تفسير سورة هود

  1. سور القرآن الكريم
  2. هود
11

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [هود:21]


وسَوفَ يَخسَرُ هؤلاءِ أنفُسَهمْ بتَعريضِها لعَذابِ النَّارِ يومَ القيامة، فقدْ فَضَّلوا عِبادةَ الآلِهةِ على عِبادةِ خالقِهمْ ورازِقِهمُ الحقّ، وذهبَ عنهمْ ما كانوا يَعبُدونَه، فلمْ تُغْنِ عنهمْ أصنامُهمْ شَيئاً.

﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ هُمُ الۡأَخۡسَرُونَ﴾ [هود:22]


ولا مَحالةَ أنَّ هؤلاءِ الكفّارَ همُ الأكثرُ والأبيَنُ خُسرانًا، فقدِ استعاضُوا بالجنَّةِ ونَعيمِها، جَهنَّمَ وسَعيرَها.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ وَأَخۡبَتُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [هود:23]


إنَّ الذينَ استَجابوا لنِداءِ ربِّهم، فآمَنوا حقَّ الإيمان، وأَتْبَعُوا إيمانَهمْ بالعمَلِ الصَّالحِ الموافِقِ لكتابِ ربِّهم، وأخلَصوا في طَاعتِهمْ ولم يُراؤوا، وخَشعَتْ جوارِحُهم، واطمأنَّتْ نُفوسُهمْ إلى ربِّهم، أولئكَ أهلُ الجنَّة، يَتنعَّمونَ فيها ويَفرَحون، خالدينَ فيها، لا يَموتونَ ولا يَهرَمون.

﴿۞مَثَلُ الۡفَرِيقَيۡنِ كَالۡأَعۡمَىٰ وَالۡأَصَمِّ وَالۡبَصِيرِ وَالسَّمِيعِۚ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود:24]


ومِثالُ الفَريقَين: الكافرِ الشَّقيّ، والمؤمِنِ السَّعيد، كحالِ مَنْ جَمعَ بينَ العَمَى والصَّمَم، ومَنْ جَمَعَ بينَ البصَرِ والسَّمْع، فهلْ يَستَوي الفَريقان؟ الكافِرونَ أعرَضُوا عنِ الحقِّ لأنَّهمْ لم يَنتَفِعوا بحاسَّتَي السَّمعِ والبصَر، والمؤمِنونَ انتَفَعوا بهما فآمَنوا واهتَدَوا إلى طريقِ الجنَّة. أفلا تّتَّعِظونَ بهذا المثَلِ وتَتأمَّلُونَه، حتَّى لا تَخسَروا؟

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ﴾ [هود:25]


ولقدْ أرسَلنا نُوحًا إلى قَومِهِ المشرِكينَ منْ عَبدَةِ الأوْثان، وكانوا في العِراق، فقالَ لهم: إنِّي بُعِثتُ إليكمْ رَسُولاً مِنْ عندِ الله، لأُنذِرَكمْ في رَسالةٍ وَاضِحةٍ وكلامٍ بيِّن.

﴿أَن لَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا اللَّهَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ أَلِيمٖ﴾ [هود:26]


وهوَ ألاّ تَعبدوا إلاّ الله، فهوَ الإلهُ الحقّ، الذي لا تَنبَغي العِبادةُ إلاّ له، إنِّي أخافُ إنِ استَمرَرتُمْ في شِركِكُمْ وعِصيانِكم، أنْ يُصيبَكمْ عَذابٌ شَديدٌ يومَ القِيامَة.

﴿فَقَالَ الۡمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ﴾ [هود:27]


فقالِ الرؤساءُ والعِلْيَةُ الكُبَراءُ مِنْ قَومِه: ما نَراكَ يا نوحُ إلاّ بَشَرًا مِثلَنا، وليسَتْ فيكَ خَصْلَةٌ تُمَيِّزُكَ عنّا كما تَقول، وما نَراكَ اتَّبعَكَ في دَعوتِكَ سِوَى الفُقراءِ والضُّعَفاءِ وأهلِ الحاجَةِ مِنْ بينِنا، وقدِ اتَّبَعوكَ دونَ تَرَوٍّ ولا تَفكير، واغتَرُّوا بظَاهِرِ قَولِك، ولا نَرَى لكمْ عَلينا فَضيلَةً في خُلُقٍ ولا مَال، ولا قُوَّةٍ ولا عَدَد، بلْ نَظنُّكمْ كاذِبينَ فيما تَدَّعُونَهُ منْ صَلاحِ وإصْلاح، وعَقيدَةٍ ودَعوَة.

﴿قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ﴾ [هود:28]


قالَ نُوحٌ عليهِ السَّلام: يا قَومي، أرأيتُمْ إنْ كنتُ على أمرٍ جَليٍّ وحُجَّةٍ ظَاهِرةٍ مِنْ ربِّي، وشاهِدٍ يَشهَدُ لي بصِحَّةِ دَعواي، ونُبوَّةٍ صادِقَةٍ أكرمَني اللهُ بها، فيها هِدايةٌ ورحمَةٌ للنَّاس، فخَفِيَتْ والتَبَسَتْ عليكُمْ فلمْ تَهتَدوا إليها، ولم تَعرِفوا قَدْرَها، بلْ بادَرْتُمْ إلى تَكذيبِها ورَدِّها، وأنا لا أستَطيعُ أنْ أُلزِمَكُمْ بها وأُكرِهَكُمْ عليها، وأنتُمْ كارِهونَ لها، لا تَختارونَها ولا تَتأمَّلونَ فيها.

﴿وَيَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِۚ وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۚ إِنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَلَٰكِنِّيٓ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمٗا تَجۡهَلُونَ﴾ [هود:29]


ويا قومي لا أطلبُ مِنكمْ على تَبليغِ الرِّسالةِ والنُّصحِ لَكمْ أُجرَةً تؤدُّونَها إليّ، إنَّما أطلبُ ثوابَ ذلكَ منَ اللهِ وحدَه. ولنْ أُبعِدَ المؤمِنينَ الضُّعَفاءَ مِنْ حَولي حتَّى تَجلِسوا مَعيَ دُونَهم، فقدْ آمَنوا، وسَوفَ يُلاقُونَ ربَّهمْ يومَ الحِسابِ ليَجزِيَهمْ على إيمانِهم، ولكنِّي أراكُمْ تَجهَلونَ مِيزانَ المقارَنةِ والمُفاضَلة، ومَعرِفَةَ الخَيرِ والشرّ، فالمَرءُ ليسَ بمالِهِ وحَسَبِه، إنَّما هواَ بإيمانِهِ وطاعَتِه، ولا فَرقَ بينَ الغَنيِّ والفَقيرِ في الإسْلام، ولا الشَّريفِ والوَضيع، ما داموا مُسلِمين.

﴿وَيَٰقَوۡمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمۡۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود:30]


ويا قومي مَنْ يَدفَعُ عنِّي غَضَبَ اللهِ ويَمنَعُني مِنْ عَذابِهِ إذا أبعَدتُ هؤلاءِ المؤمِنين، وهمْ أكرَمُ عندَ اللهِ مِنكم، أفلا تَتَّعِظون؟ وهَلْ تَستَمرُّونَ في جَهلِكمْ بدَعوَةِ الرسُلِ هكذا؟

﴿وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ الۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ اللَّهُ خَيۡرًاۖ اللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [هود:31]


ولا أقولُ لكمْ إنَّني أملِكُ أموالاً عظيمةً وأرزاقًا فائضَةً مِنْ خزائنِ اللهِ التي لا تَنفَد، حتَّى أُظهِرَ نَفسِي بمَظهرِ الغَنيِّ الذي تُحِبُّونَه، ولأُعطيَكمْ منهُ ما تَرغَبون، إنَّما عِندي رِسالةٌ أُبَلِّغُها، ودَعوَةٌ أَنشُرُها، وعِلمٌ نافِعٌ أبثُّهُ للنَّاس.

ولا أعلَمُ ما في المستَقبَلِ لأُخبِرَكمْ بما تُريدون، إلاّ ما أطْلَعَني اللهُ عليه، وما أُخبِرُكمْ بهِ هوَ ما أوحَى بهِ إليّ، وليسَ مِنْ عِندي.

ولا أقولُ إنَّني مَلَكٌ مِنَ الملائكةِ حتَّى تُصَدِّقوا نُبوَّتي، فإنَّني بَشَرٌ، مُؤيَّدٌ بمُعجِزات، والنبوَّةُ تَكونُ فيهمْ لا في الملائكة، إنَّما جِبريلُ رُسولُ اللهِ منَ الملائكةِ إلى رُسُلِ اللهِ مِنْ عِبادِه.

ولا أقولُ للَّذينَ تَحتَقِرونَهمْ وتَستَصغِرونَهمْ مِنَ المؤمِنينَ الضُّعفاءِ الذينَ اتَّبَعوا دِينَ اللهِ لنْ يُؤتيَهمُ اللهُ تَوفيقًا في الدُّنيا وأجرًا في الآخِرَة، مُتابَعةً لمطالبِكمْ وتِرضِيَةً لكم، فاللهُ أعلَمُ بما في نُفوسِهمْ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، وليسَ لي إلاّ ظاهِرُ ما هُمْ عليه، ولو نقَصتُ مِنْ حُقوقِهمْ وقلتُ إنَّهمْ أشرارٌ وقدْ آمَنوا، فقدْ ظَلَمتُهم، وكنتُ قائلاً بما لا أعلَم، وعرَّضتُ نفسي لغَضَبِ الله.

﴿قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـٰدِقِينَ﴾ [هود:32]


قالَ قومُ نوحٍ الكافِرون: يا نوح، قدْ حاجَجْتَنا وجادَلتَنا وأكثَرتَ مِنْ ذلك، ولنْ نُؤمِنَ برِسالَتِك، فأنزِلْ عَلَينا العَذابَ الذي وَعَدتَنا به، إذا كنتَ صادِقًا بأنَّهُ سيُصيبُنا.

﴿قَالَ إِنَّمَا يَأۡتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ﴾ [هود:33]


قالَ لهمْ نوحٌ عليهِ السَّلام: ذلكمْ إلى اللهِ وليسَ إليّ، فإذا كنتُمْ مُستَحِقِّينَ للعَذابِ أنزَلَهُ بكمْ في الوقتِ الذي يَشاءُ فيه، ولا يَستَطيعُ أحَدٌ مِنكمْ أنْ يؤخِّرَهُ أو يَمنَعَهُ إذا جَاء.

﴿وَلَا يَنفَعُكُمۡ نُصۡحِيٓ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغۡوِيَكُمۡۚ هُوَ رَبُّكُمۡ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [هود:34]


ولا تَنفَعُكمْ نَصيحَتي ولا تُفيدُكمْ مَوعِظتي وقدْ أقفَلتُمْ قلوبَكمْ عنْ سَماعِ النُّصحِ لكم، ولا فائدةَ مِنْ ذلكَ إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أنْ يُهلِكَكم؛ لإعراضِكمْ عنْ سَماعِ الحقّ، وإصرارِكمْ على الكُفرِ والتَّكذيب، فاللهُ خالِقُكم، وهوَ العالِمُ بأحْوالِكم، المُتَصَرِّفُ في أمورِكم، وإليهِ مَآلُكم، ليُحاسِبَكمْ على مَواقِفِكم، ويُجازيَكمْ على أعمالِكم.

﴿أَمۡ يَقُولُونَ افۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ افۡتَرَيۡتُهُۥ فَعَلَيَّ إِجۡرَامِي وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ﴾ [هود:35]


أمْ يَقولُ الكافِرونَ مِنْ قَومِ نُوح: إنَّ نوحًا كذَبَ بإسنادِهِ الكلامَ إلى اللهِ؟ قُلْ لهمْ يا نبيَّ اللهِ نوحًا: إنَّني إنِ اختَلَقتُ هذا الكلامَ مِنْ عِندي فعليَّ إثمُهُ وعُقوبَتُه، وإنْ كنتُ صادِقًا فيما أقولُ وكذَّبتُموني، فعَليكمْ عِقابُ ذلكَ التَّكذيب، وأنا بريءٌ مِنْ عُقوبَةِ جُرمِكم، فلا أُحاسَبُ إنْ كذَّبتُكم، لأنَّكمْ على ضَلالٍ ظاهِر، وعِبادَةٍ لا يُقِرُّها عَقل، ودَعوَتي نقيَّةٌ طَاهِرة، مؤيَّدَةٌ بالمُعجِزاتِ والأدلَّةِ الواضِحةِ القويَّة، التي لا يُنكِرُها عَقل.

﴿وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ﴾ [هود:36]


وأوحَى اللهُ إلى نبيِّهِ نوحٍ أنَّهُ لنْ يؤمِنَ مِنْ قَومِكَ إلاّ مَنْ كانَ آمَنَ مِنْ قَبل - واللهُ أعلمُ بأحوالِهمْ وبما يَكونونَ عَليه - فلمْ تَعُدْ هُناكَ فائدَةٌ مِنْ دَعوَتِكَ إيَّاهُم، فلا تَحزَنْ ولا تَهتَمَّ بمواقِفِهمُ السيِّئةِ وأفعالِهمُ الدنيَّة، منْ تَكذيبٍ وإيذاءٍ واستِهزاء، فإنِّي مُهلِكُهُم.

﴿وَاصۡنَعِ الۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ﴾ [هود:37]


واصنَعْ سَفينةً كبيرةً برِعايَتِنا وتَعليمِنا، ولا تُراجِعني في هؤلاءِ الكافِرينَ المُعانِدين، فقدِ انتهَى أمرُهم، وتقَرَّرَ مَصيرُهم، إنَّهمْ مُغرَقونَ بالطُّوفان.

﴿وَيَصۡنَعُ الۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ﴾ [هود:38]


ونفَّذَ نُوحٌ أمرَ ربِّه، وأقبلَ على صُنعِ السَّفينة، وكُلَّما مَرَّ عليهِ جَماعَةٌ مِنْ قَومِهِ استَهزَؤوا بهِ وبعَمَلِه، وكذَّبوا بما تَوَعَّدَهمْ بهِ منَ الغَرَق، وهوَ يَقولُ لهم: إنْ كنتُمْ تَسخَرونَ مِنْ عمَلِنا الآن، فإنَّنا سنَسخَرُ منكمْ عندَما يُصيبُكمُ العَذاب، حيثُ تُغرَقونَ وتَطلُبونَ النَّجاة، ولا مُغيثَ لكم..

﴿فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيۡهِ عَذَابٞ مُّقِيمٌ﴾ [هود:39]


وسَوفَ تَعلَمونَ حِينَئذٍ مَنِ الذي يُصيبُهُ العَذابُ فيُذِلُّهُ ويُهينُه، وهوَ الغَرَق، ويَجِبُ عليهِ يَومَ القيامةِ عَذابٌ دائمٌ لا خَلاصَ لهُ منه.

﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلۡنَا احۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ اثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ الۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ﴾ [هود:40]


حتَّى إذا جاءَ أمرُنا بإنزالِ العَذابِ بهم، وهوَ إغراقُهمْ بالطُّوفان، وفارَ التَنُّور، وهوَ المَوْقِد، بأنْ يَفورَ منهُ الماءُ كما تَفورُ القِدْرُ بغَلَيَانِها، أو كفَورَةٍ بُركانيَّة، ليَكونَ ذلكَ عَلامَةً لنوحٍ عليهِ السَّلام، أمَرناهُ أنْ يَحمِلَ معَهُ في السَّفينةَ مِنْ كلِّ نوعٍ ذَكَرًا وأُنثَى، ممّا حدَّدَهُ اللهُ له، واحمِلْ فيها أهلَك: أولادَكَ ونِساءَك، إلاّ مَنْ سبَقَ القَولُ منهمْ بالإهلاك، وهُمُ الذينَ لم يؤمِنوا. واحمِلْ فيها مَنْ آمَنَ بكَ مِنْ قَومِك. وما آمنَ معَهُ إلاّ أفرادٌ قَليلون، معَ طولِ مَكثِهِ بينَهم!