﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ [الأعراف :7]
ونُخبِرُ كلَّ الناسِ عنْ عِلم، ونبيِّنُ لهمْ ما قالوهُ وما عَمِلوه، منْ خَيرٍ وشَرّ، قليلاً كانَ أو كثيراً، فاللهُ محيطٌ بأحوالِهم، لا يَغيبُ شَيءٌ منها عنْ علمِه.
﴿وَالۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ الۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الأعراف :8]
ووزنُ الأعمَال، والتَّمييزُ بين الصالحِ منها والفاسدِ يومَ الحساب، حقٌّ ثابتٌ عَدْل، فمنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ مَوازينهِ بالحسَنات، فقدْ فَازوا بالنَّجاةِ والثواب.
﴿وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ﴾ [الأعراف :9]
ومنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ موازينهِ بالسيِّئات، فهمُ الذينَ خَسِروا أنفسَهم، نادمينَ مُتحَسِّرينَ على ما فاتَهمْ منَ الثَّوابِ والنَّعيم، وعلى ما لَحِقِهمْ منَ العَذابِ الأليم، وهذا لأنَّهمْ كانوا يَجحَدونَ بحُجَجِنا وأَدلَّتِنا، ويُكذِّبونَ رسُلَنا.
﴿وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾ [الأعراف :10]
وقدْ جعلنا لكمُ الأرضَ مكاناً وقراراً، وجعلنا لكمْ فيها ما بهِ تَعيشونَ، مِنْ مكاسِبَ ومَطاعِمَ ومَشارِبَ وتِجارات، وكلُّ ما في الأرضِ هو مِنْ نِعمةِ اللهِ عليكم، ومعَ ذلكَ فأنتُمْ قَليلو الشُّكرِ له.
﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ اسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الأعراف :11]
وقدْ خلَقنا أصلَكمْ آدمَ مِنْ تُراب، ثمَّ صوَّرناهُ بَشَراً، ثمَّ نفَخنا فيهِ مِنْ روحِنا، ثمَّ قُلنا للملائكة: اسجُدوا لآدمَ سَجدةَ تَكريم، وهيَ تَعظيمٌ لشأنِ اللهِ تعالَى وجلالِه، فسجَدوا كلُّهم وأطاعوا، إلاّ إبليسَ عصَى وأبَى أنْ يَسجُد.
﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ﴾ [الأعراف :12]
قالَ اللهُ تعالى لإبليسَ ما تَفسيره: ما الذي منعكَ أنْ تَسجُدَ لآدمَ كما أمرتُك؟
قال: أنا أفضلُ وأحسَنُ مِنْ آدم، فقدْ خلقتَني مِنْ نار، وخلقتَهُ مِنْ طين، والنارُ أشرفُ مِنَ الطِّين، فلماذا أسجدُ له؟.
وكانَ قياسهُ فاسِداً، وعِصيانهُ ظاهراً، فالفَضلُ لمنْ جعلَ اللهُ لهُ الفَضل، والشَّريفُ مَنْ شرَّفَهُ الله، وقدْ شرَّفَ اللهُ آدمَ فنفخَ فيهِ مِنْ روحه، وأمرَ ملائكتَهُ أنْ يَسجُدوا لهُ تَشرِيفاً له، والطِّينُ أفضلُ منَ النَّار، ففيهِ الرَّزانة، والحِلمُ والصَّبر، وهوَ محلُّ النَّباتِ والنموّ، والزيادةِ والإصلاح، والنارُ مِنْ شأنِها الإحراقُ والطَّيش، والجُرأةُ والسُّرعة؛ ولهذا كانَ الشَّيطانُ طائشاً خائناً، شَقيّاً عاصِياً لخالقِه، ولذلكَ استَحقَّ ما يأتي.
﴿قَالَ فَاهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ الصَّـٰغِرِينَ﴾ [الأعراف :13]
قالَ اللهُ تعالَى لإبليسَ اللَّعينِ ما مَعناه: اخرُجْ منَ الجنَّة، فلا يَصِحُّ لكَ أنْ تبقَى فيها وقدِ استَكبرتَ عنْ أمري بالسُّجودِ لآدم، فاخرُجْ منها ذَليلاً حَقيراً مُهاناً.
﴿قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾ [الأعراف :14]
قالَ إبليسُ لرَبِّه: أمهِلني ولا تُمِتني في الحياةِ الدُّنيا حتَّى يومِ البَعث.
﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ الۡمُنظَرِينَ﴾ [الأعراف :15]
قالَ اللهُ تعالى ما مَعناه: قدْ أمهلتُك وأخَّرتُكَ إلى ذلكَ اليوم، لحكمةٍ أمتَحِنُ بكَ عبادي.
﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ الۡمُسۡتَقِيمَ﴾ [الأعراف :16]
قالَ إبليسُ لربِّه في عِنادٍ وتبجُّح: فبما أضللتَني وأهلكتَني لأُضِلَّنَّ ولأَهلِكَنَّ أولادَ آدمَ هذا الذي فضَّلتَهُ عليّ، ولأَجْلِسَنَّ في طريقِكَ المستَقيمِ التي رسمتَها لهمْ لتوصِلَهمْ بها إلى الجنَّة؛ ترصُّداً للإيقاعِ بهم.
﴿ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ﴾ [الأعراف :17]
ثمَّ لأُضِلنَّهم، فأشَكَّكَنَّهُمْ في الإيمانِ بيومِ الحِساب، ولأُرَغِّبنَّهمْ في دُنياهمْ بما فيها منْ شَهواتٍ ومزيِّنات، ولأشبِّهنَّ عليهمْ أمرَ دينِهمْ حتَّى يَكفُروا ويَفسُقوا، ولأَشَهِّينَّهمْ في المعاصي والمآثمِ ليقتَرِفوها، حتَّى لا تَجدَ أكثرَهمْ مؤمِنينَ بك، مُطيعينَ لك(42) .
(42) كما ضُرِبَ المثلُ لهيئةِ الحرصِ على الإغواءِ بالقعودِ على الطريق، كذلك مُثِّلتْ هيئةُ التوسلِ إلى الإغواءِ بكلِّ وسيلةٍ بهيئةِ الباحثِ الحريصِ على أخذِ العدوّ، إذ يأتيهِ من كلِّ جهةٍ حتّى يصادفَ الجهةَ التي يتمكَّنُ فيها من أخذه، فهو يأتيهِ من بين يديه، ومِن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، حتّى تخورَ قوَّةُ مدافعته، فالكلامُ تمثيل، وليس للشيطانِ مسلكٌ للإنسانِ إلاّ من نفسهِ وعقله، بإلقاءِ الوسوسةِ في نفسه، وليستِ الجهاتُ الأربعُ المذكورةُ في الآيةِ بحقيقه، ولكنّها مجازٌ تمثيليٌّ بما هو متعارفٌ في محاولةِ الناسِ ومخاتلتهم.. (التحرير والتنوير).
﴿قَالَ اخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الأعراف :18]
قالَ اللهُ تعالَى لإبليسَ اللَّعينِ تَفسيرًا: اخرُجْ منَ الجنَّةِ مَذموماً مُهاناً، مُبْعَداً مَطروداً، ومَنِ اتَّبعكَ مِنْ بني آدمَ يكونُ مصيرُهمْ مصيرَك، فلأملأنَّ جهنّمَ منكَ ومِنْ ذرِّيتِك، ومنْ كفّارِ ذرِّيةِ آدمَ أجمعين.
﴿وَيَـٰٓـَٔادَمُ اسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ الۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الأعراف :19]
يا آدمُ اسْكُنْ أنتَ وزوجتُكَ حوّاءُ الجنَّة، وكُلا مِنْ جميعِ ثمارِها الطيِّبة، ولكنْ لا تَطْعَما هذهِ الشَّجرة، وحدَّدَها لهما؛ فتَصيرا بذلكَ منَ الذينَ ظَلموا أنفسَهم، واستحقُّوا العَذاب.
﴿فَوَسۡوَسَ لَهُمَا الشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ الۡخَٰلِدِينَ﴾ [الأعراف :20]
فحسدَهما الشَّيطان، وألقَى في قلبَيهِما بوسوستهِ ومكرهِ عِصيانَ أمرِ ربِّهما، ليترتَّبَ على ذلكَ ظُهورُ ما غُطِّيَ مِنْ عوراتِهما، وقالَ لهما في خُبثٍ وحِقدٍ وكذِب: إنَّ اللهَ منعكما مِنْ أكلِ هذهِ الشجرةِ حتَّى لا تكونا مِنَ الملائكة، أو لئلاّ تَخلُدا في الجنَّة.
﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـٰصِحِينَ﴾ [الأعراف :21]
وحلفَ الشَّيطانُ لآدمَ وحوّاءَ باللهِ أنَّهُ صادقٌ في قَولهِ لهما، وناصِحٌ لهما بذلك، وأنَّهُ كانَ قبلَهما في الجنَّة، ويَعرِفُ مثلَ هذهِ الأمور، حتَّى خَدعَهما!
﴿فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ الۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ﴾ [الأعراف :22]
فحطَّهما الشَّيطانُ مِنْ دَرجةِ الطَّاعةِ إلى حالِ المعصية، بما غرَّهما مِنَ القسَمِ وطَمَعِ الخُلودِ في الجنَّة. فلمّا أكلا مِنَ الشَّجرةِ أكلاً يسيراً ظهرتْ لهما عوراتُهما، فجعلا يَرْقَعانِ ويُلْزِقانِ عليها مِنْ ورَقِ شَجَرِ الجنَّة، ونادَاهما ربُّهما لوماً وتَوبيخاً: ألمْ أمنعْكُما مِنَ الأكلِ مِنْ تلكَ الشَّجرة، وأقلْ لكما إنَّ الشَّيطانَ ظاهرُ العداوةِ لكما فلا تُطيعاه؟
﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [الأعراف :23]
قالَ آدم وحوّاء: ربَّنا إنَّنا أضرَرْنا بأنفسِنا عندما عَصينا أمرَك، وإذا لم تَغفِرْ لنا هذا الذَّنْب، وتَرحَمْنا بالرِّضَى عنّا، فسنَكونُ منَ الهالِكين.
﴿قَالَ اهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ﴾ [الأعراف :24]
قالَ اللهُ لهما ولإبليس، مَا مَعنَاه: انزِلوا مِنَ الجنَّةِ إلى الأرضِ ليَكونَ بَعضُكمْ عدوًّا لبعض، ولكمْ في الأرضِ استقرارٌ لمدَّةٍ محدودة، في آجالٍ مَعلومَة.
﴿قَالَ فِيهَا تَحۡيَوۡنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنۡهَا تُخۡرَجُونَ﴾ [الأعراف :25]
قالَ اللهُ تعالى: في الأرضِ تَعيشون، وفيها تَموتون، ومنها تُنشَرونَ للبَعثِ والحِساب.
﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ التَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف :26]
يا بَني آدم، لقدْ خلَقنا لكمْ مِنَ الأنعامِ والزَّرعِ ما تجعَلونَ منهُ لباساً يُواري عَوراتِكمْ ويَسترُ أجسادَكم، وريشاً منَ الطيرِ تَتزيَّنونَ به في شُؤونٍ لكم، واعلَموا أنَّ أفضلَ ما تلبَّستُمْ بهِ هوَ التَّقوَى، منَ العملِ الصَّالحِ والبُعدِ عنِ النواهي، وما خلقَهُ اللهُ لكمْ منَ اللِّباسِ هوَ منْ حُجَجِ اللهِ وأدلَّتهِ الدالَّةِ على فَضلهِ ورَحمتهِ بكم، لتَتذكَّروا بذلكَ نعمتَهُ عليكم، وتتَّعِظوا، وتَبتعِدوا عنِ المحرَّمات.
﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ الشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ الۡجَنَّةِ يَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوۡءَٰتِهِمَآۚ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنۡ حَيۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا الشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف :27]
يا بَني آدم، لا يُوْقِعنَّكمُ الشَّيطانُ في الفِتنةِ والمحنَة، بأنْ يوَسوِسَ لكمْ ويحسِّنَ في قُلوبِكمُ الباطِلَ فتُطيعوه، كما فتنَ أبويكمْ آدمَ وحوّاءَ بذلكَ فأخرجَهما مِنْ دارِ النَّعيمِ إلى دارِ التعَبِ والعَناء، وتسبَّبَ في نَزعِ لباسِهما عنهما ليُظهرَ لهما عوراتِهما، وما ذلكَ إلاّ لعَداوةٍ منهُ لجنسِكم، فكونوا على حَذرٍ شَديدٍ منه، فهوَ عدوٌّ خَبيثٌ يأتيكمْ مِنْ حيثُ لا ترونَه، وهوَ وجَماعتهُ وجنودُهُ مِنَ الجِنِّ يَرونَكمْ وأنتمْ لا تَرونَهم، وقدْ جعَلنا الشَّياطينَ قُرناءَ متمكِّنينَ منْ إضلالِ الكافِرين، فاحذَروهم جميعاً.
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِالۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف :28]
وإذا فعلَ المشرِكونَ أفعالاً مُنكَرة قَبيحة، كعِبادةِ الأصنام، والطَّوافِ بالبَيتِ عُرياً، قالوا: هكذا وَجدنا آباءَنا يَفعلون، واللهُ أمرَنا بها، فقلَّدوا عنْ جهل، وافترَوا على الله. قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ ما تَفعلونَهُ فاحِشَةٌ مُنكَرة، واللهُ لا يأمرُ بعَملِ الفَواحِش(43) ، بلْ هوَ سُبحانَهُ يأمرُ بمحاسنِ الأعمال، ويَحُثُّ على مَكارمِ الأخلاق، أتُسنِدونَ إلى اللهِ قولَ ما لم يَقُلْهُ، وما لا تَعلمونَ صِحَّةَ ذلكَ عنه؟!
(43) غلبتِ الفاحشةُ في الأفعالِ الشديدةِ القبح، وهي التي تنفرُ منها الفطرةُ السليمة، أو ينشأُ عنها ضرٌّ وفساد، بحيثُ يأباها أهلُ العقولِ الراجحة، وينكرها أولو الأحلام، ويستحيي فاعلُها من الناس، ويُتَسترُ من فعلِها، مثلُ البغاءِ والزّنى والوأدِ والسّرقة، ثمَّ تنهَى عنها الشرائعُ الحقّة... (التحرير والتنوير).
﴿قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِالۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَادۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ الدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف :29]
قُلْ للمُشرِكينَ: إنَّ ربِّي يأمرُ بالعَدلِ والاستِقامة.
وتوجَّهوا إلى اللهِ في عِبادتِكمْ عندَ كلِّ صَلاة، وكُونوا مخلِصينَ له، كما أنشأكمْ ربُّكمْ ابتِداءً ولم تَكونوا شَيئاً، فستَعودونَ إليهِ يومَ البَعثِ أحياءً بعدَ أنْ مِتُّمْ وصِرتُمْ عِظاماً، ليُحاسبَكمْ على أعمالِكم، فامتثِلوا أمرَه، وأخلِصوا لهُ العِبادة، حتَّى تَفوزوا.
﴿فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيۡهِمُ الضَّلَٰلَةُۚ إِنَّهُمُ اتَّخَذُواْ الشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف :30]
وبيانهُ أنَّ هناكَ قِسماً هَداهمُ اللهُ لِما حقَّ لهمُ الهُدَى، بالاستِجابةِ لنداءِ اللهِ ورسولِه، وقِسماً أضلَّهُ الله لِما حقَّ عليهمُ الضَّلالة، فقدْ أعرَضوا عنِ الحقّ، واتَّجهوا نحوَ الشَّياطينِ وأهلِ الضَّلال، يَطلبونَ منهمُ النُّصرةَ والتأييدَ منْ دونِ الله، وهمْ يظنُّونَ أنَّهمْ على حَقّ!
فسيَعودونَ كما كانوا: فريقُ المؤمنينَ معَ آدمَ وزوجِه، وفريقُ العُصاةِ معَ إبليسَ وقَبِيلِه.
﴿۞يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَاشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ الۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأعراف :31]
يا بَني آدمَ، البَسوا أحسنَ ثيابِكمْ عندَ كلِّ طَوافٍ أو صَلاة، ولا تَكونوا كقَومٍ منَ الجاهلييِّنَ الذينَ يَطوفونَ بالبَيتِ عُراة. وفي الحديثِ الصَّحيحِ الذي رَواهُ الترمِذيُّ وغَيرُه: "البَسُوا مِنْ ثيابِكمُ البَياض، فإنَّها مِنْ خَيرِ ثيابِكم...".
وذُكِرَ أنَّ بعضَهمْ كانَ لا يأكلُ دَسَماً أيّامَ الحجّ، ويَكتَفونَ باليَسيرِ منَ الطَّعام، فقالَ تعالَى ما مَعناه: وكُلوا واشرَبوا ممّا طابَ لكم، ولا تَتجاوَزوا ذلكَ بتَحريمِ الحلال، أو بالتعدِّي إلى الحرام، أو بالإفراطِ والشَّرَهِ فيه، فاللهُ لا يُحِبُّ المتعَدِّينَ فيما أحَلَّ أو حرَّم.
﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف :32]
قلْ أيُّها الرسُولُ للمُشرِكين، وقدْ حرَّموا ما أحلَّ الله: مَنْ حرَّمَ الزِّينةَ التي خلقَها اللهُ لعِبادهِ منَ اللِّباسِ وكلِّ ما يُتَجمَّلُ به، ومَنْ حرَّمَ ما طابَ واستلذَّ منَ المآكلِ والمشارِب؟ قلْ هيَ مخلوقةٌ للمؤمِنينَ لكرامَتِهمْ على الله، ويشارِكُهمْ فيها الكفّار، وهيَ خالصةٌ للمؤمِنينَ يومَ القيامَة، لا يشاركهمْ فيها مَنْ كفرَ وأشرَك.
وهكذا نبيِّنُ هذهِ الأحكامَ لمنْ يَعقِلُ فيَعلَم، ويتدبَّرُ فيَفقَه، ويتَّعِظُ فيَعمَل.
﴿قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَالۡإِثۡمَ وَالۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ الۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف :33]
قلْ أيُّها النبيّ: إنَّما حرَّمَ اللهُ ما تَفاحشَ عملهُ واستُنكِر، ممّا ظهرَ منهُ أو خَفِي، وسائرَ الذُّنوبِ والمعاصي التي توجِبُ الإثمَ، وحرَّمَ التعدِّيَ على الناسِ بغَيرِ وجهِ حقّ، وأنْ تَجعلوا للهِ شَريكاً في عبادتهِ ممّا لم يُنزِلْ بهِ حُجَّةً وبُرهاناً، وأنْ تَكذِبوا على الله، فتحرِّموا أشياءَ وتُسنِدوها إليهِ وهي حَلال، أو العكس، ولا علمَ لكمْ بذلكَ أصلاً.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [الأعراف :34]
ولكلِّ جيلٍ منَ الأجيالِ أمَدٌ مَحدود، فإذا جاءَ الوَقتُ المقدَّرُ لفَنائهمْ فإنَّهمْ لا يتأخَّرونَ عنْ أجلِهمْ ولا يَتقدَّمون؛ فلْتَتنبَّهْ إلى ذلكَ الأمَمُ الغافِلة، ولْتَستَيقظِ الأجيالُ النائمة.
﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ إِمَّا يَأۡتِيَنَّكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصۡلَحَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [الأعراف :35]
أيُّها النَّاس، إذا أرسلتُ إليكمْ رسُلاً منْ جنسِكمْ يُخبِرونَكمْ بأحكامي ويبيِّنونَ لكمْ أوامري، فمنْ آمنَ برِسالتِهمْ ولم يُعانِدْهم، وأصلحَ عملَهُ بفِعلِ الطَّاعات، فلا خوفٌ عليهمْ إذا خافَ الناسُ يومَ الحِساب، ولا همْ يَحزَنونَ على ما فاتَهمْ منَ الدُّنيا، فقدْ عوَّضهمُ اللهُ خيراً منها.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَاسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [الأعراف :36]
والذينَ جحَدوا بما جاءَ بهِ رسُلُنا، واستَكبَروا عنِ الإيمانِ به؛ تعالياً واستِهزاءً وعِناداً، فسيَكونونَ مُلازِمينَ النار، ماكثينَ فيها أبداً، جزاءَ تَكذيبِهمْ واستِكبارِهم.
﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يَنَالُهُمۡ نَصِيبُهُم مِّنَ الۡكِتَٰبِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوۡنَهُمۡ قَالُوٓاْ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡ تَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ﴾ [الأعراف :37]
فليسَ هناكَ أظلمُ ممَّن تعمَّدَ الكذِبَ على اللهِ ونسَبَ إليهِ ما لم يقُلْه، أو كذَّبَ بما قالَهُ اللهُ في كتُبهِ المُنزَلة، أولئكَ الذينَ يُصيبُهمْ حظُّهمْ ممّا كُتِبَ لهمْ في اللَّوحِ المحفوظِ منَ الأرزاقِ والآجال، معَ ظُلمِهمْ وافتِرائهمْ على الله، حتَّى إذا حانَ أجلُهمْ وجاءَتْهُمُ الملائكةُ لقَبضِ أرواحِهم، قالتْ لهم: أينَ هيَ الآلهةُ التي كنتُمْ تَعبُدونَها وتدَّعونَ نُصرتَها؟ ادْعُوهمْ ليُنقِذوكمْ مِنْ عَذابِ الله!
قالوا: لقدْ ذَهبوا عنّا وغابوا ولا نَدري أينَ هم، ولم نَعُدْ نَرجُو نَفعَهم. واعترَفوا على أنفسِهمْ وأقرُّوا بأنَّهمْ كانوا على ضَلال، وأنَّهمْ عبَدوا مَنْ لا يَستَحِقُّونَ العبادة، وأنَّهمْ لم يَكونوا آلهةً أصلاً.