وقالَ مُشتَريهِ - وهوَ عَزيزُ مِصر، كبيرُ وزَرائها، أو وَزيرُ مالِها - لامرأتِهِ: اعتَني بهِ وأحسِني إليه، فإنِّي أتوَسَّمُ فيهِ خَيرًا، عسَى أنْ يَنفعَنا فيَقضي مَصالِحَنا، أو نتَبنَّاهُ فيَكونَ قُرَّةَ عَينٍ لنا.
وكما أنقَذْنا يوسُفَ مِنْ كَيدِ إخوانِه، كذلكَ ثبَّتناهُ وجَعلنا لهُ مَكانًا عَظيمًا في مِصر. ولنُعَلِّمَهُ مِنْ تَعبيرِ الرُّؤيا ما نَشاء. واللهُ يَفعَلُ ما يُريد، ولا يُرَدُّ أمرُه، ولا يُمانَع، ولا يُخالَف، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ لَطائفَ صُنعِه، وخَفايا فَضلِه، وحِكمتَهُ في خَلْقِه.
ولمّا استَكمَلَ عقلُه، واشتَدَّتْ قوَّتُه، آتَيناهُ النبوَّة، وعِلمَ تأويلِ الرُّؤيا، وكانَ ذلكَ جزاءَ إحسانِه، فقدْ أحسَنَ في عَمَلِه، وعَمِل بطاعةِ ربِّه، وصبَرَ في مِحنَتِه.
وهذا وَصفٌ لحالِ يوسُفَ عليهِ السَّلام، ولا يَعني أنَّهُ أُوتيَ النبوَّةَ في هذا المَوضِعِ مِنْ سِياقِ القِصَّة، إذا فُسِّرَ "الحُكمُ" بالنبوَّة، الذي يأتي ذِكرُهُ ومَعناهُ هكذا في حَقِّ الأنبياءِ عليهمُ السَّلام، كما في قولهِ تعالَى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الأنبياء: 74]. أمّا إذا فُسِّرَ بمَعنِى العِلمِ والفِقهِ في الدِّين، فلا يَكونُ هُناكَ إشْكال.
ودَعَتْهُ امرأةُ العَزيزِ إليها، وطالَبَتْهُ بلُطْفٍ ليواقِعَها، وأغلَقَتْ أبوابَ البَيتِ بإحكام، وقالَتْ له: هَلُمَّ، أسرِع، فقدْ تَهَيَّأتُ لَك.
قالَ يوسُفُ عليهِ السَّلام: أعوذُ باللهِ وأعتَصِمُ بهِ ممّا تُريدينَ منِّي، إنَّ زَوجَكِ سيِّدي العَزيزَ أحسَنَ مَنزِلي وأكرَمَني، فكيفَ أُسِيئُ إليهِ وأخونُهُ في زَوجَتِه؟! إنَّ الذينَ يُجازُونَ الحسَنَ بالسيِّءِ لا يُفلِحون، ولا يَفوزونَ ولا يَسعَدونَ في الدُّنيا وفي الآخِرَة.
وقَدْ قَصَدَتْ مُخالطَتَهُ وعَزمَتْ على ذلكَ عَزْمًا جازِمًا. ومالَ هوَ إلَيها في لَحظَةٍ منَ اللَّحَظات، بمُقتَضَى الطبيعَةِ البشَريَّة، لكنَّ ذلكَ لم يَتجاوَزْ خاطِرًا قَلبيًّا عِندَه، فلمّا تمَثَّلَ أمامَهُ بُرهانٌ منْ عندِ اللهِ وآيَةٌ في تَثبيتِه، تُذَكِّرُهُ بالرَّدْعِ منَ الفَاحِشة، وتُقَوِّي عَزيمَتَهُ بالصَّبرِ والتَّقوَى، أضاءَ ذلكَ نورَ الإيمانِ في قَلبِهِ مِنْ جَديدٍ بقُوَّة، فتَذَكَّرَ وأناب، واستَعاذَ باللهِ واعتصَمَ به، ولمْ يَهُمَّ بشَيء، وصُرِفَ عَنهُ حتَّى ذلكَ الخاطِرُ القَلبيّ.
وكما أرَيناهُ بُرهانًا فصَرَفناهُ عمّا كانَ فيه، كذلكَ نَصرِفُ عنهُ الخِيانةَ والزِّنا، إنَّهُ مِنْ عِبادِنا المُصطَفَينَ الأخيَار، الذينَ اختَرناهُمْ لطاعَتِنا، وأكرَمناهُمْ بالنبوَّة، وعَصمناهُمْ ممّا يَقدَحُ في سُلوكِهمْ وسِيرَتِهم.
وقامَ يوسُفُ هارِبًا إلى بابِ البيتِ ليَتخلَّصَ منها، وتَبِعَتْهُ هيَ لتَمنعَهُ مِنَ الخُروجِ ويَرجِع، فأمسكَتْ بقَميصِهِ مِنْ خَلفِه، فجَذَبَتْهُ إليها، فقَطَعَتْه، واستمرَّ يوسُفُ هارِبًا، وهي تَتْبَعُهُ لتُعيدَه، فلمّا خرَجا لَقِيا زوجَها العزيزَ عندَ الباب، فهابَتْهُ، وقالتْ في مَكرٍ ودَهاء: ما جَزاءُ مَنْ أرادَ أنْ يَزنيَ بزَوجَتِك؟
وخافَتْ أنْ يَقتُلَهُ، وهيَ تُحِبُّه، فقالت: إلاّ أنْ يَكونَ هذا العِقابُ سِجنًا، أو ضَربًا شَديداً مُوجِعاً.
قالَ لهُ يوسُفُ عليهِ السَّلام: هيَ طالبَتْني بالفَاحِشة، لا كما زَعَمَتْ، وقدْ رَفَضتُ ذلكَ وفَرَرْتُ منها.
وحَسَمَ الخِلافَ بينَهما شاهِدٌ مِنْ أهلِ المرأةِ كانَ هُناك، أو استُدعِيَ مِنْ بَعد، فقال: إنْ كانَ قَميصُهُ شُقَّ مِنْ قُدَّام، فقدْ صدَقَتِ المرأةُ وكذَبَ هو، ويَكونُ هوَ الذي أرادَ عملَ الفاحِشَةِ بها.
وإنْ كانَ قَميصُهُ شُقَّ مِنْ خَلف، فقدْ كذَبَتْ في ادِّعائها، وهو صادِقٌ بَريء.
ووردَ أنَّ الذي نطَقَ بالحُكمِ طِفْلٌ تَكَلَّم، وهوَ حَديثٌ صَحَّحَهُ بَعضُهمْ وضَعَّفَهُ آخَرون.
قالَ العَزيز: يا يوسُف، قدْ ظهرَ لنا صِدقُك، ولكنْ أعرِضْ عنْ هذا الحَديث، واكتُمْهُ ولا تَذكُرْهُ لأحَد، حتَّى لا يَشيعَ بينَ النَّاس.
وأنتِ أيَّتُها المرأة، تُوبي منْ هذا الذي صدَرَ عنكِ ولا تَعودي إليه، فإنَّكِ كُنتِ منَ المذنِبينَ المُسِيئين.
فلمّا سَمِعَتْ بقَولِهنَّ وتَعييرِهِنّ، وكنَّ منَ الطَّبقَةِ الراقيَة، أرسَلتْ إليهنَّ تَدْعُوهِنَّ، وأقامَتْ لهنَّ مأدُبَةً في قَصرِها، وأعَدَّتْ لهنَّ وسائدَ يَتَّكِئنَ عليها، وزَيَّنَتْ مائدَتَهُنَّ بأنواعِ الأطْعِمَةِ والفَاكِهة، فجِئنَ وجَلَسْنَ، وأعطَتْ كُلَّ واحِدةٍ منهُنَّ سِكِّينًا، فبينَما كُنَّ يُقَطِّعْنَ اللحمَ أو الفاكِهة، قالتْ ليوسُف: اِظْهَرْ لهُنَّ. وكانَ أجملَ النَّاس. فخرجَ عَليهِنّ، فلمّا رأينَهُ أعْظَمْنَه، ودُهِشْنَ برؤيَةِ جَمالِهِ الفائق، وجَرَحْنَ أيديَهُنَّ بالسَّكاكينِ التي معَهُنَّ وهُنَّ يَحسَبْنَ أنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الفاكِهة، لشَدَّةِ تأثُّرِهنَّ بجَمالِهِ وحُسْنِ سَمْتِهِ وطَلْعَتِه.
وذُكِرَ أنَّهُنَّ لم يَشعُرْنَ بالألم، لانشِغالِ قُلوبِهِنَّ بيوسُفَ عليهِ السَّلام، وقُلْنَ مُتَعَجِّباتٍ مُنْدَهِشات: معاذَ الله، ليسَ هذا ببَشَر، فلا مِثالَ له، ولا أجملَ منه، ما هذا إلاّ مَلَكٌ منَ المَلائكةِ الكُرَماءِ على الله!
وكانَ كلُّ ذلكَ مَكرًا منِ امرأةِ العَزيز، لتَصِلَ إلى بُغيَتِها منهُنّ.
قالَ يوسُفُ عليهِ السَّلامُ يُناجي ربَّه، وقدْ عَرَفَ إصرارَ امرأةِ العزيزِ على الفَاحِشة، وتَمادِيها في غَيِّها، كما تَدَخَّلتْ نِساءُ القَصرِ وخَوَّفْنَهُ منْ عاقِبةِ مَخالَفَتِها، أو أنَّهُنَّ دَعَونَهُ إلى أنفُسِهِنَّ كذلك، فقالَ وهو يَبغي الخُروجَ مِنْ هذهِ الفِتنَة: يا ربّ، إنَّ العُقوبةَ بالسَّجنِ أفضَلُ عِندي مِنْ إتيانِ الفَاحِشة، الذي يؤدِّي إلى سَخَطِك، وإلى الشَّقاءِ والعَذابِ الأليم. (والأَولَى بالمَرءِ في هذا أنْ يَسألَ اللهَ العَافيةَ مِنْ هذا وذَاك). وإذا لم تَدفَعْ عنِّي مَكرَهُنَّ وحَبائلَهُنَّ، ووكَّلتَني إلى نَفسي، أمِلْ إليهِنَّ وأكُنْ منَ المُذنِبين.
"وهيَ دَعوَةُ الإنسانِ العَارِفِ ببَشَرِيَّتِه، الذي لا يَغتَرُّ بعِصمَتِه، فيُريدُ مَزيدًا منْ عِنايَةِ اللهِ وحِياطَتِه، يُعاوِنُهُ على ما يَعتَرضُهُ منْ فِتنَةٍ وكَيدٍ وإغراء". قالَهُ صاحبُ "الظِّلال".
فأجابَ اللهُ دُعاءَ يوسُف، وأبعدَ عَنهُ مَكرَهُنَّ، وثَبَّتَهُ على العِصمَةِ والعِفَّة، إنَّهُ سَميعٌ لدُعاءِ المُتَضَرِّعينَ إليه، عَليمٌ بأحْوالِهمْ وبما يُصلِحُهم.
ومَواقِفُ الشبابِ منَ الشَّهواتِ وثَباتُهُمْ أمامَ المُغرَياتِ في جَوٍّ مَليءٍ بالفِتَنِ صَعبٌ جِدًّا، وكانتِ امرأةُ العَزيزِ في غايَةِ الجَمال، معَ ما هيَ عَليهِ منْ ثَراءٍ وجَاه، وامتنعَ يوسُفُ عليهِ السَّلامُ منَ الفَاحِشَةِ خَوفًا منَ الله، واختارَ السِّجْنَ على ذلك، وهذا مِنْ عِصمَةِ اللهِ له، وممّا جَمَّلَهُ بهِ منَ الإيمانِ والتَّقوِى، والعَزيمةِ والصبر.
وفي الحديثِ الصَّحيحِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّه: "رَجُلٌ دَعَتْهُ امرَأةٌ ذاتُ جَمالٍ ومَنْصِب، فقال: إنِّي أخافُ الله". مُتَّفَقٌ عليه.
ودخلَ معَهُ السِّجنَ غُلامَان، وقدْ عُرِفَ يوسُفُ بينَ المسَاجينِ بمكارِمِ الأخلاقِ والعِبادَةِ وتَعبيرِ الرؤيا، فرأى كُلٌّ منهُما مَنامًا، فسَرَدَ الأوَّلُ مَنامَهُ عليهِ قائلاً: رأيتُني أعصِرُ عِنَبًا.
وقالَ الآخَر: رأيتُني أحمِلُ فوقَ رأسي خُبزًا، والطَّيرُ تأكلُ منه.
قالا: أخبِرنا بتَعبيرِ رُؤيانا يا يوسُف، فنَعتَقِدُ أنَّكَ مِنَ الذينَ يُجيدونَ تَعبيرَ الرُّؤَى والأحْلام.
إنَّكمْ ما تَعبُدونَ - أهلَ الشِّركِ - سِوَى ألفَاظٍ فارِغة، وآلِهةٍ خَالِية، ليسَ لها منْ حَقيقةِ الرُّبوبيَّةِ شَيء، وقدْ أطلَقتُمْ عليها هذهِ الأسماءَ المُفَخَّمةَ والألقابَ المُعَظَّمةَ أنتُمْ وآباؤكمْ بتصَرُّفٍ مِنْ عِندِكم، جَهلاً وضَلالًا، بدونِ أيِّ مُستَنَدٍ ولا حُجَّةٍ منْ عندِ الله، وإنَّما هكذا يَتلقَّى خَلَفُكمْ عنْ سَلَفِهمْ اتِّباعًا وتَقليدًا، بدونِ عِلمٍ ولا وَعي.
ما الأمرُ والنَّهي، والتشريعُ والقَضاء، إلاّ مِنْ عِندِ الله، فلهُ السُّلطانُ ولهُ الحُكم؛ لأنَّهُ الإلهُ الحقُّ المَعبود، والمالِكُ للأمرِ كُلِّه، فهوَ الذي يأمرُ بالعِبادةِ لمَنْ يَستَحِقُّها، وبكيفيَّةِ ذلك، وقدْ أمرَ ألاّ تَعبدوا إلاّ إيَّاه، فلا تتَوجَّهُ العِبادَةُ إلاّ إليه، لأنَّهُ وحدَهُ المُستَحِقُّ لذلك، وهذا هوَ النَّهجُ الثابِتُ المُستَقيمُ الذي لا يتَغيَّرُ في الدِّين، وهوَ الذي أُرسِلَتْ بهِ الرُّسُل، ونزَلَتْ بهِ الكتُب، ودلَّتْ عَليهِ الحُجَجُ والبَراهين، وهذا ما أدعوكُما إليه، مِنَ الطَّاعةِ والتَّوحيد، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمونَ ذلك، لجَهلِهمْ بتلكَ الدَّلائل، ولذلكَ فإنَّ أكثرَهمْ مُشرِكون.