تفسير سورة يوسف

  1. سور القرآن الكريم
  2. يوسف
12

﴿ارۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّ ابۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ﴾ [يوسف:81]


عُودوا إلى أبيكمْ وأخبِروهُ بما حصَل، وقولوا: إنَّ ابنَكَ بِنيامينَ سَرَقَ إناءَ المَلِك، وما شَهِدنا عَليهِ إلاّ بما عَلِمناهُ مِنْ سَرِقَتِه، وبَقيَ هُناكَ أسيرًا جَزاءَ سَرِقَتِه، وما كُنّا عالِمينَ بما سيَحدُثُ في الغَيب.

﴿وَسۡـَٔلِ الۡقَرۡيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالۡعِيرَ الَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ﴾ [يوسف:82]


واسألْ أهلَ مِصرَ عنِ القِصَّة، والرِّفقةَ الذينَ صاحَبناهُمْ في السَّفَر، ونحنُ صَادِقونَ فيما أخبَرناكَ به.

﴿قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ الۡعَلِيمُ الۡحَكِيمُ﴾ [يوسف:83]


فوَصَلوا إليه، وأخبَروهُ بذلك، فقالَ لهمْ عليهِ السَّلام: بلْ زَيَّنَتْ لكمْ أنفُسُكمْ أمرًا ما ونَفَّذتُموه، وسأصبِرُ على بِنيامينَ كما صَبَرتُ على يوسُفَ مِنْ قَبل، صَبرًا حسَنًا يُرضي رَبِّي، وعسَى أنْ يأتيَني بهما وبأخيهِما المُتوَقِّفِ بمِصر، إنَّهُ عَليمٌ بحَالي وحالِهم، حَكيمٌ فيما يَبتَلي بهِ خَلْقَه، وفي قَضائهِ وقَدَرِه.

﴿وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ الۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ﴾ [يوسف:84]


وأعرضَ عنْ بَنيهِ وقدْ تَجدَّدَ حُزنُهُ وزَاد، وقال: يا حُزني ويا أسَفي على يوسُف. وابيضَّتْ عَيناهُ من شِدَّةِ الحُزنِ علَى وَلدَيه، وكانَ مَغمومًا مَكروبًا، قدِ امتلأَ قلبُهُ بالأسَى والغَمّ، ولكنَّهُ ساكِتٌ لا يَبثُّه.

﴿قَالُواْ تَاللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ الۡهَٰلِكِينَ﴾ [يوسف:85]


قالَ لهُ بَنوه: واللهِ لا تَزالُ تَذكرُ يوسُفَ ولا تُفارِقُ ذِكرَهُ حتَّى تَضعُفَ قُوَاكَ وتَكونَ منَ الميِّتين.

﴿قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى اللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف:86]


قالَ لهمْ يَعقوبُ عليهِ السَّلام: إنَّما أشْكو غَمِّي وحُزني إلى اللهِ وحدَه، وأتَضرَّعُ إليهِ ليَدفعَهُ عنِّي، وأنا أعلَمُ مِنْ لُطفِ اللهِ ورحمَتِه، وخَيرِهِ وإحسانِه، ما لا تَعلمونَ أنتُم.

﴿يَٰبَنِيَّ اذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ اللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ اللَّهِ إِلَّا الۡقَوۡمُ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [يوسف:87]


ثمَّ قالَ لهم: اذهَبوا إلى مِصرَ وتعَرَّفوا خبَرَ أخوَيكُما يوسُفَ وبِنيامين، ولا تَقطَعوا الرَّجاءَ والأملَ مِنْ فَرَجِ اللهِ ورَحمَتِه، إنَّهُ لا يَقنَطُ مِنْ فَرَجِ اللهِ - ولو أحاطَ بهمُ الكَرْبُ - إلاّ الكافِرون؛ لإنكارِهمْ سَعَةَ رَحمَةِ الله، واستِبعادِهمْ عَفوَه.

﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا الۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا الضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا الۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ اللَّهَ يَجۡزِي الۡمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف:88]


فخرَجوا إلى مِصر، ودخَلوا على يوسُفَ عليهِ السَّلام، وقالوا له: أيُّها العَزيز، لقدْ أضَرَّتْ بِنا المَجاعة، وأصابَنا وأهلَنا الشِّدَّةُ والجُوع، وأتَينا ببِضاعَةٍ قَليلَةٍ رَديئةٍ كاسِدة، لا تَكفي مِقدارَ ما نَحتاجُهُ مِنْ طَعام، فأعطِنا ما نَحتاجُه، ولا تَنقُصْ عنَّا شَيئاً، وتَفَضَّلْ عَلينا بالزِّيادة، إنَّ اللهَ يُثيبُ المَتصَدِّقين، ويَجزِيهمْ خَيرًا.

﴿قَالَ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذۡ أَنتُمۡ جَٰهِلُونَ﴾ [يوسف:89]


فرَقَّ لهمْ يوسُف، وتَصَوَّرَ حالَ أبيهِ يَعقوبَ وما هوَ فيهِ منْ حُزنٍ وفَقر، فقالَ لهمْ مُنهِيًا أسرارَ القِصَّةِ معَهم: هلْ تَذكرونَ سُوءَ فِعلِكمْ معَ يوسُفَ وأخيهِ أيّامَ جَهلِكمْ وطَيشِكم؟

﴿قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ اللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ الۡمُحۡسِنِينَ﴾ [يوسف:90]


فتَبادرَ إلى ذِهنِهمْ أنَّ هذا الذي يُكَلِّمُهمْ هوَ يوسُفُ نَفسُه، فقالوا: أوَ أنتَ يوسُف؟ قال: نَعم، أنا يوسُف، وهذا أخي، قدْ أنعمَ اللهُ عَلينا فجَمعَ بينَنا بعدَ الفُرقَة، وآنسَنا بعدَ الوَحشَة، وأعزَّنا بعدَ ذُلّ، وإنَّ مَنْ يَخشَى اللهَ في أمورِه، ويَصبِرُ على ما ابتُليَ به، فإنَّهُ لا يُضِيعُ أجرَهم، بلْ يَجزيهِمْ خَيرَ الجزاء، ويَزيدُهمْ مِنْ فَضلِه.

﴿قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدۡ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيۡنَا وَإِن كُنَّا لَخَٰطِـِٔينَ﴾ [يوسف:91]


فقالوا مُعتَذِرينَ وقدْ غَشَّاهمُ الخِزيُ والخجَل، مُعتَرِفينَ بفَضلِهِ وحِلْمِه، وكَرَمِهِ وصَبرِه، وعِلمِهِ وأدَبِه: لقدِ اختارَكَ اللهُ وفضَّلكَ عَلَينا، وقدْ أسأنا إليك، وأخطأنا في حَقِّك.

﴿قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ الۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ اللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ الرَّـٰحِمِينَ﴾ [يوسف:92]


قالَ لهمْ يوسُفُ عليهِ السَّلام: لا تأنيبَ عليكمُ الآنَ ولا لَوم، ولا مؤاخَذَةَ ولا تَعْيير. غفَرَ اللهُ لكمْ ورَحِمَكم، وهوَ أرحَمُ مَنْ رَحِم، يَغفِرُ الصَّغائرَ والكبَائر، ويَتفضَّلُ على التَّائبِ بقَبولِ تَوبَتِه.

﴿اذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [يوسف:93]


ثمَّ قالَ لهم: اذهَبوا إلى أبي وأَلقُوا بقَميصِي هذا على وَجهِه، يَصِرْ بَصيرًا. - وكانَ هذا مُعجِزةً لهُ عليهِ السلام، وكانَ والدُهُ قدِ ابيضَّتْ عَيناهُ منَ الحُزنِ عَليه - وأْتُوني بجَميعِ آلِ يَعقوبَ ليَكونوا عِندي.

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف:94]


ولمَّا خرَجَتِ القافِلةُ مِنْ مِصرَ مُتَّجِهَةً إلى مَكانِ يَعقوبَ عَليهِ السَّلام، قالَ لمَنْ حَولَهُ مِنْ آلِه: إنَّني أشُمُّ رائحةَ يوسُف، لو لا أنْ تَقولوا إنَّ الشَّيخَ يَخرَف.

﴿قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ الۡقَدِيمِ﴾ [يوسف:95]


قالوا: واللهِ إنَّكَ في خَطَئكَ السَّابق، مِنْ تَذَكُّرِ يوسُف، والإفراطِ في محبَّتِه، والحُزنِ عَليه، وانتِظارِه.

﴿فَلَمَّآ أَن جَآءَ الۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَارۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف:96]


فلمّا وصَلَتِ القافِلَة، ودخلَ المُبَشِّرُ على أبيهِ يَعقوب، وألقَى قَميصَ يوسُفَ على وجهِه، عادَ بَصيرًا، وقالَ لهمْ وهوَ فَرِحٌ مُستَبشِر: ألمْ أقُلْ لكمْ إنِّي أعلَمُ مِنْ قِبَلِ اللهِ ما لا تَعلَمونَ أنتُمْ مِنْ حياةِ يوسُف، وأمرتُكمْ بالبَحثِ عَنه، ونهَيتُكمْ عنِ اليأسِ منْ رَحمَةِ الله؟

﴿قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَا اسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِـِٔينَ﴾ [يوسف:97]


قالَ لهُ أولادُهُ كما قالوا ليوسُفَ مُعتَذِرين: يا أبَانا ادْعُ اللهَ أنْ يَغفِرَ لنا خطيئتَنا، فقدْ كُنّا مُذنِبينَ مُتَعَمِّدين.

﴿قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ الۡغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يوسف:98]


قالَ لهمْ عليهِ السَّلام: سأطلبُ منَ اللهِ أنْ يَغفِرَ لكم، فهوَ يَغفِرُ ذُنوبَ عِبادِهِ التَّائبين، ويَرحَمُهمْ فلا يُعَذِّبُهمْ بها، إذا عرَفَ صِدقَ تَوبَتِهمْ منها.

﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ادۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ﴾ [يوسف:99]


وشَدُّوا رِحالَهمْ إلى الكَريمِ يوسُف، فلمّا دخَلوا عَليهِ ضَمَّ إليهِ أبوَيهِ واعتَنقَهُما بشَوقٍ وحَنان، وقالَ لهمْ جَميعًا: ادخُلوا مِصرَ واستَقِرُّوا فيها آمِنينَ مُطمَئنِّين.

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى الۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ السِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ الشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ الۡعَلِيمُ الۡحَكِيمُ﴾ [يوسف:100]


ورفَعَ يوسُفُ أبوَيهِ على السَّريرِ وأجلسَهُما معَهُ تَكريمًا لهما، وسجَدَ لهُ أبواهُ وإخوَتُهُ - وكانوا أحدَ عشَرَ شَخصًا - سُجودَ تَحيَّةٍ وتَكريم، لا سُجودَ عِبادَة، تَعظِيمًا وتَوقيرًا لهُ عَليهِ السَّلام.

وقدْ يَكونُ السُّجودُ بوَضعِ الجِباهِ على الأرض، أو بالانحِناءِ والتَّواضُع. وكانَ ذلكَ جائزًا في الأُمَمِ الماضِية، ثمَّ نُسِخَ في شَريعتِنا، فلا سُجودَ إلاّ للهِ تعالَى.

والتفَتَ يوسُفُ إلى أبيهِ مُذَكِّرًا إيّاهُ بالحُلُمِ الذي رآهُ وهوَ غُلام، وقال: يا أبتي، هذا تأويلُ رؤيايَ التي قَصَصتُها عَليكَ مِنْ قَبل: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [سورة يوسُف: 4]. فالشمسُ والقمَرُ الأبَوان، والأحدَ عشرَ كَوكبًا إخوَتُه. وقدْ جعلَ اللهُ هذهِ الرُّؤيا حقًّا وصِدقًا، وأنعمَ اللهُ عليَّ ولطَفَ بي عِندَما أخرجَني مِنَ السِّجن، وجاءَ بكمْ منَ البادِيةِ إلى الحَضَر، بعدَ أنْ أفسدَ الشَّيطانُ بَيني وبينَ إخوَتي بالحسَدِ والبُغض، إنَّ رَبِّي ذو لُطفٍ وحِكمَةٍ في تَدبيرِ ما يَشاء، وهوَ عَليمٌ بما يُصلِحُ الناسَ، حَكيمٌ بما يُقَدِّرهُ لهمْ وعَليهم.