تفسير سورة يوسف

  1. سور القرآن الكريم
  2. يوسف
12

﴿۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ الۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ الۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِالصَّـٰلِحِينَ﴾ [يوسف:101]


ثمَّ تَوجَّهَ إلى ربِّهِ حامِدًا شاكِرًا وقال: اللَّهمَّ إنَّكَ وهَبتَني ما شِئتَ مِنْ سُلطانٍ ومكانَة، وتصرُّفٍ في مُلْكِ مِصر، وعلَّمتَني مِنْ تَعبيرِ الرُّؤيا ما شِئت، يا خالِقَ السَّماواتِ والأرضِ ومُبدِعَهما، أنتَ مُعيني ومُتولِّي أمْري وناصِري في الدُّنيا والآخِرة، اقبِضني إليكَ على الإيمانِ والإسلام، وألحِقني بالصالِحينَ مِنْ آبائي الأنبياءِ المُكْرَمين.

﴿ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ الۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ﴾ [يوسف:102]


وما ذُكِرَ مِنْ خَبَرِ يوسُفَ هوَ مِنْ قَصَصِ الغَيبِ الذي نُوحيهِ إليكَ أيُّها الرسُولُ محمَّد، وليسَتْ أسَاطير، وما كنتَ إذْ ذاكَ عِندَ إخوةِ يوسُفَ عِندما اجتَمعَ رأيُهمْ وعزَموا على إلقاءِ يوسُفَ في الجُبِّ وهمْ يَكيدونَ له، بلْ هوَ وحيٌ أوحَيناهُ إليكَ دونَ أنْ تَكونَ لكَ مَعرِفَةٌ مُسبَقَةٌ بهِ على هذا الوَجه.

﴿وَمَآ أَكۡثَرُ النَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ﴾ [يوسف:103]


وما أكثَرُ النَّاسِ بمؤمنينَ لكَ أيُّها الرسُولُ ولو حرَصتَ على إيمانِهمْ أشَدَّ الحِرص، وبالَغْتَ في الحِوارِ معَهم، وأورَدتَ لهمُ الآياتِ والحُجَجَ الدالَّةَ على صِدقِك، وذَكرْتَ لهمْ مِنَ القَصَصِ والأخبارِ المَغيبةِ عنهمْ ما شَاءَ اللهُ منْ ذلك، وهذا لعِنادِهمْ وإصرارِهمْ على الكُفرِ والتَّكذيب.

﴿وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [يوسف:104]


وأنتَ لا تَطلبُ منهمْ على تَبليغِكَ الرِّسَالة، ودَعوتِهمْ إلى اللهِ أُجرةً يُؤدُّونَها إليك، وما هوَ إلاّ تَذكِرَةٌ وعِظَةٌ لهمْ وللنَّاسِ عامَّة، ليَتذَكَّروا ويَعتَبِروا ويَهتَدوا.

﴿وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ﴾ [يوسف:105]


وكمْ مِنْ آياتٍ دالَّةٍ على وَحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِهِ مَبثوثَةٍ في السَّماواتِ والأرض، مَعروضَةٍ أمامَ الأعيُن، يُشاهِدُها النَّاس، ولكنَّهمْ لا يَتفكَّرونَ فيها، ولا يَعتَبرونَ بها، للأُلفَةِ والعَادةِ التي هُمْ عَليها، فاكتَفَوا برُؤيتِها هكذا دونَ التعمُّقِ فيها ومَعرِفةِ الحِكمةِ منها، ولذلكَ لا تَجِدُ أكثرَهُمْ مؤمِنين.

﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ﴾ [يوسف:106]


وإذا آمَنوا باللهِ خلَطوا معَ إيمانِهمْ هذا أنواعًا منَ الشِّرك، فإذا أقَرُّوا باللهِ الخالِقِ الرازِقِ وجدتَهمْ يَعبدونَ أصنامًا، أو أفلاكًا، أو أناسِيّ، فهمْ مُشرِكونَ مُناقِضونَ للإيمانِ الذي أمرَ اللهُ به، وهوَ التوحِيدُ الخالِص، وعدَمُ الإشراكِ به، ولذلكَ فهمْ يَستَحِقُّونَ العِقاب. والمَقصودُ غَيرُ المُسلِمين.

﴿أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَةٞ مِّنۡ عَذَابِ اللَّهِ أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [يوسف:107]


أفأمِنَ المُعرِضونَ عنْ آياتِ الله، والمُشرِكونَ به، أنْ تُصيبَهمْ عُقوبَةٌ مِنْ عندِ اللهِ تَعمُّهمْ وتَقضي عَليهمْ جَميعًا؟ أو تقومَ القيامةُ وهمْ لاهُونَ لم يَستَعِدُّوا لها، فيَموتوا على الكفرِ ويَستَحِقُّوا العَذابَ الأليم؟

﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى اللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ اتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ اللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [يوسف:108]


قُلْ للنَّاسِ أيُّها الرَّسُول: إنَّ هذا الذي أدعُوكُمْ إليهِ منَ الإيمانِ والتوحِيد، هوَ المَسْلَكُ الحَقّ، والطريقُ المستَقيم، الذي لا عِوَجَ فيهِ ولا شُبهَةَ عليه، وأنا على نُورٍ وهِدايَةٍ منَ اللهِ بما يوحِيهِ إليَّ ويُسَدِّدُني فيه، وعلى عِلمٍ ويَقينٍ منْ ذلك، أنا والذينَ اتَّبعوا هذا الدِّينَ منَ المؤمِنين، لا نَلتَوي ولا نَزيغُ عنه، وأُجِلُّ اللهَ وأُعَظِّمُه، وأُنَزِّهُهُ عمّا يُنْسَبُ إليهِ منَ الشِّرك، وعَمّا لا يَليقُ بجَلالهِ وكمالِه، ولسْتُ منَ المشرِكينَ في أمرٍ منْ أموري، بلْ أُخلِصُ عمَلي لله، في صَلاتي، ونُسُكي، ومَحياي، ومَماتي.

﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ الۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ الۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ اتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يوسف:109]


ولم نُرسِلْ قَبلَكَ منَ الرُّسُلِ نِساءً أو ملائكة، بلْ رِجالاً نوحِي إليهمْ كما أوحَينا إليك، مِنْ أهلِ الحاضِرَةِ لا البادِية، لأنَّهمْ أعلَمُ وأحلَم، وأليَنُ وألطَف.

أفلا يَسيرُ هؤلاءِ المُكَذِّبونَ في الأرْض، ليَرَوا بأعيُنِهمْ آثارَ الغابِرين، أو يَسألوا النَّاسَ ويَقرَؤوا التَّاريخ، كيفَ كانتْ عاقِبةُ المُكَذِّبينَ بالرسُل، كيفَ أهلكَهمُ اللهُ بسَبَبِ تَكذيبِهمْ وإصرارِهمْ على الكُفر؟

وإنَّ الدارَ الآخِرةَ الباقيَة، والجنَّةَ ونَعيمَها، خَيرٌ لمَنْ ثبَتَ على طاعَةِ اللهِ وتَقواه، مِنَ الدُّنيا الفانيَةِ ومُنَغِّصاتِها، أفلا تَعقِلونَ وتَتَدَبَّرونَ سُنَنَ اللهِ في الأقْوامِ السَّابِقين، لتُمَيِّزوا الصَّحيحَ مِنَ السَّقيم، وتُفَضِّلوا الباقيَ على الفَاني؟

﴿حَتَّىٰٓ إِذَا اسۡتَيۡـَٔسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ الۡقَوۡمِ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [يوسف:110]


حتَّى إذا يئسَ الرسُلُ منِ استِجابَةِ الكافِرينَ المُجرِمين، ولم يُتابِعْهمْ على دَعوتِهمْ إلاّ القَليلُ مِنَ المؤمِنين، وصبَروا على تَكذيبِ الكافِرينَ واستِهزائهم، وعلى تَماديهمْ في الكُفرِ والضَّلالِ سَنواتٍ وسَنوات، وقدْ بلَغَ الجَهدُ والكَرْبُ بالرُّسُلِ ما بلَغ، وصَاروا يَنتَظِرونَ الوعدَ بالنَّصر، وكأنَّهمْ لا يَرونَهُ قَريبًا، حتَّى تَوهَّموا أنَّ نُفوسَهمْ كذَّبَتْهُمْ حينَ حدَّثَتْهُمْ بأنَّهمْ سيُنْصَرون، عِندَئذٍ جاءَهمْ نَصرُنا...

أو أنَّ أتْباعَ الرسُلِ ظَنُّوا ذلك...

وبقراءَةِ "كُذِّبوا" بالتَّشديد، يَعني أنَّ الرسُلَ كُذِّبوا مِنْ قِبَلِ أقوامِهم تَكذيبًا لا إيمانَ بعدَه... جاءَهمْ نَصرُنا فَجأة، حاسِمًا فاصِلًا...

فنُنَجِّي مِنْ بينِهمْ مَنْ نشَاءُ مِنَ الهَلاك، وهُمُ الرسُلُ وأتْباعُهم، ويَحِلُّ بأسُ اللهِ بالكافِرينَ المُكَذِّبين، ولا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَرُدَّ العَذابَ عنهم.

﴿لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي الۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ الَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [يوسف:111]


لقدْ كانَ في خبَرِ الأنبياءِ معَ أُمَمِهم، ومِنْ ذلِكَ قِصَّةُ يوسُفَ معَ إخوتِهِ وأبيه، ثمَّ سَجنُهُ، ومَآلُ أمرِه، تَذكِرةٌ وعِبرَةٌ لذَوي العُقول، أهلِ الفِكرِ والاعتِبار.

وما كانَ هذا القُرآنُ العَظيم، الذي احتَوَى على قَصَصِ الأنبياءِ وغيرِها ممّا فيهِ فائدةٌ وعِبرَة، ما كانَ كلامًا مُختَلَقًا، ولا حِكايةً شَعبيَّةُ تُسرَد، فإنَّ الكذِبَ لا يُحَقِّقُ هِداية، ولا يَطمَئنُّ إليهِ النَّاس، ولكنَّهُ كِتابُ هِدايةٍ وتَوجيه، صدَّقَ الكتُبَ السَّماويةَ السَّابِقة، وشَهِدَ لها بالصحَّةِ إذا وافقَتِ الوحي. وفيهِ بيانُ ما يَحتاجُهُ النَّاس، مِنْ عِبادات، ونِظامِ حياة، وتَربيَةٍ وأخلاق، وهوَ هِدايةٌ منَ الغَيِّ والضَّلالِ إلى الحقِّ والرَّشَاد، ورحمَةٌ لهمْ مِنْ ربِّ العِباد، يَنالونَ بها خَيرَ الدُّنيا والآخِرة. هذا لمَنْ صدَّقَ بكتابِ الله، وآمنَ بالإسلامِ كُلِّه، واتَّبعَ هُداه.