﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء :86]
وإذا سَلَّمَ عليكمُ المُسلِمُ فرُدُّوا عليهِ تَحيَّةً أفضلَ منَ التحيَّةِ التي سلَّمَ بها عليكم، أو رُدُّوا عليهِ بمثلِ التحيَّةِ التي حَيّاكمْ بها، فالردُّ واجِب، والزيادةُ نَدْبٌ واستِحسان.
والسلامُ مِنْ أسماءِ اللهِ تَعالَى، فالابتداءُ بذِكْرهِ أو بصفةٍ مِنْ صفاتهِ رَغبةٌ في إبقاءِ السلامةِ على المُلقَى عليهِ التَّحيَّة، وفيهِ بِشارَةٌ بالسَّلامَة، والردُّ عليهِ تَبادُلٌ في هذا الدعاءِ الجَميل، وإشاعةٌ للسَّلامِ والمحبَّة.
واللهُ مُحاسِبُكمْ على كلِّ ما تَقولونَ وتَفعَلون، ومنْ ذلكَ ما أُمِرتُمْ بهِ منَ التحيَّةِ على إخوانِكم. على أنَّ الأمرَ بهِ أمرُ استِحباب.
﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثٗا﴾ [النساء :87]
هوَ اللهُ وحدَه، لا يَستَحِقُّ العبادةَ سِواه، سوفَ يَحشُركُمْ جميعاً في صَعيدٍ واحدٍ يومَ القيامَة، وليسَ هناكَ أصدقُ منَ اللهِ في حَديثهِ وخَبَرِه، ووَعدهِ ووَعيدِه.
﴿۞فَمَا لَكُمۡ فِي الۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَاللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ اللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا﴾ [النساء :88]
فما بالُكمْ أيُّها المسلِمونَ قدْ صِرتُمْ فَريقينِ في مَوقِفِكمْ منَ المنافِقين، فمِنْ قائلٍ إنَّهمْ مُسلِمون، ومِنْ قائلٍ إنَّهمْ كفّار؟ وقدْ رَدَّهمُ اللهُ إلى الكُفرِ بعدَ الإيمانِ نَتيجةَ عِصيانِهمْ وضلالِهمْ ومُخالفتِهمُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، فهلْ تُريدونَ بموقفِكمْ أنْ تَردُّوهمْ إلى الهُدَى وهمْ يُريدونَ الضَّلال؟ فإنَّ اللهَ إذا أضلَّ قوماً بحِكمتِه، لِما يَستَحِقُّونَهُ ولِما يَعرفُهُ مِنْ نيّاتِهمْ وعزائمِهمْ نحوَ الباطِل، فلنْ تَجِدوا لهمْ طَريقاً إلى الهُدَى والإيمان، كما لنْ تَجدوا حُجَّةً لهمْ مُقْنِعةً في سَببِ تَوجُّههِمْ إلى الضَّلالِ وتَفضيلهِ على الهُدَى.
﴿وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَاقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء :89]
إنَّهُمْ يُحِبُّونَ أنْ تَرجِعوا إلى الضَّلالِ فتكونونَ كفَّاراً مثلَهم، وما ذلكَ إلاّ لبُغضِهمْ وشدَّةِ عَداوتِهم لكم، ولغُلوِّهمْ وتمادِيهمْ في الكُفر، الذي طَمَسَ في قُلوبِهمْ نورَ الإيمانِ ونَقاءَ الفِطرة.
فلا تَثِقوا بأحدٍ منهم، ولا تُوالُوهم، ولا تَستَنصِروا بهمْ على الأعداءِ ما دامُوا كذلك، حتَّى تَتحَقَّقوا مِنْ إيمانِهمْ بهجرَتِهمْ للهِ ورسولِه، لا لغَرضٍ مِنْ أغراضِ الدُّنيا.
فإذا تَركوا الهِجرة، أو أظهَروا الكُفر، فخُذوهمْ أسرَى إذا قَدَرتُمْ عَليهم، واقتُلوهمْ أينما وَجدتُموهم، فإنَّ حُكمَهُمْ حكمُ سائرِ المشرِكينَ أسراً وقَتلاً - وقيل: المرادُ القَتلُ لا غير - ولا تُوالُوا منهمْ أحداً، بلْ جانِبوهمْ مُجانَبةً كلِّية، ولا تَقبلوا منهمْ نُصْرَةً ولا وِلاية.
﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ اعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا﴾ [النساء :90]
ويُستثنَى منَ القَتل: الذينَ يأتونَ قَوماً بَينَكُمْ وبَينَهُمْ مِيثاقٌ فيَدخُلونَ في العَهدِ بإرادتِهم، وآخَرونَ قدْ ضَاقتْ صدورُهمْ وبُغِّضَ قتالُكمْ عليهم، ولا يُريدونَ أنْ يُقاتِلوا قومَهمْ معَكمْ أيضاً. وقدْ لطفَ اللهُ بكم، ولو شاءَ لسلَّطهُمْ عليكمْ فقاتَلوكُمْ معَ قومِهم، ولكنَّهُ كَفَّهمْ عنكم. فإذا تَجنَّبوا حربَكمْ وقدَّموا إليكمْ يدَ الصُّلحِ وانقادُوا للسِّلم، فليسَ لكمْ أنْ تَقتُلوهم، ما دامَتْ حالُهمْ كذلك.
ورُويَ عنِ ابنِ عباسٍ أنَّ هذا منسوخٌ بقولهِ تعالَى في أوَّلِ سورةِ التوبة: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}، والآيةِ الخامسةِ منها: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}.
وبالرجوعِ إلى تَفسيرِ هاتينِ الآيَتينِ يُوقَفُ على تَفصيلٍ في الأمر.
وكذا قيلَ في الآيةِ التالية...
﴿سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى الۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَاقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء :91]
وهناكَ صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الناسِ يُظهِرونَ لكمُ الإيمانَ ويَذكرونَ أنَّهمْ في طَرَفِكم، وإنَّما يُريدونَ بذلكَ ألاّ تَتعرَّضوا لهم، فيأمَنوا بذلكَ على دمائهمْ وأموالِهمْ وذَرارِيهمْ كما أمِنوا مِنْ قَومِهم، وهمْ في الحَقيقَةِ منافِقون، فكلَّما طلبَ منهمْ مشركو قُرَيشٍ العودةَ إلى الشِّركِ رجعوا إليهِ وانهَمكوا فيه. فإذا لم يَكفُّوا عنِ التعرُّضِ لكمْ بوجهٍ ما، ولم يُلقُوا إليكمُ الصُّلحَ والمهَادَنة، ولم يَكُفُّوا أنفسَهُمْ عنْ قتالِكم، فخُذوهمْ أُسرَاءَ واقتُلوهمْ أينما وجَدتُموهم، فقدْ جعلنا لكمْ عَليهمْ حُجَّةً بيِّنةً لقتالِهم، لظُهورِ عَداوتِهمْ ووضوحِ كُفرِهمْ وخُبثِهم.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ اللَّهِۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [النساء :92]
ولا يَحِلُّ لمؤمنٍ أنْ يَقْتُلَ أخاهُ المؤمنَ بأيِّ وجهٍ منَ الوجوه، إلاّ أنْ يَكونَ ذلكَ عنْ طريقِ الخطأ.
فإذا قتلَ مؤمناً بالخطأ فعقُوبتهُ أنْ يُعتِقَ رقَبةً مُؤمِنة، وأنْ يُعطيَ ورثتَهُ دِيَةَ القَتل، إلاّ أنْ يَعفوا عنه، فلا تَجِبُ عليه.
فإذا كانَ المقتولُ منْ قومٍ كفّارٍ مُحارِبين، وهوَ مُؤمن، ولم يَعرِفِ القاتلُ أنَّهُ مُؤمِن، فعقُوبتهُ الكفّارةُ دونَ الدِّيَة، وهيَ تَحريرُ رقَبةٍ مؤمِنة، فإنَّهُ لا وِراثةَ بين المؤمنِ المقتولِ وقومِه، لأنَّهمْ كفّار.
فإذا كانَ المقتولُ المؤمنُ مِنْ قومٍ كُفّارٍ بينَكمْ وبينهمْ عَهد، يَعني: أولياؤهُ أهلُ ذِمَّةٍ أو هُدْنَة، فلهمْ دِيَةُ قتيلِهم، معَ تحريرِ رقبةٍ مُؤمِنة، كما هوَ حُكْمُ سَائرِ المسلِمين.
فمَنْ لم يَقْدِرْ على عِتْقِ نَفسٍ مُؤمِنة، فعليهِ صومُ شَهرينِ مُتَتابِعين، يَسرُدُ صومَهما إلى آخرِ الشَّهرينِ دونَ أن يُفطِرَ بينَهما، وهيَ توبةُ القاتلِ خطأ إذا لم يَجِدِ العِتق.
وكانَ اللهُ عليماً بخَلْقهِ وما يَعمَلون، حَكيماً فيما دَبَّرَهُ لهمْ مِنْ شَرائعَ وأحكام.
﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا﴾ [النساء :93]
ومَنْ يَقتُلْ أخاً مؤمِناً لهُ مُتعَمِّداً، بغيرِ حقّ، فقدِ ارتكبَ ذَنباً عَظيماً وإثماً كبيراً، وجَزاؤهُ الذي يَستَحِقُّهُ جهنَّم، خالداً فيها، معَ مَقْتِ اللهِ له، وغَضبهِ عليه، وانتِقامهِ منه، وإبعادهِ عنْ رحمتِه. وقدْ أعَدَّ لهُ في جهنَّمَ عَذاباً أليماً وعُقوبةً فَظيعة، لا يوقَفُ على قَدْرهِ ووَصْفِه!
والمقصودُ بالخلودِ في العذابِ للمسلمِ هوَ المكثُ الطويلُ لا الدَّوام، بدليلِ نصوصٍ أخرَى في القُرآنِ والسنَّة.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ السَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [النساء :94]
أيُّها المؤمِنون، إذا سافرتُمْ في الغَزو، فتَثبَّتوا وتَعرَّفوا جيِّداً لِما تُقْدِمُونَ عليهِ ممّا طُلِبَ منكم، واعرِفوا ماذا ستَفعلونَ وماذا ستَتركون، ولا تَتعجَّلوا في أمرٍ دونَ تَدبيرٍ ورَوِيَّة، ولا تَقولوا لمَنْ حيّاكمْ بتحيَّةِ الإسلام، أو استَسلمَ فأظهرَ الانقيادَ لِما دُعيَ إليهِ مِنَ الإسلام: لستَ مؤمناً، بلْ قلتَ ذلكَ لئلاّ أقتُلَكَ مثلَ بقيَّةِ المحارِبينَ المشرِكين. فهلْ تُريدُونَ مِنَ الإقدامِ على هذا العملِ دونَ تَثبُّتٍ عَرَضاً مِنَ الدُّنيا قَليلاً وحُطاماً يَنفَدُ بعدَ قليل؟ فإنَّ ما أعدَّهُ اللهُ لكمْ جزاءَ جهادِكمْ هوَ خيرٌ منْ هذا بكثِير.
وقد كانتْ حالُكمْ في وقتٍ ما مثلَ حالِ هؤلاءِ الآن، الذينَ يتَّقونَ بأسَكم، فكنتُمْ ضُعفاءَ تُخفُونَ إيمانَكمْ وتَخْشَونَ فِتنةَ المشرِكين، فلطَفَ اللهُ بكمْ وأنقذَكمْ منهم، فتثبَّتوا وتَحقَّقوا إذا أقدَمتُمْ على أمر، فإنَّكمْ أصحابُ رسالةٍ رَحيمة، ومَسؤولونَ عمّا وُكِّلَ بكمْ مِنْ أعمَال، واللهُ مطَّلعٌ على أعمالِكمُ الظاهرةِ والخفيَّة، فيُجازيكمْ بها ويُحاسبُكمْ عليها، فلا تَتهاونوا في الأمورِ واحتاطُوا.
وفيها بيانُ صِحَّةِ إيمانِ مَنْ أظهرَ الإسلام، وإنْ كانَ في الباطنِ على خِلافِه، حيثُ أُمِرَ المسلِمون بإجرائهِ على أحكامِ المسلِمين.
﴿لَّا يَسۡتَوِي الۡقَٰعِدُونَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ اللَّهُ الۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى الۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ اللَّهُ الۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى الۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء :95]
لا يَتماثَلُ في الأجرِ مَنْ أُذِنَ لهُ بالقُعودِ عنِ الجِهادِ ومَنْ جَاهدَ بنَفسهِ ومالِه، إلاّ أنْ يَكونَ هذا القُعودُ عنْ عُذرٍ مُبيحٍ لتركِ الجِهاد، كعَمًى وعَرجٍ ومَرَض، فقدْ فَضَّلَ اللهُ المجاهِدينَ عليهمْ دَرجةً كبيرة، لِما يُفْدُونَ بهِ أرواحَهمْ في سَبيلِ الله، ولِما يَبذلونَهُ منْ أموالٍ في سبيلِ تَقويةِ جَيشِ الإسلام، وكِلا الفريقينِ وعدَهمُ اللهُ المَثوبةَ الحُسنَى، وهيَ الجنَّة، لكنَّ درجةَ المجاهدينَ منهمْ على الآخَرينَ عَظيمةٌ جدّاً، فإحسانُ اللهِ إليهم، وتَكريمهُ إيّاهمْ في الجِنانِ العالياتِ أكبرُ وأجَلّ.
﴿دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا﴾ [النساء :96]
والمجاهدونَ لهمْ دَرَجاتٌ مُختلِفةٌ في الجنَّة، بحسَبِ جُهدهمْ وجِهادِهم.
وفي حَديثِ أبي هريرةَ الذي خَرَّجَهُ البُخاريّ: "إنَّ في الجنَّةِ مائةَ دَرجة، أعَدَّها اللهُ للمجاهِدينَ في سَبيلِ الله، ما بينَ الدرجتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرض!
وهذا مِنْ فضلِ اللهِ عليهم، ومَغفرتهِ لذُنوبِهم، ورَحمتهِ بهم.
ومَنْ باعَ نفسَهُ لله، وفَدَّى دِينَهُ بروحِه، أثابَهُ أحسَنَ الجِنان.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي الۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾ [النساء :97]
إنَّ الذينَ قَبضتِ الملائكةُ أرواحَهم وهمْ مُقِيمُونَ في دارِ الشِّرك، ولم يَكونوا مُتمَكِّنينَ مِنْ إقامةِ شعائرِ دينِهم، وكانوا قادرِينَ على الهجرةِ ولم يُهاجِروا، قدْ ظَلموا أنفسَهم وارتَكبوا مُحَرَّماً. ولم يَقبَلِ اللهُ الإسلامَ بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَ بالهِجرة، ثم نُسِخَ بعدَ فتحِ مكة، فقالَ عليه الصلاةُ والسلام: "لا هِجرَةَ بعدَ الفَتح".
فكانَ المشركونَ يُخرِجونَ هؤلاءِ المسلِمينَ المقِيمينَ بينَهمْ إلى الحربِ ليُكثِروا بهمْ سَوادَهم، فيأتي السَّهمُ أحدَهم فيَقتُله، أو يُضْرَبُ عنقهُ فيُقتَل...كما في صحيحِ البخاريّ.
فقالتِ الملائكةُ لهمْ تَعييراً وتَقبيحاً: في أيِّ فريقٍ كنتُم، أفي المسلِمينَ أمْ في المشرِكين؟
فاعتَذروا وقالوا: كنّا عاجزينَ في أرضِ مكَّة!
فقالوا لهمْ مُكَذِّبينَ إيَّاهم: أمَا كانتْ أمامَكمْ أرضُ الإسلامِ فتَخرجوا مِنْ بينِ أهلِ الشِّركِ في مَكَّةَ إلى أهلِ الإسلامِ بالمدينة؟
فهؤلاءِ مَنْـزِلُهمْ جهنَّم، وبئسَ المصير. فقدْ ماتوا عاصِين، مُكثِرينَ مِنْ سوادِ المشرِكين.
﴿إِلَّا الۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا﴾ [النساء :98]
ويُستثنَى منهمُ المسَتضعَفون، منَ الرِّجالِ والنِّساء، وكذا منَ الأولاد، فهؤلاءِ يُعفَى عنهمْ لضَعفِهمْ عنِ الهجرة، بعدمِ قدرتِهمْ على التخلِّصِ منْ أيدي المشرِكين، وعدمِ معرفتِهمْ بالطريقِ أو الموضِعِ المهاجَرِ إليه.
﴿فَأُوْلَـٰٓئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا﴾ [النساء :99]
فهؤلاءِ عسَى اللهُ أنْ يَعفوَ عنهمْ بتركِ الهِجرة. والمقصودُ تَحُقُّقُ العَفو، لكنَّ التعبيرَ يُبقِي العبدَ على أملٍ وطمعٍ ورجاءٍ مِنْ ربِّه، وهوَ رَبٌّ كَريم، يَعفو عنِ النَّاس، ويَغفرُ ذنوبَهم، على كثرةِ ما يُخطِؤونَ ويُذنِبون.
﴿۞وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدۡ فِي الۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ الۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى اللَّهِۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء :100]
ومَنْ يُهاجِرْ في سَبيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرضِ مُتَحَوَّلاً كثيراً ومَلجأً مُناسِباً يَأوي إليهِ ويَتَحَصَّنُ فيه، ويُوَسَّعُ عليهِ مِنْ حيثُ لا يَحتَسِب!
ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ مَنـزلهِ مُهاجِراً إلى اللهِ ورسوله، ثمَّ يأتهِ الموتُ وهوَ في الطَّريق، قبلَ أنْ يَبلُغَ مُهاجَرَه، فقدْ ثبتَ لهُ عندَ اللهِ ثوابُ المهاجِر.
واللهُ كثيرُ المغفرةِ لذُنوبِ عبادهِ وسيِّئاتِهم، كثيرُ الرحمةِ بهم، يثُيبُهمْ على أعمالِهمْ ويزيدُهمْ مِنْ فَضلِه.
﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي الۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ الصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ الۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء :101]
وإذا سافرتُمْ في البِلاد، فلا حَرَجَ عَليكمْ مِنْ أنْ تُخَفِّفوا مِنْ عددِ رَكَعاتِ الصَّلاة، بتنصيفِ الرباعيَّةِ منها، إنْ خِفتُمْ أنْ يُلحِقَ الكافِرونَ الأذَى بكم، فهمْ أعداءٌ ظاهِرونَ لكم، ويَتحيَّنونَ الفُرَصَ ليغدِروا بكم.
وقَصْرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ جائزٌ بإجماعِ الأمَّة، ولو لم يَكنْ خَوف، وهوَ رُخصةٌ منَ اللهِ تعالى لعبادِه، وكما قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها عَليكم، فاقبَلوا صَدَقَتَهُ". رواهُ مسلمٌ في صَحيحِه.
﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا﴾ [النساء :102]
وهذا شُروعٌ في بَيانِ صَلاةِ الخَوف. فإذا كنتَ بينَ أصحابِكَ أيُّها النبيّ -والخِطابُ للجَميع - وأردتَ أنْ تُصَلِّيَ بهمْ إماماً، فاجعَلهمْ طائفتَين، طائفةً تُصلِّي معَك، والأخرَى تَكونُ تُجاهَ العدوِّ للحِراسَة، تأخُذُ معها سِلاحَها. فإذا سَجدَ القائمونَ معكَ وأتمُّوا الرَّكعَة، فليَنصَرِفوا إلى مَكانِ الذينَ كانوا يَحرُسون، وليأتُوا همْ فليُصَلُّوا معكَ الرَّكعَةَ الباقيةَ، وهيَ لهمُ الركعةُ الأولى، وليأخُذِ الذينَ حلُّوا مَكانَ السابقِينَ حَذَرَهمْ وأسلحتَهم. ويَعني أن الرسُولَ صلى الله عليه وسلم يكونُ قدْ صلَّى صلاتَهُ ثِنتَين، وكلٌّ منَ الطائفتينِ تُكْمِلُ ما بَقي، بعدَ أنْ صَلَّتْ كلُّ واحدةٍ منها رَكعَةً معَهُ صلى الله عليه وسلم.
ووردتْ بكيفيَّاتٍ أخرى.
والكافِرونَ يَتمنَّونَ لو تَغفُلونَ عنْ أسلحتِكمْ وأمتعتِكمْ ليَنالوا منكمْ غِرَّةً في صَلاتِكم، ليَحمِلوا عليكمْ حَملةً واحدةً ويَقضُوا عَليكم.
ولا حرجَ عليكمْ إنْ أصابَكم مَطرٌ أو كنتُمْ مرضَى أنْ تَضَعوا أسلحتَكمْ على الأرض، معَ التيقُّظِ والحَيْطَة، لتَكونُوا على أُهْبَةٍ إذا احتَجْتُمْ إليها، ولئلاّ يَهجُمَ عليكمُ العدوُّ غِيْلَة.
وقدْ أعدَّ اللهُ للكافِرينَ عَذاباً مُذِلاًّ يَنالُهم، فاهتمُّوا بأمورِكمْ أنتُم، وخُذوا بأسبابِ الحَيْطَة، حتَّى يَنصُرَكمُ اللهُ عليهمْ ويُعَذِّبَهمْ بأيدِيكم.
﴿فَإِذَا قَضَيۡتُمُ الصَّلَوٰةَ فَاذۡكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا اطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَۚ إِنَّ الصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا﴾ [النساء :103]
فإذا أدَّيتُمْ صَلاةَ الخَوفِ وفَرَغتُمْ منها، فأكثِروا مِنْ ذكرِ اللهِ وداوِموا عليه، في جميعِ أحوالِكم، قائمِين، وقاعِدين، ومُضطَجِعين، فذِكرُ اللهِ مَطلوبٌ في هذهِ الأحوالِ أكثر، وهوَ مَشروعٌ ومَرغوبٌ فيه مِنْ قَبل.
فإذا أمِنتُمْ واستَقرَرْتُم، فأدُّوا الصَّلاةَ في وقتِها، وأتِمُّوها بجَميعِ أركانِها وشُروطِها، إنَّ الصَّلاةَ مَفروضةٌ على المؤمِنينَ ومَحدودَةُ الأوقات، لا يَجوزُ إخراجُها عنْ أوقاتها، ولا بدَّ مِنْ إقامتِها حَضَراً وسَفَراً، وفي وقتِ الخَوف...
﴿وَلَا تَهِنُواْ فِي ابۡتِغَآءِ الۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء :104]
ولا تَضْعُفوا في طلَبِ عدوِّكمْ ولا تَتوانَوا في التعرُّضِ لهمْ ومُجابَهتِهمْ ومُقاتَلتِهم، فإنْ تَكونوا تألَمونَ مِنَ الجِراحِ والآلامِ التي تُصيبُكم، فإنَّهُ يَحْصُلُ لَهمُ الأمرُ نفسُه، فلماذا لا تَصبِرونَ معَ أنَّكمْ أولَى بالصَّبرِ منهم، فأنتُمْ تَرجُونَ مِنَ اللهِ المَثوبةَ العَظِيمةَ في الآخِرَة، أو النصرَ والعزَّةَ بإظهارِ الإسلامِ فوقَ جميعِ الأديان، وهُمْ لا يَرجُونَ ذلك، فأنتُمْ أولَى بالجِهادِ والصَّبرِ منهم. وكانَ اللهُ عَليماً بأعمالِكمْ وضَمائرِكم، حَكيماً فيما يَأمرُ ويَنهَى، ويَقضِي ويُقَدِّر.
﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ بِالۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ اللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا﴾ [النساء :105]
نحنُ نزَّلنا عليكَ القُرآنَ بالحقّ، فهوَ حقٌّ عَدْلٌ في خَبرهِ وحُكمِه، لتَقضيَ بينَ الناسِ بما عَرَّفكَ وأوحَى بهِ إليك. ولا تُجادِلْ عَمَّن عَرفتَ خيانتَهُ، كمنِ ادَّعَى ما ليسَ له، أو أنكرَ ما هوَ عليه.
وفي تَفصيلهِ وسَببِ نُـزولهِ خَبَرٌ طَويل.
﴿وَاسۡتَغۡفِرِ اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء :106]
واطلبِ المَغفِرَةَ مِنَ الله؛ لهَمِّكَ بالحُكمِ على ما لم تَتثبَّتْ منه، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لك، فهوَ كثيرُ المَغفِرَةِ والرَّحمَة.
﴿وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ الَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا﴾ [النساء :107]
ولا تُجادِلْ عمَّن خانَ نفسَهُ وخانَ الآخَرينَ بما جنَى وظَلم، فاللهُ لا يُحِبُّ الخائنينَ الآثِمين، الذينَ يَعصُونَ الله ويُلحِقونَ الأذَى والضَّررَ بالآخَرين.
﴿يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ الۡقَوۡلِۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء :108]
إنَّهمُ المنافِقون، الذينَ يَستَتِرونَ بقَبائحِهمْ وأعمالِهمُ الدنيَّةِ من النَّاسِ لئلاّ يُعرَفوا بذلك، لكنَّهمْ يُجاهِرونَ بها اللهَ خالِقَهمْ وهوَ أحَقُّ مِنْ أنْ يُستَحيا منهُ ويُخْشَى عِقابُه، وهوَ مَعهمْ إذْ يُدَبِّرونَ ما يُجافي الاستقامةَ والعَدل، وهوَ سُبحانَهُ عالِمٌ بأعمالِهمُ الظاهِرةِ والخافِيَة، لا يَخفَى عليهِ شَيء.
﴿هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا فَمَن يُجَٰدِلُ اللَّهَ عَنۡهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا﴾ [النساء :109]
وهَبُوا أنَّكمْ بَذلتُمُ الجُهْدَ في المخاصَمةِ عنهمْ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا وحصَلوا على مُبتغاهُمْ فيها، فمنْ يُحاجِجُ اللهَ عنهمْ يومَ القيامةِ وهوَ العالِمُ بخَفِيّات الأمور، ومَنْ يَتكفَّلُهمْ ويذُبُّ عنهمْ ويَتولَّى أمرَهمْ يَومَئذ؟!
﴿وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [النساء :110]
ومَنْ يَقتَرِفْ ذَنباً، كبيراً كانَ أو صَغيراً، يَسُوءُ بها غَيرَه، كسَرِقَتِه، أو يَظلِمُ بها نفسَه، كحَلِفٍ كاذِب، ثمَّ يَتُبْ منهُ ويَعُدْ إلى الحقّ، ويَطلبِ المَغفِرَةَ مِنْ ربِّه، فإنَّهُ عَفُوٌّ حَليم، يَقبَلُ تَوبتَهم، ويَغفِرُ لهمْ ويَرحَمُهم.
﴿وَمَن يَكۡسِبۡ إِثۡمٗا فَإِنَّمَا يَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [النساء :111]
ومَنْ يَقتَرِفْ ذَنباً مِنَ الذُّنوبِ عنْ قَصد، فإنَّهُ يَجني بذلكَ على نفسِه، ويَجلُبُ لها الضَّررَ والوَبال، ويُعَرِّضُها للعَواقب، واللهُ عَليمٌ بما يَقتَرِفهُ النَّاس، حَكيمٌ بما يُقَدِّرهُ مِنْ عُقوبةٍ عَليهم.
﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيٓـَٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓـٔٗا فَقَدِ احۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا﴾ [النساء :112]
ومَنْ يَعملْ عَملاً سيِّئاً أو يَقتَرِفْ ذَنباً كبيراً، ثمَّ يتَّهِمْ بهِ بَريئاً، فقدِ ارتكبَ فِعلاً بَغِيضاً، وكذَبَ على الغيرِ كَذِباً شَنيعاً، واقترَفَ ذَنباً عَظيماً، واضِحاً مُبِيناً.
﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا﴾ [النساء :113]
ولولا فَضلُ اللهِ عليكَ ورَحمتهُ بكَ بما عَصمَكَ بهِ مِنَ الوَحي، مِنْ لزُومِ التثبُّتِ وبيانِ الحقّ، لكادَتْ طائفةٌ أنْ تُلَبِّسَ عليكَ الحقَّ وتُشَوِّشَ عليكَ الصَّحيح، وتَتسَبَّبَ في الحُكمِ على القَضيَّة خَطأ، بما زَيَّنوهُ لكَ وبَيَّتوا ما لا يُرضِي اللهَ منَ القَول. وما كانوا يَضرُّونكَ بهذا مِنْ شَيء، إنَّما ضَرَرُهُ يَرجِعُ إليهم، فقدْ عصَمكَ الله، وباؤوا همْ بالإثم.
وقدْ أنزلَ اللهُ عَليكَ القُرآنَ وعَصمَكَ به، وعلَّمكَ القضاءَ بالوحي، وعلَّمكَ منَ الأحكامِ ومِنْ عِلمِ الغَيب ما لم تَكنْ تَعلمُهُ قبلَ ذلكَ مِنْ خَفيّاتِ الأمور، وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ كبيراً، بأنْ جعلكَ نَبيًّا، وفَضَّلكَ على سائرِ الخَلق، وأعطاكَ الشَّفاعةَ العُظمَى يومَ القِيامَة...
﴿۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ النَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ابۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ اللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء :114]
لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ كلامِ الناسِ إلاّ إذا كانَ في حَثٍّ على الصَّدَقات، أو أمرٍ بالخَيراتِ والطَّاعات، أو تأليفٍ بينَ النَّاسِ بالمودَّةِ إذا فَسدَ ما بينَهم، ومَنْ يَفعلْ هذهِ الأشياءَ مُبتَغياً بها وجهَ اللهِ ومَرضاتَه، مُحتَسِباً ثوابَ ذلكَ عندَه، فسوفَ نَجزيهِ أجراً كبيراً وثَواباً جَزيلاً.
﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ الۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾ [النساء :115]
ومَنْ يُخالِفْ رسولَ اللهِ ويَسْلُكْ غيرَ طَريقِ الشَّريعةِ التي جاءَ بها، عنْ عَمدٍ وتَقصُّدٍ، بعدَ ما ظهرَ لهُ الحقُّ ممّا حُكِمَ به، وعَرَفَ بذلكَ الأوامرَ والحُدود، ويَسْلُكْ طريقاً آخرَ غيرَ ما اجتَمَعَ عليه المؤمِنونَ واتَّفقوا عليه، نُخَلِّي بينَهُ وبينَ ما اختارَهُ لنفسِه، ونَكِلْهُ إلى نَفسهِ الآثِمة، ونُدْخِلْهُ جهنَّمَ فيُعَذَّبُ فيها، وبئسَ ما انتهَى إليهِ واستَقرَّ في مكانٍ كلُّهُ نارٌ وعَذابٌ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِاللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾ [النساء :116]
واللهُ لا يَغفِرُ ذَنْبَ مَنْ أشركَ بهِ أو كَفر، والشِّرْك يُحبِطُ الأعمالَ حتَّى لا يُبقي لصاحبِها حسَنة، وهوَ سبُحانَهُ يَغفِرُ ذنوبَ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادهِ ما دامَ لم يُشرِكْ به، وإنَّ مَنْ أشرَكَ بهِ تعالَى شَيئاً فقدِ ابتعدَ عنِ الطريقِ الحقّ، وارتكبَ إثماً عظيماً، وأهلكَ نفسَهُ فخَسِرَ رحمةَ رَبِّهِ وجنَّتَه.