وإذا وُعِظَ أحدُ هؤلاءِ المنافقينَ وقيلَ له: احذَرْ غَضبَ الله، وانْتَهِ مِنْ فَعالِكَ السيَّئة، وارجِعْ إلى الحقّ، أخَذتْهُ الحميَّةُ والغَضب، وتعاظمَ واستكبرَ أنْ يُوَجَّهَ لهُ مثلُ هذا التذكيرِ والإنكار، لِما امتلأ قلبُهُ مِنَ الكفرِ والعِصيان، فما استَحيا منَ الله، ولا سمعَ كلامَ أحَد، وهوَ في واجهتِهمْ يتَظاهرُ بالإيمانِ والمحبَّةِ والطَّاعة!
ويَكفي أنْ يَكونَ نصيبَهُ النارُ الفظيعةُ يومَ الدين، جزاءَ إفسادهِ وفُجورِه، وكذبِهِ ونِفاقِه، وبئسَ المكانُ الذي يَكونُ فيهِ المرءُ مُعَذَّباً مُحتَرِقاً تأتي النارُ حتَّى على فؤاده، وهوَ يطلبُ فيهِ الموْت، ولكنْ لا موْتَ ولا حَياة، ولكنَّهُ نارٌ مؤجَّجةٌ وعَذابٌ مُستَمِرّ.
وفي مقابلِ المنافقينَ الفاجِرين، هناكَ منَ المؤمنينَ مَنْ يَهَبُ ما ملكَ ليَنفُذَ بإيمانِه؛ طلباً لرضَى الله، كما فعلَ صُهَيبٌ الروميّ، عندما أسلمَ بمكَّةَ وأرادَ الهِجرةَ إلى المدينة، فمُنِع، فتجرَّدَ منْ مالهِ وتخلَّصَ منهمْ بذلك. فمثلُ هذا يرحمهُ الله.
والآيةُ في كلِّ مجاهدٍ في سبيلِ الله، يَهَبُ روحَهُ ليَرضَى عنهُ الله، تاركاً الدُّنيا وما فيها، لينتصرَ لدينِ الله، فتَنتَشِرُ المبادئُ العَظيمة، والأحكامُ العادِلة. فشتّانَ بين المنافِقِ وما طَلب، وبينَ المؤمنِ المجاهدِ وما وَهَب.
هؤلاءِ المنحرِفونَ عنِ الإسْلام، لا يَنتظرونَ سِوَى الساعةِ الحاسمةِ يومَ القيامة، ليقضيَ اللهُ القضاءَ الفصلَ بينَ العباد، يأتي سبحانَهُ في ظُلَلٍ منَ الغمام، والملائكةُ الذينَ يُنَفِّذونَ أوامرَه.
وانتهَى الأمرُ بقضاءِ اللهِ العَدل، فلا خطأ فيه ولا مُراجعةَ عليه، وتمَّ أمرُ إهلاكِهمْ بما يَستَحِقُّونَهُ مِنْ عَذابٍ مُؤلم. وليُعلمَ أنَّ الأمرَ الأخيرَ هوَ للهِ سُبحانَه، لا لغَيرِه، يُجازي كلاًّ بعَملِه.
اسألْ بني إسرائيلَ كمْ آتيناهُمْ منْ أدلَّةٍ ظاهرة، وبَراهينَ كثيرة، على صِدقِ نبيِّهمْ موسَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيما جاءَ به، ومعَ ذلكَ أعرَضوا عنها، واستبدَلوا الكفرَ بالإيمانِ بها!
ومَنْ يُبدِّلُ نعمةَ الإيمانِ التي جاءتْهُ بالشكِّ والإعراض، فإنَّ اللهَ ذو عقابٍ شَديد، وسوفَ يُجازيهمْ به.
لقدْ زُيِّنتِ الحياةُ الدُّنيا في عُيونِ الكافرينَ الذين رَضُوا برفاهيتِها، وتهالَكوا عليها، وتشبَّثوا بها، واطمأنُّوا إليها، ولم يتجاوزوها إلى ما هو أرقَى وأسمَى، وسَخِروا منَ المؤمنينَ الذين زَهِدوا فيها، وفضَّلوا حياةَ الجهادِ والدعوةِ والعِبادة، وأنفَقوا ما عندَهمْ ابتغاءَ وجهِ الله، ولو كانَ ما عندَهمْ قليلاً. فكانوا منَ المُكرَمينَ الذينَ حازوا الحظَّ الأوفرَ والدرَجةَ العُليا، والآخَرونَ ذُلُّوا وأُهينوا وكانوا في الدرَكاتِ السُّفلَى.
واللهُ يدَّخرُ الخَيرَ للمتَّقين، وهوَ الرازقُ الذي يَمنَحُ مَنْ يشاءُ مِنْ عبادهِ العطاءَ الجَزْل، بلا حصرٍ ولا تَعداد، جزاءَ ما أنفقوا مِنْ مالٍ ووقتٍ وقوَّةٍ في سَبيلِ الله.
كانَ النَّاسُ على شَريعةٍ واحدةٍ منَ الحقّ، ثمَّ اختلَفوا وصَاروا يعبدونَ الأصنامَ وغيرَها، فأرسلَ اللهُ إليهمُ الأنبياءَ ليبشِّروهمْ بالجزاءِ الحسَنِ إنْ همْ أطاعوا وثَبَتوا علَى الحقّ، وليُخوِّفوهمْ منَ العِقابِ الشَّديدِ إنْ همْ خالَفوا وعصَوا. وأنزلَ معهمُ الكُتبَ بالحقِّ والعَدلِ والقولِ الفَصل، ليَتدبَّرَها الناسُ ويَتحاكموا إلى ما فيها مِنْ أوامرَ ونَواه، ففيها الحقَّ، ولا قولَ بعدَها.
وما اختلفَ في هذهِ الكتبِ إلاّ الذينَ نَزلتْ فيهمْ بعدَما قامَتْ عليهمُ الحُجَجُ ووَضَحَ لهمُ الأمرُ ورسَخَ في عُقولِهم. وما حملَهمْ على هذا الاختلافِ إلا الحسَدُ والطَّمَع، والظُّلمُ والهوَى، والخُصومَةُ واللَّجاجَة، والعِنادُ والتمرُّدُ على الحقّ، والتهالُكُ على الدنيا.
وقدْ هدَى اللهِ بلُطفهِ وتيسيرهِ المؤمنينَ إلى الحقِّ فيما اختُلِفَ فيهِ مِنْ ذلك، لصَفاءِ نُفوسِهم، واستِعدادِهمْ لقَبولِ الحقّ، فأقامُوا على الإخلاصِ للهِ وحدَه، وعبادتهِ على بيِّنةٍ واستِقامَة، واعتَزلوا الخلاف، وتَركوا الأهواءَ والنَّـزوات، والخُصومةَ والعِناد.
واللهُ يَهدي مَنْ يشاءُ مِنْ خَلْقهِ إلى الطريقِ المستَقيم، ممَّنْ يَعْلَمُ فيهمُ الرغبةَ في اتِّباعِ الهُدَى وتقبُّلِ الحقّ. وهوَ الهادي إلى سَواءِ السَّبيل.
وهلْ ظننتُمْ أيُّها المسلِمونَ أنَّكمْ ستَنالونَ الجنَّةَ دونَ أنْ تُبْتَلوا وتُمْتَحَنوا، ودونَ أنْ يُصيبَكمْ مثلَما أصابَ الذينَ مِنْ قبلِكم، وقدْ نالتْ منهمُ الأمراضُ والآلام، والمصائبُ والكوارِث، والفقرُ والجَهدُ والخَوف؛ ليتبيَّنَ بذلكَ كلِّهِ صبرُكمْ وإيمانُكمْ وثباتُكمْ على الحقّ، الذي يَنبغي ألاّ تُزيحَهُ الاختِبارات، ولا تَعصِفَ بهِ البلايا. وقدْ أُزعِجوا إزعاجاً شَديداً وزُلزِلوا خَوفاً منَ الأعدَاء، وامتُحِنوا امتِحاناً عَظيماً، حتَّى صارَ الرسولُ وأتْباعهُ المؤمنونَ يَدعونَ بالنصرِ وقُربِ الفرَجِ والمَخرَجِ منْ هذا الضِّيقِ الشَّديد.
وإنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ ممَّنْ صبرَ على مُكابدةِ المَشاقّ، وجاهدَ حقَّ الجهَاد، فكانَ أهلاً للنَّصر، وإنَّ معَ العُسرِ يُسراً وتَوفيقاً، ونَصراً وفرَجاً.
يسألُكَ أصحابُكَ أيُّها الرسولُ ما الذي يُنفِقونَهُ مِنْ أموالِهمْ وعلى مَنْ؟ فقلْ لهم: الأَولَى صَرفُ ما تَطوَّعتمْ بهِ على مَنْ لهُ حقٌّ عَليكم، وهم: الوالدانِ الواجبُ بِرُّهما، والأهلُ: الأقرَبُ منهمْ فالأقرَب، واليتامَى منَ الصِّغارِ الذين فَقدوا آباءَهم، وهمْ مَظِنَّةُ الحاجةِ لعدمِ قُدرتِهمْ على الكَسب، والمساكينُ: الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم، وابنُ السبيل: الغَريبُ الذي انقطعَ عنْ بلدهِ ولا يَجدُ ما يُبْلِغهُ إليه.
وما تُنفِقوا مِنْ أموالٍ على هؤلاءِ المُحتاجين، وما تَفعلوا مِنَ الطَّاعاتِ والقُرُبات، يَعلَمْها الله، وسيَحفظُها لكم، ويُجازيكمْ عليها أفضلَ الجزاء.
فَرَضَ اللهُ عَليكمُ الجِهادَ وهوَ شاقٌّ عليكم، تَكرههُ النفوسُ وتَستَثقِلُه، ولكنْ رُبَّما كَرِهتُمْ شيئاً وفيهِ خيرٌ لكم، فإنَّ نتيجتَهُ -إنْ شاءَ اللهُ- النصرُ على الأعداءِ وفتحُ بلادِ الكفرِ ورفعُ رايةِ الإسلام، أو الشهادةُ التي يَدخلُ بها المرءُ الجنَّة. وعسَى أنْ تحبُّوا شَيئاً وفيهِ شرٌّ لكم، فإنَّ القُعودَ عنِ الجهادِ والركونَ إلى الكسلِ والرفاهيةِ يُعطي نتيجةً عَكسيَّة، فيَستولي الأعداءُ على البلاد، ويَنهزمُ المسلِمون، ويَتحكَّمُ الكفّارُ في شؤونِهم.
فالجهادُ سَببٌ لحصولِ النصرِ والأمن.
واللهُ أعلمُ منكمْ بمآلِ الأمور، وأخبَرُ بما فيهِ صلاحُكمْ في دنياكمْ وآخِرَتِكم، فالتزِموا جانبَ الجهادِ والقُوَّة. وقدْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيحِ مسلم: "مَنْ ماتَ ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ بهِ نفسَهُ، ماتَ على شُعْبةٍ مِنْ نِفاق".
– يَسألونكَ عنِ القِتالِ في الأشهرِ الحُرُم، وهي رَجبٌ وذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّم، فقل: لا يَحِلُّ ذلك، بلْ هوَ أمرٌ جَلَلٌ وذَنبٌ كبير.
وإنَّ منعَ الناسِ عنِ الدِّينِ الحقّ، والكفرَ باللهِ العَظيم، وبالمسجدِ الحرام، عندما انتهكَ المشركونَ حُرمتَه، وآذَوا المسلمينَ مِنْ أهلِه، وفَتَنوهمْ في دينِهم، وعذَّبوهمْ ليَردُّوهمْ إلى الكفر، وأخرَجوهمْ منْ حَرَمِهم، هوَ أشدُّ وأعظمُ منَ القَتلِ في هذهِ الأشهر.
وهمْ مُقيمونَ على هذا المسلَكِ الخَبيث، فلا يَزالونَ يقاتلونَكمْ غيرَ تائبينَ ولا نازعينَ عنْ ذلك، حتَّى يُعيدوكمْ إلى ملَّةِ الكفرِ والضَّلال، إذا قَدِروا عليه.
ومَنْ يَرْجِعْ منكمْ عنْ دِينهِ ويَمُتْ على الكُفر، فقدْ فسدَ عملهُ كلُّه، وضيَّعَ ما كَسَبَهُ مِنْ حسَناتٍ في أثناءِ إسلامِه، ولم يَعُدْ يُفيدهُ إيمانهُ السَّابق، وسَيكونُ مِنْ أهلِ النار، الباقينَ فيها أبداً.
وقدِ اختلفَ العلماءُ في تَحريمِ القتالِ في الأشهرِ الحُرُم، هلْ هوَ باقٍ أمْ نُسِخ؟ وأشهرُ الأقوالِ على أنَّهُ منسوخ، بدلائلَ أخرَى، منها قولُهُ تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. والله أعلم.
– يَسألونَكَ عنْ حُكمِ الخَمْرِ والقِمار، فقلْ: في تَعاطِيهما ذَنبٌ كبيرٌ ومَفْسَدةٌ كبيرة، معَ شَيءٍ منَ المنافع، ففيهما ذهابُ العَقلِ والمالِ والدِّين، والمُخاصَمةُ والمشاجَرةُ والمُعاداة، وفيهما مَنافعُ جِسميَّةٌ ونَفسيَّةٌ مؤقَّتة، كالهضمِ والطرب، وربَّما ربحٍ في المقامَرة، لكنَّ إثمَهما والخسارةَ فيهما أكثرُ بكثيرٍ منْ منافعِهما.
وكانَ هذا أوَّلَ خَطوةٍ في تحريمِهما، بأسلوبٍ تربويٍّ ربانيٍّ حكيم، ثمَّ نزلَ التحريمُ الشاملُ في قولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
ويَسألونكَ ماذا يُنفقونَ منْ أموالِهم؟ فقلْ لهم: ما زادَ منْ حاجتِكم.
وهكذا يبيِّنُ اللهُ لكمُ الأحكامَ ويوضِّحُها في حِكمةٍ وبَيان، لتتَفكَّروا وتَعرِفوا الحقَّ جيِّداً،
بما يفيدكمْ في الدنيا، ويُيَسِّرُ لكمْ أمرَ الآخِرة.
ويَسألونكَ عنْ كيفيَّةِ معاشرةِ اليتامَى في أموالِهم، فقُل: إنْ عَزلتُمْ أموالَهمْ وطعامَهمْ عمّا يَخصُّكمْ منها حتَّى لا يقعَ عليهمْ شَيءٌ منَ الخسارةِ فذلكَ حسَن، وإنْ خلطتُموها بأموالِكمْ فلا بأسَ عليكم، فهمْ إخوانُكمْ في الدِّين. واللهُ يَعلمُ نيّاتِكمْ في الإصلاحِ والإفساد. فالإصلاحُ في أمرِ اليَتامَى أفضَل، ومخالطتُهمْ فيما يُحَقِّقُ لهمُ الخيرَ أجدَى منِ اعتزالِهم.
ولو أرادَ اللهُ لضيَّقَ عليكمُ الأمرَ وأحرَجَكم، ولكنَّهُ وسَّعَ عليكمْ وخفَّفَ عنكم، وأباحَ لكمْ مخالطتَهمْ بالتي هيَ أحسَن، واللهُ قادرٌ على ما يُريد، حكيمٌ فيما يأمرُ به.
ولا تَتزوَّجوا النساءَ المشركاتِ عابداتِ الأوثان، إلاّ إذا أسلَمن، وإنَّ امرأةً مُؤمِنةً منَ الأرقّاء، أفضلُ مِنْ مُشرِكةٍ حرَّةٍ ولو كانتْ أكثرَ منها حُسناً وجَمالاً.
ولا تُزَوِّجوا المشركينَ منَ النساءِ المسلِماتِ حتَّى يؤمِنوا، وإنَّ عَبداً مُؤمِناً مهما كانَ شأنُه، أفضلُ منَ المشركِ ولو كانَ ذا حَسبٍ ومالٍ وجَاه.
فإنَّ المشركينَ يَنضوونَ تحتَ ملَّةِ الكفرِ التي مآلُها النار، وإنَّ معاشرتَهمْ ومخالطتَهمْ تبعثُ على حُبِّ الدنيا والتعلُّقِ بها وإيثارِها على الدَّارِ الآخِرَة، وعاقِبَةُ ذلكَ وَخيمة. واللهُ سبحانَهُ يَدعو إلى الجنَّةِ والرَّحمةِ والرِّضوانِ بما شَرعَ لكمْ منَ الأحكام، لتُمَهِّدَ لكمْ طريقَ المغفرةِ والسَّعادة. وهذا ما بيَّنهُ لكمْ ربُّكم، لتَتذكَّروا وتُؤمِنوا، وتَعمَلوا وتَشكروا.
وهذهِ نساؤكمْ مَوضِعُ زَرعِكم، فأتُوهنَّ أثناءَ الجماعِ كيفما شئتُم، مُقبِلةً أو مُدبِرة، على أنْ يكونَ الإيلاجُ في الفرجِ لا يَتعدّاه.
وقَدِّموا لأنفسِكمْ قبلَ الجِماعِ بما هوَ مُناسِب، واذكروا اللهَ وأطِيعوه، ولا تتَعدَّوا حدودَ ما حرَّمَهُ عليكمْ في ذلك.
واعلَموا أنَّكمْ صائرونَ إليهِ يومَ الدِّين(13)، فيحاسِبُكمْ على أعمالِكمْ جميعاً. وبشِّرِ المطيعينَ للهِ بما يَسُرُّهم.
(13) يجمعُ التحذيرَ والترغيب، أي: فلاقوهُ بما يرضَى به عنكم، كقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} [سورة النور: 39]. (التحرير والتنوير).
(14) الحليم: هو الذي لا يستفزُّهُ التقصيرُ في جانبه، ولا يَغضبُ للغفلة، ويَقبلُ المعذرة. (التحرير والتنوير).
والمطلَّقاتُ يَنتظرْنَ ثلاثَ حَيْضاتٍ، أو ثلاثةَ أطهار، بعد طَلاقِ أزواجِهنَّ لهنّ، ليَنتهيَ بذلكَ وقتُ عِدَّتهنَّ ويتزوَّجْنَ إنْ شِئنَ بعدها. ما عدا الحاملاتِ اللَّواتي تَنتهي عِدَّتُهنَّ بمجرَّدِ وضعِ ما في أرحامِهنَّ. أمّا اللَّواتي طُلِّقْنَ قبلَ الزواجِ بهنّ، والصغيراتُ اللَّواتي لم يَحِضْنَ بعدُ، ومنِ انقطعَ حيضُهنَّ لكِبَرِهنَّ، فعدِّتُهنَّ ثلاثةُ أشهر، وهوَ قريبٌ من عِدَّةِ العاديَّة. (وتفصيلُ الصغيرَةِ في الآيةِ الرابعةِ منْ سورةِ الطلاق).
ويَعني بثلاثةِ أطهار: أنهنَّ إذا دخلنَ في الدمِ منَ الحيضةِ الثالثةِ فقدِ انتهتْ عِدَّتُهنّ.
وبالحيضات: أنَّهُ لا ينقضي عدّتُهنَّ حتَّى يَطْهُرْنَ منَ الحيضةِ الثالثة.
ويَحرمُ عليهنَّ أنْ يَكتُمنَ أمرَ حَملِهنَّ أو حَيضِهنَّ إنْ كنَّ منَ المؤمناتِ حقًّا، وذلكَ لتطويلِ مُدَّةِ عدَّتهنَّ أو تقصيرِها. فيَكتُمنَ حَملَهُنَّ لئلاّ يُنْتظَرَ بطلاقِهنَّ أنْ يَضعن، فإنَّ عِدَّةَ الحاملِ هوَ أنْ تضعَ حملَها. وإذا طلبَ أزواجُهنَّ مراجعتَهنَّ كذَبْنَ وقُلْن: إنهنَّ حِضْنَ الثالثة، ليَقطَعْنَ بذلكَ مراجعتَهُنَّ لهنَّ. أو يَقلْنَ: إنَّهنَّ لم يَحِضْنَ وقد حِضْنَ، ليَلْزَمْنَهمْ ما لا يَلزمُ منَ النفَقة.
فواجِبٌ عليهِنَّ أنْ يَقُلْنَ الحقَّ ولا يَخدَعْن، لِما يَترتَّبُ على ذلكَ منْ أمور، كحقِّ الزوجِ في الرَّجعةِ والوَلد.
وأزواجُهُنَّ الذينَ طلَّقوهنَّ أحقُّ بإعادَتِهنَّ إلى بيتِ الزَّوجيةِ ما دُمْنَ في عِدَّتِهنّ، إذا كانَ مرادَهمْ الإصلاحُ والخير، لا الإضرارُ والظلم. وهذا بالنسبةِ للمرتَجَعةِ التي لم يُبَتَّ في طلاقها، يعني أنَّها طُلِّقتْ مرَّتينِ فقط، فيجوزُ إرجاعُها، كما يأتي في الآيةِ التالية.
وللنِّساءِ حقٌّ على الرِّجالِ مثلما أنَّ لهمْ عليهنّ، فليؤدِّ كلٌّ ما وجبَ عليهِ مِنْ حقّ.
وللرجالِ على النِّساءِ درَجة، هي درَجةُ القَوَامة، فالرجلُ بمَنـزلةِ الأميرِ في الأسرَة، الذي يُطاعُ بالحقِّ والمعروف، وهوَ أحقُّ بذلك، لما مُنِحَ منْ صفاتِ الرجولةِ والقوَّة، والإنفاقِ على الزوجةِ والقيامِ بمصالِحها، وغَيرِ ذلك مما يُرَى منْ فارقٍ بين الرجلِ والمرأة.
واللهُ قادِرٌ على الانتقامِ ممَّن عصاهُ وخالفَه، حكيمٌ فيما شرَعَهُ وقدَّرَهُ منْ أحكامٍ ومَصالح.
للرجلِ أنْ يُطَلِّقَ زوجتَهُ تَطليقَتَين، ثمَّ إنَّ أمامَهُ أمرين:
- إمّا أنْ يُرجِعَها إلى نفسِه، وهوَ يَنوي بذلكَ الإصلاحَ وحُسنَ الصُّحبة، فتعودُ إليه.
- وإمّا أنْ يطلِّقَها التطليقةَ الثالثة، فتُطْلَقُ منه، معَ الإحسانِ إليها، وعدمِ ظُلمِها في حقِّها شَيئاً.
ولا يَحِلُّ لكمْ أيُّها الأزواجُ أنْ تُضيِّقوا عليهنَّ وتُضْجِروهُنَّ لتَضطَرُّوهُنَّ إلى فداءِ أنفسِهنَّ بطلبِ الطلاقِ منكمْ حتَّى يُعِدْنَ إليكمْ ما سبقَ أنْ قدَّمتُمْ لهنَّ منْ هِباتٍ وصَدقاتٍ وأموال، ولو كانَ الأمرُ نَزْراً يَسيراً، فضلاً عنِ الكثير.
أمّا إذا تَشاجرَ الزَّوجانِ وتَشاقّا، ولم تَعُدِ المرأةُ تَقومُ بحقِّ زوجِها، ولا تَقْدِرُ على معاشرتِه، فلها أنْ تَفتديَ نفسَها بمالِها وتُقدِّمَهُ لهُ كي يُطَلِّقَها، وهو ما يُسمَّى بالخُلْع. ولا بأسَ على الزوجِ إنْ قَبِلَه.
وهذا منَ الحدودِ التي شرعَها اللهُ لكمْ فلا تَتجاوَزوها بالمخالفةِ والرَّفض، ومنْ تَجاوَزها ولم يعملْ بها فإنَّهُ ظالمٌ قدْ عرَّضَ نفسَهُ لسَخَطِ اللهِ وعقابِه.
فإذا طلَّقها الثالثةَ لم يَعُدْ يَحِلُّ لهُ أنْ يُراجِعَها ويُعيدَها إلى نفسِه، إلاّ إذا نَكحَتْ زوجاً غيرَهُ وطلَّقها، فإنَّهُ لا حَرَجَ عليهما عندئذٍ أنْ يَعودا إلى بعضِهما البعضِ في عَقْدٍ جديد، إذا علما أنَّهما سيَتعاشرانِ بالمعروف، فتَحْسُنُ حالهُما ويَصْلُحُ ما بينَهما.
وهذهِ شرائعُ اللهِ وأحكامُه، وأوامرهُ ونواهيه، يوضِّحُها لمنْ يَفهمُ ما أمرَهُ اللهُ بهِ ليَنتَفِعَ بها.
وإذا طلَّقتُمُ النسَاءَ طلاقاً رَجعيّاً، فما زالَ بالإمكانِ إعادتُهنَّ إلى الحياةِ الزوجيَّة، فعليكمْ بالإحسانِ في أمرِهنَّ إذا كادَ أنْ تَنتهيَ عِدَّتُهنّ، فإمّا أنْ تُعيدوهنَّ إليكمْ بما هو لائقٌ منْ إصلاحِهنَّ وحُسْنِ معاشرَتِهنّ، وإمّا أنْ تُطَلِّقوهنّ، وهيَ كذلكَ تُطَلَّقُ بنفسِها إذا انتَهتْ عِدَّتُها، وتَخرجُ منْ بيتِ الزوجِ بدونِ ظُلمٍ ولا إيذاء.
ولا يجوزُ لكمْ أنْ تُمسِكوهنَّ في البيوتِ وتُطوِّلوا عِدَّتَهنَّ بقصدِ الإضرارِ بهنَّ وأنتمْ تعلمونَ أنَّكمْ ستُطلِّقوهنّ، فإنَّ مَنْ يَفعلْ ذلكَ فقدْ خالفَ أمرَ الله.
ولا يجوزُ لكمْ أنْ تَستَغِلُّوا الرُّخَصَ وتتَّخذوا الأحكامَ الشرعيةَ غَرَضاً للاستِهزاءِ والإضرار، كأنْ يقولَ أحدُكم: قدْ طلَّقت، وقد راجعت، فإنّ أمرَ الطلاقِ خَطير، والعِدَّةُ والرجعةُ فُرصَةٌ حقيقيَّةٌ للتفكُّرِ والإصلاحِ واستعادةِ الزَّواج.
وتذكّروا ما أنعمَ اللهُ عليكمْ منْ إرسالِ النبيِّ إليكم، ومعَهُ القُرآنُ العظيمُ والسنَّةُ النبويَّةُ الشَّريفة. واتَّقوا الله، وكونوا على حَذرٍ فيما تأخُذونَ وما تَتركون. واعلَموا أنَّ اللهَ لا يَخفَى عليهِ شيءٌ ممّا تَقصِدونَهُ أو تَفعلونَه، وسوفَ يُجازيكمْ على كلِّ ذلك.
وإذا طلَّقتمُ النّساءَ أيُّها الأزواج، وانقَضتْ عِدَّةُ التطليقةِ الأولى، وما زالَ بالإمكانِ مراجعتُهنّ، فلا يَحلُّ لكمْ يا أولياءَ الزوجاتِ أنْ تُمسِكوهنَّ عندكمْ وتَمنَعوهنَّ منَ العودةِ إلى أزواجِهنَّ إذا تَصالحوا وتَحابَبوا وأرادوا أنْ يُكمِلوا عِشْرَتَهمُ الزوجيَّة. وهذا ما يُرشِدُكمُ اللهُ إليهِ إذا كنتُمْ مُؤمِنينَ حقًّا وتَخشَونَ اللهَ وعِقابَهُ يومَ الحساب، وإنَّ اتِّباعَ شرعِ اللهِ في هذا وغيرهِ أنفعُ لكمْ وأذهبُ لعِلَلِ نفوسِكمْ وأجلَى لها وأحسَن.
واللهُ يعلمُ ما يَصلُحُ بهِ شأنُكم، فيَشرَعُ لكمْ ما فيهِ خيرُكم، وأنتمْ لا تَعلمون، فذَروا رأيكمْ وامتَثِلوا أمرَه.
والأمَّهاتُ - مطلَّقاتٍ كنَّ أو غيرَ مطلَّقات - يُرضِعْنَ أولادَهنَّ عامَيْنِ كاملَين، إذا أُريدَ إرضاعُهمْ رَضاعةً كاملة. ولا اعتبارَ بالرضاعةِ بعدَ ذلك.
وعلى الوالدِ نفَقةُ الأمَّهاتِ المطلَّقات، مِنْ مَأكلٍ ومَلبسٍ وما إليه، على قَدْرِ الحالِ والميسَرة، وعلى ما تَجري بهِ العادةُ في كلِّ عصر، مِنْ غيرِ سَرَفٍ ولا بُخل، ولا يُكلَّفُ المرءُ بما لا يُطيق.
ولا يَحِقُّ للأبِ أنْ يَنْزِعَ الطفلَ مِنْ أمِّهِ ويُعطِيَهُ غيرَها وقدْ رضيتْ بإرضاعِه؛ إضراراً بها. كما لا يَحِقُّ للأمِّ أنْ تدفَعَ بولدِها إلى أبيهِ لتَضُرَّهُ بتَربيتِه.
وعلى مَنْ يرثُ هذا الأمرَ منَ الأولياءِ مِثْلُ ما على الوَالد، منِ عدمِ الضَّررِ بالطِّفل، ومنَ الإنفاقِ على والدتِه.
فإذا أرادَ الوَالدانِ فِطامَ الصبيِّ عنِ حَليبِ أمِّهِ قبلَ عامَين، برِضَائهما وتَشاورٍ بَينهما، وكونِ ذلكَ لا يَضرُّ به، فلا حَرجَ عليهما في ذلك، ولا يَجوزُ رأيُ واحدٍ منهما في الأمر؛ رحمةً بالصبيِّ الذي لا حِيلةَ له.
وإذا اتَّفقَ الوَالدانِ على إرضاعِ الصبيِّ عندَ غيرِ الأمّ، أو سلَّمتْهُ هيَ وأبتْ إرضاعَه، لعُذرٍ أو لغَيرِ عُذر، فلا حرجَ عليهما كذلك، إذا سلَّمتُمْ إلى المراضعِ ما أردتُمْ إيتاءَهُ لهنَّ منَ الأجرة، بالوجهِ المُتعارَفِ المُستَحسَنِ، دونَ ضَرر.
واتَّقوا اللهَ واخشَوْهُ في أحوالِكمْ جميعِها، وكونوا على علمٍ أنَّ اللهَ مطَّلِعٌ على أقوالِكمْ وأحوالِكم، لا يَخفَى عليهِ شيءٌ منها، ويُجازيكمْ عليها.