﴿وَإِذَآ أَذَقۡنَا النَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ اللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ﴾ [يونس :21]
وإذا أنعَمنا على الإنسانِ بالرَّخاءِ والسَّعَةِ بعدَ أنْ أصابَهمُ القَحْطُ والشدَّة، إذا بهمْ يُكَذِّبون بفَضلِنا وإنعامِنا، ويُسنِدونَ ذلكَ إلى العَادةِ والطَّبيعة. قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إنَّ اللهَ أسرَعُ عقوبَةً وإلحاقًا للضَّرَرِ بكم، ولكنَّهُ يُمهِلُكمْ ويَستَدرِجُكمْ حتَّى يأخُذَكمْ بعذابٍ وأنتُمْ لا تَشعُرون. وإنَّ ملائكتَنا الموَكَّلينَ بإحصاءِ أعمَالِ بَني آدم، يُثبِتونَ عليكمْ كلَّ ما قُلتُمْ وفَعلتُم، ومِنْ ذلكَ كيدُكم(54) ، الذي سيَكونُ وبالاً عليكم، وعَذابًا يُحيطُ بِكمْ يَومَ القِيامة.
(54) ذكرَ صاحبُ (التحرير والتنوير) عند تفسيرِ الآيةِ (42) من سورةِ الطور، أن الكيدَ والمكرَ متقاربان، وكلاهما إظهارُ إخفاءِ الضرِّ بوجوهِ الإِخفاء، تغريراً بالمقصودِ له الضرُّ.
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي الۡبَرِّ وَالۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي الۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ الۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـٰكِرِينَ﴾ [يونس :22]
هوَ اللهُ الذي يُمَكِّنُكمْ منَ السَّير في البَرِّ والبَحرِ بما مَهَّدَهُ وسَخَّرَهُ لكم، حتَّى إذا رَكِبوا السُّفُن، ودفَعَتهمُ الريحُ بسُرعةٍ مُناسِبةٍ تُعجِبُهم، وفَرِحوا بذلكَ واطمأنُّوا، هَبَّتْ عليها رِيحٌ شَديدة، وعلا بهمُ المَوجُ وارتفَعَ مِنْ كلِّ طرَف، وأيقَنوا أنَّ الهَلاكَ قدْ أحاطَ بهمْ وقَرُبَ غَرَقُهم، أخلَصوا الدَّعاءَ للهِ وحدَه، ولم يُشرِكوا معَهُ في دُعائهمْ أحدًا، لا صَنمًا ولا وثَنًا، قائلين: يا رَبّ، لئنْ خلَّصتَنا منْ هذا الكَرْب، وأنقَذْتَنا مِنَ الغرَق، لنَكوننَّ منَ الشَّاكرينَ لكَ بالإيمانِ والطَّاعة، ولنْ نُشرِكَ بكَ شَيئاً.
﴿فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي الۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ الۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [يونس :23]
فلمّا أنجاهُمْ منْ ذلكَ الكَرْبِ والشدَّة، إذا همْ يَرتَدُّونَ إلى جاهليَّتِهم، فيَظلِمونَ النَّاس، ويُفسِدونَ في الأرْضِ علانيَة، لا يَخافونَ رَبًّا ولا يَخشَونَ عَذابًا. يا أيُّها النَّاس، اعقِلوا واحذَروا، فإنَّ هذا الظُّلمَ الذي تُمارِسونَه، والفسادَ الذي تَنشُرونَه، والدِّماءَ التي تَسفِكونَها، والإعلامَ المُضَلِّلَ الذي تَبثُّونَه، إنَّما هوَ جِنايةٌ على أنفسِكم، فوَبالُهُ يَعودُ عليكم، وعاقِبتُهُ تَرجِعُ عليكم، ولا تَضرُّونَ اللهَ بهِ شَيئاً، وما أنتُمْ فيهِ مَتاعٌ قَليل، ولذَّةٌ فانِية، وحيَاةٌ قَصيرة، ثمَّ تَعودونَ إلينا يومَ الحِساب، فنُخبِرُكمْ بجميعِ ما كسَبتُموه، ونُحاسِبُكمْ عليهِ ونُوفِيكمْ حَقَّه، فانتَظِروا ذلكَ اليَوم.
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ الۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ النَّاسُ وَالۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ الۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَازَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِالۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس :24]
إنَّما مثَلُ هذهِ الحياةِ الدُّنيا في زينَتِها ونَعيمِها، واغترارِ النَّاسِ بها، وسُرعةِ انقِضائها وفَنائها، كمَطَرٍ أنزلناهُ على الأرْض، فرَوَّى نباتَها وشجَرَها، فكَثُرَ بهِ الزَّرعُ والثَّمَر، ممّا يأكلُهُ الناسُ مِنَ الحُبوبِ والثِّمار، وما تأكلُهُ الدَّوابُّ مِنَ الحَشيشِ والمَراعي، حتَّى إذا أكملتِ الأرضُ حُسنَها وبَهجَتَها، وتَزيَّنتْ وتَنضَّرت، واكتَسَتْ بالخُضرَةِ والجَمال، وظنَّ أصحابُها الذينَ زرَعوها وغَرَسُوها أنَّهمْ مُتمَكِّنونَ مِنْ حَصادِها وقَطفِ ثِمارِها، جاءَها أمرُنا بإهلاكِها، بغَرْقِ زَرعِها، وإتلافِ ثمارِها، في لَيلٍ أو في نَهار، زمنَ غَفلَتِهمْ أو عندَ يَقْظَتِهم، وجعَلناها يَبابًا كأنَّها محصودَةٌ منْ أصلِها، وكأنَّها لم تَكنْ خضراءَ غنَّاءَ بالأمسِ القَريب.
وبمثلِ هذا نُبيِّنُ الأدلَّة، ونذكُرُ الأمثِلَة، لقَومٍ يَعقِلونَ فيَتفكَّرون، ويَتدبَّرونَ فيَعتَبِرون. فاغتِرارُ النَّاسِ بالدُّنيا كَثير، معَ أنَّ زَوالَها سَريع، والعِبرةُ بما يَبقَى لا بما يَفنَى، والحَسرَةُ لا تَنفَعُ يومَ الدِّين.
﴿وَاللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ السَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [يونس :25]
واللهُ يَدعو النَّاسَ إلى دارٍ لا يَعتَريها الزَّوال، وجنَّةٍ عاليةٍ سَالمةٍ منَ الآفات، واللهُ سُبحانَهُ يَهدي مَنْ يَشاءُ منْ عِبادهِ إلى صِراطهِ المُستَقيم، الذي يؤدِّي إلى الجنَّة، عندما يتَّجِهُ العَبدُ بقلبِهِ إلى ربِّه، ويَعزِمُ على اتِّباعِ ما جاءَ بهِ منَ الحَقّ.
﴿۞لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ الۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [يونس :26]
للَّذينَ أحسَنوا العملَ في هذهِ الدُّنيا، المنزِلةُ الحُسنَى في الآخِرة، وهيَ الجنَّة، معَ إكرامِهمْ بزيادةٍ عَظيمةٍ في الثَّواب، وهيَ النظَرُ إلى وجهِ اللهِ الكريم، ولا يَغشَى وجوهَهُمْ غُبارٌ ولا سَواد، ولا كآبَةٌ ولا هَوان، كما يَعتَري وجوهَ الكفّارِ يومَ الحِساب، أولئكَ أهلُ الجنَّة، خالِدونَ فيها أبَدًا.
﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ الَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [يونس :27]
والذينَ عَمِلوا السيِّئات، فأشرَكوا بالله، وعَصَوا رسُلَه، ولم يمتَثِلُوا ما أمرَ اللهُ به، فإنَّ جزاءَهمُ العَدل، أنْ يُجازَوا على السيِّئةِ بمثلِها، ويَغشاهُمْ هَوانٌ عَظيم، معَ شُعورِهمْ بصَغَارٍ وإهانَة، لعِلمِهمْ بما اقتَرَفوه، وخَوفِهمْ منَ العِقابِ الذي يَنتَظِرُهم، ولا أحدَ يَمنعُ عنهمْ يومَئذٍ عَذابَ اللهِ وسَخَطَه، وقدْ تَلبَّدتْ وجوهُهمْ بالسَّواد، منَ الخِزي والنَّدامةِ والكآبة، حتَّى صارَتْ فاحِمةً قاتِمة، وكأنَّها أُلبِسَتْ قِطَعًا منَ الليلِ المُظلِمِ المُدْلَهِمّ، أولئكَ أهلُ النَّار، ماكِثونَ فيها أبَدًا.
﴿وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ﴾ [يونس :28]
وذَكِّرْهُمْ أيُّها النبيّ: يومَ نَحشُرُ النَّاسَ جميعًا، مسلِمَهمْ وكافِرَهم، ثمَّ نقولُ للمُشرِكين: الزَموا مَكانَكمْ أنتُمْ وشُرَكاؤكمُ الأصْنام، ولا تَختلِطوا بالمؤمِنين. وفرَّقنا بينَهم، وقطَعنا ما كانَ بينَهمْ مِنَ التواصُلِ في الدُّنيا، حيثُ يَتبَرَّأُ كلُّ مَعبودٍ مِنْ دونِ اللهِ ممَّنْ عبَدَه. وقالَ شُرَكاؤهمُ الأصنَام، الذينَ اتَّخَذوهمْ شُرَكاءَ للهِ تعالَى: ما كنتُمْ تَعبُدونَنا بطَلَبِنا، وإنَّما كنتُمْ تُطيعونَ أهواءَكم، وتُوالُونَ الشَّيطان.
﴿فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ﴾ [يونس :29]
وتَقولُ هذهِ الأصْنامُ لعابِديها، في يومِ الموقِفِ الذي يُنطِقُ اللهُ فيهِ كلَّ شيء: اللهُ هوَ الشَّاهِدُ الحقُّ الكافي بينَنا وبينَكم، أنَّنا ما أمرناكمْ بعِبادَتِنا، وما كنّا نَشعُرُ بها ولا نَعلم، لأنَّنا ما كنّا نَسمَع، ولا نُبصِر، ولا نَعقِل.
قالَ صاحِبُ "روح المعاني": الأظهَرُ أنْ يُرادَ بالشَّرَكاءِ جميعُ ما عُبِدَ منْ دُونِ اللهِ تعالَى، مِنْ ذَوي العُقولِ وغَيرِهم. اهـ.
ويَنقَطِعُ طَمَعُ المشرِكينَ ممّا كانوا يَرجونَ منهمْ ويَعتَقِدونَ فيهم.
﴿هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى اللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ الۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [يونس :30]
في يومِ الحِساب، ومقامِ الحَشر، تُختَبَرُ كلُّ نَفس، وتَعلَمُ ما كسبَتْ منْ خَيرٍ وشَرّ، مُؤمِنةً كانتْ أو كافِرة. ورُدُّوا جَميعًا إلى رَبِّهمُ الحَكَمِ العَدْل، الصَّادقِ في رُبوبيَّته، لا ما اتَّخذَهُ المشرِكونَ أربابًا باطِلة، ليَحكُمَ فيهمْ وحدَهُ سُبحانَه، ويَجزِيَهمْ على أعمالِهم. وضاعَ عنهمْ وزالَ ما كانوا يَكذِبونَ في الدُّنيا مِنْ أنَّ أصنامَهمْ ستَشفَعُ لهمْ وتَنفَعُهمْ عندَ الله.
﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ السَّمۡعَ وَالۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ الۡحَيَّ مِنَ الۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ الۡمَيِّتَ مِنَ الۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس :31]
قُلْ للمُشرِكين، مُحتَجًّا عليهمْ ببُطلانِ ما هُمْ عليهِ مِنَ الشِّرك: منِ الذي يُنزِلُ المطَرَ عليكمْ مِنَ السَّماء، ويَجعَلُ لكمُ الأغذيةَ في الأرض، وقدْ سَخَّرَها لكم، فكانتْ سبَباً لحياتِكم؟
ومَنْ يَقدِرُ على خَلقِ السَّمعِ والأبصارِ لكمْ غيرُه، في خَلْقِها البديع، وتَركيبِها الدَّقيق، ووظائفِها المُتكاملة؟
ومَنْ سِواهُ يُخرِجُ الحيَّ مِنَ الميِّت، والميِّتَ مِنَ الحَيّ، كخروجِ النبْتَةِ مِنَ الحَبَّة، والحَبَّةِ مِنَ النبْتَة، وخروجِ الفرْخِ مِنَ البيضَة، والبيضةِ مِنَ الطيرِ وغَيرِه؟
فكيفَ أُودِعَتِ الصِّفاتُ الظاهِرةُ لهذهِ الحيواناتِ والنَّباتاتِ في الحيَواناتِ المَنويَّةِ الدقيقَة، وفي الحُبوبِ الجافَّةِ الصَّغيرة؟ كيفَ تَنشأ الحياة، وما سِرُّ الجِيْناتِ والهَندسةِ الوراثيَّة؟
ومَنِ الذي يَقضي في هذا الكونِ على سَعَتِه، ويُدَبِّرهُ أحسَنَ تَدبير، في حِساباتٍ زمنيَّةٍ ومكانيَّةٍ دقيقَةٍ مُقَدَّرة، منها ما يَكونُ في أبعادٍ خياليَّةٍ بملايينِ السنواتِ الضوئيَّة! فمنِ المُتَصَرِّفُ فيها جَميعًا، ومَنِ الذي بيدهِ مَلَكوتُ كلِّ شيء؟ وكذا شُؤونُ البشَرِ، حياتُهم، ورِزقُهم، وعَمَلُهم...
فسَيقولُ المشرِكونَ بدونِ تَرَدُّد: هوَ الله. ولا تَنفَعُ المُكابِرَةُ والعِنادُ هُنا في شَيء.
فقُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: ألا تَخشَونَ اللهَ إذاً، ما دُمتُمْ عَرَفتُمْ أنَّ الموتَ والحياةَ بيدِه، والسَّمعَ والأبصارَ بقُدرَتِه... وكلُّ ما في الكَونِ مُلْكُهُ وتحتَ تَصَرُّفِه؟ ألَا تَترُكونَ الشِّركَ بعدَ عِلْمِكمْ هذا؟
﴿فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ الۡحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ﴾ [يونس :32]
اللهُ وحدَهُ الذي يَخلُقُ ويُدَبِّرُ شَأنَ خَلْقِه، الإلهُ الحَقّ، الذي لا يَتعَدَّد، ولا يَستَحِقُّ العِبادةَ إلاّ هو، ومَنْ قالَ غيرَ هذا فقدْ ضلَّ وغَوَى، فكيفَ تُصرَفونَ عنِ الحَقِّ إلى الضَّلال، وكيفَ تُصرَفونَ عنْ عِبادتِهِ إلى عِبادةِ سِواه، وأنتُمْ تَعلَمونَ أنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الإلهُ الحَقّ؟
﴿كَذَٰلِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوٓاْ أَنَّهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يونس :33]
وهكذا وجبَ حُكمُ اللهِ على الذينَ تَمرَّدوا وأصَرُّوا على الكُفر، وصَرَفوا أنفُسَهمْ عنِ الأدلَّةِ والبراهينِ العقليَّةِ الواضِحةِ والفِطرةِ السَّليمة؛ بأنَّهمْ أشقياءُ مِنْ أهلِ النَّار.
﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥۚ قُلِ اللَّهُ يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ﴾ [يونس :34]
قُلْ للمُشرِكينَ الذينَ يؤمِنونَ ببَدءِ الخَلقِ ولا يؤمِنونَ ببَعثِه: هلْ مِنْ أوثانِكمْ مَنْ يَقدِرُ على إنشاءِ الخَلقِ منْ غَيرِ أصل، ثمَّ يُحييهِ بعدَ الموت؟ قُلْ لهم: إنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ القادِرُ على ذلك، فكيفَ تُصرَفونَ عنْ طَريقِ الرُّشدِ إلى الضَّلال، وكيفَ تُوَجَّهونَ عنِ التفكيرِ المستَقيمِ إلى المُعوَجَّ؟
﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى الۡحَقِّۚ قُلِ اللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى الۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾ [يونس :35]
وقُلْ لهم: هلْ مِنْ أوثانِكمْ مَنْ يُرشِدُ إلى الحقّ، ويَضَعُ لهُ نِظامًا، ويَبعَثُ بهِ رَسولاً، ويوجِبُ عَليهمُ اتِّباعَه، ولا يَكونُ للنَّاسِ منهُ بدّ؟
قُلْ لهم: أنتُمْ تَعلَمونَ أنَّ شُرَكاءَكمْ لا يَقدِرونَ على هدايةِ أحَد، بلِ الذي يَهدي الضالّ، ويُنيرُ القلب، ويَشرَحُ الصدر، اللهُ العَزيزُ الحَكيم.
وقُلْ لهمْ في نتيجةٍ حَتميَّة: أيُّهما أحَقُّ بالاتِّباعِ إذاً: اللهُ الذي يَهدي النَّاس، أمِ الذي لا يَهتدِي إلى شَيء، ولا يُبصِر، ولا يَتحرَّك، ولا يَقدِرُ على الانتقالِ إلى مَكانٍ إلاّ أنْ يُحمَلَ ويُنقَل؟!
والذينَ كانوا يَعبُدونَ الأناسيَّ، كمَنْ يَعبدُ المسيحَ عيسَى بنَ مريم، والملائكة، لا يَهتدونَ بأنفُسِهم، ولا يَقدِرونَ على هِدايةِ أحَد، إلاّ بإذنِ اللهِ وتَوفيقِه.
فما لكمْ أيُّها المشرِكون، كيفَ تَحكُمونَ بالباطِل، وتَتَّخِذونَ شُركاءَ لله، بدونِ أيِّ دَليل، ولا عَقل، ولا مَنطِق، تُساوونَ في العِبادةِ بينَ اللهِ المُتعَال، والأصنامِ المصنُوعةِ مِنَ الحِجارة؟
﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ الۡحَقِّ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ﴾ [يونس :36]
وأكثرُ المشرِكينَ لا يَتَّبِعونَ في دِينِهمْ حُجَجًا ولو كانتْ واهية، بلْ هيَ ظُنونٌ وأوهامٌ وتَخيُّلاتٌ لا تَستَنِدُ إلى أسَاس، فهمْ يَظنُّونَ أنَّ للهِ شُركاء، ولكنْ لا يَتحقَّقونَ منه. وهكذا مُجادلاتُهمْ ومُحاوراتُهمُ التي يُدافِعونَ بها عنْ آرائهمْ ومُعتَقداتِهم، وإنَّ الظنَّ الفاسِدَ لا يُحَقِّقُ لهمْ شَيئاً مِنَ الحقّ، واللهُ عَليمٌ بأفعالِهمُ السيِّئة، وإعراضِهمْ عنِ الحقِّ المُبين.
﴿وَمَا كَانَ هَٰذَا الۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ الَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ الۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [يونس :37]
وما كانَ هذا القُرآنُ العَظيم، بكَمالهِ وجَلالِه، في أخبارِهِ وأحكامِه، وفي إعجازهِ ونِظامِه، وفي منهَجهِ وأسرارِه، أنْ يَكونَ مَكذوبًا على الله، فَرقٌ واضِحٌ بينَهُ وبينَ كلامِ البَشر، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يأتيَ بمثلِه، أو بسورةٍ مِنْ مثلِه، فلا يَكونُ إلاّ مِنْ عندِ اللهِ سُبحانَه. فهوَ كتابٌ سَماويٌّ يُصَدِّقُ الكُتُبَ السَّماويَّةَ السَّابقة، وحَكَمٌ عليها، فيَذكرُ ما وقعَ فيها مِنْ تَحريفٍ وتَبديل، ويُبيِّنُ الحقائقِ والأحكام، لا يَشُكُّ في القُرآنِ طالِبُ حَقّ، لوضوحهِ وعُلوِّ شأنِه.
﴿أَمۡ يَقُولُونَ افۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَادۡعُواْ مَنِ اسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [يونس :38]
أمْ يَقولُ المشرِكونَ إنَّ محمَّدًا اختلقَ القرآنَ مِنْ قِبَلِ نَفسِهِ وجاءَ بهِ مِنْ عِندِه؟ قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنْ كنتُمْ تَشُكُّونَ في كَونِ القُرآنِ مِنْ عندِ الله، فأتُوا بسُورةٍ واحِدَةٍ تُشبِهُ القُرآن، واستَعينوا بكلِّ مَنْ قَدِرتُمْ عليهِ منْ إنسٍ وجِنٍّ ليُساعِدوكمْ في ذلك، إذا كنتُم صَادِقينَ في أنَّني افتَرَيتُه. وإذا صَدَقتُمُ القَول، فإنَّكمْ ستَقولون: إنَّكَ بَشَرٌ مثلَنا، لا تَقدِرُ على أنْ تأتيَ بمثلِه، ولا نحنُ قادِرونَ على ذلك.
﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَانظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [يونس :39]
بلْ كذَّبَ المشرِكونَ بالقُرآن، فلمْ يَفهَموهُ ولم يُحيطوا بعِلمِه، ولم يَقِفوا على مَعانيهِ الجليلة، وإخبارِهِ بالغِيوب، ولم يَعلموا ما يؤولُ إليهِ عاقِبةُ أمرِهم، ولو أنَّهمْ تأمَّلوا مَصيرَ الأوَّلينَ لعرَفوا مَصيرَهم، فقدْ كذَّبتِ الأممُ الخاليةُ رسُلَهمْ مِنْ قَبل؛ عِنادًا وجَهلاً، فانظُرْ كيفَ كانَ آخِرُ أمرِهم، واحذَروا أنْ يُصيبَكمْ ما أصابَهم.
﴿وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِالۡمُفۡسِدِينَ﴾ [يونس :40]
ومنهمْ مَنْ يؤمِنُ بالقُرآنِ ويَنتَفِعُ بما أُرسِلْتَ بهِ أيُّها النبيّ، ومنهمْ مَنْ يَبقَى مُصِرًّا على كُفرِهِ فلا يَهتدي ولا يؤمِن، وهمُ المفسِدون، أتْباعُ الهوَى والفَساد، وربُّكَ أعلمُ بهم، وبما يُبطِنونَ منْ كُفرٍ وشَرّ.