أبعدَ الله إبليسَ مِنْ رَحمتِه.
وقالَ إبليسُ اللَّعين: سآخُذُ مِنَ الناسِ حظًّا مُقدَّرًا وعَدداً مَعلوماً ممَّنْ يُطيعُونَني، وهمْ كثيرونَ جِدًّا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف: 103]
ولأُغْوِيَنَّهمْ وأُبْعِدَنَّهمْ عن الحقّ، ولأَعِدَنَّهمْ بالأمانيِّ الباطِلة، وأُزِيِّنَنَّ لهمْ طُولَ الأمَل، ولآمُرَنَّهمْ فليُقَطِّعُنَّ أو يُشَقِّقُنَ آذانَ الأنعام، وهوَ ما كانتْ تَفعَلُهُ العَربُ وتَجعلُهُ عَلامةً للبَحِيرةٍ والسائبةِ مِنَ النُّوق، والأُولَى التي وَلَدَتْ خَمسةَ أبطُنٍ تُعفَى منَ الانتِفاعِ بها، ولا تُمنَعُ مِنْ مَرْعًى ولا مَاء، والأخرَى المهمَلةُ التي تُسَيَّبُ لنَذْرٍ ونَحوِه. وقدْ أبطلَهما الإسلام.
ولآمُرَنَّهمْ فليُبَدِّلُنَّ خَلْقَ الله، صُورةً وصِفَة، بتَغييرِ فِطْرةِ اللهِ تعالَى، واستعمالِ الجوارحِ والقُوَى لغَيرِ وَظيفتِها، وتَغييرِ ما سَخَّرَهُ اللهُ للانتِفاعِ بهِ إلى غَيره، كعبادةِ الأحجارِ والحيَواناتِ وهيَ مسخَّرةٌ للإنسان، وكخَصي الحيَوانات، وكاللِّواط...
ومنْ يُوالي الشَّيطان، بإيثارِ ما يَدعو إليه على ما يَدعو إليه الله، فقدْ خَسِرَ خَسارةً بيِّنةً، ونَدِمَ نَدامةً كبيرة، ولا خَسارةَ أعظمُ مِنِ استِبدالِ النَّارِ بالجنَّة.
(28) أي: أنهارُ الماءِ واللبنِ والخمرِ والعسل. (روح البيان).
في حَديثٍ مُرْسَلٍ بإسنادٍ صَحيح، أنَّهُ احتَجَّ المسلِمونَ وأهلُ الكتاب، فقالَ المسلِمون: نحنُ أهدَى منكم، وقالَ أهلُ الكتاب: نحنُ أهدَى منكم. فأنزلَ اللهُ الآية.
ليسَ الأمرُ كما تَمنَّيتُمْ أيُّها المسلِمون، ولا كما تَصَوَّرتُمْ يا أهلَ الكتاب، فإنَّ كلَّ مَنْ يَعمَلُ ذَنْباً سوفَ يُحاسَبُ عليه، إنْ عاجِلاً أو آجِلاً، فالعِبرةُ بالطَّاعةِ والعَمل، لا بالتَحَلِّي والتمَنِّي. وإنَّ الذي يَعمَلُ السُّوءَ مُتجاوِزاً بذلكَ الحدودَ التي وضَعها الله، فلنْ يجدَ مَنْ يُدافعُ عنه، أو يُنجيهِ مِنْ عذابهِ إذا حلَّ به.
والمقصودُ ما كانَ كلُّ دينٍ في وقتِه، أمّا بعدَ بعثةِ رسولِ اللهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا دينَ سِوَى الإسلام.
وفي تَتمَّةِ الحديثِ السابقِ مِنْ سَببِ النـزول، أنَّ المسلمينَ غَلبوا أهلَ الكتابِ في حُجَّتهم، بالآيةِ التالية.
والعمومُ في الآيةِ مُخَصَّصٌ بالتوبة، وبمَنْ يَتفضَّلُ اللهُ بالعفوِ عنه.
وفي صَحيحِ مسلمٍ قَولُ أبي هُرَيرَةَ رَضيَ اللهُ عنه: لمَّا نزَلَت: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} بلَغَتْ مِنَ المسلِمينَ مَبلَغًا شَديدًا، فقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قارِبوا وسَدِّدُوا، فَفي كُلِّ ما يُصابُ بهِ المسلِمُ كَفَّارَة، حتَّى النَّكبَةِ يُنْكَبُها، أو الشَّوكَةِ يُشَاكُها".
قالَ الإمامُ النوَويُّ في شَرحِ حديثِ الباب: فيهِ تَكفيرُ الخَطايا بالأمراضِ والأسقامِ ومَصائبِ الدُّنيا وهُمومِها، وإنْ قُلتَ مَشَقَّتها، وفيهِ رَفعُ الدرَجاتِ بهذهِ الأمورِ وزيادَةُ الحسَنات...
وقالَ في مَعنَى "قارِبوا": أي اقتَصِدوا فلا تَغْلُوا ولا تَقْصُروا بلْ توَسَّطوا. وسَدِّدوا: أي اقصِدوا السَّداد، وهوَ الصَّواب. اهـ.
ويَكونُ مَعنى الآيَةِ هُنا: مَنْ يَعمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ إنْ عاجِلاً أو آجِلاً، فأمَّا مُجازاةُ الكافِرِ فالنَّار، وأمَّا المؤمِنُ فيُجازَى في الدُّنيا غالِبًا، بما يُصيبُهُ مِنْ مرَضٍ وحُزنٍ وضِيقٍ وغَيرِه، فمَنْ بَقيَ لهُ سُوءٌ إلى الآخِرَةِ فهو في المَشيئة، يَغفِرُ اللهُ لمَنْ يَشاء، ويُجازي مَنْ يَشاء.
وليسَ هناكَ أحسنُ وأحكمُ منَ المسلمِ الذي أخلصَ العملَ لربِّه، فلمْ يَعرِفْ سِواهُ ربًّا، ولم يَبتَغِ بعملهِ سِوَى وجهِه، وهوَ مُحسِن، يَعملُ الحسَنات، فيأتي بالأعمالِ الصَّالحةِ على هَدْي منَ الدِّين، وبإخلاص، وهما ميزانُ قَبولِ الأعمال، مُتَّبِعاً بذلكَ مِلَّةَ أبيهِ إبراهيم، الموافِقَةِ لدينِ الإسلام، المتَّفَقِ على صِحَّتها، ومُتَّبعو مِلَّتهِ همْ أمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقدِ اتَّخذَ اللهُ إبراهيمَ خَليلاً، والخُلَّةُ أرفَعُ مَقاماتِ المَحَبَّة، وما ذاكَ إلاّ لكثرةِ طاعتهِ لربِّه، وتَنفيذِ جميعِ ما أُمِرَ به، فلم يَشْغَلْهُ شيءٌ عنِ استجابةِ نداءِ ربِّه، صَغيراً كانَ أو كبيراً، حتَّى صارَ إماماً يُقتدَى به، وتَوصَّلَ إلى غايةِ ما يَتَقرَّبُ بهِ العباد.
ويَطلُبونَ منكَ أيُّها الرسُولُ بيانَ ما أشْكلَ مِنْ أحكامٍ في حقِّ النساء، فقُلْ لهم: إنَّ اللهَ يُبيِّنُ لكمْ حُكْمَهُ فيهنّ هُنا، وفيما يتُلَى عليكمْ في هذا القُرآنِ ممّا سَبق {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء...} [النساء : 3]، وهوَ في النِّساءِ اليتيماتِ اللَّواتي تحتَ تربيتِكم، وتَرغَبونَ في التزوُّجِ بهنَّ بعدَ أنْ بَلغْنَ ولا تُعطُونهنَّ صُدُقَهُنَّ مثلَ النِّساءِ الأُخَر، أو لا تَرغَبونَ في نِكاحِهنَّ ولكنَّكمْ تُمسِكوهنَّ في البيوتِ ولا تُزَوجوهُنَّ لآخَرينَ لتستَفيدوا مِنْ أموالِهنَّ التي عندَكم، أو حتَّى تَرِثوها منهنَّ بعدَ وفاتِهنّ! فقد كانَ هذا في الجاهليَّةِ ونَهاكمُ الله عنه.
وكذا الصِّغارُ منَ البنينَ والبنات، لكلٍّ سَهمُهُ في الميراث، ولا يَحِلُّ مَنعُهمْ منَ الميراثِ كما كانَ الأمرُ في الجاهليَّة.
واعدِلوا في أمرِ اليتامَى الذينَ عندَكم، فوفُّوهُمْ حقوقَهمُ الكاملةَ في المهورِ والمواريثِ والمَعيشة... وما تَفعلوا في حُقوقِهمْ مِنْ خيرٍ بحسَبِ ما أُمِرتُم به، فإنَّ اللهَ عليمٌ بجميعِ ذلك، ويُجازيكمْ عليهِ أتمَّ الجزاء.
وإذا شَعَرتِ المرأةُ باستِعلاءِ زوجِها عليها لسَببٍ منَ الأسباب، أو رأتْ نُفوراً منهُ وانصِرافاً بوجههِ عنها، أو تَجافياً عنها قياساً عمّا كانَ عليهِ مِنْ قبل، مِنْ تَقليلِ نَفقةٍ أو عَدَمِ مُؤانسةٍ ومُحادثة... فلا حرجَ عليهما أنْ يَتصالحا فيما بَينهما، كأن تُسقِطَ مِنْ حِقِّها أو بعضَه، مِنْ نَفقةٍ أو كُسوةٍ أو مَبِيت، أو تَهَبَهُ مالاً، أو تُهدِيَهِ ما يُناسبهُ ويُحِبُّه، مِنْ هذا القَبيلِ ومِنْ غيرِه، ممّا يَجلُبُ لهما المحبَّةَ ويُعِيدُ إليهما المعاشَرةَ الطيِّبة، والصلحُ في هذا خيرٌ منَ الفُرقةِ وسُوءِ العِشرةِ والخُصُومة.
وقدْ جُعِلَتْ نفوسُ البشرِ مَطبوعةً على البُخلِ معَ الحِرص، فلا تَكادُ المرأةُ تَسمحُ بحقوقِها للرَّجُل، ولا الرَّجُلُ يَكادُ أنْ يَتنازلَ لها عنْ حُقوقِه، وهذا يَستَدعي الشِّقاقَ والطَّلاق. فإذا شَحَّ الرَّجُلُ بحقوقهِ استَمالتْهُ المرأة، وإذا شَحَّتْ هي استَمالَها هو، حتَّى يَجدا مَكاناً للصُّلحِ والاتِّفاقِ والمعاشرةِ الطيِّبة.
وإنْ تُحسِنوا في العِشرةِ وتَبتعِدوا عن النُّشوزِ والإعراض، وتَصبِروا على مُراعاةِ الحقوقِ الزوجيَّةِ دونَ اللُّجوءِ إلى قَطعِ حُقوق، فإنَّهُ منَ الإحسانِ والتقوَى الذي يَعلمُ اللهُ بهِ وبمقاصدِكمْ فيه، فيُجازيكمْ بهِ ويُثيبُكمْ عليهِ خَيراً.
ولا تَقدِرونَ على إقامةِ العَدلِ بينَ الزوجاتِ مِنْ جَميعِ الوجوهِ ولو بالَغتُمْ في تَحرِّيه، فإنَّهُ لا بُدَّ مِنَ التفَاوتِ في المحبَّةِ والنَّظرِ والمؤانسَة...، فإذا مِلتُمْ إلى واحدةٍ مِنهنَّ فلا تُبالِغوا في ذلك، ولا تَظلِموا الأخرَى فتَمنَعُوها حقَّها، حتَّى لا تَتركوها كالمعلَّقةِ، فلا هيَ ذاتُ زَوجِ ولا هيَ مُطَلَّقة!
فإذا أصلحتُمْ أمورَكمْ وابتَعدتُمْ عن الميلِ الذي نَهاكمُ اللهُ عنه، وعَدَلتُمْ فيما أمرَكمُ اللهُ بهِ منَ القِسمة، وخَشِيتُمُ اللهَ فيما تأتونَ وما تَذَرون، فإنَّهُ يَغفِرُ ما مضَى منكمْ منْ مَيلٍ وظُلم، تَفضُّلاً منهُ ورَحمَةً بكم.
وللهِ ملكُ السَّماواتِ والأرض، وهَو الحاكمُ فيهما، فلا يَتعَذَّرُ عليهِ شَيءٌ ممّا يُريدُ منهما، ممّا يَخُصُّ أحوالَ الزَّوجَينِ وغيرَها.
وقدْ أمَرْنا الذينَ أوتوا الكتابَ بتقوَى اللهِ وطاعتهِ كما أمَرْناكمْ بها يا أهلَ القُرآن، فإنْ تُعرِضوا عمّا وصّاكمُ اللهُ بهِ وتَكفُروا، فإنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَيءٌ مِنْ إعراضِكم، كما لا يَنفَعُهُ شيءٌ مِنْ شُكرِكمْ وتَقواكُم، فهوَ مالكُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما، وهوَ غَنيٌّ عنْ خَلْقِهِ وعبادتِهم، مَحمودٌ في ذاتِه، إنْ حَمِدوا أو كَفَروا.
أيُّها المؤمِنون، كونُوا عادِلينَ في أمورِكمْ دائماً، لا يَصْرِفْكمْ عنِ العَدلِ صارِف، وابتَغُوا بذلكَ وجهَ الله، لا غَرَضاً دُنيويًّا ومَصلحةً شَخصيَّة، سواءٌ كانَ قيامُكمْ بالعدلِ أو قولُكمُ الحقَّ لصالِحِكُمْ أو لغيرِ صالِحِكُم، فإنْ كانَ الأوَّلُ فذاك، وإنْ كانَ الثاني فقد جعلَ اللهُ لكمْ مَخرَجاً وعوَّضكمْ خَيراً.
وحتَّى لو كانتِ الشهادةُ على الوالدَينِ والقَرابة، فإنَّ الحقَّ حَقّ، يَحكمُ على كلِّ أحَد، ويُقَدَّمُ على كلِّ شَيء.
ولو كانَ الذي عليهِ الحقُّ غَنيًّا أو فَقيراً، فإنَّ القولَ العَدْلَ والشَّهادةَ المُنصِفةَ لا تُراعِي غَنيَّاً لِماله، ولا تُشفِقُ على فَقيرٍ لحالِه، واللهُ يتَولَّى شأنَهما ويَنظرُ في حالِهما بعدَ ذلك، فكِلوا أمرَهما إلى اللهِ تعالَى.
ولا يَحملنَّكم غَرَضٌ ما في نُفوسِكمْ إلى المَيلانِ نحوَ الباطلِ والعُدولِ عنِ الحقّ، فإذا حرَّفتمُ الشَّهادة، وأبطَلتمُ الحقَّ في أمورِكم، وتَركتُمْ إقامةَ العَدلِ، فإنَّ اللهَ عليمٌ بعملِكمُ الآثمِ هذا، مُطَّلعٌ على ما غيَّرتُموهُ وأبطَلتُموه، وسَوفَ يُجازيكمْ على ذلكَ سُوءَ الجزاء.
إنَّ المنافِقينَ اتَّخَذوا الكفّارَ أولياءَ يَبتغونَ منهمُ العونَ والسَّندَ والظَّفَر، ولا يَتَّخِذونَ المؤمنينَ أولياءَ لهم، على الرغمِ مِنْ أنَّهمْ يُظهِرُونَ أمامَهمُ الإسلام، ولكنَّهمْ يُظهِرُونَ حقيقةَ ما في قلوبِهمْ عندَ أنصارِهمُ الكافِرينَ بأنَّهمْ منهم، يوالُونهم، ويُسِرُّونَ إليهمْ بالمودَّة.
فهلْ يُريدونَ بموالاتِهمْ لهمُ القوَّةَ والمَنَعةَ والظُّهورَ على المسلِمين؟ فإنَّ الغَلبةَ والقُوَّةَ والقُدرةَ للهِ وحدَه، يُعطيها مَنْ شاء، ويَمنَحُها لأولِيائه. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة المنافقون: 8]. فالتَجِئوا إلى اللهِ العزيزِ أيُّها المسلِمون، فهوَ ناصرُكمْ ومانحُكمُ القوَّة، والمنافقونَ في ضَلالٍ مُبِين.
وقدْ سبقَ أنْ نَزَّلَ اللهُ عَليكمْ في القُرآنِ أنَّكمْ إذا كنتُمْ في مَوضِعٍ أو عندَ ناسٍ يَكفُرونَ بآياتِ القُرآنِ الكريمِ ويَستهزِؤونَ بها فلا تُجالِسوهم، حتَّى يَدخلوا في حَديثٍ غَيرِه، في قولهِ تعالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام: 68]. وإذا كانَ هذا لا يَجوز، فكيفَ بموالاتِهمْ والاعتِزازِ بهم؟!
فإنْ رَضيتُمْ بالجُلوسِ معهمْ وهمْ يَكفُرونَ بآياتِ اللهِ ويَستهزِؤونَ بها ويَنتَقِصونَ منها، وأقررتُموهمْ على ذلك، فقدْ شاركتُموهمْ في الكُفر.
ويَجمعُ اللهُ المنافِقينَ والكافِرينَ جَميعاً في نارِ جهنَّمَ خالدينَ فيها، كما اشترَكوا على الكفرِ ووالَى بعضُهم بَعضاً في الدُّنيا، ليَذوقوا العَذابَ المُهين، والنَّكالَ المُقيم.
إنَّ هؤلاءِ المنافِقينَ يَنتظِرونَ وقوعَ أمرٍ بكم، ولا يُريدونَ لكمُ الخَير، فإذا رأوا ظَفَراً وغَنيمةً تودَّدوا إليكمْ وقالوا: ألم نَكنْ على دينِكمْ ونُسانِدْكمْ في الجِهاد؟ فاجعَلوا لنا نَصيباً منَ الغَنيمة.
وإنْ كانَ للكافرينَ حظٌّ منَ الاستِيلاءِ والغَلبةِ قالوا لهم: ألم نَتعاونْ مَعكم، بالكفِّ عنْ قَتلِكمْ وأسْرِكم، وبتَخذيلِ المسلِمينَ عنكم، وإطلاعِكمْ على أسرارِهم، ودفعِهمْ عنكمْ ما استَطعنا، حتَّى انتَصرتُمْ عليهم؟
ويَحكمُ اللهُ بينَ أهلِ الإيمانِ وأهلِ النفاقِ يومَ الحِساب، يومَ عرضِ الأعمالِ على الله، فيُثيبُ أولياءَه، ويُعاقِبُ أعداءَه.
ولنْ تَكونَ هُناك حُجَّةٌ للكافِرينَ يَغلِبوا بها المسلِمين، في الدُّنيا والآخِرَة، فالحقُّ معهمْ في الدُّنيا إنْ غَلَبوا، وفي الآخِرَةِ عندَما يَحكمُ اللهُ بينَ عبادِه، ولا يَقبَلُ منهمْ سِوَى دينِ التوحِيد.
أو أنَّ المقصودَ بالقسمِ الأخيرِ منَ الآية: لنْ يَجعلَ اللهُ للكافرينَ سَبيلاً مُطلقاً على المسلِمين، بأنْ يَقضُوا عليهم. ولكنَّ الحربَ سِجالٌ والدُّنيا دُوَل.
إنَّ المنافِقينَ يَفعلونَ ما يَفعلُ المخادِع، فيُظهِرونَ الإيمانَ ويُضمِرونَ نَقيضَه، وهمْ يَظنُّونَ – بجهلِهمْ - أنَّ أمرَهمْ هذا سيرُوْجُ حتَّى عندَ الله، العالمِ بالسرائرِ والضَّمائر، ولكنَّ اللهَ يَستدرِجُهمْ في طُغيانِهمْ وضَلالِهم، وهوَ فاعِلٌ بهمْ ما يَفعلُ الغالِبُ في الخِداع، فهوَ إنْ تركَهمْ مَعصومِي الدِّماءِ والأموالِ بينَ المسلِمينَ لتَظاهُرهمْ بالإسلام، فقدْ أعدَّ لهمْ في الآخِرَةِ الدرْكَ الأسفلَ منَ النار، بعدَ فضحِهمْ وإظهارِ شأنِهم.
ومِنْ صفاتِهمْ أنَّهمْ إذا قامُوا إلى خَيرِ شَعيرةٍ في الإسلام، وهوَ الصَّلاة، قامُوا إليها مُتثاقِلينَ مُتباطِئين، يُصَلُّونَها بلا نيَّةٍ ولا خَشية، ولا فَهمٍ ولا رَغبة، ولا إيمانٍ ولا إخلاص، إنَّما يَفعَلونَ ذلك ليَراهمُ الناسُ وهمْ يُصلُّونَ ليَحسَبوهمْ مُسلِمين. فهمْ في صَلاتِهمْ ساهونَ لاهون، لا يَدرونَ ما يَقولون، ولا يَذكرونَ الله إلاّ زَماناً قليلاً.