إنَّ الذينَ كفَروا بيَومِ البَعث، وقالوا لا جَزاءَ على الأعمَال، واكتَفَوا بما همْ فيهِ وعَليهِ منَ الحياةِ الدُّنيا ومَظاهِرِها، ورَكَنوا إليها دونَ أنْ يُفَكِّروا بثَوابٍ أو عِقاب، وغَفَلوا عنْ آياتِ اللهِ المبثوثةِ في الكون، ولم يَتفكَّروا فيها كما يَنبغي، ولم يَعرِفوا الحِكمةَ منْ خَلقِهمْ ومِنْ خَلْقِ الدنيا كلِّها،
أولئكَ مَقَرُّهمُ النارُ في يَومِ القِيامة، جَزاءَ ما كانوا يَعمَلونَ مِنْ آثام، ولا يَعتَبِرونَ منْ آيات، ولا يَستَجيبونَ لنِداءِ الحَق، ولا يَقومونَ بوَظيفةِ المَخلوق.
ولو يُعَجِّلُ اللهُ سُبحانَهُ في الاستِجابةِ لدَعوةِ الناسِ بالشرِّ على أنفُسِهمْ كما يَستَعجِلونَ طلبَ الخَيرِ ويَنالونَه، لعَجَّلَ بأجَلِهمْ وقضَى عَليهم، كما كانَ الكفّارُ يَطلبونَ إمطارَهمْ بالحِجارةِ منَ السَّماء، أو يَنتَظِرونَ العَذاب...
كما ذُكِرَ أنَّ الآيةَ في دُعاءِ النَّاسِ على أنفسِهمْ وأولادِهمْ وأموالِهمْ في حالِ ضَجَرِهم، وأنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لهم، ولو استجابَ لهمْ لأهلَكَهم.
فنَترُكُ الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ في ضَلالِهمْ وأعمالِهمُ السيِّئةِ يَترَدَّدون، وفي عَمايَتِهمْ يَتخَبَّطون، إمهالاً لهمْ واستِدراجًا، حتَّى يأتيَهمُ الأجَلُ المَعلوم.
وإذا أصَابَ الإنسَانَ مُصيبَة، كمَرَض، أو خَوف، أو جُوع، جَزِعَ وقَلِق، ودَعانا في ذِلَّةٍ وخُشوع، مُضطَجِعًا، أو قاعِدًا، أو قائمًا، في كلِّ أحوالِه، لنَكشِفَ ما به. فلمّا أزَلنا ما أصابَهُ مِنْ ضُرّ، فشَفَيناه، أو أغنَيناه، أعرَض، واستمرَّ على ما كانَ عليه قبلَ أنْ يُصاب، وكأنَّهُ ليسَ ذلكَ الشَّخصَ الذي كانَ يَلهَجُ بالدُّعاءِ ويُلِحُّ في طلَبِ الإجابة.
وزُيِّنَ مثلُ هذ العَملِ المُشينِ في قُلوبِ المُسرِفين، المُنهَمِكينَ في الشَّهوات، المُعرِضينَ عنْ ذكرِ الله.
وإذا تُتلَى على المُشركينَ آياتُ القُرآنِ الكريمِ الواضِحاتُ، الدالَّةُ على التوحيدِ وبُطلانِ الشِّرك، قالَ هؤلاءِ الذينَ لا يؤمِنونَ بيَومِ القِيامة، ولا يَخافُونَ الحِساب: ائتِ بكِتابٍ غيرِ القُرآنِ لا يَكونُ فيهِ ذَمٌّ لآلِهتِنا، ولا ذِكرٌ ليَومِ البَعث، أو بَدِّلِ الآياتِ التي تحتوي على ذلكَ بغيرِها.
قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسول: ليسَ هذا الأمرُ إليّ، ولا يَصِحُّ لي تَبديلُهُ مِنْ عِندي، إنَّما أنا عَبدٌ مَأمور، ورسُولٌ مُبَلِّغٌ عنِ الله، ما أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليَّ فيما آمرُكمْ بهِ وأنهاكمْ عنه، مِنْ غيرِ تَغييرٍ ولا تَبديل. إنِّي أخافُ إنْ بدَّلتُ كلماتِ الله، أو خالَفتُ أمرَه، عَذابًا كبيرًا هائلاً يومَ القيامة.
قالَ ابنُ الجوزيِّ في "النواسخ": هذا وأمثالُهُ في بَيانِ آثارِ المعاصي، وليسَ منْ ضَرورةٍ ما عُلِّقَ بشَرطٍ أنْ يَقع.
وقُلْ لهم: لو شَاءَ اللهُ ما أنزَلَ القُرآنَ عليّ، ولا قَرأتُهُ عليكم، ولا أعلَمَكُمْ بهِ بواسِطَتي، وقدْ قُمتُ بينَ ظَهْرانَيكمْ أربَعينَ عامًا قبلَ نُزولِهِ عليّ، ولم تُجَرِّبوا عليَّ كَذِبًا، ألا تُلاحِظونَ ذلكَ وتَتدبَّرونَه، لتَعلَموا أنَّهُ ليسَ منْ عندي، فأنا ما راجَعْتُ عالِمًا، ولا قرأتُ كِتابًا، ولا كتبتُ كلِمَة، وهذا كتابُ اللهِ البَليغُ المُعجِز، الذي احتوَى على ما لم تَعرِفوه، مِنْ أحكامٍ وتاريخٍ وقَصَصٍ وإخبارٍ بغَيبيّات...
وهؤلاءِ المشرِكونَ يَعبدونَ أحجَارًا صَنعوها بأيدِيهم، وهيَ غيرُ قادرةٍ على ضُرِّهمْ ولا على نَفعِهم، فهي جَماداتٌ لا تَفهَمُ ما يُفعَلُ بها، إنْ عُبِدَتْ أو أُهِينَتْ وكُسِرَت، وهيَ لا تَقدِرُ على أنْ تُثيبَ أحدًا ولا أنْ تُعاقِبَه.
ويَقولون: إنَّ هذهِ الأصنامَ تنفَعُهم، بأنَّها تَشفَعُ لهمْ عندَ الله لإصلاحِ مَعاشِهم، أو أنَّها ستَشفَعُ لهمْ يومَ القيامة.
قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: أتُخبِرونَ اللهَ بأنَّ لهُ شَريكًا، وأنَّ لهُ شَفيعًا بغَيرِ إذنه، وهوَ لا يَعلَمُ لنفسِهِ شَريكًا في السَّماواتِ ولا في الأرض؟ تنَزَّهَ اللهُ وتَقدَّسَ عنْ إشراكِهمْ وأقوالِهمُ الباطِلة، ومَزاعِمِهمُ الفاسِدة.