوا بها استَمَعوا إليها وعَمِلوا بما فيها، مِنْ غَيرِ ترَدُّدٍ ولا تَكبُّر، وبادَروا إلى السُّجودِ لرَبِّهمْ على وُجوهِهم؛ تَواضُعًا لهُ وخَوفًا مِنْ عَذابِه، ونزَّهوهُ عنْ كُلِّ ما لا يَليقُ بذاتِهِ وأسمائهِ وصِفاتِه، وأثنَوا عليهِ الخَيرَ كُلَّه، لِما هَداهُمْ إلى دِينِه، وأسبَغَ عَليهمْ مِنْ نِعَمَه، وهمْ لا يَستَكبِرونَ عنِ الإيمانِ بهِ وطاعَتِهِ والسُّجودِ له.
﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ الۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة :16]
تَتباعَدُ أطرافُهمْ عنِ الفُرُشِ وتَنبو عنْ مَواضِعِ النَّوم، فيَقومونَ اللَّيلَ يتهَجَّدون، يَعبدُونَ اللهَ ويَدعُونَهُ خَوفًا مِنْ عَذابِه، وطَمعًا في كرَمِهِ وجنَّتِه، ويُنفِقونَ ممَّا رزَقناهُمْ في وُجوهِ البِرِّ والإحسَان، مِنَ الزكَواتِ والصَّدَقات.
وفي الحَديثِ الصَّحيحِ قَولهُ صلى الله عليه وسلم: "عَليكمْ بقِيامِ اللَّيلِ فإنَّهُ دأَبُ الصَّالِحينَ مِنْ قَبلِكم، وقُربَةٌ إلى اللهِ تَعالَى، ومَنهَاةٌ عنِ الإثم، وتَكفِيرٌ للسَّيِّئات، ومَطرَدَةٌ للدَّاءِ عنِ الجسَد".
وقالَ أنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنه: فينا نزلَتْ مَعاشِرَ الأنصار، كُنَّا نُصَلِّي المَغرِب، فلا نَرجِعُ إلى رِحالِنا حتَّى نُصَلِّيَ العِشاءَ الآخِرَةَ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
﴿فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [السجدة :17]
فلا تَعلَمُ نَفسٌ مِنَ النُّفوسِ ما أُعِدَّ لهمْ مِنَ الثَّوابِ الجَليل، والنَّعيمِ الكَثير، واللَّذَّةِ والسُّرور، ممَّا تَقَرُّ بهِ أعينُهم، جزاءَ ما كانوا يَعمَلونَهُ منَ الأعمالِ الصَّالِحَة.
﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ﴾ [السجدة :18]
فهلِ الذي عُمِّرَ قَلبُهُ بالإيمَان، وانقادَتْ جَوارِحُهُ لطاعَةِ الله، كمَنْ كفرَ به، وجحَدَ رِسالاتِه، وخرَجَ عنْ طاعَتِه؟ إنَّهمْ لا يَستَوونَ في الثَّوابِ يَومَ القيامَةِ أبدًا.
﴿أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّـٰتُ الۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [السجدة :19]
أمَّا الذينَ آمَنوا وصدَقوا في إيمانِهم، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحَةَ لوَجهِ اللهِ وحدَه، فلهمْ جَنَّاتُ النَّعيم، مأوَى اللَّذَّات، ونَعيمُ الأرواح، ومحَلُّ الأفراح، في جِوارِ رَبٍّ كَريم، ضيافَةً وكَرامَة، بما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا منَ الطَّاعاتِ والقُرُبات.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأۡوَىٰهُمُ النَّارُۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمۡ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة :20]
وأمَّا الذينَ كفَروا وخرَجوا عنْ طاعَةِ رَبِّهم، فمَحَلُّهمُ النَّارُ التي تُسْعَرُ بهم، خالِدينَ فيها، كُلَّما حاوَلوا الخروجَ منها - لِما يَلحَقُهمْ مِنَ الحَرِّ والشدَّةِ والكَرْب - ضُرِبوا بالمَقامِع، فأُعيدُوا مِنْ أعالِيها إلى أسافلِها، وقالَتْ لهمُ المَلائكة: ذُوقوا العَذابَ الذي كنتُمْ تُكَذِّبونَ بهِ في الحيَاةِ الدُّنيا.
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الۡعَذَابِ الۡأَدۡنَىٰ دُونَ الۡعَذَابِ الۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [السجدة :21]
ولنُذيقَنَّ هؤلاءِ الفاسِقينَ المكَذِّبينَ طرَفًا مِنَ العَذابِ في الحياةِ الدُّنيا قَبلَ عَذابِ الآخِرَة، مِنَ المَصائبِ والآفات، والأسْرِ والقَتل، والمرَضِ والفَقر، لعلَّ مَنْ بَقيَ منهمْ يَتوبُ ويَرجِعُ إلى الله.
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَآۚ إِنَّا مِنَ الۡمُجۡرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ [السجدة :22]
وليسَ هُناكَ أظلَمُ ممَّنْ وُعِظَ بآياتِ اللهِ فأعرضَ عَنها ولم يَتدَبَّرْ فيها، أو تَناساها وجحَدَها، وسنَنتَقِمُ مِنَ المشرِكينَ المُكَذِّبينَ انتِقامًا شَديدًا.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرۡيَةٖ مِّن لِّقَآئِهِۦۖ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ﴾ [السجدة :23]
ولقدْ آتَينا موسَى التَّوراةَ المُصَدِّقَةَ للقُرآن، فلا تَكنْ في شَكٍّ مِنْ لقَاءِ موسَى. وقدْ رآهُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِيَ به، ووَصفَه، كما رَواهُ البُخاريُّ وغَيرُه.
ووردَ أنَّ المَعنى: لا تَكنْ في شَكٍّ مِنْ تلَقِّي الكِتاب، فإنَّكَ تَتلَقَّاهُ كما تَلقَّى موسَى الكِتاب.
وجَعَلنا التَّوراةَ هادِيًا لبَني إسْرائيلَ مِنَ الضَّلالَة.
﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة :24]
وجعَلنا مِنْ بَني إسْرائيلَ هُداةً وقادَةً في الخَير، يَدْعُونَ إلى الحَقِّ بأمرِ الله، عندَما صبَروا على الدَّعوَةِ إلى اللهِ ونُصرَةِ دِينِهِ والأذَى في سَبيلِه، وكانوا مَصَدِّقينَ بآياتِنا، قدْ رسَخَ الإيمَانُ في قُلوبِهم، ولذلكَ جعَلهمُ اللهُ أئمَّة، وعندَما انحرَفوا عنْ تعاليمِ التَّوراةِ وبدَّلوها، وصارَتْ قُلوبُهمْ قاسيَة، أذلَّهمُ اللهُ ولعنَهم.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ [السجدة :25]
والله يَقضي بينَ المؤمِنينَ والمشرِكينَ يَومَ القيامَة، فيما كانوا يَختَلِفونَ فيهِ مِنْ أُمُورِ العَقيدَةِ والدِّين، ويُميِّزُ بينَ المُحِقِّ والمُبطِل.
﴿أَوَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّنَ الۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍۚ أَفَلَا يَسۡمَعُونَ﴾ [السجدة :26]
أوَلمْ يَتبيَّنْ لهؤلاءِ المُكَذِّبينَ كثرَةُ مَنْ أهلَكنا قبلَهمْ مِنَ الأُمَمِ السَّابقَة، مثلِ عَادٍ وثَمودَ وقَومِ لُوط، وهمْ يَمرُّونَ بمساكنِهمْ ويُشاهِدونَ آثارَ هَلاكِهم، وإنَّ فيما حَلَّ بهمْ مِنْ دَمارٍ وهَلاكٍ بسبَبِ تَكذيبِهمْ ومُخالفَتِهمُ الرسُلَ مَواعِظَ وعِبَرًا، أفلا يَسمَعونَ أخبارَهمْ ويَتَّعِظونَ بها؟
﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَسُوقُ الۡمَآءَ إِلَى الۡأَرۡضِ الۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا يُبۡصِرُونَ﴾ [السجدة :27]
ألَا يُشاهِدونَ دَلائلَ وَحدانيَّةِ اللهِ وآثارَ قُدرَتِهِ في الأرْض، كيفَ يَسوقُ السَّحابَ الحامِلَ للمطَر، أو يُجري الماءَ مِنَ العُيونِ والأنهَار، إلى ما هوَ يابِسٌ منها، لا نَباتَ فيها ولا حياة، فيُخرِجُ بذلكَ الماءِ الزَّرعَ والعُشبَ بأنوَاعِه، فتأكلُ منهُ دَوابُّهم، وهمْ يأكلونَ مِنْ حبوبِهِ وبُقولِه، أفلا يُبصِرونَ ذلكَ فيَتَّعِظون، ويَشكرونَ للهِ ويؤمِنون؟
﴿وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الۡفَتۡحُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [السجدة :28]
ويَقولُ المشرِكونَ مِنْ قَبيلِ التَّكذيبِ والاستِهزاء: ومتَى يُفتَحُ لكمْ ويَفصِلُ اللهُ بينَنا وبينَكم، ويَنتَقِمُ منَّا لكم، إذا كنتُمْ صادِقينَ في ادِّعائكمْ ذلك؟
﴿قُلۡ يَوۡمَ الۡفَتۡحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِيمَٰنُهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ﴾ [السجدة :29]
قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إذا جاءَ يَومُ الحُكمِ والقَضاء، وحَلَّ بكمْ بأسُ اللهِ وغضَبُهُ يَومَ القِيامَة، فلنْ يَنفعَ الكافِرينَ إيمانُهمْ إنْ آمَنوا يَومَئذ، ولا يُمهَلونَ ليَتوبوا ويَعتَذِروا.
﴿فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَانتَظِرۡ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ [السجدة :30]
فأعرِضْ عنهمْ ولا تُبالِ بتَكذيبِهمْ وسُخريَتِهم، وبَلِّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّك، وانتَظرِ النَّصرَ مِنَ الله، إنَّهمْ يترَبَّصونَ بكمْ ويَنتَظِرونَ الغلبَةَ عَليكم، وسترَى عاقِبَةَ أمرِهم.
ووَردَ أنَّ هذهِ الآيةَ مَنسوخَةٌ بآيَةِ السَّيف. وقالَ صاحِبُ "روحِ المعاني": لا يَخفَى أنَّهُ يُحتَمَلُ أنَّ المُرادَ الإعراضُ عنْ مُناظَرَتِهمْ لعدَمِ نَفعِها، أو تَخصيصُها بوَقتٍ مُعَيَّن، فلا يَتعيَّنُ النَّسخ.
وقدْ صَحَّ عنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ كانَ لا يَنامُ حتَّى يَقرأ {الم . تَنزِيلُ} السَّجدة، و{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}. رواهُ الترمذيّ، والحاكم في المستَدرَك، وغَيرُهما.
سورة الأحزاب - مدنية - عدد الآيات: 73
33
﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الۡكَٰفِرِينَ وَالۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [الأحزاب :1]
أيُّها النبيُّ الكريم، داوِمْ على طاعَةِ اللهِ واثبُتْ عَليها، وابتَعِدْ عنْ مَعاصيهِ حذَرًا مِنْ عقوبَتِه، ولا تَسمَعْ مِنَ الكافِرينَ والمُنافِقينَ ولا تَستَشِرهمْ في أَمرٍ مِنْ أمُورِك، واللهُ عَليمٌ بعَواقبِ الأمُور، حَكيمٌ فيما يأمرُ ويَنهَى ويُدَبِّر.
والخِطابُ لأمَّتِهِ كذلك، صلى الله عليه وسلم.
﴿وَاتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [الأحزاب :2]
واتَّبِعْ ما يُوحي إليكَ اللهُ واعمَلْ بموجبِه، واللهُ مُحيطٌ بما تَعمَلون، خَبيرٌ بما تُظهِرونَ وما تُخفُون، لا يَخفَى عليهِ شَيء.
﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلٗا﴾ [الأحزاب :3]
واعتَمِدْ على اللهِ في أمورِكَ كُلِّها وثِقْ به، وكفَى بهِ حافِظًا لمَنْ فوَّضَ إليهِ أمرَه.