وما عظَّموا اللهَ التعظيمَ المطلوب، ولا عَرَفوهُ حقَّ معرفتِه، عندما أنكَروا الكتُبَ السَّماويَّة، وكذَّبوا الرُّسل، وكفَروا بالوَحي المُنـزَلِ منْ عندِ الله، فقلْ لهؤلاءِ المشرِكينَ المُنكرِينَ - أو اليهودِ - : لماذا تُنكِرونَ تَنـزيلَ القُرآنِ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وتؤمِنونَ بالتوراةِ المُنـزَلةِ على موسَى لتكونَ هِدايةً للناسِ وإرشاداً لهمْ في الحياةِ إلى الحقّ، وأنتُمْ تَنقلونَ منها فِقْرات ٍوفُصولاً وتَجعلونَها في أوراق، بعدَ تَحريفِها وتَزويرِها وإخفاءِ كثيرٍ منَ المعلوماتِ فيها، وتَقولونَ للناسِ هذا منْ كتابِ اللهِ المنُـزَل؟!
وقدْ جاءَكمْ منَ الأخبارِ والقَصَصِ والآياتِ في القُرآنِ ما لا عهدَ ولا علمَ لكمْ ولا لآبائكمْ بها. قلْ لهم: إنَّ اللهَ هوَ الذي أنزلَ هذهِ الكُتب، ومنها القُرآنُ الكريم، ثمَّ دَعْهُمْ في باطلِهمْ وضَلالِهمْ يلتَهون.
إنَّ اللهَ بقُدرتهِ وإبداعهِ في خَلْقِه، شَقَّ الحبوبَ والنَّوَى تحتَ الأرضِ لتُنتِجَ الزُّروعَ والثِّمارَ بأنواعِها وأشكالِها وطُعومِها، فيُخرِجُ الحيَّ ممّا يَنمو مِنْ هذهِ الحبوبِ اليابسَةِ المَيتة، وهوَ مُخرِجُ الميِّتِ منَ الحيّ، كإخراجِ ما يُستفادُ منهُ للطَّعمِ والقُوتِ منَ الحيوانات، أو أضرابِ ذلكَ مما يُخْرَجُ منها للعُطورِ والصِّناعات، وكذلكَ دَوْرَةُ الخلايا في الحيوانِ والنَّباتِ التي تَكونُ في تجدُّدٍ مستَمِرّ، فتَموتُ القديمةُ ويَنشأ ما هو جَديد... واللهُ هوَ الذي خَلقَ فيها كُلَّ هذا، بعلمهِ وحِكمتهِ وقُدرتِه، فكيفَ تُصْرَفونَ عنِ الحقِّ إلى الباطِل، وتَعبُدونَ معَ اللهِ ما لا قُدرةَ لهُ على خَلقِ شَيءٍ مِنْ هذا أو أقلَّ منه؟!
وهوَ اللهُ الذي أنشَأَ النُّجومَ وقدَّرها في أبعادٍ معيَّنةٍ بَعضِها عن بَعض، وفي جِهاتٍ مُختلِفة، معَ سُطوعِها في أوقاتٍ محدَّدة، لتكونَ لكمْ دَليلاً إلى معرفةِ الجهاتِ في اللَّيالي المظلمة، في البرِّ والبحر.
وقدْ بيَّنا هذهِ الآياتِ التي فيها ذِكْرٌ لنِعَمِ اللهِ لمنْ يَعقِلُ ويَتدبَّر، ويَعرِفُ الحقَّ فيتَّبعُهُ ويَعملُ بموجبِه.
لا تَراهُ العُيونُ في الدُّنيا وإنْ كانتْ تَراهُ في الآخِرَة، وهوَ يُحيطُ بها ويَعرِفها على حَقيقَتِها، لأنَّهُ خالِقُها. وهوَ الرَّفيقُ بعبادِه، الرحيمُ بأوليائه، الخبيرُ بهم.
فاتَّبِعْ أيُّها النبيُّ ما أوحَى اللهُ إليكَ منَ الحقِّ الذي لا رَيبَ فيه، ودُمْ عليهِ واعمَلْ به، لا مَعبودَ يَستَحقُّ إخلَاصَ العِبادةِ لهُ إلا الله، ولا يَشْرَعُ إلا هو، ومَنْ أرسلَهُ وأذِنَ لهُ بذلك، ولا تَعتدَّ بأقاويلِ المشرِكينَ الباطِلَةِ ولا تَلتفِتْ إلى أذاهُم، فالحقُّ معَك.
ولو شاءَ اللهُ ألاّ يُشرِكوا لمـَا أشرَكوا، فلهُ تعالَى المشيئةُ والحِكمةُ فيما يَشاؤهُ ويَختارُه. ولو عَلِمَ منهمْ اختيارَ الإيمانِ لهَداهُمْ إليه.
وما جَعلناكَ أيُّها النبيُّ رَقيباً عليهمْ تَحفَظُ أعمالَهمْ وأقوالَهم، ولستَ وكيلاً عليهمْ فتُجبِرَهمْ على الإيمان، ولا قائماً على أرزاقِهمْ وتَدبيرِ مصالِحهم، فهذا أمرهُ إلى الله، وما عليكَ إلاّ البَلاغ.
وقدْ قالَ المشرِكونَ لرَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: يا محمَّد، لتَنتَهِينَّ عنْ سبِّكَ آلهتِنا، أو لنَهجُوَنَّ ربَّك. فنَزَلتِ الآية.
ومِثْلُ هذا التَّزيينِ الذي زيَّناهُ للمُشرِكين، بحبِّ أصنامِهمْ والدفاعِ عنها، زيَّنا لكلِّ قومٍ عملَهمُ الذي ارتَبطوا بهِ وتَفانَوا فيهِ منْ خَيرٍ وشَرّ، فهذا ما أرادُوهُ أصْلاً وتَعلَّقوا به، ثمَّ إنَّ رُجوعَهمْ ومَصيرَهمْ إلى مالكِ أمرِهم، فيُخبِرُهمْ بما كانوا عليه، ويُجازِيهمْ على ذلك، ثَواباً أو عِقاباً.
وحَلَفَ المشرِكونَ حَلِفاً مؤكَّداً أنَّهمْ إذا جاءَتهمْ مُعجِزةٌ كما اقترَحوها، ليُصَدِّقُنَّها ويؤمِنُنَّ بها. وقدْ سبَقَتْ مُعجِزاتٌ لهُ صلى الله عليه وسلَّم فلمْ يؤمِنوا بها، فكانَ غرضَهمُ التعنُّتُ والعِنادُ، لا الهدايةُ والإيمانُ كما قالوا، فقلْ لهمْ أيُّها النبيُّ: إنَّما المُعجِزاتُ والخوارِقُ منْ عندِ الله، إنْ شَاءَ أتَى بها وإنْ شَاءَ أمسَكَها، وليسَ لي منَ الأمرِ شَيء، فلا أقدِرُ على الإتيانِ بها مِنْ عندي. وأنتُمْ - أيُّها المؤمنونَ - ما يُدريكمْ لعلَّ المعجِزاتِ إذا جاءَتهمْ لا يُؤمِنونَ بها، فلا تُصَدِّقوهمْ ولو حَلَفوا.
ونحوِّلُ قُلوبَ المشرِكينَ عنْ إدراكِ الحقِّ فلا يَفهمَونَه، وعيونَهمْ عن إبصارِها فلا يرونَه، تماماً كما رفَضوا الإيمانَ بالآياتِ والمعجِزاتِ الواضِحاتِ الدالَّةِ على صِدقِ نبوَّةِ رَسولِنا أوَّلَ مرَّة، فهي القُلوبُ نفسُها التي أبَتْ أنْ تَستَجيبَ للحقّ، وما زالتْ تُعانِدُ وتُخاصِمُ بعدَ كلِّ رَغبةٍ ورَهبة، وبعدَ كلِّ إيضاحٍ ومَحَجَّة، فهمُ الذينَ ظَلموا أنفُسَهمْ ورَضُوا بالكُفرِ والضَّلال، وعَلِمَ اللهُ فيهمْ هذا العزمَ والتوَجُّه، فتركَهمْ في كُفرِهمْ وضَلالِهمْ يَتردَّدونَ مُتَحيِّرين.
والمتابعُ للحوارِ والجدالِ معَ الملاحِدَةِ وأهلِ الأديانِ والفِرَق، يرَى العِنادَ واللَّجاجةَ والمخاصَمةَ مِنْ مُعظَمِهم، وإصرارَهمْ على ما همْ عليهِ منْ باطِل، فهمْ بذلكَ يَستَحِقُّونَ ما قالَ اللهُ فيهم، وما ظَلمهمُ اللهُ ولا أجبَرهمْ على ذلك، بلْ هذا هوَ توجُّههمْ واستعدادُهمُ الذي رَضُوهُ لأنفسِهم، فليَكونوا كذلكَ كما رَغِبوا.