تفسير سورة هود

  1. سور القرآن الكريم
  2. هود
11

﴿وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡۖ فَمَآ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِي يَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيۡءٖ لَّمَّا جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ﴾ [هود:101]


ولم نَظلِمهُمْ بالعَذابِ والإهْلاك، ولكن همُ الذينَ ظلَموا أنفُسَهمْ فجلَبوا لها الهَلاك، فكذَّبوا بآياتِنا، وكفَروا برسَالاتِ أنبِيائنا، وفتَنوا المؤمِنينَ عنْ دِينِهم، فكانَ عِقابُهمْ عَدْلاً وحِكمةً منَ الله، وليسَ ظُلمًا. وما نفعَتْهُمْ أصنامُهمُ التي كانوا يَعبدُونَها، فلمْ تَشفَعْ لهمْ عندَ اللهِ كما كانوا يَدَّعون، بلْ ما زادَتهمْ غيرَ تَخسير، فجَلبَتْ لهمُ الهَلاكَ والدَّمار، والعَذابَ والنَّار.

﴿وَكَذَٰلِكَ أَخۡذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الۡقُرَىٰ وَهِيَ ظَٰلِمَةٌۚ إِنَّ أَخۡذَهُۥٓ أَلِيمٞ شَدِيدٌ﴾ [هود:102]


ومِثْلُ ما مَرَّ منْ إهلاكِ الأقْوامِ والقُرَى يَكونُ إهلاكُ ربِّكَ لها ولأشباهِها؛ بسَبَبِ ظُلمِها وعُتوِّها، إنَّ عَذابَ اللهِ وإهلاكَهُ شَديدُ الألَم، قويُّ الأثَر، وإنَّ بأسَ ربِّكَ لشَديد. وفي الصحِيحَين: "إنَّ اللهَ لَيُمْلي للظَّالِم، حتَّى إذا أخذَهُ لم يُفْلِتْهُ".

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ الۡأٓخِرَةِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّجۡمُوعٞ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ﴾ [هود:103]


إنَّ في إهلاكِ الأُمَمِ الكافِرةِ عِظَةً وعِبرَةً لمَنْ آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِر، ففيهِ مِنْ تَعذيبِ الكافِرينَ الظَّالِمينَ بالنَّارِ في الآخِرَةِ ما يُشْبِهُ إهلاكَهمْ في الدُّنيا، فكِلاهُما عَذاب، لكنَّ عَذابَ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبقَى، ذلكَ اليومُ الذي يَجتَمِعُ النَّاسَ فيهِ كلُّهم، أوَّلُهمْ وآخِرُهم، للمُحاسَبةِ والجَزاء، إنَّهُ يَومٌ مَشهودٌ عَظيم، يَشهَدُهُ أهلُ السَّماءِ والأرْض.

﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُۥٓ إِلَّا لِأَجَلٖ مَّعۡدُودٖ﴾ [هود:104]


وما نؤخِّرُ ذلكَ اليومَ المَشهودَ إلاّ لأنَّهُ سَبَقَتْ كلِمَةٌ مِنَ اللهِ أنْ يَكونَ في مُدَّةٍ مُعَيَّنةٍ مَعلومَةٍ عندَه، فلا يُنْقَصُ منها، ولا يُزادُ عَليها.

﴿يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ﴾ [هود:105]


يَومَ يأتي ذلكَ اليَومُ العَظيم، وقدْ طغَى السُّكونُ الرَّهيبُ على الجَميع، فلا يَتكلَّمُ أحَدٌ إلاّ بإذنِ الله، فمِنْ هؤلاءِ مَنْ يَكونُ شَقيًّا تَعيسًا، ومنهمْ مَنْ يَكونُ سَعيدًا مَسرورًا.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ﴾ [هود:106]


فأمّا الأشْقياءُ فمأواهمُ نارُ جهنَّمَ المُسعَرَة، فيَشهَقونَ ويَزْفِرونَ بشِدَّةٍ وألم؛ مِنَ الضِّيقِ والحرِّ والإحْراق.

﴿خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود:107]


ماكثينَ في جَهنَّمَ مادامتِ السَّماواتُ والأرْض.

وهوَ تَعبيرٌ في البَقاءِ المُستَمِر، فكانَ مِنْ عادةِ العَربِ إذا وصفَتِ الشَّيءَ بالدَّوامِ أبَدًا قالت: هذا دائمٌ مادامتِ السَّماواتُ والأرض، وهذا باقٍ ما اختَلفَ اللَّيلُ والنَّهار. فخاطَبَهمُ اللهُ بما يَتعارَفونَهُ بينَهم.

وقالَ بعضُهم: المقصودُ سَماواتُ الآخِرةِ وأرضُها.

إلاّ ما شاءَ الله. واللهُ يَفعَلُ ما يُريدُ بالشقِيِّ والسَّعيد.

والاستثناءُ في المَشيئةِ عائدٌ على العُصاةِ مِنْ أهلِ التَّوحيد، ممَّنْ يُخرِجُهمُ اللهُ منَ النَّارِ بشَفاعَةِ الشَّافِعين، ثمَّ تأتي رحمَةُ اللهِ فتُخرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ لم يَعمَلْ خَيرًا قَطُّ وقالَ مَرَّةً منَ الدَّهرِ: لا إلهَ إلاّ الله. ولا يَبقَى بعدَ ذلكَ في النَّارِ إلاّ مَنْ وجَبَ عليهِ الخُلودُ فيها ولا مَحيدَ لهُ عنها. هذا ما عليهِ كثيرٌ منَ العُلماء، قَديمًا وحَديثًا.

﴿۞وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ﴾ [هود:108]


وأمّا السُّعَداءُ مِنْ أهلِ الإيمانِ وأتْباعِ الرسُل، فمَأواهمُ الجنَّة، مادامتِ السَّماواتُ والأرض، في دَلالَةٍ على الدَّوامِ كما مَرَّ في الآيةِ السَّابِقة، يَعني خالِدينَ فيها أبدًا. إلاّ ما شاءَ الله.

ومعنَى الاستِثناءِ هاهُنا أنَّ دوامَهمْ فيما هُمْ فيهِ منَ النَّعيمِ ليسَ أمرًا واجِبًا بذاتِه، بلْ هوَ مَوكولٌ إلى مَشيئتهِ تعالَى، فلَهُ المِنَّةُ عَليهم... قالَهُ ابنُ كثير.

ولا شَكَّ في خُلودِ أهلِ الجنَّة، ولهذا طَيَّبَ اللهُ القُلوبَ وثبَّتَ المقصودَ بقَولهِ في آخِرِ الآية: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: إحسَانًا ونَعيمًا لا يَنقَطِعُ عنْ أهلِ الجنَّةِ أبَدًا.

﴿فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّمَّا يَعۡبُدُ هَـٰٓؤُلَآءِۚ مَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبۡلُۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمۡ نَصِيبَهُمۡ غَيۡرَ مَنقُوصٖ﴾ [هود:109]


فلا تَكنْ في شَكٍّ مِنْ بُطلانِ ما يَعبدُ هؤلاءِ المُشرِكون، فإنَّهمْ في جَهلٍ وضَلال، وحُمْقٍ وغَفْلة، ما يَعبدُونَ شَيئًا إلاّ مِثلَ الذي عَبدَهُ آباؤهُمْ وأجدادُهمْ مِنَ الأوثَان، وقدْ قَصَصنا عَليكَ ما حَلَّ بهم، وهؤلاءِ كذلك، سَوفَ نُؤتِيهمْ حَظَّهمْ منَ العَذابِ كما آتَينا آباءَهم، ولنْ يُبْخَسوا مِنْ حَظِّهمْ شَيئاً!

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ فَاخۡتُلِفَ فِيهِۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ﴾ [هود:110]


ولقدْ أنزَلنا على موسَى التَّوراة، فاختلَفَ النَّاسُ في كونِهِ كتابًا مِنْ عندِ الله، فمِنْ مؤمِنٍ بهِ ومِنْ كافِر، ولو لا أنْ قضَى اللهُ مِنْ قَبلُ بتأجيلِ العَذابِ إلى اليومِ المَعلوم، لحكَمَ بينَهم، وأوقعَ العَذابَ في كافِرِهمُ استِحقاقًا، وإنَّهمْ لفي شَكٍّ قَويٍّ ممّا جاءَهمُ بهِ الرسُول.

﴿وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [هود:111]


وإنَّ كُلَّ النَّاسِ، مُؤمِنَهمْ وكافِرَهم، وأوَّلَهمْ وآخِرَهم، يَجمعُهمُ اللهُ يَومَ القِيامةِ ليُحاسِبَهمْ على أعْمالِهم، صَغيرِها وكبيرِها، ويَجزيَهمْ عَليها، إنْ خَيرًا أو شَرًّا، وهوَ عَليمٌ بأعْمالِهم، دِقِّها وجِلِّها، لا يَغيبُ عنهُ منها شَيء.

﴿فَاسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ﴾ [هود:112]


فالْزَمِ النَّهجَ المُستَقيمَ في الدِّينِ أيُّها الرسُول، منْ غَيرِ إفراطٍ ولا تَفريط، في ثَباتٍ ودَوام، كما أمرَكَ اللهُ بذلك، أنتَ ومَنْ تابَ منَ الشِّركِ معَك، ولا تَتجاوَزوا ما حَدَّهُ اللهُ لكمْ ولا تَنحَرِفوا عنه، فإنَّ مُجاوزةَ الحقِّ والتَّقصيرَ فيهِ طُغيانٌ وظُلم. فمَنْ أحلَّ ما حرَّمَ اللهُ في القُرآنِ فقدْ ظَلم، ومَنْ أشركَ كذلك، أو زَنَى، أو عَقَّ والِدَيه. ولا يَخفَى عليه شَيء، فيُجَازيكم على ما عَمِلتُم، فاتَّقوهُ في المحافظةِ على حُدودِه.

﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ [هود:113]


لا تَسكُنوا إلى أهلِ الظُّلمِ ولا تَرضَوا بظُلمِهم، لا تَميلوا إلى الجَبّارينَ الطُّغاةِ الذينَ يَظلِمونَ عبادَ الله، ولا تَستَعينُوا بهم، ولا تَستَنِدوا إليهم، فتَكونوا كأنَّكمْ قدْ رَضِيتُمْ بأعْمالِهم، ويكونُ ركونُكمْ إليهمْ إقرارًا لهمْ على ما يُزاوِلونَهُ منْ ظُلمٍ ومُنكَر.

قالَ القاضي البيضاويُّ في تفسيرِه: لا تَميلوا إليهمْ أدنَى مَيل، فإنَّ الركونَ هوَ المَيْلُ اليَسير، كالتزَيِّي بزِيِّهم، وتَعظيمِ ذِكرِهمْ واستِدامَتِه. اهـ.

وقالَ صاحِبُ "روح المعاني": فما ظنُّكَ بمَنْ يَميلُ إلى الراسِخينَ في الظُّلمِ كُلَّ المَيل، ويَتهالَكُ على مُصاحَبتِهمْ ومُنادَمتِهم، ويُتعِبُ قَلبَهُ وقالَبَهُ في إدخالِ السُّرورِ عَليهم، ويَستَنهِضُ الرِّجْلَ والخَيلَ في جَلبِ المَنافِعِ إليهم، ويَبتَهِجُ بالتزَيِّي بزِيِّهم، والمُشارَكةِ لهمْ في غَيِّهم، ويَمُدُّ عَينَيهِ إلى ما مُتِّعوا بهِ مِنْ زَهرَةِ الدُّنيا الفانيَة، ويَغبِطُهمْ بما أُوتُوا مِنَ القُطوفِ الدانيَة، غافِلاً عنْ حَقيقَةِ ذلك، ذاهِلاً عنْ مُنتَهى ما هُنالِك!

قال: ويَنبَغي أنْ يُعَدَّ مِثْلُ ذلكَ مِنَ الذينَ ظَلَموا لا منَ الرَّاكنينَ إلَيهم، بِناءً على ما رُوِيَ أنَّ رَجُلاً قالَ لسُفيان: إنِّي أَخيطُ للظلَمَة، فهلْ أُعَدُّ مِنْ أعوانِهم؟ فقالَ له: لا، أنتَ منهم، والذي يَبيعُكَ الإبرَةَ مِنْ أعوانِهم! اهـ.

فإذا فَعَلتُمْ ذلكَ تُصيبُكمُ النارُ بسَبَبِه.

وليسَ لكمْ مِنْ دونِ اللهِ أنصارٌ يَمنَعونَ العَذابَ عنكمْ إذا قّدَّرَهُ عليكم، ولا تَجِدونَ مَعونَةً منْ عندِ اللهِ لإنقاذِكمْ مِنَ العَذاب، فقدْ سَبقَ في حُكمهِ تعالَى أنْ يُعَذِّبَكم؛ لمِيْلِكمْ إلى الظَّالمين...

﴿وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ الَّيۡلِۚ إِنَّ الۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ السَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّـٰكِرِينَ﴾ [هود:114]


وأقمِ الصَّلاةَ المَكتوبةَ بتَمامِها(58)، وداوِمْ عليها، أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، وأوَّلُهُ الفَجر، وآخِرُهُ الظُّهرُ والعَصر، لأنَّهما بعدَ زَوالِ الشَّمسِ مِنْ وسَطِ السَّماء. وسَاعاتٍ مِنَ اللَّيلِ قَريبةً منَ النَّهار، ويَعني صَلاتَي المَغرِبِ والعِشاء. إنَّ فِعلَ الخَيرِ والعملَ الصالِحَ يُكَفِّرُ السيِّئاتِ ويُذهِبُ الذُّنوبَ السَّابِقة، والصَّلواتُ مِنْ أعظَمِ العِباداتِ والقُرُبات. وهذا مَوعِظةٌ لمَنِ اتَّعَظ، وعِبرَةٌ لمَنِ اعتَبَر.

(58) المرادُ بإقامةِ الصلاةِ أداؤها، وإنما عبَّرَ عنه بها إشارةً إلى أن الصلاةَ عمادُ الدين. (روح البيان). الأمرُ بالإقامةِ يؤذِنُ بأنه عملٌ واجب؛ لأن الإقامةَ إيقاعُ العملِ على ما يستحقُّه، فتقتضي أنَ المرادَ بالصلاةِ هنا الصلاةُ المفروضة. (التحرير والتنوير).

﴿وَاصۡبِرۡ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [هود:115]


واصْبِرْ على صُعوباتِ ما كُلِّفْتَ به، فإنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ ثوابَ صَبرِكَ وعَمَلِك، وإنَّ الصَّبرَ منَ الإحسَان، والاستِقامةَ منَ الإحسَان، والصلاةَ منَ الإحسَان... وكُلَّ ذلكَ وغَيرَهُ ممّا ابتَغَيتَ بهِ وجهَ الله، ثوابٌ لكَ تَلقاهُ في الميزَان.

﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ الۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ الۡفَسَادِ فِي الۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ﴾ [هود:116]


فهلاّ وُجِدَ مِنَ القُرونِ الماضِيةِ التي أهلكناهُمْ بَقايا مِنْ أهلِ الخَيرِ والطَّاعة، ذَوي رَأي وعَقلٍ وفَضل، يَقومونَ بالنَّهي عنِ الفَسادِ الواقعِ بينَهم، مِنَ الشِّركِ والظُّلم، والشُّرورِ والمعَاصي، إلاّ قَليلاً منهمْ ممَّنْ أصلَحوا وقامُوا بالنَّهي عنِ المُنكَرات، فأنجَيناهُمْ مِنَ الهَلاك، وسائرُهمْ كانوا ظالِمينَ مُفسِدين، فاستَمرُّوا على ما همْ فيهِ منَ المعاصي والمُنكَرات، والشَّهواتِ والمُغرِيات، والترَفِ والبذَخ، وإيثارِ الدُّنيا على الآخِرة، وكانوا كافِرينَ مُجرِمين، بفَسادِهمْ وإفسَادِهم.

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ الۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ﴾ [هود:117]


وما كانَ اللهُ ظالِماً حتَّى يُهلِكَ النَّاسَ ويُعَذِّبَهمْ وهُمْ مُصلِحونَ في أعمَالِهم، يؤدُّونَ واجِبَهمْ كما يَنبَغي، ولكنَّهُ سُبحانَهُ يُهلِكُهمْ بكفرِهمْ وإفسادِهمْ وظُلمِهم.

﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ﴾ [هود:118]


ولو شاءَ اللهُ لجعَلَ النَّاسَ جَميعًا بعضَهمْ مثلَ بَعض، في أفكارِهم ومُعتَقداتِهم، وثقافاتِهمْ واتِّجاهاتِهم، فكانوا مُجتَمعِينَ على دِينٍ واحدٍ ومِلَّةٍ واحِدة، لا يقَعُ بينَهمْ اختِلافٌ وتَناحُر، وصَاروا كأنَّهمْ نُسخَةٌ مُكَرَّرِةٌ منْ بعضِهمُ البَعض، ولكنْ لم يَشَأِ اللهُ ذلكَ على هذهِ الأرض، بلْ خَلَقَ الإنسانَ بطبائعَ مُختَلِفةٍ وعُقولٍ مُتفاوِتة، ووَهَبَهمُ العَزيمةَ والقُدرَةَ على الاختيار، بعدَ أنْ أعطاهمُ العَقلَ وبيَّنَ لهمُ الحقّ، ويَكونُ مِنْ مُقتَضَى هذا التَّفاوتِ والاختلافِ بينَهم، أنْ يَكونوا مُتفاوِتينَ ومُختَلِفينَ في عَقائدِهمْ وآرائهم،

﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الۡجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجۡمَعِينَ﴾ [هود:119]


إلاّ مَنْ أدرَكَتْهُمْ رَحمَةُ اللهِ فاهتَدَوا إلى الدِّينِ الحقّ، فهُمْ لا يَختَلِفونَ في العَقيدة، ولذلكَ خَلَقَ الناس، حتَّى يَتحَمَّلَ كُلٌّ تَبِعةَ اختيارِه، ويُجازَى عَليه.

نقلَ الطبريُّ عنِ ابنِ عبَّاسٍ قَولَه: خلقَهمْ فَريقَين: فَريقًا يُرحَمُ فلا يَختَلِف، وفَريقًا لا يَرحَمُ يَختَلِف، وذلكَ قَولُه: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [سورة هود: 105]. اهـ.

فأهلُ الرَّحمَةِ لا يَختَلِفون، وإذا اختلَفوا فلا يَكونُ اختِلافُهمْ مثلَ اختِلافِ الآخَرينَ في تَباغُضِهمْ وتَفرُّقِهم. يَقولُ الحسَنُ البَصْريُّ رَحِمَهُ الله: أهلُ رَحمَةِ اللهِ لا يَختَلِفونَ اختِلافًا يَضُرُّهم.

وهكذا نَفَذَ قضاءُ اللهِ وحَقَّ أمرُه، وتَمَّ حُكْمُه، بأنْ تَمتَلِئَ جَهنَّمُ منَ الكافِرينَ الضالِّين، المختَلِفينَ معَ أهلِ الحقِّ، المُعادِينَ لهم، وتَمتَلِئَ الجنَّةُ بالمؤمِنينَ المتَّبِعينَ للحَقّ، منَ الجِنِّ والإنس.

﴿وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَآءَكَ فِي هَٰذِهِ الۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةٞ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [هود:120]


ونقُصُّ عَليكَ كُلَّ ما تحتاجُ إليهِ منْ أخبَارِ الرسُلِ والأُمَمِ المُتَقَدِّمِين، وما جَرَى لَهمْ مِنْ تَصديقٍ وتَكذيب، ونَصْرٍ للرسُلِ والمؤمِنين، وهَلاكٍ للكافِرينَ المُكَذِّبين، لنُثَبِّتَ بهِ قلبَك، فتَزدادَ يَقينًا وطُمأنينة، وثَباتًا على أداءِ الرسَالة، وتَحَمُّلاً لأذَى الكافِرين، أُسوَةً بمَنْ سَبقَكَ منْ إخوانِكَ المرسَلين.

وجاءَكَ في هذهِ السُّورةِ الحقُّ مِنْ عندِ الله، منَ النبأِ الصَّادقِ والقَصَصِ الحقّ، ليَتَّعِظَ بهِ المؤمِنون، ويَرتَدِعَ بهِ الكافِرون، ويَكونَ لهمْ جَميعًا عِبرَةً بما سَبق.