تفسير الجزء 7 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء السابع
7
سورة المائدة (الآيات 82-120)
سورة الأنعام (الآيات 1-110)

﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [الأنعام:85]


ومِنْ ذرِّيتهِ زَكريّا، وابنُهُ يَحيَى، وعيسَى، وكلُّ هؤلاءِ صالِحونَ مُهتَدون، أنبياءُ مُكرَمون.

﴿وَإِسۡمَٰعِيلَ وَالۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنعام:86]


وكذا إسماعيل، واليَسَع، ويونُس، ولُوط، وهوَ ابنُ أخي إبراهيم، دخلَ في ذرِّيتهِ تَغليباً، وكلُّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ فَضَّلناهُ بالنبوَّةِ على العالَمِ كلِّه، في وقتِهم. عليهمْ جَميعًا صَلواتُ اللهِ وسَلامُه.

﴿وَمِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَذُرِّيَّـٰتِهِمۡ وَإِخۡوَٰنِهِمۡۖ وَاجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [الأنعام:87]


وممَّنْ شَمِلَهمْ تَوفيقُ اللهِ وهدايتُه، بَعضُ آبائهم، وذُرِّياتِهم، وإخوانِهم، فقدِ اصطَفَيناهمْ وهدَيناهمْ إلى الطَّريقِ الصَّحيحِ والثَّباتِ على طاعَةِ الله.

﴿ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَلَوۡ أَشۡرَكُواْ لَحَبِطَ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام:88]


تلكَ هدايةُ الله، يَهدي بها مَنْ شاءَ مِنْ عِبادهِ ممَّن وجدَ عندَهمُ الاستعدادَ والتقبُّل، وزادَهمْ إحسَاناً وتَوفيقاً، ولو أنَّهمُ انحرَفوا وأشرَكوا لبَطَلَ ثوابُ أعمالِهمُ الصَّالحة، ولو كانوا أصحابَ وَجاهةٍ وفَضل.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحُكۡمَ وَالنُّبُوَّةَۚ فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَـٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ﴾ [الأنعام:89]


أولئكَ الأنبياء، الذينَ أنعَمنا عليهم، فأنزَلنا عليهمُ الكتاب، ووهَبناهُمْ مَعرِفةَ حَقائقِ الأشياء، والقُدرةَ على تَفهُّمها، والحكمَ فيها بالحقِّ والعَدل، وآتيناهُمُ النبوَّة، ليُعَلِّموا الناسَ ويُبيِّنوا لهمُ الطريقَ الصَّحيحَ في شؤونِهمُ الحياتيَّةِ والأُخرَويَّة، فإنْ يَكفُرِ المشرِكونَ بالنبوَّة، فقدْ وفَّقنا للإيمانِ بها والقيامِ بحقوقِها قوماً آخَرِينَ لا يَجحَدونها، بلْ يُقيمونَ عليها ويُدافِعونَ عنها بأرْواحِهم.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ اقۡتَدِهۡۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنعام:90]


أولئكَ الأنبياءُ المذْكورونَ همُ الذينَ هَديناهُمْ إلى الحقّ، فسِرْ على طريقتِهمْ في الإيمانِ والتوْحيد.

وقُلْ إنَّني لا أطلبُ على تَبليغي هذا الدِّينَ أُجرَة، وما هوَ إلاّ تَذكيرٌ للناسِ وإرشادٌ لهمْ إلى طَريقِ الحقّ، وبيانٌ للهُدَى والإيمان، وتحذيرٌ منَ الكفر ِوالضَّلال.

﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓ إِذۡ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيۡءٖۗ قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ الۡكِتَٰبَ الَّذِي جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورٗا وَهُدٗى لِّلنَّاسِۖ تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِيرٗاۖ وَعُلِّمۡتُم مَّا لَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنتُمۡ وَلَآ ءَابَآؤُكُمۡۖ قُلِ اللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ﴾ [الأنعام:91]


وما عظَّموا اللهَ التعظيمَ المطلوب، ولا عَرَفوهُ حقَّ معرفتِه، عندما أنكَروا الكتُبَ السَّماويَّة، وكذَّبوا الرُّسل، وكفَروا بالوَحي المُنـزَلِ منْ عندِ الله، فقلْ لهؤلاءِ المشرِكينَ المُنكرِينَ - أو اليهودِ - : لماذا تُنكِرونَ تَنـزيلَ القُرآنِ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وتؤمِنونَ بالتوراةِ المُنـزَلةِ على موسَى لتكونَ هِدايةً للناسِ وإرشاداً لهمْ في الحياةِ إلى الحقّ، وأنتُمْ تَنقلونَ منها فِقْرات ٍوفُصولاً وتَجعلونَها في أوراق، بعدَ تَحريفِها وتَزويرِها وإخفاءِ كثيرٍ منَ المعلوماتِ فيها، وتَقولونَ للناسِ هذا منْ كتابِ اللهِ المنُـزَل؟!

وقدْ جاءَكمْ منَ الأخبارِ والقَصَصِ والآياتِ في القُرآنِ ما لا عهدَ ولا علمَ لكمْ ولا لآبائكمْ بها. قلْ لهم: إنَّ اللهَ هوَ الذي أنزلَ هذهِ الكُتب، ومنها القُرآنُ الكريم، ثمَّ دَعْهُمْ في باطلِهمْ وضَلالِهمْ يلتَهون.

﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَالَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ﴾ [الأنعام:92]


وهذا القُرآنُ أنزلناهُ مِنْ عندِنا لا ريبَ فيه، كثيرُ الفائدةِ والنَّفع، كلُّهُ حقٌّ وهِداية، وتَوجيهٌ وحِكمة، مُصَدِّقٌ للكُتبِ السَّماويَّةِ السابقَة، ومنها التَّوراة، لتُنذرَ بهِ وتبلِّغَهُ أهلَ مكَّةَ ومَنْ حولَها في المشارقِ والمغارب.

والمؤمِنونَ باللهِ وباليومِ الآخِرِ وما فيهِ مِنْ ثَوابٍ وعِقاب، يؤمِنونَ بالقرآنِ المُنـزَلِ عليكَ أيُّها النبيّ، وهمْ محافِظونَ على صَلواتِهمُ المكتوبةِ عَليهم، فهي عِمادُ الدين.

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٞ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ الظَّـٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ الۡمَوۡتِ وَالۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ الۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ الۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيۡرَ الۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [الأنعام:93]


وليسَ هناكَ أظلمُ ممَّنْ كذَبَ وادَّعى أنَّ للهِ شَريكاً في الأُلوهيَّة، منْ صنَمٍ وولدٍ وغَيرِ ذلك، أو ممَّنِ ادَّعى النبوَّةَ وهوَ كاذِبٌ لم يوحِ اللهُ إليهِ بشَيء، أو ممَّنْ قالَ إنَّهُ سيأتي بكتابٍ مثلِ القُرآنِ في بَيانهِ وإعْجازِه.

ولو نظرتَ فرأيتَ الكافِرينَ الظَّالمينَ في سكَراتِ الموتِ وكرُوبِه، وقدْ بسَطَتِ الملائكةُ الموكَّلةُ بقَبضِ أرواحِهمْ أيديَها عليهمْ بالضَّربِ والعَذابِ على وجوهِهمْ وأدبارِهم، وأرواحُهمْ مُتَشَبِّثةٌ بأجسادِهمْ لا تريدُ أنْ تَخرُج، حيثُ إنَّها تُبَشَّرُ بالعَذابِ والإهانة، وتقولُ لهمْ الملائكة: أخرِجوا أنفسَكمْ كَرْهاً، فاليومَ تُعاقَبونَ بالعَذابِ المُذِلِّ المُهين، جزاءَ كَذِبِكمْ على اللهِ ورسلِه، وعنادِكمْ واستِكبارِكمْ عنِ اتِّباعِ الحقِّ وإعراضِكمْ عمّا أنزلَهُ الله.

﴿وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ﴾ [الأنعام:94]


وقدْ جئتُمْ إلى ربِّكمْ للحِسابِ منفَردِين، بدونِ أعوانٍ ولا أوْثان، بلْ وقفتُمْ في المحشَرِ بدونِ لباسٍ ولا نِعال، وتركتُمْ وراءَكمْ ما أعطيناكمْ منَ المالِ والولَدِ والنِّعَم، التي شغلتْكُمْ عنِ الآخِرَة، فلمْ تنفَعْكمْ بشَيءٍ في يومِكمْ هذا، ولم نَجِدْ معكمْ آلهتَكمُ الذينَ كنتُمْ تعبدونَهمْ وتَستَنصِرونَ بهم، وتَزعُمونَ أنَّهمْ شُركاءُ لله في الربوبيَّةِ والعِبادة، وأنَّهمْ سيَشفَعونَ لكمْ عندَ اللهِ لقضاءِ حوائجِكم. لقدِ انقطعَ ما بينَكمْ منْ أسبابٍ ووسائلَ فيما كنتُمْ تَزعُمونَهُ لهم، وذهبَ عنكمْ ما ظننتُمْ مِنْ رَجائهم، وبَطَلتْ أمامَكمْ عقيدتُكمُ الفاسِدَةُ في ذلك.

﴿۞إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الۡحَبِّ وَالنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ الۡحَيَّ مِنَ الۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ الۡمَيِّتِ مِنَ الۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ﴾ [الأنعام:95]


إنَّ اللهَ بقُدرتهِ وإبداعهِ في خَلْقِه، شَقَّ الحبوبَ والنَّوَى تحتَ الأرضِ لتُنتِجَ الزُّروعَ والثِّمارَ بأنواعِها وأشكالِها وطُعومِها، فيُخرِجُ الحيَّ ممّا يَنمو مِنْ هذهِ الحبوبِ اليابسَةِ المَيتة، وهوَ مُخرِجُ الميِّتِ منَ الحيّ، كإخراجِ ما يُستفادُ منهُ للطَّعمِ والقُوتِ منَ الحيوانات، أو أضرابِ ذلكَ مما يُخْرَجُ منها للعُطورِ والصِّناعات، وكذلكَ دَوْرَةُ الخلايا في الحيوانِ والنَّباتِ التي تَكونُ في تجدُّدٍ مستَمِرّ، فتَموتُ القديمةُ ويَنشأ ما هو جَديد... واللهُ هوَ الذي خَلقَ فيها كُلَّ هذا، بعلمهِ وحِكمتهِ وقُدرتِه، فكيفَ تُصْرَفونَ عنِ الحقِّ إلى الباطِل، وتَعبُدونَ معَ اللهِ ما لا قُدرةَ لهُ على خَلقِ شَيءٍ مِنْ هذا أو أقلَّ منه؟!

﴿فَالِقُ الۡإِصۡبَاحِ وَجَعَلَ الَّيۡلَ سَكَنٗا وَالشَّمۡسَ وَالۡقَمَرَ حُسۡبَانٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ الۡعَزِيزِ الۡعَلِيمِ﴾ [الأنعام:96]


وهوَ الذي شقَّ ظُلمةَ اللَّيلِ بالصَّباحِ المضيءِ ليؤذِنَ بالعَملِ والنَّشاط، وجعلَ الليلَ مُظلِماً تَسكنُ فيه الأشياء، ويَرتاحُ فيهِ الإنسانُ مِنْ عملِ النَّهار، فيَهدأُ ويَنام.

وجعلَ الشَّمسَ والقمرَ دَليلاً وضَبْطاً لحِسابٍ مُقدَّرٍ لا يَتقدَّمُ ولا يَتأخَّر، لتَعرِفوا بهِ الأوقاتَ والتَّواريخ، في العِباداتِ والمعامَلاتِ والمعاهَدات، بالسَّاعاتِ والأيَّام والشُّهورِ والسَّنوات.

وهذا كلُّهُ مِنْ تَقديرِ اللهِ العَزيز، الذي لا يَصْعُبُ عليهِ شَيء، العَليمِ الذي لا يَغِيبُ عنهُ شيءٌ ممّا بثَّهُ في الكَونِ كلِّه.

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهۡتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ الۡبَرِّ وَالۡبَحۡرِۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [الأنعام:97]


وهوَ اللهُ الذي أنشَأَ النُّجومَ وقدَّرها في أبعادٍ معيَّنةٍ بَعضِها عن بَعض، وفي جِهاتٍ مُختلِفة، معَ سُطوعِها في أوقاتٍ محدَّدة، لتكونَ لكمْ دَليلاً إلى معرفةِ الجهاتِ في اللَّيالي المظلمة، في البرِّ والبحر.

وقدْ بيَّنا هذهِ الآياتِ التي فيها ذِكْرٌ لنِعَمِ اللهِ لمنْ يَعقِلُ ويَتدبَّر، ويَعرِفُ الحقَّ فيتَّبعُهُ ويَعملُ بموجبِه.

﴿وَهُوَ الَّذِيٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسۡتَقَرّٞ وَمُسۡتَوۡدَعٞۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَفۡقَهُونَ﴾ [الأنعام:98]


وهوَ اللهُ الذي خَلَقكمْ جَميعاً مِنْ نَفسٍ واحِدَة، هيَ آدم، ولكمُ استِقرارٌ في أرحامِ أمَّهاتِكم، واستيداعٌ في أصلابِ آبائكم. وقدْ بيَّنا هذهِ الحُجَجَ والأدلَّةَ لمنْ يَفْطَنونَ إلى ذلكَ ويتدبَّرونَ دقَّةَ الخَلقِ وإبداعَه.

﴿وَهُوَ الَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ النَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَالزَّيۡتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ انظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام:99]


وهوَ الذي أنزلَ الأمطارَ منَ السَّحابِ ليَنتفِعَ بها العِباد، فأخرَجنا بالماءِ كلَّ أنواعِ النبَاتات، ومِنْ هذهِ النبَاتاتِ أخرَجنا الزُّروعَ والأشجارَ الخَضراء، وأخرَجنا مِنْ هذهِ الأشجارِ والنباتاتِ الثِّمارَ والحبوبَ المتراصَّة، ومِنْ طلْعِ شَجرِ النخيلِ أخرَجنا أغداقاً فيها ثَمَرُ الرُّطَب، مُنثَنيةً، وقَريبةَ التناول.

ونُخرِجُ بالماءِ بَساتينَ كثيرةً مُنتَشِرَةً في الأرضِ منَ الأعناب، وكذلكَ الزَّيتون، والرمّان، وبعضُ ذلكَ مُتشابِهٌ وبعضُهُ غيرُ مُتشابِه، في الهَيئةِ والمِقدار، واللَّونِ والطَّعم، وانظُروا وتفَكَّروا في ثَمَرِ الزَّيتونِ عندما يَنْضَج، وإلى ثَمَرِ الرمّانِ كذلك، وقدْ تجمَّعتْ حُبَيباتُهُ وتراكبَ بعضُها فوقَ بعض، في شكلٍ هَندسيٍّ جميل، معَ طَعمٍ لذيذٍ وفائدةٍ صِحِّيَّة، فيهِ وفي الزَّيتون، وغيرِهما منَ الثِّمارِ المتنوِّعة، وإنَّ في ذلكَ كلِّهِ أدلَّةً واضحةً على قُدرةِ اللهِ وبَديعِ صُنعه، وعلى عَظمتهِ وحِكمتهِ ووَحدانيَّته، لمنْ أرادَ أنْ يَستَدِلَّ بها على الإيمانِ به، وتَصديقِ ما أنزَلَه.

﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ الۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام:100]


وقدْ جَعلَ المشرِكونَ الجنَّ شُرَكاءَ للهِ في العِبادةِ فعبَدوهمْ معه، وهوَ الذي خلقَهمْ كما خلقَ الإنس، فكيفَ يَعبدُونَ مخلوقاً؟

واختلَقوا للهِ بنينَ وبناتٍ فكذَبوا وافترَوا، كما قالتِ النصارَى: عيسى ابنُ الله، وقالتِ اليهود: عُزَيرٌ ابنُ الله، وقالَ المشرِكون: الملائكةُ بَناتُ الله! قالوا كلَّ هذا زُوراً وإفْكاً، بدونِ فِكرٍ ولا رَوِيَّة، وبدونِ أيَّةِ حُجَّةٍ أو عِلم، بلْ قالوا ذلكَ جَهلاً باللهِ العَظيم، الذي ليسَ هوَ منْ جِنسِ البشَر، فلا صَاحَبَةَ لهُ ولا ولَد، ولا نِدَّ لهُ ولا شَبيه، بلْ هوَ الإلهُ الواحِدُ الأحَد، المنفَرِدُ بالخَلقِ والرزْق، فسُبحانَه، تَقدَّسَ وتَنَـزَّهَ وتَعاظمَ عمّا يَصِفهُ بهِ المشرِكون.

﴿بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [الأنعام:101]


اللهُ موجِدُ السَّماواتِ والأرضِ مِنْ غَيرِ مادَّةٍ أو أصلٍ مَوجودٍ سابقاً، ومُبدِعُهما على غَيرِ مِثالٍ سابق، فلا نظيرَ لهما.

وكيفَ يَكونُ لهُ ولَدٌ ولم تَكنْ لهُ زَوجة، والولَدُ يَكونُ مُتَولِّداً مِنْ شَيئينِ مُتناسِبَين، ولا مناسِبَ لله، ولا شَيبهَ له، فلا ولَدَ له، وهوَ الخالقُ الذي أوجدَ الكونَ ومَنْ فيه، مِنْ والِدٍ ووَلَد، وهوَ عَليمٌ بكلِّ شَيءٍ عِلماً تامّاً، أزَلاً وأبَداً، مَخلوقاً كانَ ذلكَ الشَّيءُ أمْ لم يَكنْ مَخلوقاً.

﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَاعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ﴾ [الأنعام:102]


ذلكمُ اللهُ ربُّكم(35)، مالِكُ أمرِكم، الواحِدُ الذي لا شَريكَ له، خالِقُ كلِّ شَيء، ممّا كانَ وسيَكون، فاعبُدوهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئاً، فهوَ وحدَهُ المستَحِقُّ للعِبادة، وهوَ الحفيظُ والرَّقيبُ على كلِّ الأشياء، يَعرِفُ أحوالَها ويُدَبِّرُ شُؤونَها، ويتولَّى جَميعَ أمورِها.

(35) {ذَلِكُمُ} أي: ذلكَ الموصوفُ بتلكَ الصفاتِ العظيمةِ أيها المشركون، {اللهُ}: المستحقُّ للعبادةِ خاصَّة... (روح البيان).

﴿لَّا تُدۡرِكُهُ الۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ الۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الۡخَبِيرُ﴾ [الأنعام:103]


لا تَراهُ العُيونُ في الدُّنيا وإنْ كانتْ تَراهُ في الآخِرَة، وهوَ يُحيطُ بها ويَعرِفها على حَقيقَتِها، لأنَّهُ خالِقُها. وهوَ الرَّفيقُ بعبادِه، الرحيمُ بأوليائه، الخبيرُ بهم.

﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ﴾ [الأنعام:104]


قدْ جاءَتْكمْ آياتٌ واضِحاتٌ وحُجَجٌ باهِراتٌ مِنْ عندِ الله، بلَّغَكمْ إيّاها رَسُولهُ في القُرآنِ والسنَّة، فمنْ وعَى وآمنَ فلنَفسهِ تعودُ الفائدة، ومَنْ أغمضَ عَينيهِ عنها وأغلقَ قلبَهُ فلمْ يأبَهْ بها، فعلى نَفسهِ تَعودُ الخَسارة، قلْ لهم: لستُ حافظاً عليكمْ ولا رَقيباً على أعمالِكم، بلِ اللهُ يحفَظُها عليكم ويُجازيكمْ عليها، وإنَّما أنا مبلِّغٌ نَذير.

﴿وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الۡأٓيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [الأنعام:105]


وكذلكَ نُورِدُ الأدلَّةَ والبراهينَ الواحدةَ تلوَ الأخرى، بوجوهٍ مُختَلِفَة، وفي مَواطنَ عدَّة، وليَقولَ المشرِكونَ إثرَ ذلك: إنَّكَ قرأتَ وتعلَّمتَ مِنْ أهلِ الكتاب. ويبيِّنُ اللهُ ذلكَ لمنْ يَعلمُ الحقَّ فيتَّبعونَه، والباطلَ فيَجتَنِبونَه، فسُبحانَ مَنْ هَدَى بآياتهِ هؤلاء، وضلَّ بها أولئك، وهوَ المَلِكُ العَدْل.

﴿اتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [الأنعام:106]


فاتَّبِعْ أيُّها النبيُّ ما أوحَى اللهُ إليكَ منَ الحقِّ الذي لا رَيبَ فيه، ودُمْ عليهِ واعمَلْ به، لا مَعبودَ يَستَحقُّ إخلَاصَ العِبادةِ لهُ إلا الله، ولا يَشْرَعُ إلا هو، ومَنْ أرسلَهُ وأذِنَ لهُ بذلك، ولا تَعتدَّ بأقاويلِ المشرِكينَ الباطِلَةِ ولا تَلتفِتْ إلى أذاهُم، فالحقُّ معَك.

﴿وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشۡرَكُواْۗ وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗاۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ﴾ [الأنعام:107]


ولو شاءَ اللهُ ألاّ يُشرِكوا لمـَا أشرَكوا، فلهُ تعالَى المشيئةُ والحِكمةُ فيما يَشاؤهُ ويَختارُه. ولو عَلِمَ منهمْ اختيارَ الإيمانِ لهَداهُمْ إليه.

وما جَعلناكَ أيُّها النبيُّ رَقيباً عليهمْ تَحفَظُ أعمالَهمْ وأقوالَهم، ولستَ وكيلاً عليهمْ فتُجبِرَهمْ على الإيمان، ولا قائماً على أرزاقِهمْ وتَدبيرِ مصالِحهم، فهذا أمرهُ إلى الله، وما عليكَ إلاّ البَلاغ.

﴿وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام:108]


ولا تَشتُموا المشرِكين وأصنامَهم؛ لأنَّهُ يترتَّبُ عليهِ مَفسدَةٌ أكبرُ منَ الفائدةِ المرجوَّةِ منها، فيَسبُّوا اللهَ ربَّ العالمين؛ تَجاوزاً عنِ الحقِّ إلى الباطِلِ وجَهلاً منهم، فهمْ لا يَعلمونَ أنَّهمْ يسبُّونَ اللهَ العَظيم، خالِقَهمْ وخالِقَ الكونِ كلِّه.

وقدْ قالَ المشرِكونَ لرَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: يا محمَّد، لتَنتَهِينَّ عنْ سبِّكَ آلهتِنا، أو لنَهجُوَنَّ ربَّك. فنَزَلتِ الآية.

ومِثْلُ هذا التَّزيينِ الذي زيَّناهُ للمُشرِكين، بحبِّ أصنامِهمْ والدفاعِ عنها، زيَّنا لكلِّ قومٍ عملَهمُ الذي ارتَبطوا بهِ وتَفانَوا فيهِ منْ خَيرٍ وشَرّ، فهذا ما أرادُوهُ أصْلاً وتَعلَّقوا به، ثمَّ إنَّ رُجوعَهمْ ومَصيرَهمْ إلى مالكِ أمرِهم، فيُخبِرُهمْ بما كانوا عليه، ويُجازِيهمْ على ذلك، ثَواباً أو عِقاباً.

﴿وَأَقۡسَمُواْ بِاللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا الۡأٓيَٰتُ عِندَ اللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام:109]


وحَلَفَ المشرِكونَ حَلِفاً مؤكَّداً أنَّهمْ إذا جاءَتهمْ مُعجِزةٌ كما اقترَحوها، ليُصَدِّقُنَّها ويؤمِنُنَّ بها. وقدْ سبَقَتْ مُعجِزاتٌ لهُ صلى الله عليه وسلَّم فلمْ يؤمِنوا بها، فكانَ غرضَهمُ التعنُّتُ والعِنادُ، لا الهدايةُ والإيمانُ كما قالوا، فقلْ لهمْ أيُّها النبيُّ: إنَّما المُعجِزاتُ والخوارِقُ منْ عندِ الله، إنْ شَاءَ أتَى بها وإنْ شَاءَ أمسَكَها، وليسَ لي منَ الأمرِ شَيء، فلا أقدِرُ على الإتيانِ بها مِنْ عندي. وأنتُمْ - أيُّها المؤمنونَ - ما يُدريكمْ لعلَّ المعجِزاتِ إذا جاءَتهمْ لا يُؤمِنونَ بها، فلا تُصَدِّقوهمْ ولو حَلَفوا.

﴿وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [الأنعام:110]


ونحوِّلُ قُلوبَ المشرِكينَ عنْ إدراكِ الحقِّ فلا يَفهمَونَه، وعيونَهمْ عن إبصارِها فلا يرونَه، تماماً كما رفَضوا الإيمانَ بالآياتِ والمعجِزاتِ الواضِحاتِ الدالَّةِ على صِدقِ نبوَّةِ رَسولِنا أوَّلَ مرَّة، فهي القُلوبُ نفسُها التي أبَتْ أنْ تَستَجيبَ للحقّ، وما زالتْ تُعانِدُ وتُخاصِمُ بعدَ كلِّ رَغبةٍ ورَهبة، وبعدَ كلِّ إيضاحٍ ومَحَجَّة، فهمُ الذينَ ظَلموا أنفُسَهمْ ورَضُوا بالكُفرِ والضَّلال، وعَلِمَ اللهُ فيهمْ هذا العزمَ والتوَجُّه، فتركَهمْ في كُفرِهمْ وضَلالِهمْ يَتردَّدونَ مُتَحيِّرين.

والمتابعُ للحوارِ والجدالِ معَ الملاحِدَةِ وأهلِ الأديانِ والفِرَق، يرَى العِنادَ واللَّجاجةَ والمخاصَمةَ مِنْ مُعظَمِهم، وإصرارَهمْ على ما همْ عليهِ منْ باطِل، فهمْ بذلكَ يَستَحِقُّونَ ما قالَ اللهُ فيهم، وما ظَلمهمُ اللهُ ولا أجبَرهمْ على ذلك، بلْ هذا هوَ توجُّههمْ واستعدادُهمُ الذي رَضُوهُ لأنفسِهم، فليَكونوا كذلكَ كما رَغِبوا.