تفسير الجزء 8 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثامن
8
سورة الأنعام (111-165)
سورة الأعراف (1-87)

﴿۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ﴾ [الأنعام:111]


ولو أنَّنا أجَبنا على اقتراحِهمْ بإنزالِ مُعجِزةٍ، بلْ أكثرَ ممّا سألوا، فأنزلنا ملائكةً تُصَدِّقُ النبيَّ المرسَل، وبَعثنا أمواتاً منَ القُبورِ تُكلِّمهمْ وتُخبِرهمْ بصدقِ الرسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم وصحَّةِ التَّوحيد، وجمَعنا عليهمْ كلَّ شيءٍ يُمكِنُ أنْ يَشهدَ بصِدقِ هذهِ الرِّسالة، مواجَهةً وعِياناً، وجماعاتٍ وأفواجاً، لمَا تَركوا ما همْ عليهِ منَ الكُفر، ولمَا آمَنوا بالرِّسالةِ المحمَّدية، إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ ذلك، فالهِدايةُ إليهِ لا إليهم.

ولكنَّ أكثرَهمْ يَجهلونَ سبَبَ عدمِ إيمانِهمْ عندَ مجيءِ الآيات.

قال ابنُ جَريرٍ الطبريُّ رحمَهُ الله: ولكنَّ أكثرَ هؤلاءِ المشركينَ يَجهلونَ أنَّ ذلكَ كذلك، يَحسَبونَ أنَّ الإيمانَ إليهم، والكفرَ بأيديهم، متَى شاؤوا آمَنوا، ومتَى شاؤوا كَفروا، وليسَ ذلكَ كذلك، ذلكَ بيدِي، لا يُؤمنُ منهمْ إلاّ مَنْ هَديتُهُ لهُ فوفَّقتُه، ولا يَكفرُ إلاّ مَنْ خذلتُهُ عنِ الرُّشدِ فأضللتُه.

قالَ صاحبُ "الظِّلال" رحمَهُ الله: وهذا الأصلُ الذي يُقَرِّرهُ ابنُ جريرٍ هنا هوَ الصَّحيح، ولكنَّهُ يَحتاجُ إلى زيادةِ الإيضاح، باستِلهامِ مجموعةِ النُّصوصِ القُرآنيةِ عنِ الهُدَى والضَّلالة، ومشيئةِ اللهِ وجُهدِ الإنسان.

قال: مَشيئةُ اللهِ هيَ المرجِعُ الأخيرُ في أمرِ الهُدَى والضَّلال، فقدِ اقتَضتْ هذهِ المشيئةُ أنْ تَبتليَ البشَرَ بقَدْرٍ منْ حرِّيةِ الاختيار ِوالتوجُّهِ في الابتِلاء، وجُعِلَ هذا القَدْرُ مَوضِعَ ابتِلاءٍ للبشَرِ وامتِحان، فمَنِ استخدمَهُ في الاتِّجاهِ القلبيِّ إلى الهُدى والتطلُّعِ إليهِ والرَّغبةِ فيه - وإنْ كان لا يَعلمُ حينئذٍ أينَ هو - فقدِ اقتضتْ مَشيئةُ اللهِ أنْ يأخُذَ بيدهِ ويُعيْنَهُ ويَهديَهُ إلى سَبيلِه، ومَنِ استَخدمَهُ في الرَّغبةِ عنِ الهُدَى والصُّدودِ عنْ دلائلهِ ومُوحياتِه، فقدِ اقتضَتْ مَشيئةُ اللهِ أنْ يُضِلَّهُ وأنْ يُبعِدَهُ عنِ الطَّريق، وأنْ يَدَعَهُ يَتخبَّطُ في الظُّلمات. وإرادةُ اللهِ وقدَرُهُ مُحيطانِ بالبشَرِ في كلِّ حالة، ومَرَدُّ الأمرِ كلِّهِ إليهِ في النهاية. اهـ.

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ الۡإِنسِ وَالۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ الۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام:112]


وكما أنَّ هناكَ أعداءً يُخالِفونكَ ويُؤذونكَ في دعوتِك، فكذلكَ جعلنا لكلِّ نبيٍّ مِنْ قَبلِكَ أعداءً يُناصِبونهمُ العَداوةَ ويُكذِّبونَهم، ويُجاهِدونَ في القَضاءِ على دَعوتِهم، مِنْ شَياطينِ الإنسِ والجِنّ، ومَرَدَتِهمْ وعُتاتِهمُ المُضلِّينَ الأشرَار، يُوَسوِسُ بعضُهمْ إلى بَعضٍ الكلامَ المزيَّنَ المزوَّقَ الباطِل؛ ليُغْرُوهُمْ بالخِداعِ والأخذِ على غِرَّة. ولو شاءَ اللهُ ما كانَ هذا ولا ذاكَ مِنْ أذًى وعَداوة، وليسَ هوَ عنْ مُصادَفة، بلْ ليَبتلي بهمْ أولياءَه، ليرَى صبرَهُمْ وقوَّةَ إيمانِهمْ وثباتَهمْ على مَبدَئهم، وما همْ بضارِّينَ إلاّ أنْ يَشاءَ الله، فدَعهُمْ وما يَكذِبون، فإنَّ اللهَ ناصرُك.

﴿وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:113]


ولتَمِيلَ إلى هذا القَولِ الباطِلِ قُلوبُ الكفَرةِ المشرِكين(36)، التي تُنْبِئُ عنْ حُبِّ الشَّهوات، والانحرافِ إلى ما هو خادِعٌ ومُمَوَّه، ولِيرضَوْهُ ويُحِبُّوه، ولِيكتَسِبوا ما همْ مُكتَسِبونَ منَ السَّيئاتِ والأعمالِ المشِينة، حتَّى يلقَوا جزاءَهمْ عليها.

(36) خُصَّ من صفاتِ المشركين عدمُ إيمانهم بالآخرة، فعُرِّفوا بهذه الصلةِ للإيماءِ إلى بعضِ آثارِ وحي الشّياطينِ لهم. وهذا الوصفُ أكبرُ ما أضرَّ بهم، إذ كانوا بسببهِ لا يتوخَّون فيما يصنعون خشيةَ العاقبةِ وطلَبَ الخير، بل يتَّبعون أهواءهم وما يُزيَّنُ لهم من شهواتهم، معرِضين عمّا في خلالِ ذلك من المفاسدِ والكفر، إذ لا يترقَّبون جزاءً عن الخيرِ والشرّ، فلذلك تصغَى عقولُهم إلى غرورِ الشَّياطين، ولا تصغَى إلى دعوةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصّالحين. (التحرير والتنوير).

﴿أَفَغَيۡرَ اللَّهِ أَبۡتَغِي حَكَمٗا وَهُوَ الَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيۡكُمُ الۡكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ وَالَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ يَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٞ مِّن رَّبِّكَ بِالۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِينَ﴾ [الأنعام:114]


قلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ أطلبُ حَكَماً مُنصِفاً عالِماً غيرَ اللهِ ليَحُكمَ بَيني وبَينَكم، وهوَ الذي أنزلَ إليكمُ القُرآنَ مُبيِّناً فيه الحقَّ والباطل، والحلالَ والحرام، وغيرَ ذلكَ منَ الأحكامِ والأخبارِ والتَّوجيهاتِ بالحقِّ والعَدل، وأنتمْ أمَّةٌ أميَّةٌ لا تَعرِفونَ شَيئاً مِنْ ذلك، وأهلُ الكتابِ منَ اليهودِ والنَّصارَى يَعلمونَ أنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ منْ عندِ الله، لِما يَجدونَ مِنْ صفةِ ذلكَ في البِشاراتِ التي في كتُبهِم، ممّا أخبرَهمْ بهِ أنبياؤهمْ في صفةِ هذا النبيِّ ونعتِ أمَّتهِ وخبرِ القُرآن. فلا تَكوننَّ أيُّها النبيُّ منَ المتردِّدينَ في كونِهمْ يَعلمونَ ذلك.

﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [الأنعام:115]


وتمَّ كلامُ ربِّكَ(37) صِدْقاً في كلِّ ما قالَ وقرَّر، وعَدْلاً في كلِّ ما شَرَعَ وحَكَم، فكلُّ ذلكَ حقٌ لا مِرْيَةَ فيه، فلا يأمرُ سُبحانَهُ إلاّ بخَير، ولا يَنهَى إلاّ عنْ شَرّ، ولا رادَّ لقِضائه، ولا مُغيِّرَ لحُكمه، ولا خُلْفَ لوعدِه، ولا أحدَ يَقدِرُ على تَبديلِ شَيءٍ منْ كلماتهِ إلى ما هوَ أفضَل. وهوَ السَّميعُ لِما يَقولُ عِبادهُ في ذلك، العليمُ بأحوالِهمْ وما يُسِرُّونَهُ وما يُعلِنونَه، وما يُصلِحُهم.

(37) قالَ الشوكاني رحمهُ الله: المرادُ بالكلمات: العباراتُ أو متعلَّقاتُها من الوعدِ والوعيد. والمعنى أن الله قد أتمَّ وعدَهُ ووعيده، فظهرَ الحقُّ وانطمسَ الباطل. وقيل: المرادُ بالكلمةِ أو الكلمات: القرآن. (فتح القدير). والذي قالَ إن المرادَ بالكلمةِ القرآن، هو الإمام الطبري. وقالَ البغويُّ رحمَهُ الله: أرادَ بالكلماتِ أمرَهُ ونهيه، ووعدَهُ ووعيده.

﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي الۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ﴾ [الأنعام:116]


وإذا أطعتَ أغلبَ الناسِ فإنَّهمْ يَصرفونَكَ عنِ الحقِّ ويُبعِدونكَ عنِ الهُدى، ذلكَ أنَّهمْ مُقيمونَ في عَقائدِهمْ وأفكارِهمُ الشركيَّةِ والكفريَّةِ على الظنونِ والنظريّاتِ الباطِلة، الناشئةِ عنِ الجهلِ والضَّلال، فليسُوا على يَقينٍ منْ أمرِهم، بلْ همْ يَكذبونَ في دعاويهم.

﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُهۡتَدِينَ﴾ [الأنعام:117]


واللهُ أعلمُ بَمنْ سلكَ طريقَ الضَّلالِ، وهوَ أعلمُ بمنِ اهتدَى إلى طريقِ الحقّ، ويَهدي كلاًّ إلى سَبيلِه، ويُجازيهمْ بما يَستَحِقُّون.

﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسۡمُ اللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنعام:118]


فكُلوا ممّا أحلَّ اللهُ لكمْ منَ الحيَواناتِ التي ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليها عندَ ذَبحِها، فهيَ حَلالٌ لكم، وليسَ ممّا ذُكِرَ اسمُ غَيرهِ عَليها، أو ماتَ حَتْفَ أنفه، إذا كنتُمْ مُؤمِنينَ بآياتِ اللهِ المُنزَلةِ عليكم، وفيها بيانُ الحلالِ والحرام.

﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسۡمُ اللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا اضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُعۡتَدِينَ﴾ [الأنعام:119]


ولماذا لا تأكلونَ ما ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ عندَ ذَبحهِ وقدْ وضَّحَ لكمْ ما هوَ حرامٌ (الآيةُ 145 مِنْ هذهِ السورة) (38)، فيَكونُ ما عداهُ حَلالاً، على ما وُضِّحَ هناك، فكُلوه، إلاّ إذا اضطُرِرْتُمْ إلى أكلِ الحرام، فإنَّهُ يُباحُ لكمْ على قَدْرِ حاجتِكمْ إليه. وهناكَ كثيرٌ منَ المشرِكينَ يُضِلُّونَ الناسَ بأهوائهمُ الفاسِدة، فيُحلُّونَ الحرامَ ويُحَرِّمونَ الحلالَ مِنْ عندِهم، بغيرِ مُستَندٍ إلى علمٍ أو وَحي، كاستحلالِ الميتة، وتَحريمِ البَحِيرةِ والسَّائبة، وهوَ سُبحانَهُ أعلمُ بضَلالِ المضلِّينَ وكَذِبِ المفتَرين، المتجاوِزينَ الحقَّ إلى الباطِل، والحلالَ إلى الحرام.

(38) قولهُ تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

﴿وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥٓۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكۡسِبُونَ الۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:120]


واترُكوا مَعصيةَ اللهِ في السرِّ والعَلن، قليلَها وكثيرَها، إنَّ الذينَ يرتَكبونَ المعاصيَ ويَكتَسبونَ الآثام، سيُعاقَبونَ على أعمالِهمْ هذهِ بما يَستحِقُّونَه.

﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ اسۡمُ اللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ﴾ [الأنعام:121]


ولا تأكلوا لحمَ الحيَوانِ الحلالِ الذي لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ عندَ ذبحِه، فهو فِسقٌ وخُروجٌ عنِ الطَّاعة. وذهبَ علماء ُإلى أنَّ الذي لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ هو المعنيُّ بما ذُبِحَ لغَيرِ الله، وأنَّ هذا ما تدلُّ الآية، بدليلِ تتمَّةِ الآيةِ إلى آخِرها، وبما وردَ في الآيةِ (138) من السُّورة، وأحاديثَ تُسانِدها، وأنَّ التسميةَ مُستَحبَّةٌ وليسَتْ واجِبة.

وإنَّ الشَّياطينَ ليُلقونَ إلى تابعِيهمْ وموافِقيهمْ منَ الإنسِ الكلامَ الباطِلَ ليُجادِلوكمْ ويُخاصِموكمْ به، كقولِهمْ إنَّ المَيْتةَ قتلَها اللهُ فلماذا لا تأكلونَ لحمَها؟! فإذا أطعتُموهمْ في استِحلالِ ما حرَّمَ الله، كأكلِ المَيْتةِ وغَيرِ ذلك، فأنتُمْ مُشرِكون، حيثُ تركتُمْ طاعةَ اللهِ وشَرعَهُ إلى طاعةِ المشرِكينَ وكلامِهمُ الباطِل، وأحللتُمْ ما حرَّم اللهُ وآثرتمْ عليهِ غيرَه، أو جعلتُمْ معَهُ شَريكاً في الحُكم. قالَ اللهُ تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [سورة التوبة: 31].

﴿أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام:122]


وهلْ يَكونُ مَنْ كانَ مَيتاً وهالِكاً بالكُفرِ والضَّلالة، فأحيَينا قلبَهُ بالإيمان، ودلَلْناهُ على طَريقِ الحقِّ والصَّواب، وجعَلنا لهُ القُرآنَ نوراً يَستَضيءُ بهِ في الحياة، ليَعرِفَ طَبيعةَ الأشياءِ في الحياة، وتَنكشِفَ لهُ حَقائقُ الوجود، ويَعرِفَ كيفَ يَتصرَّف، كالذي يَعيشُ في ظَلامِ الكُفرِ وغَياهبِ الجَهلِ ومَهاوي الضَّلال، لا يَهتدي منها إلى نُورٍ ليَخرجَ منها، ويَبقى في حَيْرةٍ وتَردُّدٍ، وضِيقٍ وحَرج؟ بلْ شتّانَ ما بينَهما.

وكذلكَ سوَّلنا لنفُوسِ الكافرينَ تَحسينَ وتَزيينَ ما همْ فيهِ مِنْ ظلامٍ وعَملٍ ضالٍّ وسُلوكٍ مُنحرِف؛ ليَذوقوا جَزاءَ كفرِهمْ وعنادِهمْ ورفضِهمُ اتِّباعَ الحقّ.

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾ [الأنعام:123]


وكما جعَلنا في مكَّةَ مُجرِمينَ كباراً يَدعونَ إلى الكفرِ ويَصُدُّونَ عنْ سبيلِ الله، ويُصِرُّونَ على معاداتِكَ أيُّها النبيّ، كذلكَ جعَلنا في سائرِ المدنِ أشراراً مِنْ كُبرائها يُعادونَ الأنبياءَ والمُصلِحين، ويَدْعونَ إلى الضَّلالةِ ويُزَيِّنونَها في قُلوبِ الناس، فالمعركةُ بينَ الحقِّ والباطِلِ قَديمةٌ ومُستَديمة. والحقُّ أنَّهمْ أضلُّوا أنفسَهمْ بذلك، وسيَعودُ وبالُ مَكرِهمْ وضَلالِهمْ هذا على أنفسِهم، وهمْ لا يَشعرونَ بذلك، بلْ يظنُّونَ أنَّ مكرَهمْ يَحيقُ بغَيرِهم.

﴿وَإِذَا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ قَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجۡرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا كَانُواْ يَمۡكُرُونَ﴾ [الأنعام:124]


وهؤلاءِ المجرِمونَ منَ المشرِكينَ إذا جاءَتهمْ آيةٌ وحُجَّةٌ منَ اللهِ وحياً بواسطةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، أنكَروا ذلكَ ولم يُصدِّقوا، وقالوا: لنْ نؤمِنَ حتَّى يَنْزِلَ علينا الوحيُ بواسطةِ الملائكةِ كما يوحَى إلى أنبياءِ اللهِ ورُسلِه. واللهُ أعلمُ بمَنْ يَختارُهُ للرسالةِ والوَحي مِنْ بينِ عبادِه، وليسَ الكافِرونَ المجرِمونَ همُ الذينَ يَختارونَ ذلك، وسَوفَ يَنالُ هؤلاءِ المستَكبِرينَ عنِ اتِّباعِ ِما جاءَ بهِ رسلُ اللهِ ذِلَّةٌ وإهانةٌ جَزاءَ تكبُّرهمْ وتَطاولِهم، وعَذابٌ مؤلمٌ موجِعٌ جزاءَ كفرِهمْ وضلالِهمُ المستمرِّ وأذيَّتِهمْ لرسُلِ اللهِ والمؤمِنين.

﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ اللَّهُ الرِّجۡسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام:125]


وإذا أرادَ اللهُ أنْ يَهديَ امرَءاً ويُعرِّفَهُ طريقَ الحقّ، يَسَّرَ لهُ أسبابَ الهِدايةِ، وشرحَ صدرَهُ للإسلام، وفتحَ قلبَهُ للإيمان، وحبَّبَ إليهِ العملَ الصالح. ومنْ أرادَ لهُ الضَّلالةَ ضيَّقَ صدرَهُ لقَبولِ الحقِّ حتَّى لا يَجِدَ الخَيرُ مَنفَذاً إليه، ولا الإيمانُ نُوراً إليه، فيَكونُ كمنْ يُحاولُ الصُّعودَ إلى أعلَى، فهوَ يَجِدُ مَشقَّةً بالِغةً وتَعباً في إدراكِ ذلك، أو كأنَّما يَرتَفِعُ في السماءِ فينقُصُ عليهِ الأكسجين، فيَشعرُ بضِيقٍ وحَرَجٍ في تَنفُّسه. وهوَ ثابتٌ علميًّا، وذلك اعتباراً منْ ارتفاعِ (3) كم حتَّى (16) كم فوقَ سطحِ البحر، وما بعدَهُ لا يَقدِرُ على الحياةِ بدونِ أجهزةِ التنفُّس.

وكما جعلَ اللهُ الضِّيقَ في صُدورِ مَنْ أرادَ لهُ الضَّلالة، كذلكَ يجعلُ اللَّعنةَ والعَذابَ والخِذلانَ على منْ أبَى الإيمانَ وأصرَّ على الكُفر.

﴿وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسۡتَقِيمٗاۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنعام:126]


وهذا الذي جاءَ به الإسْلامُ أيُّها النبيّ، هوَ صِراطُ اللهِ المستَقيم، وطَريقهُ القَويم، وهِدايتُهُ التي رَضِيَها للنَّاس، فلا اعوِجاجَ فيها ولا انِحراف، قدْ بيَّنا الآياتِ ووَضَّحناها، لمنْ وعَى وتدبَّر، وعَقَلَ عنِ اللهِ ورَسولِه.

﴿۞لَهُمۡ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام:127]


ولهؤلاءِ المؤمِنينَ الواعينَ يومَ القيامَة، جنَّةُ اللهِ الخالدة، السَّالمةُ منَ المنغِّصاتِ والآفات، واللهُ حافظُهمْ وناصِرُهم، جزاءَ سلوكِهمُ الصِّراطَ المستَقيم، وامتثالِهمْ أمرَ ربِّهم.

﴿وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا يَٰمَعۡشَرَ الۡجِنِّ قَدِ اسۡتَكۡثَرۡتُم مِّنَ الۡإِنسِۖ وَقَالَ أَوۡلِيَآؤُهُم مِّنَ الۡإِنسِ رَبَّنَا اسۡتَمۡتَعَ بَعۡضُنَا بِبَعۡضٖ وَبَلَغۡنَآ أَجَلَنَا الَّذِيٓ أَجَّلۡتَ لَنَاۚ قَالَ النَّارُ مَثۡوَىٰكُمۡ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ اللَّهُۚ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ﴾ [الأنعام:128]


واذكرْ أيُّها النبيُّ يومَ يَحشُرُ اللهُ الإنسَ والجنَّ للعَرْضِ والحِساب، وقدْ كانَ بَعضُهمْ يُلقي الكلامَ الباطِلَ إلى بَعض، فقيلَ للجِنِّ: يا جَماعةَ الجنّ، قدْ أكثرتُمْ منْ إضلالِ الإنس، وأغرَيتُموهمْ بالشَّهوات، وجعلتُموهمْ مِنْ أتباعِكم، فصَاروا يتَّبِعونَ خُطواتِكم، فحُشِروا معَكم. وقالَ أتباعُهمْ ومحبُّوهمْ مِنَ الإنس: ربَّنا إنَّ الجِنَّ أمرتْنا فأغوَتْنا فأطَعناهم، وصِرنا صُحبةً مُتوالينَ في دارِ الدُّنيا، حتَّى حانَ الأجَل.

قالَ الله: مكانُكمُ النارُ أنتُمْ جميعاً، يا مَنْ تَواليتُمْ وتعاوَنتُمْ على الكُفرِ والضَّلالِ منَ الإنسِ والجنّ، ماكثينَ فيها أبداً، إلاّ ما شاءَ الله. واللهُ حَكيمٌ في تَقديرِ الجزاء، عليمٌ بأقوالِ النَّاسِ وأعمالِهم.

والاستِثناءُ في المشيئةِ هنا مختلَفٌ فيهِ عندَ المفسِّرين، يُنظَرُ شَيءٌ منَ التفصيلِ فيهِ الآيةَ (107) منْ سورةِ هود.

﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعۡضَ الظَّـٰلِمِينَ بَعۡضَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [الأنعام:129]


ومثْلُ الموالاةِ السَّابقةِ بينَ الجِنِّ والإنسِ في الضَّلال، كذلكَ يَكونونَ قُرَناءَ مُتماثلينَ في العَذابِ يومَ القيامة، جزاءَ كسبِهمُ الخبيثِ المتماثِل.

قالَ قَتادَة: المؤمِنُ وَليُّ المؤمِنِ أينَ كانَ وحيثُ كان، والكافِرُ وَليُّ الكافِرِ أينَما كانَ وحيثُما كان.

وقالَ الفَخرُ الرازيُّ في مسألَةٍ منْ تَفسيرِ الآيَة: الآيَةُ تَدلُّ على أنَّ الرعيَّةَ متَى كانوا ظالمينَ فاللهُ تعالَى يُسَلِّطُ عَليهمْ ظالِمينَ مثلَهم.

﴿يَٰمَعۡشَرَ الۡجِنِّ وَالۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ﴾ [الأنعام:130]


يا جَماعةَ الكفّارِ منَ الجِنِّ والإنس، ألم يُبْعَثْ إليكمْ في الحياةِ الدُّنيا رُسُلٌ منَ الإنسِ - والجِنُّ تَبَعٌ لهمْ في هذا البابِ - يُخبِرونَكمْ بآياتي البيِّنة، ويخوِّفونَكمْ - إذا نَكلتُمْ وخالفتُمْ - بأسِي وعَذابي يومَ القيامة؟

قالوا: اعتَرفنا، وشَهِدنا على أنفسِنا بتَبليغِ الرسُل، وإنذارِهمْ إيّانا، وعدمِ إجابتِنا لهم.

وقدْ غَرَّتهمُ الدُّنيا وألهَتْهُمْ بزينتِها وشَهواتِها، فاتَّبعوا الشَّهوات، وخالَفوا الحقَّ مِنْ كلامِ الرسُل، وشَهِدوا على أنفسِهمْ يومَ القيامةِ أنَّهمْ كانوا كافِرينَ في الدُّنيا بالآياتِ والنذُر.

﴿ذَٰلِكَ أَن لَّمۡ يَكُن رَّبُّكَ مُهۡلِكَ الۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا غَٰفِلُونَ﴾ [الأنعام:131]


هذا، ولِيُعلمَ أنَّ اللهَ لم يكنْ لِيُهلكَ القُرَى ويُعاقِبَ أهلَها على ظُلمِهم، منْ شِركٍ ونحوِه، وهمْ لا يَعرِفونَ ما هوَ الحقّ، بلْ يُنَبَّهونَ ويُبَلَّغونَ ويُنْذَرونَ بواسطةِ الرسُل، حتَّى لا يَبقى لهمْ عُذرٌ في ذلك.

﴿وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٞ مِّمَّا عَمِلُواْۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام:132]


ولكلٍّ مِنَ السُّعَداءِ والأشقياءِ مِنَ الجِنِّ والإنسِ مَراتِبُ ومَنازلُ عندَ الله، حَسَبَ توجُّهِهمْ وعملِهم، وسيُجازيهمْ عليها، إنْ خيراً أو شرًّا.

﴿وَرَبُّكَ الۡغَنِيُّ ذُو الرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ﴾ [الأنعام:133]


وإنَّ ربَّكَ - أيُّها الرسُولُ - غنيٌّ عنِ العالمينَ وطاعتِهم، بلْ همُ المحتاجونَ إليه. وهوَ الذي يرحمُكمْ بفَضلهِ وكَرمِه، ويُمهِلُكمْ إذا عَصَيتُم، وهوَ إذا شاءَ أهلكَكُمْ إذا خالفتُمْ أمرَه، كما فعلَ بأقوامٍ في القُرونِ الخالية، ويأتي بآخَرينَ مِنْ عبادهِ مكانَكمْ يُطيعونَه، كما أتَى بكمْ وأنتمْ مِنْ نَسْلِ قَومٍ آخَرين.

﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ﴾ [الأنعام:134]


إنَّ الذي تُوْعَدونَ بهِ منَ الحِسابِ والجزاءِ والدرجاتِ يومَ القيامةِ آتٍ قَريبٌ لا مَحالة، ولا تُعجِزونَ اللهَ في ذلك(39)، فهوَ قادرٌ على بعثِكمْ وإنْ كنتُمْ عِظاماً ورُفاتاً.

(39) أي: بفائتين عمّا هو نازلٌ بكم وواقعٌ عليكم. يقال: أعجزني فلان، أي: فاتني وغلَبني. (فتح القدير).

﴿قُلۡ يَٰقَوۡمِ اعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ الدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [الأنعام:135]


قُلْ لهؤلاءِ المشرِكين: اعمَلوا ما أنتُمْ عامِلونَ حَسَبَ طريقَتِكم الضالَّةِ بكلِّ ما تَقدِرونَ عليه، وأنا قائمٌ على دينِ اللهِ وثابِتٌ على هَدْيهِ بما أوحَى إليَّ، وسوفَ ترَونَ لمنْ تكونُ العاقِبَةُ الحسَنة، والنَّصرُ المُبين، في الحياةِ الدُّنيا. ولا يُفلِحُ الظالِمونَ المُعتَدونَ على الحقِّ وأهلِه(40)، وسَوفَ يَلقَونَ الجزاءَ المُعَدَّ لهم.

(40) لا يفلح: لا ينجح ولا يفوز. (الطبري).

﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الۡحَرۡثِ وَالۡأَنۡعَٰمِ نَصِيبٗا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَٰذَا لِشُرَكَآئِنَاۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمۡ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمۡۗ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾ [الأنعام:136]


وقدِ ابتدَعَ المشرِكونَ فُنوناً في توزيعِ أجزاءٍ منَ الزُّروعِ والثمارِ وأصنافٍ منَ الحيَوان، لله، وأخرَى للأصنام.

فإذا زادَ ما للهِ أعطَوهُ لآلهتِهمْ منَ الأصنام، وإذا زادَ ما للأصنامِ لم يُعطُوهُ لله، وقالوا: هوَ غنيٌّ عنه. لقدْ أساؤوا في حُكمِهم، فاللهُ الذي أنشأ لهمْ هذهِ الزُّروع، وخلقَ لهمْ هذهِ الحيَوانات، أخَذوا حقَّهُ فأعطَوهُ لآلهتِهم، ولم يُعطُوهُ مِنْ نَصيبِها! وهذا ظُلمٌ وجَهلٌ وضَلال.

﴿وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ الۡمُشۡرِكِينَ قَتۡلَ أَوۡلَٰدِهِمۡ شُرَكَآؤُهُمۡ لِيُرۡدُوهُمۡ وَلِيَلۡبِسُواْ عَلَيۡهِمۡ دِينَهُمۡۖ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام:137]


وكما سوَّلتِ الشَّياطينُ لهؤلاءِ المشرِكينَ هذهِ الأعمال، فقدْ زيَّنتْ لهمْ أيضاً قتلَ أولادِهمْ خَشيةَ الفَقر، ووأدَ بناتِهمْ خَشيةَ تعييرِهمْ بهنّ، لتُهلِكهمْ وتَخلِطَ عليهمْ دينَهم، في تصوُّراتٍ غامِضةٍ مُتلبِّسَةٍ بطُقوسٍ مُبهَمةٍ ومُنكَرَة. ولو أرادَ اللهُ لما فَعلتِ الشَّياطينُ ذلك، ولكنَّهُ ابتِلاءٌ منه، فدَعهمْ - أيُّها النبيُّ - وما يَكذِبونَ ويَكِيدون، فإنَّ اللهَ لهمْ بالمِرْصاد.

﴿وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ اسۡمَ اللَّهِ عَلَيۡهَا افۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام:138]


ومِنْ جَهْلِ المشرِكينَ في تَقريرِ الأحكامِ وأهوائهمْ في ذلكَ أنْ قالوا: هذهِ حيَواناتٌ وزرُوعٌ لا يَجوزُ لأحدٍ أنْ يَعتديَ عليها أو يأكُلَها، فعزَلوها وحَجَروها للأصنام، قالوا: إلاّ مَنْ شِئنا أنْ نُطعِمَهمْ منها! وقالوا أيضاً: هذهِ أنعامٌ لا تُركَب، وجَعلوا لها علاماتٍ بشَقِّ الأذُنِ أو غَيرِها، وسمَّوها البَحِيرةَ والسَّائبةَ والوَصِيلة والحام، وحيَواناتٌ لا يَذكُرونَ اسمَ اللهِ عليها إذا ذبَحوها أو رَكِبوا عليها، بلْ يَذكرونَ عليها أسماءَ الأصنام، وكَذَبوا فأسنَدوا هذه الأحكامَ إلى الله، وسوفَ يُعاقِبهمُ اللهُ على كذبِهمْ هذا سُوءَ العِقاب.

﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَاۖ وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ سَيَجۡزِيهِمۡ وَصۡفَهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ﴾ [الأنعام:139]


وقالَ المشرِكونَ في فُنونِ تَحريمِهم: الجَنينُ الذي في بُطونِ الحيَواناتِ السابقةِ حلالٌ للرِّجالِ وحَرامٌ على الإناث! فإذا ماتَ اشترَكَ في أكلهِ الرِّجالُ والنِّساء! هكذا! وسوفَ يُجازيهمُ اللهُ تعالَى على حُكمِهمْ هذا، الذي افترَوا بهِ على الله، وهوَ حَكيمٌ فيما يقولُ ويَشْرَعُ ويُقَدِّر، لا كما يَتصرَّفُ المشرِكونَ بأهوائهم، عليمٌ بأحوالِ عِبادهِ وما يناسِبُهم.

﴿قَدۡ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افۡتِرَآءً عَلَى اللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ﴾ [الأنعام:140]


لقدْ خابَ المشرِكونَ وخَسِروا أفلاذَ أكبادِهمْ بقَتلِهم، وذلكَ لضلالِهمْ وضيقِ عُقولِهمْ وجهلِهمْ بأنَّ اللهَ هوَ رازِقُهم ورازِقُ أولادِهم. كما ضيَّقوا على أنفسهِمْ عندما حرَّموا أشياءَ لم يُنْزلِ اللهُ بها سُلطاناً، كالبحائِر والسَّوائبِ وما إليهما، ومعَ ذلكَ نَسَبوها إليهِ كَذِباً وافتراء، لقدْ بَعُدوا عنْ طَريقِ الحقّ، وما كانوا أهلَ هِدايةٍ واستِقامة.

﴿۞وَهُوَ الَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَالنَّخۡلَ وَالزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَالزَّيۡتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ الۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأنعام:141]


هوَ اللهُ الخالقُ واهِبُ النِّعَم، الذي أخرجَ للناسِ الثِّمارَ والزُّروع، منها ما يَهتمُّ بها الإنسانُ فيَجعلُها على شَكلِ عَرائشَ وبَساتين، ومنها ما يكونُ في حياةٍ طبيعيَّةٍ بريَّة. أو أنَّ منها ما يكونُ مُنْبَسِطاً على وجهِ الأرض، ومنها ما يقومُ على ساقٍ ونَسَق.

وهوَ الذي أنشأ النَّخيلَ الذي يُنتِجُ الرُّطَب والتمرَ الطيِّبَ المفيد، والزُّروعَ بأنواعِها وأطعمتِها المختَلِفة، وكذلكَ الزيتونَ ذا الطَّعمِ المميَّزِ النافِع، والرمّانَ اللذيذ، بأصنافهِ المختَلِفة، المتشابِهَةِ وغيرِ المتشابِهَة. فكُلوا مِنْ هذهِ الثِّمارِ الطيِّبة، ولا تَنسَوا الفَقَراءَ والمساكينَ مِنْ حقِّها، فآتُوهمْ منهُ عندَما تَحصُدونَها، زكاةً أو صدَقة، ولا تُسرِفوا في الأكلِ ولا في الإعطاء، فاللهُ لا يُحِبُّ مَنْ تجاوزَ الحدَّ إلى ما هوَ مُضِرّ، بنفسهِ أو بالآخَرِين.