ومِنْ هؤلاءِ المشرِكينَ مَنْ يَستَمِعُ إلى كلامِكَ الحسَن، وإلى القُرآنِ الكريم، ولكنَّهمْ لا يَتدبَّرونَه، بلْ لا يُصْغُونَ إليهِ حتَّى يَستَفيدوا منه، فكأنَّهمْ لم يَسمَعوه، وعَطَّلوا بذلكَ حاسَّةَ السَّمعِ عندَهم، وأنتَ لا تَقدِرُ على إسماعِ الأصمّ، ولو ضمَّ إلى سمعهِ عقلَهُ الذي لا يَعقِلُ به، فقدْ أُصيبَ في عَقلِه، وفي جَميعِ حَواسِّه.
إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاس، فقدْ خَلقَهمْ على الفِطرة، وزوَّدَهمْ بقُلوبٍ وعُقولٍ وحواسَّ يَتمكَّنونَ بها منَ الإيمانِ إذا لم يَطمِسوها بالعِنادِ والخِصام، إنْ شاءَ الله، وبعثَ إليهمُ الرسُلَ ليُبيِّنوا لهمْ ما يأتونَ وما يَتركون، وأرسَلَ معهمُ المعجِزاتِ حتَّى لا يَبقَى عندَهمْ شكٌّ في ذلك، ولكنَّهمْ لا يَستَعمِلونَ مَدارِكَهمْ لِما خُلِقَتْ له، ويُعرِضونَ عنْ قَبولِ الحقّ، ويُكَذِّبونَ الرسُل، فيَظلِمونَ أنفُسَهمْ بالكفرِ والمَعصِية، ويُعَرِّضونَها بذلكَ للعَذابِ يومَ القيامة، فلا يَلومُنَّ إلاّ أنفُسَهم.
قُلْ لهم: لا أقدِرُ على دَفعِ ضُرٍّ عنْ نَفسي، ولا جَلبِ نَفعٍ لها، إلاّ أنْ يَشاءَ اللهُ ذلكَ ويُقدِّرَني عليه، ولكلِّ جِيلٍ مُدَّةٌ مُقدَّرةٌ لأعمارِهم، فإذا انقضَى أجَلُهم، لا يَتقدَّمونَ عليهِ ساعةً ولا يَتأخَّرونَ عنه.
ثمَّ قيلَ للمُشرِكينَ الظَّالِمينَ يومَ القيامة، تَقريعًا وتَوبيخًا: ذوقُوا عَذابَ النارِ التي كنتُمْ تُكَذِّبونَ بها على الدَّوام، ولا تُحاسَبونَ إلاّ على أعمالِكمُ السيِّئة، ولا تُجزَونَ إلاّ عليها.
ألا إنَّ جَميعَ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلْكٌ للهِ وحدَه. ألا إنَّ جَميعَ ما وعَدَ اللهُ بهِ كائنٌ لا مَحالة، ثابِتٌ واقِعٌ كما قالَ به، ومنهُ البَعثُ والجَزاء، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلمونَ ذلك؛ لغَفلتِهمْ واغتِرارِهمْ بظَواهرِ الأمُور، وسُوءِ استِعدادِهمْ للبَحثِ عنِ الحقِّ أو قَبوله.
وما الذي يَظُنُّ المشرِكونَ المُكَذِّبونَ أنْ يُفعَلَ بهمْ يَومَ القِيامة، وقدْ حرَّموا وحَلَّلوا بأهوائهمْ وأضاليلِهم، التي لا مُستَندَ عَليها ولا دَليل؟ أيَحسَبونَ أنَّهمْ لا يُؤاخَذونَ على أفعَالِهمْ ولا يُعاقَبون؟
وإنَّ فَضلَ اللهِ على النَّاسِ عَظيم، ونِعمتَهُ عليهمْ لا تُقَدَّر، فزوَّدَهمْ بالعَقل، وسخَّرَ لهمْ ما في السَّماواتِ والأرض، وأرسلَ إليهمُ الرسُل، وأنزلَ عَليهمُ الكُتب، وأباحَ لهمُ الطيِّبَ النَّافِع، وحرَّمَ عليهمُ الخَبيثَ الضارّ، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَشكرونَ فضلَ الله، فيَتعامَلونَ بالخَبيثِ المُحرَّم، ويَتركونَ ما فيه فائدةٌ وشِفاء، ولا يَنتَفِعونَ بدِينِ الله.