تفسير سورة يونس

  1. سور القرآن الكريم
  2. يونس
10

﴿فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ السِّحۡرُۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصۡلِحُ عَمَلَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [يونس:81]


فلمّا أَلْقَوا ما بأيدِيهم، وخيَّلوا للنَّاسِ صُوَرًا وأشْكالاً عَظيمةً روَّعَتهُم، قالَ لهمْ موسَى: إنَّ هذا الذي فَعلتُموهُ سِحرٌ للأنظَار، وهوَ تَخييلٌ وتَزييفٌ لا أصلَ لهُ منَ الحَقيقة، ولا يُضاهي شَيئاً منْ مُعجِزَةِ اللهِ الحَقيقيَّة، وسَوفَ يُظهِرُ اللهُ فَسادَهُ وبُطلانَهُ للنَّاس، واللهُ لا يُصلِحُ عملَ المُفسِدينَ الذينَ يُضَلِّلونَ الناس، ولا يؤيِّدُ أعمالَهمْ ولا يُدِيمُها، بلْ يُزيلُها ويُظهِرُ بُطلانَها.

﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [يونس:82]


ويُثَبِّتُ اللهُ الحقَّ ويُقَوِّيه، ولو كَرِهَ المُجرِمونَ ذلك، مِنَ السَّحَرَةِ والطُّغاةِ والمُكذِّبين، فَكراهَتُهمْ لا تُعَطِّلُ مَشيئةَ الله، ولا تَحُولُ دونَ إظهارِ الحقّ.

﴿فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَوۡمِهِۦ عَلَىٰ خَوۡفٖ مِّن فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِمۡ أَن يَفۡتِنَهُمۡۚ وَإِنَّ فِرۡعَوۡنَ لَعَالٖ فِي الۡأَرۡضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ الۡمُسۡرِفِينَ﴾ [يونس:83]


وعلى الرَّغمِ منَ الأدلَّةِ الكافيةِ على صِدقِ رسالةِ موسَى عليهِ السَّلام، إلاّ أنَّهُ لم يؤمِنْ بهِ إلاّ أولادُ بَعضِ بَني إسْرائيل، وكانوا على خَوفٍ ووَجَلٍ منْ بَطْشِ فِرعَونَ ومُلاحقَةِ كِبارِ قَومِهِ لهم، خَوفًا منْ تَعذيبِهمْ لهمْ وصَرفِهمْ عنِ الدِّينِ الحقِّ الذي اعتَنقوه.

وكانَ فِرعَونُ مُتَكبِّرًا مُتَعَجرِفًا، وحاكِمًا طاغيةً مُتجَبِّرًا، ذا حُكومةٍ قويَّةٍ وبَطشٍ وإرهاب، مُتجاوِزًا الحدَّ في الظُّلمِ والفَساد، بسَفكِ الدِّماءِ والإهانةِ وبَثِّ الرُّعبِ والتكبُّرِ... حتَّى ادَّعَى الرُّبوبيَّة!

﴿وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ﴾ [يونس:84]


وقالَ موسَى لمؤمِني قومِهِ عندَما رأى تَخَوُّفَهم: يا قَوم، إذا كنتُمْ صَادِقينَ في إيمانِكم، مُتمَسِّكينَ بعَقيدتِكمْ حقّاً، ففَوِّضوا أمرَكمْ إلى اللهِ واعتَمِدوا عليه، فإنَّهُ كافيكُمْ كلَّ شَرٍّ وضُرّ، هذا إذا كنتُمْ مُستَسلِمينَ لقضاءِ الله، مُخلِصينَ له.

﴿فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلۡقَوۡمِ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [يونس:85]


فقالَ قَومُهُ المؤمِنون: اعتَمَدنا على الله، وأخلَصنا لهُ العِبادةَ والدُّعاء. اللهمَّ لا تُمَكِّنْ أعداءَنا منّا، ولا تُسَلِّطْهُمْ عَلينا، فيُعَذِّبونا ويَصرِفونا عنْ دينِنا، فإنَّهمْ جبَّارونَ ظَالِمون، لا يَعرِفونَ رَحمَة، ولا يُراعُونَ حقًّا.

﴿وَنَجِّنَا بِرَحۡمَتِكَ مِنَ الۡقَوۡمِ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [يونس:86]


وخلِّصْنا برَحمَتِكَ وإحسانِكَ منَ القَومِ الكافِرين، الذينَ لا يَتَّصِفونَ بإيمانٍ يَردَعُهم، ولا إحسانٍ يَمنَعُهم.

﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَاجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس:87]


وأوحَينا إلى نبيِّ اللهِ موسَى وأخيهِ هارونَ أنِ اتَّخِذا للمؤمِنينَ منْ قَومِكما بُيوتًا تَكونُ معابِد يَتعَبَّدونَ فيها، واجعَلوا وجوهَ بيوتِكمْ إلى القِبلة - وكانوا يَتوجَّهونَ إلى الكَعبةِ في صَلاتِهم، وفي قولٍ إنَّ بيوتَهمْ قِبلتُهم -. وحافِظوا على إقامةِ الصَّلاةِ كما فُرِضَتْ عَليكم. وبَشِّرِ المؤمنينَ بالنَّصرِ في الدُّنيا، وبالأجرِ الكبيرِ في الآخِرَة.

﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيۡتَ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةٗ وَأَمۡوَٰلٗا فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَۖ رَبَّنَا اطۡمِسۡ عَلَىٰٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ وَاشۡدُدۡ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ الۡعَذَابَ الۡأَلِيمَ﴾ [يونس:88]


ولمّا استَمرَّ فِرعَونُ وقومُهُ في الضَّلالِ والفَساد، وازدَادوا ظُلمًا وتَكبُّرًا، دعَا موسَى ربَّهُ قائلاً: اللهمَّ إنَّكَ أعطيتَ موسَى وكُبراءَ قَومِهِ زِينةَ الدُّنيا ومَتاعَها، وأموالاً كثيرةً في هذهِ الحياةِ الدُّنيا، ويَنشأُ عنْ ذلكَ إضلالُ النَّاسِ عنْ سَبيلِك، فيُذِلُّونَ الآخَرينَ بقوَّةِ مالِهم، أو يُغْرُونَهمْ بالبذَخِ والغِنَى الذي همْ فيه، فلا يَصمُدونَ أمامَ إغْراءِ الدُّنيا، فيَتَّبِعونَهم. اللهمَّ فأهلِكْ أموالَهم، وأذهِبْ غِناهُمْ وترَفَهُم، وأزِلْ عنهمْ هذهِ الوَسيلةَ الطَّاغيةَ في الظُّلم، والقوَّةَ المُغرِيَةَ في الفَساد، حتَّى لا يَنتَفِعوا بها، واجعَلْ قلوبَهمْ قاسِيةً مُستَغْلَقَة، ما دامُوا يَزدادونَ إصرارًا وعِنادًا في الكُفر، حتَّى يأتيَهمْ عذابُكَ الشَّديدُ الموجِعُ وهُمْ كذلك، ولنْ يُقبَلَ منهمُ الإيمانُ عِندَئذ.

﴿قَالَ قَدۡ أُجِيبَت دَّعۡوَتُكُمَا فَاسۡتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يونس:89]


قالَ اللهُ تعالَى لموسَى وهارونَ عليهما السَّلام: قدْ أجابَ اللهُ دُعاءَكما - وكانَ هارونُ يَدعو بدُعاءِ أخِيه، أو يؤمِّنُ عَليه - فاستَقيما على طاعَتي، واثبُتا على أمْري، ولا تَسلُكا طريقَ الذينَ يَجهَلونَ الحقَّ فيَترَدَّدونَ ويَتخَبَّطون، فإنَّكما على حَقّ، وسَيأتيكمُ النَّصرُ الذي وعَدتُكمْ به.

﴿۞وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ الۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ الۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ الۡمُسۡلِمِينَ﴾ [يونس:90]


وخرجَ بَنو إسْرائيلَ معَ نبيِّهمْ موسَى مِنْ مصر، لكنَّ فِرعَونَ وحُشودًا حاشِدةً منْ جُنودِهِ مَضَوا إليهمْ ليُطارِدُوهمْ ويَقتلوهم.

وعَبَرنا ببَني إسْرائيلَ البحرَ، وأدركَهمْ فِرعَونُ وجُنودُهُ وهمْ في البَحر، لاحَقوهُمْ ليَقتُلوهمْ ظُلماً وعُدوانًا، لا لشَيءٍ إلاّ لإيمانِهم، فنجَّى اللهُ المؤمِنينَ إلى الطرَفِ الآخَرِ منَ البَحر، ومنَّ علَيهم بالنَّصر، وأغرقَ فِرعَونَ ومَنْ معَهُ فيه.

ولمّا غَمرَهُ الماءُ وعاينَ الموت، وعَلِمَ أنْ لا نَجاةَ له، قالَ مُعلِناً إيمانَه، حيثُ لا يُقْبَلُ الإيمانُ منْ أحَدٍ وهوَ في تلكَ الحال: آمَنتُ أنَّهُ لا إلهَ بحَقٍّ إلاّ الإلهُ الذي آمَنَتْ بهِ بَنو إسْرائيل، وأنا مِنْ جُملَةِ المسلِمينَ الذينَ أسلَموا نُفوسَهمْ إلى الله!

﴿ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [يونس:91]


آلآنَ تُؤمِنُ يا فِرعَونُ حيثُ لا مَجالَ لكَ للفِرارِ والاختِيار، بعدَ أنْ كنتَ عاصيًا مُستَكبِرًا، ضالاًّ مُفسِدًا، طاغيةً ظالِمًا؟

﴿فَالۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ النَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ﴾ [يونس:92]


فاليومَ نُلقي بجُثَّتِكَ الهامِدةِ على مُرتَفَعٍ مِنَ الأرض، لِتَكونَ عِبرةً وعِظةً للنَّاس، ليَعلَموا أنَّ مآلَكَ هوَ الموتُ مثلَ غيرِكَ مِنْ عَبيدِ الله، وأنَّكَ كنتَ مملوكًا مَقهورًا، لا رّبًّا قاهِرًا كما ادَّعَيت. وللهِ عِبَرٌ كثيرَةٌ في هذا الكون، يَعرِفُها العُقلاءُ المتَدَبِّرون، ولكنَّ أكثرَهمْ عنها غافِلون.

قالَ في "روح المعاني": لِتكونَ لمَنْ يأتي بعدَكَ مِنَ الأمم، إذا سَمِعوا حالَ أمرِكَ ممَّنْ شاهدَ حالَكَ وما عَراك، عِبرةً...

وذكرَ علماءُ للتَّشريحِ والآثارِ في عَصرِنا أنَّ جُثَّةَ فِرعَونَ ما زالتْ موجودةُ مُحنَّطة. وكانتْ سببًا لإسلامِ جرَّاحٍ عالَميٍّ مَشهور، أشرَفَ على الاهتمامِ بالجثَّةِ المهتَرئة، ووَجدَ في حَلْقِهِ أملاحًا، ممّا يَعني أنَّهُ ماتَ غَرَقًا في البحرِ كما ذُكِرَ في القُرآن، بينما لم تُذكَرْ كيفيَّةُ وفاتهِ في التَّوراةِ والإنجِيل... واللهُ أعلمُ بذلك.

﴿وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ فَمَا اخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ الۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ [يونس:93]


ولقدْ أنزَلنا بَني إسْرائيلَ مَكانًا طيِّبًا وإقامةً آمِنة - ذُكِرَ أنَّهُ بلادُ مِصرَ والشَّام، ممّا يلي بيتَ المَقدِسِ ونَواحِيَه - ورَزقناهمُ الحَلالَ الطيِّب، واللَّذيذَ النافِعَ مِنَ الأطعِمة.

وما اختَلَفوا في أمورِ دينِهمْ أوَّلاً، بلْ كانوا مُتَّبِعينَ أمرَ رَسولِهم، ثمَّ اختَلَفوا بعدَ أنْ عَلِموا ما في التَّوراةَ ووقَفوا على أحكامِها بعدَ وفاتِه، وفسَّروها تَفسيراتٍ باطِلة، وأوَّلوها تأويلاتٍ بَعيدة، وتَخلَّوا عنِ العَقيدةِ الصَّحيحة، ولازَموا جانِبَ الخِلافِ والجَدَل، بَغْيًا وحَسَدًا بينَ بعضِهمُ البعض، حتَّى صَاروا فِرَقًا عَديدة. وإنَّ اللهَ سيَقضي بينَهمْ يومَ القيامةِ بحُكمهِ العَدل، في الذي كانوا يَختَلِفونَ فيه، ويُظهِرُ المُحِقَّ مِنْ غَيرِه.

﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡـَٔلِ الَّذِينَ يَقۡرَءُونَ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ الۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِينَ﴾ [يونس:94]


فإنْ كنتَ في شَكٍّ مِنَ القَصَصِ المُنزَلةِ عليكَ في القُرآن، ومنها قِصَّةُ فِرعَونَ وموسَى، وأخبارُ بَني إسْرائيل، فاسألْ أهلَ الصِّدقِ ممَّنْ يَقرَؤونَ التَّوراةَ والإنجيلَ مِنْ أهلِ الكتاب، فإنَّها مُثبَتةٌ في كتُبِهم. لقدْ جاءَكَ الوحيُ الحقّ، والخبَرُ الصَّادق، والدِّينُ الخاتَم، فلا تَتردَّدْ فيما أنتَ فيه، ولا تكنْ منَ الشَّاكِّينَ في شَيءٍ مِنْ ذلك.

ولم يَشُكَّ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، ولم يَسأل، ولكنَّ ما في الآيةِ تَثبيتٌ لهُ وتَنبيهٌ للمُسلِمينَ على أمُورِ دِينِهم. وقدْ نَزلتِ الآياتُ عليهِ في مكَّة، وكانَ يُلاقي عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ أذًى وشِدَّةً وتَعَنُّتًا مِنْ قَومِه، وارتدَّ عددٌ ممَّنْ آمنَ بعدَ حَادثِ الإسراء... وكذا الأمرُ في الآيةِ التَّالية.

﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [يونس:95]


ولا تَكنْ أيُّها الرسُولُ ممَّنْ كذَّبَ بآياتِ اللهِ وأدلَّتِه، فتَكونَ ممَّنْ خابَ وخَسِر.

وهذا ممّا لا يُتوقَّعُ منهُ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّهُ تَخويفٌ وتَرهيب، وتَعريضٌ بالشاكِّينَ المكَذِّبين، وفُرصَةٌ لمَنْ شَكَّ أنْ يَسألَ حتَّى يَتوَثَّقَ ويَتيقَّنَ مِنْ عَقيدَتِه، بدلَ أنْ يرتدَّ ويُكَذِّب.

﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [يونس:96]


إنَّ الذي لا يأخُذُ بأسبابِ الهُدَى لا يَهتدي، ومَنْ أغلقَ نوافِذَ القلبِ عنْ تَلقِّي ضياءِ الإيمانِ لا يؤمِن، وقدْ عَلِمَ اللهُ فيهمْ ذلك، فثبَتَ عليهمْ حُكمُهُ وقَضاؤهُ بأنَّهمْ يَموتونَ على الكُفر.

﴿وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ الۡعَذَابَ الۡأَلِيمَ﴾ [يونس:97]


ولو كَثُرَتْ عليهمُ الأدلَّةُ الواضِحة، وأُنزِلَتْ عليهمُ المُعجِزاتُ الكثيرَة، وجابَهَتهُمُ الحُجَجُ الدَّامِغة، فإنَّهمْ لا يؤمِنونَ بها، حتَّى يَنزِلَ بهمُ العَذابُ المؤلِمُ الشَّديد، عندَ ذلكَ يؤمِنون، ولكنَّهُ إيمانٌ لا يَنفَعُهم حينَذاك، فكأنَّهمْ لم يَتلَفَّظوا به.

﴿فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ الۡخِزۡيِ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ﴾ [يونس:98]


فهلاّ آمنَ أهلُ القُرَى - مِنَ الذينَ مَرَّ ذكرُهمْ - قبلَ أنْ يَنزِلَ بهمُ العَذابُ حتَّى يَنفَعَهمْ إيمانُهم، فإنَّ الإيمانَ عندَ نُزولِ العَذابِ لا يَنفَع، إلاّ قومَ النبيِّ يونُسَ عليهِ السَّلام، فإنَّهمْ لمّا آمَنوا عندَ رؤيةِ أماراتِ العَذاب، كشَفنا عنهمْ ما هُدِّدوا بهِ منَ العَذابِ المُخزي الذي كانَ سيَقَعُ بهمْ في الدُّنيا، وتُرِكوا ليَتَمَتَّعوا في الحياةِ حتَّى وقتِ انقِضاءِ آجالِهم.

﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي الۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس:99]


ولو شاءَ اللهُ أنْ يؤمِنَ النَّاسُ كلُّهمْ، لآمَنوا جميعًا ولم يَتخَلَّفْ منهمْ أحَد، ولكنَّهُ سُبحانَهُ شاءَ أنْ يَترُكَ لهمْ حُرِّيَّةَ الاعتِقادِ والاختِيار، بعدَ أنْ زوَّدَهُمْ بالعَقل، وبيَّنَ لهمْ طريقَ الخَيرِ والشرّ، ليَكونوا مَسؤولينَ عنِ اختيارِهم، أفأنتَ تُجبِرُ الناسَ ليؤمِنوا - أيُّها النبيُّ - ولم يُجْبِرْهمُ اللهُ على ذلك؟ فإنَّ هذا ليسَ لك.

﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۚ وَيَجۡعَلُ الرِّجۡسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [يونس:100]


ولنْ تؤمِنَ نَفسٌ إلاّ بإذنِه وإرادَتِه، ولنْ يَكونَ هناكَ أمرٌ بخلافِ مَشيئتِهِ سُبحانَه، فلنْ تؤمِنَ نَفسٌ منَ النُّفوسِ التي عَلِمَ اللهُ أنَّها لنْ تؤمِن، ولنْ يَكفُرَ مَنْ كانَ في سَابقِ عِلمِهِ أنَّهُ لا يَكفُر، فهوَ العالِمُ مُسبَقًا بمَنْ فتحَ قلبَهُ للإيمان، وبمنِ استَكبرَ عنْ قَبولِ الحقِّ وأصَرَّ على الكُفر، فهذا كلُّهُ في سَابقِ عِلمِه.

وقالَ صاحِبُ الظِّلال: "المقصودُ أنَّها لا تَصِلُ إلى الإيمانِ إلاّ إذا سارَتْ وفقَ إذنِ اللهِ وسُنَّتِهِ في الوصُولِ إليهِ منْ طَريقهِ المرسُومِ بالسنَّةِ العامَّةِ [يَعني سُلوكَ مسالِكَ الهُدَى] وعندَئذٍ يَهديها اللهُ ويَقعُ لها الإيمانُ بإذنِه، فلا يَتِمُّ وُقوعُهُ إلاّ بقَدَرٍ خاصٍّ به، إنَّما الناسُ يَسيرونَ في الطَّريق، فيُقَدِّرُ اللهُ لهمْ عاقِبةَ الطريق، ويُوقِعُها بالفِعلِ جزاءَ ما جاهَدوا في اللهِ ليَهتَدوا".

ويَجعَلُ اللهُ الكُفرَ والضَّلالَ على الذينَ لا يَستَعملونَ عُقولَهمْ في فَهمِ آياتِ الله، فهوَ العادِلُ الحَكيم، الذي يَهدي مَنْ أقبلَ إليه، ويُضِلُّ مَنْ أبَى.