﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ النَّعِيمِ﴾ [لقمان :8]
إنَّ الذينَ آمَنوا وأخلَصوا في إيمانِهم، وأتْبَعوهُ بالأعمَالِ الصَّالِحَةِ المُوافِقَةِ للشَّريعَة، لهمْ في اليَومِ الآخِرِ جنَّاتٌ يتنَعَّمونَ فيها ويَسعَدون.
﴿خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٗاۚ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [لقمان :9]
ماكِثينَ فيها أبَدًا، لا يَموتونَ فيها ولا يَبغُونَ غيرَها مِنَ النَّعيم، وهذا وَعدٌ مِنَ اللهِ حَقّ، لا شَكَّ فيه، واللهُ عَزيزٌ لا يَمنَعُ مِنْ إنجازِ ما وعدَ بهِ شَيء، حَكيمٌ يَضَعُ الأمورَ في مَواضِعِها كما يَنبَغي أنْ تَكون.
﴿خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِي الۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجٖ كَرِيمٍ﴾ [لقمان :10]
الذي خلقَ السَّماواتِ السَّبعَ العاليَةَ الواسِعَةَ بغَيرِ أعمِدَةٍ وركائزَ ترَونَها.
يَذكرُ العُلماءُ في هذا العَصرِ أنَّهُ إشارَةٌ إلى قوَّةِ الجَذْبِ التي لا تُرَى، فيما بينَ المجَرَّاتِ والكواكبِ والكُتَلِ التي في السَّماء.
وألقَى في الأرضِ جِبالاً ضَخمَةً مُرتَفِعَةَ لتَثبُتَ بها ولا تَضطَرِبَ بكم، ونشَرَ فيها مِنْ كُلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الحيَوانات، وأنزَلنا مِنَ السَّحابِ مطَرًا، فأنبَتنا بسبَبِهِ مِنْ كُلِّ صِنفٍ مِنْ أصنافِ الشَّجَرِ والنَّباتِ ما هوَ حسَنٌ مَنظَرُه، ومُفيدٌ نَوعُه.
﴿هَٰذَا خَلۡقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ الظَّـٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾ [لقمان :11]
هذا ما خَلَقَهُ اللهُ وقدَّرَه، فأخبِروني ما الذي خلقَتْهُ الأصنامُ أو غَيرُها ممَّا تَعبُدونَهُ وتَدَّعونَ أُلوهيَّتَه؟ بلِ المشرِكونَ في جَهلٍ وعمًى واضِحٍ بيِّن.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ الۡحِكۡمَةَ أَنِ اشۡكُرۡ لِلَّهِۚ وَمَن يَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٞ﴾ [لقمان :12]
ولقدْ آتَينا لُقمانَ العَقلَ والفَهْمَ والفِطنَة، والإصابَةَ في الأمُورِ والعملَ بها.
ذُكِرَ أنَّهُ كانَ عَبدًا حبشيًّا في زمَنِ داودَ عَليهِ السَّلام، وكانَ وَليًّا حَكيمًا ولم يَكنْ نَبيًّا.
أنِ اشكُرْ للهِ على ما منحَكَ مِنْ فَضلِه، ووَهبَكَ مِنَ الحِكمَة، ومَنْ يَشكُرْ للهِ يَعُدْ نَفعُهُ عَليه، فإنَّهُ يَستَجلِبُ لهُ المَزيدَ مِنَ الخَيرِ في الدُّنيا، ويَزيدُ مِنْ أجرِهِ في الآخِرَة، ومَنْ جحَدَ نِعمةَ اللهَ فلنْ يَضُرَّهُ بشَيء، فهوَ سُبحانَهُ مَحمودٌ بلِسانِ الحَال، وهوَ غَنيٌّ عنْ حَمدِ الحامِدين، وشُكرِ الشَّاكرين، وكُفرانُ النِّعمَةِ يَكونُ وَبالاً على صَاحبِه، فيَجلُبُ لهُ النِّقمَةَ والهَلاك، والسُّخْطَ والعَذاب.
﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِابۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِاللَّهِۖ إِنَّ الشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ﴾ [لقمان :13]
واذكُرْ قَولَ لُقمانَ لابنِهِ وهوَ يَعِظُهُ ويُخَوِّفُه: يا بُنَيّ، لا تُشرِكْ بالله، فإنَّ عِبادَةَ غَيرِ اللهِ معَهُ ظُلمٌ عَظيم، فإنَّهُ وَضعٌ للشَّيءِ في غَيرِ مَوضِعِه، وتَسويَةٌ للإلهِ بغَيرِه، وشُكرٌ لمَنْ لم يَفعَلْ شَيئًا ولا يَستَحِقُّه.
﴿وَوَصَّيۡنَا الۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ اشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ الۡمَصِيرُ﴾ [لقمان :14]
قالَ اللهُ تعالَى ما مَعناه: وأمَرْنا الإنسَانَ بالإحسَانِ إلى والِدَيه، يَبَرُّهما ويَعطِفُ عَليهِما، ويتعَهَّدُهما ويُشفِقُ عَليهما، ويُنفِقُ عَليهِما، حمَلَتْهُ أُمُّهُ في بَطنِها ضَعفًا على ضَعف، ومشَقَّةً بعدَ مشَقَّة، وفِطامُهُ في عامَينِ بعدَ الوِلادَة، أنِ اشكُرْ لي بالطَّاعَةِ وفِعلِ ما يُرضي، ولوالِدَيكَ بالصِّلَةِ والبِرِّ والدُّعاء، وإليَّ مَصيرُك، وعَليَّ حِسابُك، لأجزيَكَ أوفرَ الجَزاء.
﴿وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي الدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَاتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [لقمان :15]
وإذا بذَلا جُهدَهُما وحرَصَا على أنْ تُشرِكَ بي شَيئًا لا يَصِحُّ أنْ يَكونَ إلهًا ولا يَستَقيم، لكنَّهُ عَقيدَتُهما، فلا تَسمَعْ منهما، فـ"لا طاعَةَ لمَخلوقٍ في مَعصِيَةِ الله" كما في الحَديثِ الصَّحيح، ولكنْ دارِهِما في الدُّنيا، وصاحِبْهما بالعِشْرَةِ الجَميلَة، بما يُوافِقُ الشَّرْعَ ويَقتَضيهِ الكرَمُ والمُروءَة، كإطعَامِهما، وعِيادَتِهما إذا مَرِضا، واتَّبِعْ طَريقَ مَنْ أقبلَ على طاعَتي، ولا تَتَّبعْ طَريقَهُما في الكُفرِ والمَعصِيَة، ثمِّ إليَّ مَصيرُكمْ جَميعًا، مَنْ آمَنَ ومَنْ كفَر، لأجزيَ كُلاًّ بما عَمِل.
﴿يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي السَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي الۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا اللَّهُۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ﴾ [لقمان :16]
قالَ لُقمانُ يَعِظُ ابنَه: يا بُنَيّ، إنَّ الخَصلَةَ مِنَ الإساءَةِ والإحسَان، مَهما كانتْ صَغيرَةً حَقيرَة، كزِنَةِ حبَّةِ خَرْدَل(107) ، فتَكُونُ في أخفَى مَكان، كجَوفِ صَخرَة، أو في أيِّ مَكانٍ مِنَ السَّماواتِ والأرْض، يُحْضِرُها الله، ويُحاسِبُ مَنْ عَمِلَ بقَدْرِها، إنَّ اللهَ لَطيفٌ بكيفيَّةِ استِخراجِها وإحضارِها، عالِمٌ بكُنهِها ومَكانِها.
(107) الخَرْدَلُ نباتٌ عشبيّ، تُستَعملُ بزورهُ في الطبّ، ويُضرَبُ بها المثَلُ في الصِّغَر. (ينظر المعجم الوسيط).
﴿يَٰبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِالۡمَعۡرُوفِ وَانۡهَ عَنِ الۡمُنكَرِ وَاصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ الۡأُمُورِ﴾ [لقمان :17]
يا بُنَيّ، واظِبْ على إقامَةِ الصَّلاةِ في وَقتِها، وبحُدودِها وأرْكانِها، وَأْمُرْ بما هوَ خَيرٌ وحسَنٌ مِنَ الأمُور، وَانْهَ عمَّا هوَ فاحِشٌ وسَيِّىءٌ، بحَسَبِ طاقَتِكَ وجُهدِك، إنِ استَطَعتَ باليَدِ فباليَد، وإلاّ فبِلِسانِك، فإنْ لم تَستَطِعْ فبِقَلبِك، واصبِرْ على ما أصَابكَ مِنَ الأذَى بسبَبِ أمرِكَ بالمَعرُوفِ ونَهيكَ عنِ المُنكَر، فإنَّ ما تَقومُ بهِ إصلاحٌ وفَضيلَةٌ عَظيمَةٌ تُوجِبُ منكَ التَّهيُّؤَ لذلكَ والصَّبرَ عَليه، والصَّبرُ مِنْ قوَّةِ العَزم، والهِمَّةِ العاليَة.
﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي الۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ﴾ [لقمان :18]
ولا تُعْرِضْ بوَجهِكَ عنِ النَّاسِ إذا كلَّمتَهمْ أو كلَّمُوك؛ استِكبارًاً عَليهمْ وتَحقِيرًا لِشَأنِهم، ولكنْ أَلِنْ جانِبَكَ لهم، وابسُطْ وجهَكَ لهم. ولا تَمشِ في الأرْضِ أَشِرًا مُتَكبِّرًا كما يَفعَلُ أهلُ الخُيَلاءِ والتكبُّر، إنَّ اللهُ يَبغُضُ المُتَبَختِرَ في مِشْيَتِه، المُفتَخِرَ بمالِهِ وجاهِه.
﴿وَاقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَاغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ الۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ الۡحَمِيرِ﴾ [لقمان :19]
وتوَسَّطْ في مَشيكَ واعتَدِلْ فيه، لا سَريعًا ولا بَطيئًا، ولا تَرفَعْ صَوتِكَ فيما لا حاجةَ لكَ فيه، فإنَّ خَفضَ الصَّوتِ أدَبٌ وثِقَةٌ بالنَّفس، والزَّعْقُ بهِ ورَفعُهُ عاليًا سُوءُ خُلُقٍ وصِفَةٌ مَذمومَة وغايةٌ في الكَراهة. إنَّ أقبَحَ الأصواتِ وأوحشَها على السَّمعِ نَهيقُ الحَمير.
﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ﴾ [لقمان :20]
ألمْ تَنظُروا كيفَ ذَلَّلَ اللهُ لكمْ ما يَلزَمُكمْ ممَّا في السَّماواتِ والأرْض، مِنَ اللَّيلِ والنَّهار، والرِّيحِ والمطَر، والشَّجَرِ والثَّمَر، والدَّوابِّ والطَّير، وجَميعِ ما في البَرِّ والبَحر، وأوسعَ عَليكمْ نِعمَهُ الظَّاهِرَةَ والباطِنَة، الواضِحةَ والخَفيَّة، مِنْ إرسالِ الرُّسُل، وإنزالِ الكتُب، والسَّمعِ والبصَر، والعَقلِ والفَهم... وهُناكَ مَنْ يُناقِشُ ويُخاصِمُ في تَوحيدِ اللهِ وإرسَالِ الرسُلِ والمَعاد، بغَيرِ دَليلٍ عِلميٍّ ولا استِنادٍ إلى حُجَّةٍ صَحيحَة، ولا كِتابٍ صَحيحٍ يُبَيِّنُ مُعتقَدَه.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ الشَّيۡطَٰنُ يَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان :21]
وإذا قيلَ للمُشرِكينَ المُجادِلين: تعالَوا واتَّبِعوا ما أنزلَ اللهُ على رَسولِهِ مِنَ الحَقِّ والتَّوحيدِ والشَّرعِ الحَنيف، قالوا في جَهلٍ وعِناد: بلْ نتَّبِعُ الأمرَ الذي وجَدنا آباءَنا وأجدادَنا عَليه، فنَعبدُ ما كانوا يَعبدُون، ونُقَلِّدُهمْ فيما كانوا يَفعَلون! أوَلو كانَ الشَّيطانُ يَدعُوهمْ إلى الشِّركِ والضَّلالِ الذي يؤَدِّي بهمْ إلى النَّارِ المُستَعِرَة، فهلْ يَتَّبِعونَ آباءَهمْ ولو كانُوا كذلك؟
﴿۞وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَقَدِ اسۡتَمۡسَكَ بِالۡعُرۡوَةِ الۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى اللَّهِ عَٰقِبَةُ الۡأُمُورِ﴾ [لقمان :22]
ومَنِ انقادَ لأمرِ الله، وفوَّضَ إليهِ أمرَه، وأخلَصَ لهُ الطَّاعَة، وأحسَنَ في عمَلِه، فقدْ تعلَّقَ بأوثَقِ ما يُتعَلَّقُ بهِ مِنَ الأسبَاب، واعتصَمَ بما لا يُخافُ انقِطاعُه، وإلى اللهِ وحدَهُ تَصيرُ الأمُور، ليُجازيَ كُلاًّ بما يَستَحِقّ.
﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحۡزُنكَ كُفۡرُهُۥٓۚ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لقمان :23]
ومَنْ كفرَ مِنْ هؤلاءِ بنُبوَّتِكَ فلا تَحزَنْ عَليهم، فإلَينا مَرجِعُهمْ يَومَ القِيامَة، ونَفتَحُ لهمْ صحَائفَ أعمالِهم، لِنُرِيَهمْ جَميعَ ما عَمِلوهُ مِنَ الكُفرِ والمَعاصي في الدُّنيا ونُحاسِبَهمْ عَليه، ولا يَخفَى على اللهِ شَيءٌ ممَّا أخفَوهُ في صُدورِهم، فَضلاً عمَّا أظهَروهُ في مَقالِهمْ وفَعالِهم.
﴿نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا ثُمَّ نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٖ﴾ [لقمان :24]
نُنعِمُ عَليهمْ زَمانًا قَليلاً في الحيَاةِ الدُّنيا ونُمهِلُهم، ليَستَمتِعوا بما يَشاؤونَ إلى انقِضاءِ آجالِهم، ثمَّ نُلجِئُهمْ يَومَ القيامَةِ إلى عَذابٍ شَديدٍ شاقٍّ لا يَنفَكُّ عَنهم.
﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُۚ قُلِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [لقمان :25]
وإذا سألتَ المشرِكين: مَنِ الذي خلقَ هذهِ السَّماواتِ والأرْضَ وما فيهِما؟ فسيَعتَرِفونَ ويَقولون: إنَّهُ الله، فقُل: الحَمدُ للهِ على اعتِرافِهمْ بذلك، وإلزامِهمْ بما يُوجِبُ بُطلانَ ما هُمْ عَليهِ مِنْ باطِلٍ وشِرك، وأكثَرُهمْ لا يَعلَمونَ وُجوبَ مَعرِفَةِ العَقيدَةِ الصَّحيحَةِ عَليهم، فهمْ جاهِلونَ غَيرُ مُكتَرِثين.
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الۡغَنِيُّ الۡحَمِيدُ﴾ [لقمان :26]
للهِ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْض، خَلقًا، ومُلكًا، وتَدبيرًا، فالعِبادَةُ لهُ وَحدَه، لا لأحَدٍ مِنْ خَلقِه، وهوَ الغَنيُّ عنهمْ جَميعًا، المَحمودُ في الأمُورِ كُلِّها.
﴿وَلَوۡ أَنَّمَا فِي الۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَالۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [لقمان :27]
ولو أنَّ جَميعَ الأشجَارِ التي في الأرْضِ بُرِيَتْ وجُعِلَتْ أقلامًا، وجُعِلَ البَحرُ مِدادًا، يَمُدُّ هذهِ الأقلامَ بهِ كُلَّما انتهَى مِدادُها، ومُدَّ هذا البَحرُ بسَبعَةِ أبحُرٍ أُخرَى بعدَ انتِهائه، وكُتِبَ بها كَلامُ الله، لَمَا نَفِدَ كلامُهُ سُبحانَه، لعدَمِ تَناهيه، واللهُ عَزيزٌ لا يُعجِزُهُ شَيء، قدْ غلبَ كُلَّ شَيءٍ وقهَرَه، حَكيمٌ في حُكمِهِ وأمرِهِ وجَميعِ شُؤونِه.
والمُرادُ بالسَّبعَةِ الكَثرَةُ والمُبالَغَة، لا الحَصر.
﴿مَّا خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسٖ وَٰحِدَةٍۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ﴾ [لقمان :28]
ما خَلقُكمْ جَميعًا أيُّها النَّاس، ولا بَعثُكمْ بعدَ المَوت، إلاّ كخَلقِ وبَعثِ نَفسٍ واحِدَة، فالكُلُّ عَلى اللهِ سَهلٌ يَسير، ولا يتعَذَّرُ عَليهِ شَيء، وأمرُهُ سُبحانَهُ لا يَحتاجُ إلى تأكيدٍ وتِكرار، إنَّما يَقولُ للشَّيء، أو الأشياء: كُنْ، فيَكون. واللهُ يَسمَعُ جَميعَ أقوالِكم، بَصيرٌ بأعمالِكمْ كُلِّها.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيۡلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيۡلِ وَسَخَّرَ الشَّمۡسَ وَالۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [لقمان :29]
ألَا تُشاهِدُ كيفَ أنَّ اللهَ بقُدرَتِهِ يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ شَيئًا فشَيئًا، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ كذلك، بميزانٍ ودِقَّةٍ مُتناهيَة، وسَخَّرَ الشَّمسَ والقمرَ فجعلَهُما مُذَلَّلَينِ طائعَينِ لِمَا يُرادُ منهما في خِدمَةِ الإنسَان، وهُما يَجرِيانِ إلى حَدٍّ مُعَيَّن، وإلى وَقتٍ مُحَدَّد، ليتكوَّنَ مِنْ حرَكاتِهما اللَّيلُ والنَّهار، والشَّهرُ والسَّنَة... إنَّهُما مِنْ صُنعِ اللهُ الخالِقِ المُدَبِّر، الذي أحاطَ عِلمُهُ بجَميعِ ما تَعمَلون، ظاهِرِهِ وخَفيِّه.
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ الۡبَٰطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الۡعَلِيُّ الۡكَبِيرُ﴾ [لقمان :30]
ذكرَ اللهُ تلكَ الآياتِ وبيَّنها لكم، لتَستَدِلُّوا بها على أنَّهُ الإلهُ الحقّ، وأنَّ ما يَعبدُهُ المشرِكونَ مِنْ دُونِهِ باطِلٌ مَعدومةٌ أُلوهيَّتُه، وأنَّ اللهَ هوَ العَليُّ على الأشيَاءِ فلا أعلَى منه، الكبيرُ الذي لا أكبَرَ منه، فكُلُّ شَيءٍ حَقيرٌ بالنسبَةِ إليه، جَلَّ جلالُه، وعَظُمَتْ قُدرَتُه.
﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ الۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي الۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ﴾ [لقمان :31]
ألمْ تَنظُرْ كيفَ تَجرِي السُّفُنُ والبَواخِرُ والأسَاطيلُ في البَحرِ بتَسخيرِ الله، فجَعلَ فيهِ مَوازينَ لتَطفوَ عليهِ بالرَّغمِ مِنْ ثِقْلِها، ليُريَكمْ دَلائلَ ألوهيَّتِهِ وقُدرَتِه؟ وفي تَسخيرِ البَحرِ لكمْ ولُطفِهِ بكمْ لتَجريَ فيهِ السُّفُنُ مُحمَّلةً بالأطعِمَةِ وعُروضِ الأموَالِ ومَوادِّ التِّجارة، آياتٌ وعِبَرٌ لمَنْ كانَ كثيرَ الصَّبرِ على الشدَّةِ والضرَّاء، كثيرَ الشُّكرِ لرَبِّهِ وهوَ في النَّعيمِ والرَّخاء.
﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى الۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ﴾ [لقمان :32]
وإذا عَلاهُمْ مَوجٌ مِنْ أموَاجِ البَحرِ كالجِبالِ والسَّحابِ في عِظَمِه، خافُوا والتَجَؤوا إلى اللهِ يَدعُونَهُ بإخلاص، ولم يُشرِكوا بهِ شَيئًا مِنَ الأوثانِ وغَيرِها، فلمَّا أنقذَهُمْ مِنَ الكَربِ وخلَّصَهمْ مِنَ الغرَقِ إلى حَيثُ السَّلامَةُ والأمَان، فمنهمْ مَنْ توسَّطَ واعتدَلَ فسلَكَ الطَّريقَ المستَقيم، ومنهمْ مَنْ أشرَكَ وكفرَ بنِعمَتِنا عليه، وما يَكفرُ بآياتِنا إلاّ كُلُّ خَائنٍ غادِر، جَحودٍ للنِّعَم.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَاخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الۡغَرُورُ﴾ [لقمان :33]
أيُّها النَّاس، أَطيعوا ربَّكمْ ولا تُخالِفوا أمرَه، واخشَوا يَومَ القِيامَةِ فإنَّهُ يَومٌ عَظيم، والحِسابُ فيهِ شَديد، يَومَ لا يُغني والِدٌ عنْ ولَدِهِ ولا يَنفَعهُ شَيئًا، ولا يُغني ولَدٌ عنْ والدِهِ ولا يُقبَلُ أنْ يَفدِيَهُ بشَيء، إنَّ المَعادَ حَقّ، والثَّوابَ والعِقابَ على الأعمَالِ حَقّ، فلا تُلهيَنَّكمُ الدُّنيا بلذَّاتِها وشَهواتِها عنْ طاعَةِ الله، ولا يَخدَعَنَّكمُ الشَّيطانُ فيَحمِلَكمْ على العمَلِ بالمَعاصي بتَزيينِها في نفُوسِكم.
﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي الۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ﴾ [لقمان :34]
إنَّ اللهَ استأثرَ بمَعرِفَةِ وَقتِ قيامِ الساعَة، لا يَعلَمُ ذلكَ أحَدٌ غيرُه، لا نبيٌّ مُرسَلٌ ولا ملَكٌ مُقَرَّب.
وهوَ الذي يَعلَمُ زَمانَ نُزولِ المطَرِ ومَكانَهُ ومِقدارَه.
ويَعلَمُ ما في الأرحام: أذَكَرٌ هوَ أمْ أُنثَى، تامٌّ أمْ ناقِص، وعُمرَهُ ورِزقَه، وما يَكونُ شَأنُهُ منذُ كَونِهِ نُطفَة، وعِلمُهُ شامِلٌ لكُلِّ أَجِنَّةِ الكائناتِ الحيَّة، وعِلمُهُ بها قَديمٌ قَبلَ الخَلق.
ولا تَدري نَفسٌ ما الذي تَجنيهِ وتَستَفيدُهُ في المُستَقبَل، مِنْ خَيرٍ وشَرّ.
ولا تَدري نَفس، بَرَّةٌ أو فاجِرَة، في أيِّ مَكانٍ ستَموت.
إنَّ الذي يَعلَمُ ذلكَ كُلَّهُ في زَمانِهِ ومَكانِه، هوَ اللهُ وحدَه، إنَّهُ عَليمٌ بكُلِّ الأشيَاء، وخَبيرٌ بتفاصيلِها جَميعًا، ظوَاهرِها وبَواطنِها، وما يُحيطُ بها.
سورة السجدة - مكية - عدد الآيات: 30
32
الحروفُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ صَحيح، واللهُ أعلَمُ بمُرادِها.
﴿تَنزِيلُ الۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [السجدة :2]
تَنزيلُ القُرآنِ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا شَكَّ أنَّهُ مِنْ عندِ اللهِ رَبِّ العَالَمين.
﴿أَمۡ يَقُولُونَ افۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ الۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ﴾ [السجدة :3]
بلْ يَقولُ المشرِكونَ إنَّ محمَّدًا اختلَقَ القُرآنَ مِنْ تِلقاءِ نَفسِه. بلْ هوَ القَولُ الحَقُّ والكلامُ الصِّدْقُ المُنْزَلُ مِنْ عندِ رَبِّك، لتَدعوَ بهِ قَومًا وتُنذِرَهم، ما أتاهُمْ رَسولٌ مِنْ قَبلِ زَمانِكَ منذُ إسماعيلَ عَليهِ السَّلام - أو أنَّ المَقصودَ أهلُ الفَترَة، بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلام - لعلَّهمْ يتَّعِظونَ بإنذارِك، ويَتَّبِعونَ الحقَّ بدَعوَتِك.