﴿وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَلِتَبۡلُغُواْ عَلَيۡهَا حَاجَةٗ فِي صُدُورِكُمۡ وَعَلَيۡهَا وَعَلَى الۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ﴾ [غافر :80]
ولكمْ فيها مَنافِعُ أُخرَى غَيرُ الرُّكوبِ والأَكل، كشُربِ ألبانِها، والاستِفادَةِ مِنْ أصوافِها وأوبارِها وجُلودِها، لصُنعِ الثِّيابِ والأحذيَةِ والأمتِعَةِ منها، ولتَبلُغوا بواسِطَتِها أُمورًا تَخصُّكمْ وتَقضي حاجاتٍ لكم، كحَملِ الأثقالِ عَليها والتنَقُّلِ بها مِنْ بلَدٍ إلى آخَر، وتُحمَلونَ عَليها في البَرِّ، كما تُحمَلونَ على السُّفُنِ في البَحر، وقدْ سَخَّرَ اللهُ لكمْ كُلَّ ذلكَ وهَيَّأهُ لمَنافعِكم.
﴿وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَأَيَّ ءَايَٰتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ﴾ [غافر :81]
ويُريكمُ اللهُ بذلكَ دَلائلَ قُدرَتِهِ وعظَمتِه، فأيًّا مِنْ هذهِ الآياتِ العَظيمَةِ تُنكِرون؟ إلاّ أنْ تُعانِدوا وتُكابِروا.
﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِنۡهُمۡ وَأَشَدَّ قُوَّةٗ وَءَاثَارٗا فِي الۡأَرۡضِ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [غافر :82]
أوَلمْ يُسافِرِ المشرِكونَ فيَنظُروا في آثارِ الذينَ أهلَكناهُمْ ممَّنْ كانوا قَبلَهم، كثَمودَ وعادٍ وقَومِ لُوط، وقدْ كانوا أقوَى منهمْ أبدانًا، وأكثرَ آثارًا وعُمرانًا في الأرْض، فلمْ تَنفَعْهُمْ قُوَّتُهمْ وصِناعاتُهم، ولم تَمنَعْهمْ مِنْ عَذابِ الله، بلْ كانَ ذلكَ مِنْ أسبَابِ غُرورِهمْ وهَلاكِهم.
﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [غافر :83]
فلمَّا جاءَتْهمْ رسُلُنا بالمُعجِزاتِ والحُجَجِ الدَّالَّةِ على نبوَّتِهمْ وصِدْقِ رسالَتِهم، اغترَّ المشرِكونَ بما عندَهمْ مِنَ العِلمِ الدنيَويّ، وتَمسَّكوا بما وَرِثوهُ مِنْ آبائهمْ وجادَلوا بهِ مِنَ الأفكارِ الزَّائغَةِ والعَقائدِ الباطِلَة، وجعَلوا مِنَ الأوْهامِ حَقائق، وأحاطَ بهمْ ما كانوا يَستَهزِؤونَ بهِ ويَستَبعِدونَ وقوعَهُ مِنَ المَعادِ والجَزاءِ على الأعمال.
﴿فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ﴾ [غافر :84]
فلمَّا رَأوا شِدَّةَ عَذابِنا، وعَلِموا أنَّهمْ سيُعاقَبونَ على ما اكتسَبوا مِنَ المَعاصي والذُّنوب، أدرَكوا ما كانوا عَليهِ مِنْ كُفرٍ وجَهلٍ وغُرور، وقالوا في استِسلام: آمَنَّا باللهِ وَحدَهُ لا شَريكَ له، وتبرَّأنا مِنَ الآلهَةِ التي كنَّا نَعبُدُها مِنْ دونِ الله.
﴿فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [غافر :85]
ولكنَّهمْ قالوا ذلكَ بعدَ فَواتِ الأوَان، فلمْ يَنفَعْهُمْ إيمانُهمْ بعدَ أنْ عايَنوا العَذاب، لأنَّهُ إيمانٌ عنْ إلجاءٍ واضطِرار، وقدْ مضَى وَقتُ التَّكليف، وجاءَ وَقتُ الحِسابِ والجَزاء. وهذا حُكمٌ عامٌّ وضعَهُ اللهُ للنَّاس، بأنْ لا يَقبلَ إيمانَ أحَدٍ منهمْ عندَ رؤيَةِ العَذاب. وخَسِرَ الكافِرونَ عندَما رأوا بأسَ اللهِ يُحيطُ بهم، وعَلِموا أنَّهمْ في النَّارِ معَذَّبونَ على الدَّوام.
سورة فصلت - مكية - عدد الآيات: 54
41
﴿حمٓ﴾ [فصلت :1]
حروف مُقَطَّعَةٌ ...اختلفَ المفسِّرونَ في دَلالَتِها.
﴿تَنزِيلٞ مِّنَ الرَّحۡمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت :2]
هذا القُرآنُ تَنزيلٌ مِنَ اللهِ المُتَّصِفِ بالرَّحمَةِ العَظيمَةِ الدَّائمَة.
﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [فصلت :3]
كتابٌ بُيِّنَتْ أحكامُه، وفُصِّلَ حَلالُهُ وحرَامُه، وأمرُهُ ونَهيُه، ووَعدُهُ ووَعيدُه، قُرآناً بلِسانٍ عَربيٍّ مُبِين، يَعرِفُ مَعانيَهُ الرَّاسِخونَ في العِلم، المُتَمَكِّنونَ منه.
﴿بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ﴾ [فصلت :4]
فيهِ تَبشيرٌ بالمَثوبَةِ الحُسنَى لمَنْ آمنَ وعَمِلَ بما فيه، وإنذارٌ بالنَّارِ لمنْ كفرَ بهِ وصدَّ عنه، فأعرَضَ أكثَرُهمْ عنْ تَدبُّرِهِ وقَبولِه، معَ بيانِهِ ووضوحِه؛ تَكبُّرًا وعِنادًا، فهمْ لا يُصغُونَ إليه، ولا يَقبَلونَه.
﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيٓ أَكِنَّةٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ وَفِيٓ ءَاذَانِنَا وَقۡرٞ وَمِنۢ بَيۡنِنَا وَبَيۡنِكَ حِجَابٞ فَاعۡمَلۡ إِنَّنَا عَٰمِلُونَ﴾ [فصلت :5]
وقالَ لكَ المشرِكون: إنَّ على قُلوبِنا أغطيَةً كثيفَةً ممَّا تَدعونا إليهِ مِنَ الإيمانِ والتَّوحيد، وفي آذانِنا صَمَمٌ وثِقْلٌ، فلا نَسمَعُ ما تَقولُ ولا نَفهَمُه، ومِنْ بَينِنا وبينِكَ حاجِزٌ غَليظٌ في الدِّين، فلا يُمكِنُ أنْ نَلتَقي، فاعمَلْ أنتَ على طَريقَتِكَ ودِينِك، ونحنُ نَعمَلُ على طَريقَتِنا ولا نتَّبِعُك.
﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَاسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَاسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ﴾ [فصلت :6]
قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: لماذا تَضَعونَ هذا الحاجِزَ بينَكمْ وبينَ الحقّ؟ وما أنا إلاّ بشَرٌ مِثلُكم، إلاّ أنِّي تميَّزتُ عنكمْ بوَحي اللهِ إليّ، فمنْ زعَمَ أنِّي لستُ كذلك، فَليَأتِ بمثلِ ما أُوحيَ إليّ. أدعُوكمْ إلى عِبادَةِ الإلهِ الواحِدِ الذي لا شَريكَ له، فامتَثِلوا أمرَه، وأخلِصوا في العِبادَةِ لهُ وَحدَه، ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا، واستَغفِروهُ مِنْ ذُنوبِكمْ وأعمالِكمُ السيِّئة، والخَسارَةُ والهَلاكُ لمَنْ يَبقَى على الشِّركِ والعِصيان.
﴿الَّذِينَ لَا يُؤۡتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُم بِالۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [فصلت :7]
الذينَ لا يُؤتُونَ الزَّكاة؛ لبُخلِهم، وعدَمِ شَفقَتِهمْ على الفُقَراءِ والمُحتاجِين، وهمْ يَجحَدونَ البَعثَ والحِساب، والجنَّةَ والنَّار، ولذلكَ فهمْ يَتصَرَّفونَ دونَ خَوفٍ مِنْ رَقابَةٍ عَليهم، ومُحاسبَةٍ على أعمالِهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ﴾ [فصلت :8]
إنَّ الذينَ آمَنوا وأخلَصُوا في طاعَتِهم، وعَمِلوا الأعمَالَ الحسَنَةَ المُوافِقَةَ للشَّريعَة، لهمْ ثَوابٌ كبيرٌ في الآخِرَة، لا يَنقَطِعُ عنهمْ أبَدًا.
﴿۞قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [فصلت :9]
قُلْ للمشرِكينَ أيُّها النبيُّ الكريم: أتَكفُرونَ باللهِ الخالِقِ العَظيم، الذي خلقَ الأرضَ في يَومَين، وتَجعَلونَ لهُ نُظَراءَ مِنَ الحِجارَةِ وتَعبدُونَها معَه؟ ذلكَ هوَ رَبُّ العالَمينَ كُلِّهم، خالقُهمْ ومالِكهمْ والمتصَرِّفُ في شُؤونِهم.
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ﴾ [فصلت :10]
وجعَلَ في الأرْضِ جِبالاً ثابِتَةً ظاهِرَةً مِنْ فَوقِها، لئلاَّ تَميلَ وتَضطَرِبَ بكم، وبارَكَ فيها، فأودعَ فيها الخَيرَ الكثيرَ ممَّا هوَ نافِعٌ ومُذَلَّلٌ لكم، مِنَ البِحارِ والأشجارِ وأنواعِ المَعادِنِ والنَّباتِ والحيَوان، وحدَّدَ كمِّيَّتَها ومِقدارَ الحاجَةِ إليها، وقسَمَ نَصيبَها للنَّاسِ والبَهائم، في أربعَةِ أيَّام. وهذا جَوابٌ مُهَيَّأٌ لمَنْ سَألَ عنْ خَلقِ الأرْضِ والأقوَاتِ فيها.
﴿ثُمَّ اسۡتَوَىٰٓ إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ائۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت :11]
ثمَّ استَوَى اللهُ سُبحانَهُ إلى السَّماءِ (ذهبَ كثيرٌ مِنَ المُفَسِّرينَ إلى أنَّ مَعناها قَصَدَ إلى السَّماءِ) وهيَ دُخَانٌ، فقالَ لها وللأرْض: افعَلا ما آمرُكما، واستَجيبا لِما أقولُ لكما طَواعيَةً، وإلاّ أتَيتُما كَرْهًا، قالَتا: أَتَيناكَ يا رَبَّنا مُطيعَينِ مُنقادَين.
﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ الۡعَزِيزِ الۡعَلِيمِ﴾ [فصلت :12]
فأتَمَّ خَلقَ السَّماءِ سَبعَ طَبَقاتٍ وأحكمَها في يَومَين، وخلقَ في كُلٍّ منها ما هوَ مُهَيَّأٌ ومُقدَّرٌ لها. وزَيَّنَّا السَّماءَ القَريبَةَ مِنَ الأرْضِ بالكوَاكبِ المُنيرَة، المُشرِقَةِ بأضوَائها وتَلألُئها وحُسنِ مَنظَرِها، وحِفظًا للسَّماءِ مِنَ الشَّياطين، لئلاَّ تَصعدَ إليها وتَستَمِعَ إلى المَلائكة، فيُرمَونَ بالشُّهُبِ مِنْ أنحاءِ السَّماء. وهذا كُلُّهُ مِنْ صُنعِ اللهِ وتَقديرِهِ، العَزيزِ في مُلكِهِ فلا يُقهَر، العَليمِ بأقوالِ عِبادِهِ وأفعالِهمْ جَميعِها.
﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَقُلۡ أَنذَرۡتُكُمۡ صَٰعِقَةٗ مِّثۡلَ صَٰعِقَةِ عَادٖ وَثَمُودَ﴾ [فصلت :13]
فإنْ أعرَضَ المشرِكونَ عمَّا جئتَهمْ بهِ مِنَ الحقِّ، فقُلْ لهم: إنِّي أُنذِرُكمْ صاعِقَةً قويَّةً مُهلِكةً تَحِلُّ بكمْ إذا أصرَرْتُمْ على الكُفرِ والتَّكذِيب، كما حَلَّتْ بعَادٍ قومِ هود، وثَمودَ قومِ صالح.
﴿إِذۡ جَآءَتۡهُمُ الرُّسُلُ مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا اللَّهَۖ قَالُواْ لَوۡ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ فَإِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ﴾ [فصلت :14]
إذْ أرسلَ اللهُ رسُلاً إلى آبائهمْ مِنْ قَبلِهم، ثمَّ أرسَلَ هُودًا إلى عاد، وصَالِحًا إلى ثَمود، وبَذَلوا الجُهدَ في تَبليغِهمْ ونُصحِهم، وتَذكيرِهمْ وتَخويفِهم، ألاّ تَعبُدوا إلاّ الله، ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا.
وقالوا في جِدالٍ باطِل: لو شَاءَ اللهُ أنْ يَرسِلَ رسُلاً لجعَلَهمْ مِنَ الملائكةِ وأرسَلَهمْ إلينا.
وقالوا أخيرًا: فإنَّا نَكفرُ بما أُرسِلتُمْ به، ولا نتَّبِعكمْ فيما جِئتُمْ به!
﴿فَأَمَّا عَادٞ فَاسۡتَكۡبَرُواْ فِي الۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ الۡحَقِّ وَقَالُواْ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ﴾ [فصلت :15]
فأمَّا قَبيلَةُ عادٍ فقدْ طغَوا وتجبَّروا في الأرْضِ بغَيرِ حَقّ، وقالوا في غُرور: ليسَ هُناكَ مَنْ هوَ أقوَى منَّا! أوَلمْ يَتفَكَّروا فيمَنْ هوَ أقوَى منهمْ حقًّا، وهوَ خالِقُهمُ الذي جعَلَهمْ بهذهِ الخِلْقَةِ الضَّخمَة، وأمدَّهمْ بالقوَّة؟ وكانوا يَكفُرونَ بالمُعجِزاتِ التي آتَينَاها رسُلَنا.
﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ لِّنُذِيقَهُمۡ عَذَابَ الۡخِزۡيِ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ الۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا يُنصَرُونَ﴾ [فصلت :16]
فانتقَمنا منهم، وأرسَلنا عَليهمْ عاصِفَةً قَويَّةً شَديدَةَ الهُبوب، في أيَّامٍ مُتَتابِعات، نَكِدَاتٍ مَشؤومَات، حتَّى أبَدناهُمْ عنْ آخِرِهم، لنُذيقَهمْ في الدُّنيا عَذابَ الذُّلِّ والصَّغار، ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ أشَدُّ إهانَةً وإيلامًا، ولنْ يَكونَ هُناكَ مَنْ يَنتَصِرُ لهمْ ويَدفَعُ عنهمُ العَذابَ الذي همْ فيه.
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَاسۡتَحَبُّواْ الۡعَمَىٰ عَلَى الۡهُدَىٰ فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ الۡعَذَابِ الۡهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [فصلت :17]
وأمَّا قَبيلَةُ ثَمودَ، فقدْ بيَّنَّا لهمْ سَبيلَ الهُدَى ودعَوناهمْ إليه، فاختَاروا الضَّلالَ عَليه، وكذَّبوا رَسُولَهمْ صالِحًا، فعُوقِبوا بصاعِقَةٍ قَويَّةٍ مُهلِكةٍ جعَلَتْهمْ أذِلَّةً مُهانين، جَزاءَ تَكذيبِهمْ وإصرارِهمْ على الكُفر.
﴿وَنَجَّيۡنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [فصلت :18]
وأنقَذنا مِنْ بينِهمُ المؤمِنينَ الصَّادِقين، الذينَ كانوا يُطيعونَ اللهَ ويَخافونَ عِقابَه.
﴿وَيَوۡمَ يُحۡشَرُ أَعۡدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ﴾ [فصلت :19]
واذكُرْ لهمْ ذلكَ اليَومَ الشَّديد، الذي يُساقُ فيهِ أعداءُ اللهِ الكافِرونَ ويُدفَعونَ إلى نارِ جهنَّمَ الموقَدَة، وقدْ حُبِسَ أوَّلُهمْ على آخِرِهمْ حتَّى يَتلاحَقوا ويَجتَمِعوا؛ ليُقذَفوا في النَّار.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [فصلت :20]
حتَّى إذا حضَروا ووقَفوا على النَّار، شَهِدَتْ على أعمالِهمُ التي ارتَكبوها جَوارِحُهمْ وأجسادُهم: سَمعُهمْ وأبصارُهمْ وبشَرَتُهم، لا تَكتُمُ شَيئًا.
﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [فصلت :21]
وقالوا مُعاتِبينَ أعضاءَهمْ وجلودَهم: لمَ شَهِدْتُمْ عَلينا بما عَمِلنا؟
قالوا: أنطقَنا اللهُ وأقدرَنا على ذلك، وهوَ القادِرُ الذي أنطقَ كُلَّ شَيء. وهوَ الذي خلقَكمْ أوَّلَ مرَّةٍ ولم تَكونوا شَيئًا، فهوَ القادرُ على إنطاقِ أعضائكم، وإليهِ تُرجَعونَ للحِسابِ والجَزاء.
﴿وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن يَشۡهَدَ عَلَيۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ [فصلت :22]
وما كنتُمْ تَستَخفُونَ في الدُّنيا عنْ سَمعِكم، ولا أبصَارِكم، ولا جُلودِكم، عندَما كنتُمْ تَقتَرِفونَ الفَواحِشَ والمَعاصي، مَخافَةَ أنْ تَشهَدَ عَليكمْ بذلكَ في اليَومِ الآخِر، بلْ كنتُمْ تُجاهِرونَ اللهَ بها ولا تُبالُون، وكنتُمْ تُقدِمونَ على ذلكَ لظَنِّكمْ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كثيرًا ممَّا تَعمَلون.
قالَ القاضي البيضاويُّ رَحِمَهُ الله: أي كنتُمْ تَستَتِرونَ عنِ النَّاسِ عندَ ارتِكابِ الفَواحِشِ مَخافَةَ الفَضَاحَة، وما ظنَنتُمْ أنَّ أعضاءَكمْ تَشهَدُ عَليكمْ فما استَتَرتُمْ عَنها. وفيهِ تَنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ يَنبَغي أنْ يَتحَقَّقَ أنَّهُ لا يَمرُّ عليهِ حالٌ إلاّ وهوَ عَليهِ رَقيب. اهـ.
وقدْ نَزَلَتْ في رِجالٍ قالَ أحَدُهم: أترَونَ أنَّ اللهَ يَسمَعُ كلامَنا هذا؟ فقالَ الآخَر: إنَّا إذا رفَعنا أصواتَنا سَمِعَه، وإذا لم نَرفَعْهُ لم يَسمَعْه. فقالَ الآخَر: إنْ سَمِعَ منهُ شَيئًا سَمِعَهُ كُلَّه.
﴿وَذَٰلِكُمۡ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمۡ أَرۡدَىٰكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم مِّنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [فصلت :23]
وإنَّ ظنَّكمُ الفاسِدَ الذي ظنَنتُمْ برَبِّكم، مِنْ أنَّهُ لا يَعلَمُ كثيرًا ممَّا تُخفون، هوَ الذي أهلَكَكمْ وأردَاكمْ في جهنَّم، فأصبَحتُمْ بسبَبِهِ مِنَ الخاسِرين.
﴿فَإِن يَصۡبِرُواْ فَالنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡۖ وَإِن يَسۡتَعۡتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الۡمُعۡتَبِينَ﴾ [فصلت :24]
فإنْ يَصبِروا على عَذابِ النَّار، فهوَ مَسكَنُهمُ الذي لا يَبرَحونَه، وإنْ يَستَرضُوا اللهَ ويَطلبُوا الرُّجوعَ إلى الدُّنيا ليَعمَلوا صالِحًا، فلنْ يَرضَى اللهُ عَنهمْ ولنْ يُجابَ إلى طلَبِهم.