ولا حَرَجَ عليكمْ إذا أشرتُمْ -دونَ تصريحٍ- إلى خِطبةِ النساءِ وهنَّ ما زِلْنَ في عدَّتهنَّ مِنْ وفاةِ أزواجِهنّ، كأنْ يقولَ لها أحدُكم: وَدِدْتُ أنَّهُ تيسَّرَ لي امرأةٌ صَالحة. ولا حَرجَ عليكمْ إذا أَخفَيتُم ذلكَ في أَنفُسِكم(15).
وقدْ عَلِمَ اللهُ أنَّكمْ ستَذكرونَهُنَّ في قلوبِكمْ ولا تَصْبِرونَ على السكوتِ عنهنَّ وعنْ إظهارِ الرغبةِ فيهنّ، فرفعَ عنكمُ الحرجَ في ذلك.
ولا يجوزُ أنْ تَتزوَّجوهنَّ أو أنْ تَعِدوهنَّ بالزواجِ سرًّا وهنَّ ما زلنَ في العِدَّة، كأنْ يَقولَ لها أحدُكم: لا تَنكحي غيري فإنِّي سأتزوَّجُك. إلاّ إذا تَفوَّهتُمْ بما لا يكونُ فيهِ تصريحٌ واضح، ولكنْ قدْ تَفهَمُ المعتدَّةُ منهُ ذلك.
ولا يَحِلُّ عَقْدُ النِّكاحِ وهنَّ في العِدَّة، بلْ حتَّى يَنتهيَ أجلُها تماماً.
وتيقَّنوا أنَّ اللهَ مطَّلعٌ على ما أسرَرتُمْ في أنفسِكمْ مِنْ ذلك. واحذَروا عقابَهُ إذا خالفتُمْ أمرَه، واللهُ يَغفِرُ ذُنوبَ مَنْ أخطأ وتاب، وهوَ حليمٌ بهم، لا يعاقبُهمْ بمجرَّدِ أنْ يُخطِئوا، بل يُمهلُهمْ حتَّى يَستَغفِروهُ ويَتوبوا إليه.
(15) {أَكْنَنْتُمْ}: أضمرتم، {فِي أَنفُسِكُمْ} من نكاحهنّ. يقال: أكننتُ الشيءَ، وكننته، لغتان، وقالَ ثعلب: أكننتُ الشيءَ، أي: أخفيتهُ في نفسي، وكننته: سترته. (البغوي). وأخَّرَ الإكنانَ في الذكرِ للتنبيهِ على أنه أفضلُ وأبقَى على ما للعِدَّةِ من حُرمة، مع التنبيهِ على أنه نادرٌ وقوعه... (التحرير والتنوير).
وإذا طلَّقتُموهنَّ قبلَ أنْ تُجامِعوهنَّ وقدْ عيَّنتُمْ لهنَّ قيمةَ الصَّداق، فأعطوهنَّ نصفَ تلكَ القيمة، إلاّ إذا عفَونَ عَنكم، أو عَفا وليُّها، أو عَفا الزوجُ لها عنْ حقِّهِ، وهوَ نِصفُ الباقي منَ الصَّداق.
وإذا عفوتُمْ – جميعاً - فإنَّهُ أقربُ إلى ما يُرضِي الله.
أمّا إذا جامعَها ثمَّ طلَّقها، فإنَّ لها ما أعطاها مِنَ الصَّداقِ كلِّه.
ولا تنسَوا السَّماحةَ والإحسانَ فيما بينَكم، بما يوافقُ الأخلاقَ العالية، بإعطاءِ الرجلِ تمامَ الصَّداقِ لها، أو تركِ المرأةِ نصيبَها له.
واللهُ مطَّلعٌ على أعمالِكم، ولا يُضيْعُ أجرَ تفضُّلِكمْ وإحسانِكم.
حافِظوا على أداءِ الصَّلواتِ في أوقاتِها، بأركانِها وشُروطِها، وخاصَّةً صلاةَ العصر، أقيمُوها خاشِعينَ مُستَكينينَ بينَ يدي الله، مُتَجَرِّدينَ لذكرِه.
وفي الصحيحينِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئلَ عنْ أفضلِ الأعمالِ فقال: "الصلاةُ على وقتِها".
والذينَ يَموتونَ ويَتركونَ زوجات، وأوصَوا بالسَّماحِ لهنَّ بالبقاءِ في بيوتِهنَّ سنةً كاملة، فإنَّ مِنْ حقِّهنَّ البقاءَ إذا أردْنَ ذلك.
فإذا أردنَ الخروجَ بعدَ إكمالِهنَّ عِدَّتَهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرَ ليال، قبلَ إكمالِ العامِ المسموحِ لهنَّ بقاؤهنَّ فيه، فلا حرجَ عليكمْ في قَبولِ ذلكَ ولا بأسَ به. واللهُ قويٌّ في حُكمه، حَكيمٌ فيما يَفْرِضُ ويُوَجِّه إليه.
وذُكِرَ أنَّ هذهِ الآيةَ منسوخةٌ بالآيةِ السابقةِ رقم (234)، لكنَّ تفسيرَها كما مرَّ لا يُحْوِجُ إلى هذا القَول.
هؤلاءِ قومٌ في قديمِ الزمان، كانوا بالآلاف، خرَجوا من ديارِهمْ هروباً مِنَ الموتِ الذي كانَ يُلاحقُهمْ فيه، ربَّما نَتيجةَ أوبئةٍ وأمْراضٍ كانتْ تُلازِمُهم، أو أنَّهُ وقعَ فيهمُ الطاعُون، فأرادوا الفِرارَ منها إلى غَيرِها، فلمّا وصلوا إلى المكانِ الجديد، أماتَهمُ اللهُ جميعاً في وقتٍ واحد، ليُعلَمَ أنَّ الحذَرَ منَ الموتِ لا يُغني ولا يُجدي إذا أرادَهُ الله، فإذا قدَّرَ شيئاً كانَ رغمَ كلِّ الاحتِياطات، فلا مَفَرَّ منْ حُكمِه. ثمَّ أحيَاهمُ اللهُ بعدَ موتِهم، في دليلٍ قاطعٍ على قُدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتَى وبَعثِ الناسِ يومَ المعاد.
وهذا منْ فَضلِ اللهِ علَى النَّاس، أنْ يُريَهمُ الآياتِ والدلالاتِ والعِبَرَ ليُؤمِنوا ويَعتَبروا، ولكنَّ أكثرَهم، معَ هذا، لا يقومونَ بشكرِ المُنعِمِ عَليهم.
وهذا تَمهيدٌ لتَشجيعِ المسلِمينَ على القِتال، الذي يأتي في الآيةِ التالية، فإنَّ الأجلَ واحِد، في سِلْمٍ كانَ المرءُ أو في حَرب.
إنَّ الذي يُعطي مِنْ مالهِ للجهادِ أو لأيِّ عملٍ صالح، إعطاءً حلالاً مقروناً بالإخلاصِ وطِيْبِ النفس، فإنَّ اللهَ يَقبَلُ منه، ويُضاعِفُ لهُ الأجرَ والثوابَ أضعافاً كثيرةً بما لا يَتوقَّعه.
واللهُ يُعطي ناساً ويُقَلِّلُ على آخَرِينَ في الرِّزق، لحِكمَةٍ يَشاؤها ومَصلحةٍ يُقَدِّرها. فأنفِقوا ولا تَبخلوا، فاللهُ هوَ الرزّاق، وبيدهِ الخيرُ كلُّه.
ولَسوفَ تُرجَعونَ إليهِ يومَ القيامةِ ليُجازيَكمْ على ما قدَّمتُمْ مِنْ أعمال، إنْ خَيراً فخَير، وإنْ شَرّاً فشَرّ.
وانظُروا إلى قومٍ منْ بَني إسْرائيلَ كانوا منْ بعدِ موسَى عليهِ السلام، فقالَ أشرافُهمْ ووجهاؤهمْ لنبيٍّ لهم: أقِمْ لنا مَلِكاً نَصْدُرْ عنْ رأيهِ في الحربِ ونُقاتِلْ في سبيلِ اللهِ أعداءَه.
فقالَ لهمْ نبيُّهم: أرأيتُمْ لو أُجِبتُمْ إلى ذلكَ وطُلِبَ منكمُ القِتالُ حقّاً ولم تَفُوا بما التزمتُمْ به؟
فقالوا: كيفَ لا نُقاتِلُ وقدْ أُخِذَتْ منّا ديارُنا، وسُبيَ أولادُنا، واغترَبنا منْ أهلينا، فإنَّ كلَّ هذا داعٍ قويٌّ إلى الطاعةِ والقِتال.
ولكنْ لمَّا عُيِّنَ لهمْ مَلِكٌ يقودُهمْ إلى الحرب، وجاءَ وقتُ القِتال، وطُلِبَ منهمُ الخروجُ معه، لم يَفُوا بوعدِهم، إلاّ القليلُ منهم، فقدْ تَخلَّفَ أكثرُهم.
واللهُ عليمٌ بتركِهمُ الجِهادَ ونقضِهمْ عهدَهم، ولسوفَ يُجازيهمْ عليهِ بعُقوبةٍ كبيرة.
وقالَ لهمْ نبيُّهمْ لمّا طَلبوا منهُ أنْ يعيِّنَ لهمْ مَلِكاً: إنَّ اللهَ قدِ اختارَ لكمْ طالوتَ مَلِكاً.
فقالوا: وكيفَ يَكونُ مَلِكاً عَلينا وهوَ ليسَ منْ بيتِ مُلك، بلْ هوَ مجرَّدُ رجلٍ عاديّ، فنحنُ أحقُّ بذلكَ منه. ثمَّ إنَّهُ لا يَملِكُ مالاً كثيراً ليقومَ بحقِّ المُلك.
فقالَ لهمْ نبيُّهم: إنَّ اللهَ قدِ اختارَهُ منْ بينِكمْ ليكونَ مَلِكاً عليكم، وقدْ آتاهُ عِلماً كثيراً، وقوَّةً في الجسم، وصَبراً في الحرب. ومَعرفةً بها أكثرَ منكم. واللهُ يُعطي مَنْ يَشاءُ ما يَشاء، فهوَ الحاكمُ لا أنتُم. وهوَ واسعُ الفَضل، يُوَسِّعُ على منْ يَشاءُ منَ الفقراءِ ويُغْنيه، عليمٌ بمنْ يَستَحِقُّ المُلكَ ممَّنْ لا يَستَحِقّ.
ثمَّ قالَ لهمْ نبيُّهم: إنَّ دليلَ اصطفاءِ طالوتَ مَلِكاً عليكمْ أنْ يأتيَكمُ التابوتُ بسَكينةٍ وهدوءٍ فتَسكنونَ إليه، معَ أشياءَ ممّا ترَكها آلُ موسى وآلُ هارون، ذُكِرَ أنَّها العَصا، وألواحٌ منَ التوراة... ويَحْمِلُ هذا التابوتَ ملائكةُ اللهِ وتَضعُهُ عندَ طالوت.
وفي ذلكَ آيةٌ عظيمةٌ لكمْ وعِبرة، تدلُّ على مُلكهِ عَليكم، إنْ كنتُمْ مصدِّقينَ بذلك.
ولمّا خرجَ طالوتُ مَلِكُ بني إسرائيلَ بجُنودهِ وبمنْ خرجَ معَهُ منْ بني إسرائيل، قالَ لهم: سيَختبرُكمْ ربُّكمْ ليرَى طاعتَكم، حيثُ تَقطعونَ نهراً -وكانَ عذباً ماؤهُ- فمنْ شَرِبَ منهُ فلا يَصحبْني في الحَرب، إلاّ ما كانَ مقدارَ كفِّ اليد، فلا بأسَ به، ومنْ لم يَشْرَبْ فليَصحَبْني في هذا الوَجه.
فشرِبَ أكثرُهم، وذُكِرَ أنَّهمْ كانوا عِطاشاً، وبقيَ القَليلُ الذي لم يَشرب، طاعةً لله.
وكانتِ الحكمةُ منْ هذا الابتلاءِ فَرْزَ الضعفاءِ المتذبذبينَ منَ الثابتينَ الأقوياء، فالذين شَربوا ما كانوا ذوي إرادةٍ وطاعة، فما كانوا يَصلُحونَ للحَربِ والقِتال، بل إنَّ فعلَهُمْ هذا يُنْبِئُ عنْ ضَعفٍ وعِلَّة، وأنَّهمْ سيَكونونَ عالةً على بقيَّةِ الجُند، وأنَّهمْ لضَعفِ إرادتِهمْ قدْ يَبثُّونَ الهلعَ وروحَ الهزيمةِ بينهم. ففَصلَهمْ مَلِكُهمْ ولم يسْمَحْ لهمْ بالمشاركةِ في الحربِ الكبيرةِ التي تَنتظرُهم.
فلمَّا استقلَّ طالوتُ بالجنودِ المؤمنينَ الباقينَ معَه، وقدْ صاروا إلى قِلَّة، وقابَلوا جيشَ جالوتَ الكبير، قالوا: لا قُدرةَ لنا على مُحاربتِهم؛ لكثرتِهم، فقالَ لهمْ عُلماؤهمْ والخُلَّصُ منهم، المؤمنونَ بلقاءِ اللهِ وحُسْنِ ثوابِه: إنَّ جماعةً قَليلةً، مُؤمِنةً في عَقيدتِها وعَزمِها وتوكُّلِها، تَستَمِدُّ قوَّتَها منَ اللهِ ووعدهِ بالنَّصرِ والجزاءِ، ستَغلِبُ فئةً كبيرةً عدوَّةً لا تَعتمدُ سِوَى على قوَّتِها الظاهرة، بإذنِ اللهِ وتيسيرِه، فلا تُغني كثرتُهمْ معَ خِذْلانِ اللهِ لهم، ولا تَضرُّ قِلَّةُ الفِئةِ المؤمنةِ معَ تأييدهِ ونَصرهِ لهم، وإنَّ اللهَ سيثبِّتُ الفِئةَ الصابرةَ ويَنصُرها، ويُمِدُّها بالمعُونةِ والتوفيق، فتقدَّموا ولا تَتوانَوا.
والمؤمنونَ مُختلفونَ في قوَّةِ اليقينِ وقوَّةِ الإرادة.
فانتَصرَ المسلِمون، انتصرتِ الفئةُ القليلةُ المؤمنةُ بإذنِ اللهِ وتَوفيقِه، وقتلَ داودُ قائدَ الكفَرةِ جالوتَ، وكانَ داودُ في جَيشِ طالوت، فآتاهُ اللهُ المُلك مِنْ بعدِه، وزادَهُ نِعمَةً وتَفضُّلاً بأنْ آتاهُ النبوَّة، وخَصَّهُ بعلمٍ كثيرٍ مِنْ عندِه.
ولولا أنْ يَدفَعَ اللهُ ناساً بناسٍ آخَرين، في صراعاتٍ ومَعارك، وتنافُسِ قوىً وطاقَات، وتَدافُعٍ وسِباقات، كما دفعَ عنْ بني إسرائيلَ بمقاتلةِ طَالوتَ وشَجاعةِ داود؛ لهلَكوا.
فالفضلُ للهِ وحْدَهُ على العالَمين، حيثُ مَنَّ عليهمْ ورَحِمَهم، ودفعَ بعضَهمْ ببَعض، فلهُ الحُكمُ والحِكمة، والحقُّ والقُدرة.