إنَّ اللهَ يوجِبُ عليكمْ أنْ تَؤدُّوا الأماناتِ إلى أصحابِها، أيَّ أمانةٍ كانت، وهيَ الأماناتُ الواجبةِ على الإنسان، مِنْ حُقوقِ اللهِ على عِبادِه، ومِنْ حُقوقِ العِبادِ بعضِهمْ على بَعض. فمَنْ لم يَفعلْ ذلكَ في الدُّنيا أُخِذَ منهُ في الآخِرَة، كما في الحديثِ الصَّحيح.
وإنَّ اللهَ يأمرُكمْ أنْ تَحكُموا بالعَدلِ إذا حَكمتُمْ بينَ الناس، ونِعْمَ الشيءُ الذي يَعِظُكمُ اللهُ به، وهوَ الحُكْمُ بالعَدل. وكانَ اللهُ سميعاً لجميعِ أقوالِكم، بَصيراً بكلِّ أفعالِكم.
أيُّها المؤمِنون، التَزِموا بما أمرَكمُ اللهُ بهِ ونَهاكُمْ عنه، وأطِيعُوا رسولَه، فإنَّهُ مُبَلِّغُ أحكامِ ربِّه، وأطِيعُوا أولي الأمرِ مِنكمْ بالمعرُوف، أي: إذا كانَ أمرُهمْ موافِقاً لأحكامِ الشريعةِ الإسلامية، وإلاّ فإنَّهمْ لا يُطاعُون، ففي الحديثِ قولهُ صلى الله عليه وسلم: "السَّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المسلمِ فيما أحَبَّ وكَرِهَ ما لم يُؤمَرْ بمَعصِية، فإذا أُمِرَ بمَعِصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعة". رواهُ الشَّيخانُ وغيرُهما.
وإذا اختَلفتُمْ -أيُّها المؤمِنونَ- في شَيء، فراجِعوا فيهِ كتابَ اللهِ وسنَّةَ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فما حَكَمَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ هوَ الحقّ، ومَنْ تَخطَّى الحقَّ وقعَ في الضَّلال. فالواجِبَ عليكمُ التَّحاكُمُ إليهِما، هذا إذا كنتُمْ حقّاً مُؤمِنينَ باللهِ واليومِ الآخِر. والتحاكُمُ إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه، والرجوعُ في فَصلِ النـزاعِ ورَدِّ الخصوماتِ إليهما، خيرٌ وأحمَدُ عاقبةً وأحسَنُ مآلاً.
وإذا قيلَ لأولئكَ المتحاكِمينَ إلى الطاغُوت: تعالَوا إلى التَّحاكمِ إلى كتابِ الله، وإلى رسولهِ الذي يَحكُمُ بهِ للفَصلِ بينَكم، أبصَرتَ المنافقينَ يُعرِضونَ عنكَ - أيُّها النبيُّ - إعراضَ المُستَكبِر.
أولئكَ النَّفرُ مِنَ النَّاسِ همُ المنافِقون، قدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ ما في قلوبِهم خِلافُ ما على ألسنَتِهم، لا تَخفَى عليهِ خافِية، وسيَجزيهمْ على ذلك، فلا تُعَنِّفْهُمْ عمّا أبطَنوهُ في قلوبِهم، وعِظْهُمْ في الملأ، وانهَهُمْ عنِ النِّفاق، وانصَحْهُمْ بكلامٍ مُؤثِّرٍ عميقٍ رادِعٍ لهم.
وإنَّ منكمْ مَنْ يَتخَلَّفُ ويَتثاقلُ عنِ الجِهاد، فإذا قَتلَ العدوُّ منكمْ أو هُزِمْتُم، قالَ أحدُهمْ حامِداً لرأيه: قدْ أنعمَ اللهُ عليَّ إذْ لم أحضُرْ مَعَهُمْ فيُصيبُني ما أصابَهمْ مِنَ القَتلِ أو الشدَّة.
والمقصودُ المنافِقون، فقدْ كانوا يَتخلَّفونَ عنِ الجِهاد، أو يَرْجِعونَ مِنْ عَسكَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقدْ يَكونُ بَينَهمْ ضَعَفةُ المسلِمين، الذينَ يتأثِّرونَ بكلامِهم.
ألا تَنظرُ أيُّها النبيُّ إلى بعضِ المسلِمينَ الذينَ طُلِبُ منهمْ أنْ يَكُفُّوا عنْ قِتالِ المشرِكينَ ويَعفوا عنهمْ عندَما كانوا ضُعفاءَ بمكَّة، وقيلَ لهمْ وقتَها: قُومُوا بواجبِكمْ في الطَّاعةِ وجِهادِ النَّفس، فأقِيموا الصَّلاةَ بِخُشوع، وأعطُوا الزكاةَ لتواسُوا بها الفُقَراءَ والمسَاكينَ، لكنَّهمْ كانوا يَطلبونَ منكَ أنْ تأذنَ لهمْ بقِتالِ المشرِكين؛ لِما يَلقَونَ منهمْ منَ الأذَى.
ولما قَوُوا وفُرِضَ عليهمُ الجِهاد، وطُلِبَ منهمْ مُقاتَلةُ الكفّار، إذا فريقٌ منهمْ يَخشَونَهمْ كما يَخشَونَ اللهَ أنْ يُنْـزِلَ بهمْ بأسه، أو أكثَر، وذلكَ لِما أصابَهمْ مِنْ خَوفٍ وجَزَع - والمسلمونَ مُتفاوِتونَ في قوَّةِ الإيمان، وفي لقاءِ الأعداء - وقالَ أولئكَ الخائفون: ربَّنا لمَ فَرضتَ علينا القِتالَ الآن، فلَو أخَّرتَ فَرْضَهُ إلى وقتٍ آخَرَ لكانَ أفضَل، ففيهِ سَفكٌ للدِّماء، ويُتْمٌ للأبناء، وتأيُّمٌ للنِّساء...
قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ جميعَ ما يُستَمتَعُ بهِ في الدُّنيا هوَ قليلٌ جدّاً نسبةً إلى الثَّوابِ المتَرتِّبِ على الأعمالِ الطيِّبةِ في الآخِرة، ومنها الجِهادُ في سبَيلِ الله، فالآخِرةُ لمنْ جاهدَ واتَّقَى خيرٌ منَ الدُّنيا ومَتاعِها القَليل.
ولنْ تُظلَموا فيما تُؤدُّونَهُ مِنْ أعمال، ولا تُنقَصونَ مِن ثوابِها أدنَى شيء، ولو مِقدارَ الخيطِ الذي في شِقِّ النَّواة، وكلَّما كثُرَتْ وعَظُمَتْ زادَ ذلكَ مِنَ الأجر، فلا تَرغَبُوا عنِ القِتال، ودَعُوا الدُّنيا وغُرورَها، وأقبِلوا على ما يُهَنِّئكمْ في الآخِرَة، فهيَ خيرٌ لكم.
أينما وُجِدتُمْ فإنَّ مصيرَكمْ إلى الموت، فلا بدَّ لكمْ منه، ولو كنتُمْ في قُصورٍ عاليَةٍ رفيعة، ومَنيعةٍ حَصينة، فلا يُغني حَذَرٌ وتَحَصُّنٌ عنِ الموت، إنْ جاهدتُمْ أو لم تُجاهدوا، فإنَّ الأجلَ مَحتوم، وكلُّ نَفسٍ ذائقةُ الموت.
وإذا بُسِطَ لهمُ الرِّزقُ وجاءَتهمُ الثِّمارُ والزُّروع، والنَّعيمُ والرَّخاء، قالوا: هذا مِنْ عندِ الله، وإذا أُصِيبوا ببَليَّة، مِنْ جَدْبٍ وغَلاءٍ، ونَقصٍ في الثِّمار، أو مَوتِ أولادٍ أو غَيرِ ذلك، قالوا للرسُولِ صلى الله عليه وسلم: هذا جاءَنا مِنْ قِبَلك، لأنَّنا اتَّبعناكَ واقتدَينا بدينِك! وكما قال سبحانَهُ في مثلِ ذلك: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [سورة الأعراف: 131]. وهكذا كانَ المنافِقون، إذا أصابَهم الشرُّ أسنَدوهُ إلى اتِّباعِهمْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
قلْ لهمْ أيُّها الرسُول: كلٌّ مِنْ عندِ الله، فالحسَنةُ والسيِّئة بقضاءِ اللهِ وقدَره، والنِّعمَةُ والبَليَّةُ مِنْ عندِه، وقَضاؤهُ ماضٍ في البَرِّ والفاجِر، ونافِذٌ في المؤمنِ والكافر، فما لهؤلاءِ القَومِ مِنَ اليهودِ والمنافِقينَ قدِ ابتُلوا بقلَّةِ الفَهمِ والعِلم، وكثرةِ الجَهلِ والظُّلم، ولا يَكادونَ يَفهَمونَ كلاماً يُوعَظونَ به؟!
وهناكَ صِنْفٌ مِنَ الناسِ إذا وَصَلتْهمْ أخبارٌ ممّا يوجِبُ الأمنَ والخَوف، مِن ظَفرٍ وغَنيمة، أو نَكبةٍ وهَزيمة، لم يَتحقَّقوها، بلْ أفشَوها، ولو كانتْ خالِيةً منَ الصحَّة، وقدْ يَزيدونَ فيها أو يَنقُصون، وهمْ لا يأبَهونَ بآثارِها على أصحابِها أو على المجتمعِ الذي تؤثِّرُ فيه الشائعاتُ المُغرِضَة، ولو أنَّهمْ تَحَقَّقوا منَ الخبَر، وجاؤوا يَسألونَ رَسولَ اللهِ أهوَ حَقٌّ أمْ باطِل، وسألوا أجِلَّةَ صحابتهِ عنْ ذلك، لعَلِموا تدبيرَ هذا الأمرِ الذي أخْبَروا به، لفِطنتِهمْ ومعرفتِهمْ وخِبرتِهمْ بالأمور، فيَعرفونَ كيفَ يتصَرَّفون، وما يأتونَ منهُ وما يَذَرون.
ولولا حِفْظُ اللهِ لكمْ ورأفتُهُ بكمْ لسِرتُمْ على نهجِ الشَّيطان، وتأثَّرتُمْ بما يُشِيعُهُ أنصارُهُ منَ الخطأ والضَّلال، ولم تَهتدوا إلى الصَّواب، إلا القليلُ منكم، وهمْ المستَنيرةُ عقولُهمْ بأنوارِ الإيمانِ الراسِخ، المُتعَمِّقونَ في معرفةِ الأحكام، الثَّابِتونَ على الحقّ.
وقدْ نزلتْ فيما أُشِيعَ منْ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ طلَّقَ زوجاتهِ وهوَ لم يَفعل، والذي سألَ الرسُولَ عليه الصلاةُ والسلامُ واستَنبطَ الأمرَ هوَ عمرُ رضي الله عنه، كما في الحديثِ الصَّحيح.