تفسير الجزء 5 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الخامس
5
سورة النساء (الآيات 24-147)

﴿فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء:55]


فمِنْ أُمَمِهمْ مَنْ آمَنَ بأنبياءَ لهم، ومنهمْ مَنْ كفَر، وهمْ مِنْ جِنسِهم، فلا تَتعَجَّبْ منْ حالِ هؤلاءِ القومِ ومَوقفِهمْ مِنْ دعوتِكَ أيُّها الرسول، فإنَّ هذا شأنُهمْ معَ أنبيائهمْ وهُمْ مِنهم، فكيفَ بهمْ وأنتَ لستَ منهم؟ وكفاهُمْ عُقوبةً نارٌ شديدةٌ تُسْعَرُ بهمْ وتُحرِقُهم؛ جزاءَ كفرِهمْ وعنادِهمْ ومُخالفتِهمْ كُتُبَ اللهِ ورسُلَه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ الۡعَذَابَۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا﴾ [النساء:56]


– إنَّ الذينَ كفَروا بآياتِنا، مِنْ شَواهدَ ومُعجِزاتٍ أيَّدنا بها رُسُلَنا، سوفَ نُدخِلُهمْ ناراً هائلةً عَظيمة، كلما احتَرقَتْ جُلودُهمْ فيها بَدَّلناها جُلوداً جَديدةً ليَزدادَ إحساسُهمْ بالعَذاب، وليَدومَ ولا يَنقَطِع، واللهُ عزيزٌ لا يَمتَنِعُ عليهِ ما يُريد، ولا يَقْدِرُ أنْ يَمنَعَهُ مِنْ ذلكَ أحَد، حَكيمٌ في تَدبيرهِ وتَقديرِهِ وتَعذيبِ مَنْ يُعَذِّبُه.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا﴾ [النساء:57]


والذينَ آمَنوا بآياتِنا، وأتْبَعوا إيمانَهمْ بالأعمالِ الصَّالحةِ والطَّاعاتِ المَقبولَة، سنُدخِلُهمْ جنّاتٍ كبيرةً وارِفةَ الظِّلال، تَجري مِنْ تحتِها الأنهار، معَ خلودٍ دائمٍ فيها، ولهمْ فيها أزواجٌ مُطَهَّراتٌ منَ الحيضِ والنفاسِ والأذَى والقذر، ونُدخِلُهمْ ظِلاً طيِّباً كثيراً لا تَنسَخُهُ الشَّمس، فهوَ دائمُ الفَيء، لا حَرَّ فيهِ ولا قَرّ.

﴿۞إِنَّ اللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ الۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ النَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِالۡعَدۡلِۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا﴾ [النساء:58]


إنَّ اللهَ يوجِبُ عليكمْ أنْ تَؤدُّوا الأماناتِ إلى أصحابِها، أيَّ أمانةٍ كانت، وهيَ الأماناتُ الواجبةِ على الإنسان، مِنْ حُقوقِ اللهِ على عِبادِه، ومِنْ حُقوقِ العِبادِ بعضِهمْ على بَعض. فمَنْ لم يَفعلْ ذلكَ في الدُّنيا أُخِذَ منهُ في الآخِرَة، كما في الحديثِ الصَّحيح.

وإنَّ اللهَ يأمرُكمْ أنْ تَحكُموا بالعَدلِ إذا حَكمتُمْ بينَ الناس، ونِعْمَ الشيءُ الذي يَعِظُكمُ اللهُ به، وهوَ الحُكْمُ بالعَدل. وكانَ اللهُ سميعاً لجميعِ أقوالِكم، بَصيراً بكلِّ أفعالِكم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا﴾ [النساء:59]


أيُّها المؤمِنون، التَزِموا بما أمرَكمُ اللهُ بهِ ونَهاكُمْ عنه، وأطِيعُوا رسولَه، فإنَّهُ مُبَلِّغُ أحكامِ ربِّه، وأطِيعُوا أولي الأمرِ مِنكمْ بالمعرُوف، أي: إذا كانَ أمرُهمْ موافِقاً لأحكامِ الشريعةِ الإسلامية، وإلاّ فإنَّهمْ لا يُطاعُون، ففي الحديثِ قولهُ صلى الله عليه وسلم: "السَّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المسلمِ فيما أحَبَّ وكَرِهَ ما لم يُؤمَرْ بمَعصِية، فإذا أُمِرَ بمَعِصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعة". رواهُ الشَّيخانُ وغيرُهما.

وإذا اختَلفتُمْ -أيُّها المؤمِنونَ- في شَيء، فراجِعوا فيهِ كتابَ اللهِ وسنَّةَ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فما حَكَمَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ هوَ الحقّ، ومَنْ تَخطَّى الحقَّ وقعَ في الضَّلال. فالواجِبَ عليكمُ التَّحاكُمُ إليهِما، هذا إذا كنتُمْ حقّاً مُؤمِنينَ باللهِ واليومِ الآخِر. والتحاكُمُ إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه، والرجوعُ في فَصلِ النـزاعِ ورَدِّ الخصوماتِ إليهما، خيرٌ وأحمَدُ عاقبةً وأحسَنُ مآلاً.

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى الطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ الشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا﴾ [النساء:60]


ألا تَعْجَبُ أيُّها النبيُّ مِنْ صَنيعِ هؤلاءِ الذينَ يَدَّعُونَ الإيمانَ بما أُنزِلَ عليكَ وبما أُنزِلَ على الأنبياءِ مِنْ قَبلِك، ومعَ ذلكَ يُريدونَ أنْ يَتحاكَموا في فَصلِ الخُصوماتِ إلى غيرِ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه؟

والطاغوتُ هوَ الشَّيطان، أو كلُّ مَنْ يَحكمُ بالباطل، وقدْ أُمِروا أنْ يَكفُروا به. فكيفَ يَتحاكَمونَ إليهِ وهمْ يُريدونَ الهِدايةَ بك؟! والشَّيطانُ يُريدُ إضلالَهمْ ليَنحرِفوا انحِرافاً بَعيداً عنِ الحقِّ حتَّى لا يَتحاكموا إليك!

وفي حديثٍ مُرْسَلٍ صحيحِ الإسنادِ أنَّها نَزلتْ في رجلٍ منَ الأنصارِ يَزعُمُ أنَّهُ مُسلم، كانتْ بينَهُ وبينَ يَهوديٍّ خُصومة، فاتَّفقا على أنْ يَتحاكما إلى كاهِنٍ مِنْ بَني جُهَينة.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيۡتَ الۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا﴾ [النساء:61]


وإذا قيلَ لأولئكَ المتحاكِمينَ إلى الطاغُوت: تعالَوا إلى التَّحاكمِ إلى كتابِ الله، وإلى رسولهِ الذي يَحكُمُ بهِ للفَصلِ بينَكم، أبصَرتَ المنافقينَ يُعرِضونَ عنكَ - أيُّها النبيُّ - إعراضَ المُستَكبِر.

﴿فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِاللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا﴾ [النساء:62]


فكيفَ يَصنَعونَ إذا نالَتْهُمْ نَكبةٌ تُظهِرُ نِفاقَهمْ بسَببِ صُدودِهمْ وما عَمِلوا منْ جِنايات، ثمَّ جاؤوكَ مُعتَذرِينَ إليكَ وهمْ يَحلِفونَ: ما أرَدنا بالتحاكمِ إلى غيرِكَ إلا إحسَاناً إلى الخصومِ وتَوفِيقاً بينَهمْ وليسَ إعراضاً عنْ حُكمِك!

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ يَعۡلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا﴾ [النساء:63]


أولئكَ النَّفرُ مِنَ النَّاسِ همُ المنافِقون، قدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ ما في قلوبِهم خِلافُ ما على ألسنَتِهم، لا تَخفَى عليهِ خافِية، وسيَجزيهمْ على ذلك، فلا تُعَنِّفْهُمْ عمّا أبطَنوهُ في قلوبِهم، وعِظْهُمْ في الملأ، وانهَهُمْ عنِ النِّفاق، وانصَحْهُمْ بكلامٍ مُؤثِّرٍ عميقٍ رادِعٍ لهم.

﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ اللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَاسۡتَغۡفَرُواْ اللَّهَ وَاسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء:64]


وما أرسلنا رَسولاً مِنَ الرسُلِ إلاّ ليُطاعَ بأمرِ الله، لأنَّهُ مُؤدٍّ عنهُ تعالَى، فطاعتهُ طاعةٌ لله، ومَعصيتُهُ معصيةٌ له.

ولو أنَّهمْ عندَما أخطَؤوا وتَحاكَموا إلى الطَّاغوتِ رَجَعوا إلى أنفسِهمْ وعَرفوا خَطأهم، وجاؤوا إليكَ مُعترِفينَ بذلك، وأبدَوا نَدمَهَمْ فاستَغفَروا اللهَ مِنْ ذَنبِهم، واستَغفَرَ لهمْ نبيُّهمْ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، لتابَ اللهُ عليهمْ ورَحِمَهم.

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾ [النساء:65]


فوربِّكَ أيُّها النبيُّ لا يُؤمِنونَ حتَّى يَجعلوكَ حَكَماً فيما اختَلفوا فيهِ والتبَسَ عليهمْ حُكمُه، فما حَكمْتَ بهِ هوَ الحقُّ الذي يَجِبُ أنْ يُتَّبع، ثمَّ لا يَجِدونَ في أنفسِهمْ وقلوبِهمْ شكًّا أو ضِيْقاً ممّا حَكمتَ به، فانقَادوا إلى حُكمِكَ وأذعَنوا لهُ ظَاهِراً وبَاطِناً، وسَلَّموا بذلكَ تَسليماً كُلِّياً مِنْ غيرِ مُمانَعةٍ ولا مُنازَعة. وكما جاءَ في الحديثِ الشريفِ الذي وثَّقَ رجالَهُ ابنُ حجرٍ في الفَتْح: "لا يُؤمِنُ أحدُكمْ حتَّى يَكونَ هَواهُ تَبَعاً لِمَا جِئتُ به".

﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ اقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ اخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا﴾ [النساء:66]


ولو أنَّنا أوجَبنا على النَّاسِ أنِ اقتُلوا أنفسَكم، في عُقوباتٍ نَفرِضُها عليهمْ نتيجةَ أعمالِهمُ السيِّئةِ ومُخالفتِهمْ أوامرَ الله، كما كانَ الشأنُ معَ بَني إسرائيل، أو اخرُجوا مِنْ وطنِكُمْ كما أمَرْنا بني إسرائيلَ أيضاً بالخُروجِ مِنْ مِصر، لمَا فَعلَهُ إلاّ القليلُ منهم، وهمُ المخلِصونَ، الذينَ يُفْدُونَ دينَهمْ ونبيَّهمْ بأرواحِهم.

والآيةُ مُتعلِّقةٌ بما قبلَها، أي: إنَّما أوجَبنا عليهمْ ما هوَ سَهلٌ وحَقّ، وهوَ أنْ يُطيعُوا الرسُولَ ويَنقَادوا لحُكمهِ ويَرضَوا به، ولو فَرَضنا عَليهمْ قَتْلَ أنفسِهمْ أو الخُروجَ مِنْ ديارِهمْ لَما فعلَهُ إلاّ القليل. فليُقارِنوا بينَ الأمرَين، وليَستَجيبوا لأمرِ اللهِ ورسُولهِ حتَّى لا يُبتَلُوا بأحكامٍ قاسيةٍ كما فُرِضَتْ على بَني إسرائيلَ نَتيجةَ تَعنُّتِهمْ وعِنادِهمْ ورَفضِهمْ أوامرَ أنبيائهم.

وأوَّلَهُ ابنُ كثيرٍ تأويلاً آخَر، فقال: يُخْبِرُ تعالَى عنْ أكثرِ الناسِ أنَّهمْ لو أُمِروا بما همْ مُرتَكِبوهُ مِنَ المناهي لما فَعلوه؛ لأنَّ طِباعَهمُ الردِيئةَ مَجبولةٌ على مُخالفةِ الأمر. ا.هـ.

ولو أنَّهمْ فَعلوا ما يُؤمَرونَ بهِ وانقادُوا لحُكمِ اللهِ ورسولِه. لكانَ أفضلَ لهمْ مِنْ مخالفَتِه، وأثبتَ في الحقِّ والصَّواب، وأبعدَ منَ الشُّبهات.

﴿وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:67]


ولو ثَبتُوا على ذلكَ لجَزَيناهُمْ خَيرا،ً وأعطَيناهمْ مِنْ عِندِنا ثَواباً عَظيماً لا يُقَدَّرُ قَدْرُه.

﴿وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا﴾ [النساء:68]


ولوَفَّقناهُمْ وثبَّتناهمْ على الطريقِ الحقِّ الذي يُؤدِّي بهمْ إلى الجنَّة.

﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنۡعَمَ اللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ النَّبِيِّـۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَـٰٓئِكَ رَفِيقٗا﴾ [النساء:69]


ومَنْ عَمِلَ بما أمرَهُ اللهُ فانقادَ لأمرهِ ونَهيه، واستَجابَ لرَسولهِ فِيما بَلَّغَ عنه، فأولئكَ المُطِيعونَ دَرجتُهمْ في الجنَّةِ معَ الذينَ تَفضَّلَ اللهُ عَليهِمْ وأكرَمَهمْ وجَعلَهُمْ خَيرَ الناس، مِنْ أنبيائه، وعِبادهِ الصدِّيقينَ والشُّهداء، والصَّالحينَ الذينَ تولاّهمُ اللهُ بالصَّلاحِ فصَلَحَتْ سرائرُهمْ وعلانيتُهم، وما أحسَنَ هؤلاءِ رِفْقَة، ولطَافةً وعِشْرة.

﴿ذَٰلِكَ الۡفَضۡلُ مِنَ اللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمٗا﴾ [النساء:70]


وذلكَ الأجرُ الكبيرُ الذي أُعِدَّ لهمْ هوَ مِنَ اللهِ الكريم، وهوَ العليمُ بمَنْ يَستَحِقُّ ذلكَ وبمِقدارِه.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعٗا﴾ [النساء:71]


أيُّها المؤمِنون، احتَرِزوا مِنْ عَدوِّكمْ وتأهَّبوا لهُ بما يَرْدَعُهم، فاخرُجوا لهُ جماعاتٍ مُتَفرِّقة، أو مُجتَمِعينَ جَماعةً واحِدة.

﴿وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا﴾ [النساء:72]


وإنَّ منكمْ مَنْ يَتخَلَّفُ ويَتثاقلُ عنِ الجِهاد، فإذا قَتلَ العدوُّ منكمْ أو هُزِمْتُم، قالَ أحدُهمْ حامِداً لرأيه: قدْ أنعمَ اللهُ عليَّ إذْ لم أحضُرْ مَعَهُمْ فيُصيبُني ما أصابَهمْ مِنَ القَتلِ أو الشدَّة.

والمقصودُ المنافِقون، فقدْ كانوا يَتخلَّفونَ عنِ الجِهاد، أو يَرْجِعونَ مِنْ عَسكَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقدْ يَكونُ بَينَهمْ ضَعَفةُ المسلِمين، الذينَ يتأثِّرونَ بكلامِهم.

﴿وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:73]


وإذا أصابَكمْ نَصرٌ وغَنيمةٌ بفَضلِ الله، نَدِمَ على قُعودهِ وتَخَلُّفهِ عنِ الجِهاد، تَحَسُّراً على ما فاتَهُ مِنَ الغَنيمة، ويَقولُ وكأنَّهُ ليسَ مِنْ أهلِ دينِكمْ ولا رابِطَ لوشيجةِ العقيدةِ بينَكم: يا ليتَني حَضرتُ مَعهمُ القِتالَ لآخُذَ نَصيباً وافِراً منَ الغَنيمة.

﴿۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشۡرُونَ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا بِالۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء:74]


فليُقاتِلِ المؤمِنونَ في سبيلِ اللهِ هؤلاءِ الكافِرينَ الذينَ يَبيعونَ الحياةَ الأُخرويَّةَ الحقيقيَّةَ الدَّائمَةَ بالحياةِ الدُّنيا الفانيَة. ومَنْ يُقاتِلْ في سبيلِ الله، يُرِيدُ بذلكَ وجهَه، ولتَكونَ كلمتهُ هيَ العُليا، ثمَّ يُستَشهَد، أو يَنتَصِر، فلهُ - في كِلتا الحالتَين - مَثوبةٌ عظيمةٌ وأجرٌ جَزيل.

﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالۡوِلۡدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ الۡقَرۡيَةِ الظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَاجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَاجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [النساء:75]


ولماذا لا تُجاهِدونَ في طاعةِ اللهِ وطَلبِ رِضاه، ولأجلِ إنقاذِ المستَضعفِينَ منْ أيدي المشرِكينَ بمكَّة، وهمْ مُسلِمونَ أسرَى وضُعَفاءُ وأذلَّةٌ هُناك، مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والأولاد، الذينَ مَنعَهمُ الكفّارُ منَ الخروج، أو ضَعُفوا همْ عنِ الهِجرة، وبَقُوا هناكَ يَلقَونَ الأذَى منهم، وهمْ يَدْعُونَ ويَقولون: اللهمَّ أعِنّا على الخُروجِ مِنْ هذهِ القريةِ التي يَظلِمنا أهلُها وكُبَراؤها، وهيِّءْ لنا مِنْ عِنْدِكَ وليّاً وناصِراً يَمْنَعْنا منهم.

﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِۖ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّـٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ الشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ الشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء:76]


إنَّ المؤمِنينَ إنَّما يُقاتِلونَ لأجلِ إعلاءِ كلمةِ اللهِ وطلبًا لمَرضاتِه، فهوَ وليُّهُمْ وناصرُهمْ ومُوصِلُهمْ إلى جنَّته.

والكافِرونَ يُقاتِلونَ في طَاعةِ الشيطان، الذي يُوصِلُهمْ إلى الكُفر، فالنَّار. فقاتِلوا يا أولياءَ اللهِ وأنصارَ نَبيِّه، قاتِلوا الكافِرينَ الذينَ والَوا الشَّيطان، ولا تَخْشَوا تَهويلَه، فإنَّ كيدَهُ ضَعِيف، ومَكرَهُ يَبور، وإنَّ كيدَهُ للمُؤمنينَ بالمقارنةِ إلى كيدِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى للكافرينَ ضَعيفٌ لا يُؤبَهُ به، فلا تَخافوا أولياءَه، واللهُ وليُّكمْ وناصرُكم.

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ الۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ النَّاسَ كَخَشۡيَةِ اللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا الۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ الدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَالۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء:77]


ألا تَنظرُ أيُّها النبيُّ إلى بعضِ المسلِمينَ الذينَ طُلِبُ منهمْ أنْ يَكُفُّوا عنْ قِتالِ المشرِكينَ ويَعفوا عنهمْ عندَما كانوا ضُعفاءَ بمكَّة، وقيلَ لهمْ وقتَها: قُومُوا بواجبِكمْ في الطَّاعةِ وجِهادِ النَّفس، فأقِيموا الصَّلاةَ بِخُشوع، وأعطُوا الزكاةَ لتواسُوا بها الفُقَراءَ والمسَاكينَ، لكنَّهمْ كانوا يَطلبونَ منكَ أنْ تأذنَ لهمْ بقِتالِ المشرِكين؛ لِما يَلقَونَ منهمْ منَ الأذَى.

ولما قَوُوا وفُرِضَ عليهمُ الجِهاد، وطُلِبَ منهمْ مُقاتَلةُ الكفّار، إذا فريقٌ منهمْ يَخشَونَهمْ كما يَخشَونَ اللهَ أنْ يُنْـزِلَ بهمْ بأسه، أو أكثَر، وذلكَ لِما أصابَهمْ مِنْ خَوفٍ وجَزَع - والمسلمونَ مُتفاوِتونَ في قوَّةِ الإيمان، وفي لقاءِ الأعداء - وقالَ أولئكَ الخائفون: ربَّنا لمَ فَرضتَ علينا القِتالَ الآن، فلَو أخَّرتَ فَرْضَهُ إلى وقتٍ آخَرَ لكانَ أفضَل، ففيهِ سَفكٌ للدِّماء، ويُتْمٌ للأبناء، وتأيُّمٌ للنِّساء...

قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ جميعَ ما يُستَمتَعُ بهِ في الدُّنيا هوَ قليلٌ جدّاً نسبةً إلى الثَّوابِ المتَرتِّبِ على الأعمالِ الطيِّبةِ في الآخِرة، ومنها الجِهادُ في سبَيلِ الله، فالآخِرةُ لمنْ جاهدَ واتَّقَى خيرٌ منَ الدُّنيا ومَتاعِها القَليل.

ولنْ تُظلَموا فيما تُؤدُّونَهُ مِنْ أعمال، ولا تُنقَصونَ مِن ثوابِها أدنَى شيء، ولو مِقدارَ الخيطِ الذي في شِقِّ النَّواة، وكلَّما كثُرَتْ وعَظُمَتْ زادَ ذلكَ مِنَ الأجر، فلا تَرغَبُوا عنِ القِتال، ودَعُوا الدُّنيا وغُرورَها، وأقبِلوا على ما يُهَنِّئكمْ في الآخِرَة، فهيَ خيرٌ لكم.

﴿أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ الۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ اللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ اللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ الۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا﴾ [النساء:78]


أينما وُجِدتُمْ فإنَّ مصيرَكمْ إلى الموت، فلا بدَّ لكمْ منه، ولو كنتُمْ في قُصورٍ عاليَةٍ رفيعة، ومَنيعةٍ حَصينة، فلا يُغني حَذَرٌ وتَحَصُّنٌ عنِ الموت، إنْ جاهدتُمْ أو لم تُجاهدوا، فإنَّ الأجلَ مَحتوم، وكلُّ نَفسٍ ذائقةُ الموت.

وإذا بُسِطَ لهمُ الرِّزقُ وجاءَتهمُ الثِّمارُ والزُّروع، والنَّعيمُ والرَّخاء، قالوا: هذا مِنْ عندِ الله، وإذا أُصِيبوا ببَليَّة، مِنْ جَدْبٍ وغَلاءٍ، ونَقصٍ في الثِّمار، أو مَوتِ أولادٍ أو غَيرِ ذلك، قالوا للرسُولِ صلى الله عليه وسلم: هذا جاءَنا مِنْ قِبَلك، لأنَّنا اتَّبعناكَ واقتدَينا بدينِك! وكما قال سبحانَهُ في مثلِ ذلك: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [سورة الأعراف: 131]. وهكذا كانَ المنافِقون، إذا أصابَهم الشرُّ أسنَدوهُ إلى اتِّباعِهمْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

قلْ لهمْ أيُّها الرسُول: كلٌّ مِنْ عندِ الله، فالحسَنةُ والسيِّئة بقضاءِ اللهِ وقدَره، والنِّعمَةُ والبَليَّةُ مِنْ عندِه، وقَضاؤهُ ماضٍ في البَرِّ والفاجِر، ونافِذٌ في المؤمنِ والكافر، فما لهؤلاءِ القَومِ مِنَ اليهودِ والمنافِقينَ قدِ ابتُلوا بقلَّةِ الفَهمِ والعِلم، وكثرةِ الجَهلِ والظُّلم، ولا يَكادونَ يَفهَمونَ كلاماً يُوعَظونَ به؟!

﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدٗا﴾ [النساء:79]


ما أصابكَ أيُّها الإنسانُ مِنْ نِعمَةٍ ورَخاءٍ فهو مِنْ فضلِ اللهِ عَليكَ ولُطفهِ وإحسانِه، وما تَقومُ بهِ مِنْ عِبادةٍ وطاعةٍ لا تَكادُ تُكافِئُ نِعمةَ وجودِك، فضلاً عنِ النِّعمِ الأخرَى عليك. وما أصابَكَ مِنْ مُصيبةٍ فقدْ جاءَتْكَ مِنْ قِبَلك، مِنْ عملِكَ وما اقترفتَهُ منْ مَعاصٍ ومُنكرات، وإنْ كانتْ مِنْ حيثُ الإيجادُ مُنتَسِبةً إلى اللهِ تعالى، نازلةً مِنْ عندهِ عُقوبة، وهذا كقولهِ سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].

وقدْ بعثناكَ للناسِ رسُولاً، تبلِّغُهمْ شَرائعَ الله، وتُبيِّنُ لهمْ أحكامَه.

وكفَى باللهِ شَهيداً على رسالتِك، وعلى ما تُبَلِّغُهم، وعلى ما يَحصُلُ بينَكَ وبينَهم، وعلى موقفِهمْ مِنَ الدَّعوة.

﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ اللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا﴾ [النساء:80]


مَنْ يُطِعِ الرسولَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم فقدْ أطاعَ اللهَ وعَمِلَ بما قال، ذلكَ أنَّهُ ناطقٌ بالوحي ومُبَلِّغٌ عن اللهِ أحكامَ الدِّين.

ومَنْ أعرضَ عمّا جِئتَ بهِ ولم يَسمَعْ كلامَكَ فقدْ خابَ وخَسِرَ وجنَى على نفسِه، لأنَّهُ عصَى اللهَ وأعرضَ عنْ دينِه، ولا عليكَ منهم، فلستَ مَسؤولاً عنهمْ وعمّا يَعمَلون، ولم نُرسِلْكَ حَفيظاً مُهيمِناً تَحفَظُ أعمالَهمْ عليهمْ وتُحاسِبُهمْ عليها، إنَّما عليكَ التَّبليغ.

﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ الَّذِي تَقُولُۖ وَاللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء:81]


وإذا حضرَ المنافِقونَ مجلِسَكَ أظهَروا الموافقةَ لكَ والطَّاعةَ لِما تَقول، فإذا خَرجوا وغابُوا عنك، زوَّرَتْ كلامَكَ جماعةٌ منهمْ - وهمْ رؤساؤهمْ - وجَعَلتْهُ خِلافَ ما تَقول، وعَزموا على شَرّ، واللهُ يَعلمُ بما يُسِرُّون، ويَكتبهُ ويُثْبِتهُ في صَحائفهمْ ليُجازِيَهمْ عَليها، فلا يُهِمَّنَّكَ أمرُهم، ولا تأبهْ بهمْ وبموقفِهم، واحْلُمْ عليهم، وفَوِّضْ أمرَكَ إلى اللهِ وثِقْ به، وكفَى بهِ ناصراً لك، ومُعيناً لمنْ توكَّلَ عليه، ولسَوفَ يَنتَقِمُ لكَ مِنهم.

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء:82]


– أفلا يَتأمَّلونَ ويَتمَعَّنونَ في القُرآنِ الكريمِ وكلِماتِه،ِ ومَعانيهِ ومُعجِزاتِه، وكيفَ أنَّهُ مُحْكَمٌ بَليغ، لا اختلافَ فيهِ ولا مُعارَضة، بلْ يُصَدِّقُ بَعضُهُ بَعضاً، ذلكَ أنَّهُ مُنْـزَلٌ منْ عندِ اللهِ الواحدِ الحقّ، ولو كانَ مِنْ عندِ غيرهِ لوجَدوا فيهِ مُخالفةً ومُعارَضةً بينَ آياتهِ ومَعانِيها، ففيهِ منَ الإخبارِ بالغيب، وما يُسِرُّهُ المنافقونَ، وتاريخُ أهلُ الكتابِ الكثير..

﴿وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ الۡأَمۡنِ أَوِ الۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي الۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَاتَّبَعۡتُمُ الشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [النساء:83]


وهناكَ صِنْفٌ مِنَ الناسِ إذا وَصَلتْهمْ أخبارٌ ممّا يوجِبُ الأمنَ والخَوف، مِن ظَفرٍ وغَنيمة، أو نَكبةٍ وهَزيمة، لم يَتحقَّقوها، بلْ أفشَوها، ولو كانتْ خالِيةً منَ الصحَّة، وقدْ يَزيدونَ فيها أو يَنقُصون، وهمْ لا يأبَهونَ بآثارِها على أصحابِها أو على المجتمعِ الذي تؤثِّرُ فيه الشائعاتُ المُغرِضَة، ولو أنَّهمْ تَحَقَّقوا منَ الخبَر، وجاؤوا يَسألونَ رَسولَ اللهِ أهوَ حَقٌّ أمْ باطِل، وسألوا أجِلَّةَ صحابتهِ عنْ ذلك، لعَلِموا تدبيرَ هذا الأمرِ الذي أخْبَروا به، لفِطنتِهمْ ومعرفتِهمْ وخِبرتِهمْ بالأمور، فيَعرفونَ كيفَ يتصَرَّفون، وما يأتونَ منهُ وما يَذَرون.

ولولا حِفْظُ اللهِ لكمْ ورأفتُهُ بكمْ لسِرتُمْ على نهجِ الشَّيطان، وتأثَّرتُمْ بما يُشِيعُهُ أنصارُهُ منَ الخطأ والضَّلال، ولم تَهتدوا إلى الصَّواب، إلا القليلُ منكم، وهمْ المستَنيرةُ عقولُهمْ بأنوارِ الإيمانِ الراسِخ، المُتعَمِّقونَ في معرفةِ الأحكام، الثَّابِتونَ على الحقّ.

وقدْ نزلتْ فيما أُشِيعَ منْ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ طلَّقَ زوجاتهِ وهوَ لم يَفعل، والذي سألَ الرسُولَ عليه الصلاةُ والسلامُ واستَنبطَ الأمرَ هوَ عمرُ رضي الله عنه، كما في الحديثِ الصَّحيح.

﴿فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ الۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ الَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا﴾ [النساء:84]


ولا تأبَهْ بخِذْلانِ المنافِقينَ وتَقصيرِ الآخَرين، فلا تُكَلَّفُ إلا المجاهَدةَ بنفسِك، ولا تُلزَمُ فعلَ غيرِك. فتَقدَّمْ إلى الجِهاد، ورغِّبِ المؤمنينَ فيهِ وحُثَّهمْ عليه، وعِظْهُم في إثمِ مَنْ تخلَّفَ عنه، وثوابِ مَنْ باشَرَه، فلربَّما انبَعثتْ بهذا هِمَمُ المُخلِصينَ، فقاوَموا وصابَروا ودافَعوا عنِ الإسلامِ وأهلِه. واللهُ أقوَى وأقدرُ، وأشدُّ تَعذيباً وإلحاقاً للأذَى بالكافِرينَ منهم.

﴿مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا﴾ [النساء:85]


ومَنْ يَسْعَ في أمرٍ يَترتَّبُ عليهِ خَيرٌ يكُنْ لهُ حَظٌّ وافرٌ مِنَ ثَوابِه، ومَنْ يَسْعَ في أمرٍ يَترتَّبُ عليهِ شرٌّ وإثمٌ يَكنْ عليهِ نَصيبٌ منَ الوِزْر، وكانَ اللهُ على كلِّ شيءٍ حافِظاً وشَهيداً.