وهذهِ هي الأنعامُ التي ادَّعَى المشركونَ استحلالَ وتحريمَ أجزاءٍ منها، وتصنيفَها كما أفرزتْها عقولُهمُ الضَّعيفةُ وأهواؤهمُ الزائغةُ في الجاهليَّة، فهي ثمانيةُ أزواج، كلٌّ منها ذكرٌ وأنثَى، فمنَ الغَنَمِ - ذي الصوفِ - اثنان، ومنَ المَعْزِ اثنان، فأيَّهما حرَّمَ الله: الذكرَ منهما أمْ أُنثَيَيْهما؟ أمِ الجنينَ الذي في رَحِمَي الأُنثَيَيْن؟ فأخبِروني بيَقين: كيفَ حرَّمَ اللهُ ما زَعمتُمْ منَ البَحِيرةِ والسائبةِ وما إليهما، وهوَ لم يُحَرِّمْهُ، إذا كنتُمْ صادقينَ في دعوَى التَّحريم؟
نَ مُشاهِدينَ عندما وصّاكمُ اللهُ بهذا الذي ابتَدعتُموهُ وزعمتُمْ تَحريمَه؟ فما أعظمَ جُرْمَكم! وليسَ هناكَ أظلمُ ممَّنْ كذَبَ على اللهِ وقالَ إنَّ هذا التحريمَ شَريعتُه، ليُبعِدَ الناسَ عنْ طَريقِ الحقِّ والهُدَى، مِنْ غَيرِ علمٍ منهُ ولا وَحي، واللهُ لا يَهدي القومَ المتَجاوزينَ الحقَّ، المفتَرينَ على الله.
قُلْ للمُشرِكينَ الذينَ حرَّموا أشياءَ مِنْ عندِهمْ ونَسبُوهُ إلى اللهِ افتراءً عليه: لا أجِدُ فيما أوحَى اللهُ إليَّ ممّا حرَّمَهُ على آكلٍ يأكلُه، إلاّ إذا كانَ مَيتةً - وتفصيلُها في الآيةِ الثالثةِ منْ سُورةِ المائدة - أو دَماً مُهْرَاقاً، أي مَصبوباً سَائلاً، فيُعفَى عمّا اختلطَ بعَظمٍ ولَحم، أو لحمَ خِنزير، فإنَّهُ قَذِرٌ خَبيث، أو ما ذُبِحَ خُروجاً عنِ الطاعةِ، بأنْ ذُبِحَ على اسمِ الأصنام. فمنْ دَعَتْهُ الضَّرورةُ إلى تناولِ شَيءٍ منْ تلكَ المحظورات، غيرَ مُعْتَدٍ في ذلك، بأنْ لا يأخذَهُ منْ مُضْطرٍّ آخرَ مثلِه، ولا مُتَجاوِزٍ قَدْرَ الضرورةِ، بأنْ لا يأكلَ زيادةً على حاجتهِ إليها، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لهُ ما أكل، ويرحمُه.
ويُلحَقُ بما حُرِّمَ ما ذُكِرَ في السنَّة: الحُمُرُ الأهليَّة، وكلُّ ذي نابٍ منَ السِّباع، ومِخلَبٍ منَ الطَّير، فهوَ تَخصيصُ عامّ، أو ابتِداءُ حُكم.
قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ الله: فعلَى هذا يَكونُ ما وردَ من التَّحريماتِ بعدَ هذا في سورةِ المائدةِ وفي الأحاديثِ الواردة: رافعًا لمَفهومِ هذه الآية. ومنَ النَّاسِ منْ يُسَمِّي ذلكَ نَسخًا، والأكثرونَ منَ المتأخِّرينَ لا يُسمُّونَهُ نَسخًا؛ لأنَّهُ من بابِ رَفعِ مُباحِ الأصل.
وحَرَّمنا على اليهودِ كلَّ حيَوانٍ ذي أظفار، وهو ما لم يَكنْ مَشقوقَ الأصابعِ منَ البَهائمِ والطَّير، مثلُ البَعيرِ والنَّعامِ والبطِّ والأوَزّ، وحَرَّمنا عليهمْ شُحومَ البقَرِ والغنَم، إلاّ شحمَ الظَّهر، أو ما التفَّ بالأمعاء، أو ما اختلطَ منهُ بالطَّعام؛ وذلكَ عقوبةً لهمْ على مخالفتِهمْ أوامرَنا، كأكلِ الرِّبا، وأكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطل، وقتلِهمُ الأنبياء... ونحنُ صادِقونَ في الإخبارِ بما حرَّمناهُ عليهم، وبظلمِهمْ وتعدِّيهم، وعادِلونَ بما جازَيناهمْ به.
وسيقولُ لكَ المشرِكون: لو أرادَ اللهُ لمـَا أشرَكنا نحنُ ولا آباؤنا، ولا حرَّمنا شَيئاً ممّا نُحَرِّمهُ الآن، ولكنَّهُ شاءَ ذلك، وإذا شاءَ أمراً فهوَ يَعني مَشروعِيَّتَهُ ورِضاءَهُ عنه، وعلى هذا فإنَّ ما نقومُ بهِ صَحيحٌ ومَشروع!
وهذا كَذِبٌ ولَجاجة، وقدِ افترَى مثلَ هذا الكذبِ أمَمٌ كافِرةٌ خَلتْ مِنْ قبلِهم، حتَّى جاءهمْ عذابنُا وذاقُوا عُقوبتَنا.
قلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ عندكمْ كتابٌ أو حجَّةٌ ظاهِرةٌ أو أمرٌ مَعلومٌ منْ عندِ اللهِ بصدقِ ما أنتُمْ عليهِ منَ الشِّركِ وتَحريمِ ما حرَّمتُموه، حتَّى تُبرِزوهُ لنا لنطمَئنَّ إلى ذلك؟ إنَّ الذي تتَّبعونَهُ ما هوَ إلاّ وَهمٌ واعتِقادٌ فاسِد، وما أنتُمْ بهذا إلاّ تَكذِبونَ على الله، فإنَّ اللهَ لا يرضَى لعبادهِ الكفرَ والشِّركَ والفَواحِش، وكيفَ تُحِيلونَ شركَكمْ إليهِ وأنتُمْ لم تَشهَدوا مَشيئتَه؟ ولماذا أرسَلَ إليكمْ عذابَهُ؟ فلو كانتْ شُبْهتُكمْ صَحيحةً لما أذاقَكمُ العَذاب.
وقلْ أيُّها النبيّ: إنَّ الإسلامَ هوَ صِراطي المستَقيمُ الذي لا اعوِجاجَ فيه، فهوَ ما أسلُكهُ وأدعو إليه، فاتَّبِعوا تعاليمَهُ واعمَلوا به، ولا تتَّبعوا الضَّلالات، والبِدَعَ والشُّبهات، فتُفرِّقَكمْ حسَبَ تَفرُّقها عنْ دينِ الله. هذا ما أمرَكمُ اللهُ به، لتَبتَعِدوا عنِ المِراءِ والخصُومات، والاختلافِ والفُرقة، التي أهلكتْ مَنْ قبلَكم.
وهذا القُرآنُ أنزَلناهُ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، هوَ كتابٌ نافِعٌ جَليلٌ عَظيمُ الشَّأن، فيهِ مِنَ الشَّرائعِ والأحكامِ ما يَضمنُ لكمُ الأمنَ والسعادةَ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرة، فاعمَلوا به، واتَّقوا نواهيه؛ لتُرحَموا وتَفوزوا.
إنَّ اليهودَ والنصارَى الذينَ فرَّقوا دينَهمْ وبعَّضوه؛ باختلافِهمْ في دينِهم، فكانوا فِرَقاً، كلُّ فِرقةٍ تتَشيَّعُ في رأيها إلى إمامٍ لها، لستَ مَسؤولاً عنْ تَفرُّقِهمْ أو عِقابِهم، وأنتَ بريءٌ منهم، إنَّما يَتولَّى أمرَهمْ ربُّهم بحِكمتِه، ويُخبِرُهم يَومَ القِيامةِ بما كانوا عليهِ في الدُّنيا، فيَفصِلُ بينهم، ويحاسِبُهم، ويُجازيهمْ على ذلك.
وقلْ لهؤلاءِ المشرِكين: هلْ أطلبُ لكمْ في دَعوتي إليكمْ ربًّا سِوَى الله، وهوَ مالِكُ كلِّ شيءٍ ومُدَبِّرُهُ وحافِظُه، فلا أتوكلُّ إلاّ عليه، ولا أدْعو سِواه، ولا أُشرِكُ بعِبادتي لهُ أحَداً.
ولا تَحمِلُ نفسٌ حَمْلَ أخرَى، لا تَقْدِرُ على أنْ تُلقي مِنْ آثامِها على آخَرِين، ولا تَقْدِرُ على أنْ تخفِّفَ عنْ آخَرينَ بجرِّ آثامِهمْ إليها، بلْ كلُّ نفسٍ مَقرونةٌ بعملِها، مُحاسَبةٌ عليه.
ثمَّ تُبعَثونَ إلى اللهِ يومَ الحِساب، فيُخبِرُكمْ بما عَمِلتُمْ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، وما كنتُمْ تَختَلفونَ فيهِ في الحياةِ الدُّنيا مِنْ حقٍّ وباطِل، وما تَرتَّبَ على ذلكَ مِنْ مواقفِكمْ مِنْ رُشدٍ وغَيّ، وهُدًى وضَلال.
هوَ القُرآنُ الذي أنزلَهُ اللهُ عليكَ مِنْ عندِه، فلا يَكنْ عندكَ شَكٌّ في ذلك، أو لا يَكُنْ في صدرِكَ ضِيقٌ مِنْ تبليغهِ، ولا حرجٌ في الإنذارِ بهِ مَخافةَ أنْ يُكذِّبوك، ولِيَكونَ تذكيراً للمؤمِنين، يَنتفِعونَ به، ويَهتدونَ بهديه.