تفسير سورة إبراهيم

  1. سور القرآن الكريم
  2. إبراهيم
14

﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ الۡعَزِيزِ الۡحَمِيدِ﴾ [ابراهيم:1]


الحروفُ المُقطَّعةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثُ ثابِتٌ صَحيح.

هذا كِتابٌ أنزَلناهُ إليكَ أيُّها النبيُّ - وليسَ هوَ مِنْ عنِدك - لتُخرِجَ بهِ النَّاسَ مِنْ ظُلماتِ الضَّلالِ إلى نُورِ الإيمان، منَ العَقائدِ الباطِلةِ إلى عِبادَةِ اللهِ وحدَه، ومِنَ التبَعيَّةِ والتَّقليدِ الأعمَى إلى التفكُّرِ والتدبُّرِ واتِّباعِ الحقّ، بأمرِ ربِّهمْ وتَيسيرِهِ وتَوفيقِه، العَزيزِ الذي لا يُقْهَرُ، المحمودِ فيما يَقولُ ويَفعَل،

﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ﴾ [ابراهيم:2]


اللهِ الذي لهُ مُلكُ السَّماواتِ والأرضِ وما فيهنَّ، المُهيمِنِ عَليهنَّ بقوَّتِهِ وجبَروتِه. ووَيلٌ للكافِرينَ إذا لم يَتَّبِعوا الدِّينَ الحقَّ مِنْ عَذابٍ ألِيمٍ يومَ القِيامة.

﴿الَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا عَلَى الۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ﴾ [ابراهيم:3]


الذينَ يُفضِّلونَ الحَياةَ الدُّنيا، ويَركنونَ إلى لَذَّاتِها وشَهواتِها، ولا يتفَكَّرونَ في الآخِرةِ وجَزائها، ويَمنعونَ النَّاسَ منِ اتِّباعِ الرسُل، ويُريدونَ لدِينِ اللهِ طَريقًا مُلتَويًا يُناسِبُ أهواءَهمُ الزائغَة، وأفكارَهمُ المُنحَرِفَة، أولئكَ في جَهلٍ وضَلال، بَعيدونَ عنْ الحقِّ والصَّواب.

﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [ابراهيم:4]


وما أرسَلنا رَسُولاً في الأمَمِ السابقَةِ إلاّ بلُغَةِ القَومِ الذينَ أُرسِلَ إليهم، ليَفهَموا منهُ ما يَدعوهُمْ إليهِ بسُهولَة.

ورِسالَةُ الإسْلامِ العامَّةُ تُتَرجَمُ وتُبَلَّغُ للنَّاسِ كافَّة، كما حصَلَ ويَحصُل.

ومَنِ انتَهتْ إلَيهِ هذهِ الدعوَةُ فسَلكَ سَبيلَ الضَّلالة، واستَكبَرَ عنْ قَبولِ الحقّ، أضلَّهُ الله، ومَنْ سَلكَ مَسالِكَ الهُدَى وكانَ مُستَعِدًّا لقَبولِ الحقّ، هَداهُ اللهُ ويسَّرَ لهُ ذلك. وهوَ العَزيزُ الذي يُصرِّفُ الأمورَ بمَشيئتِه، لا يُغالَبُ في ذلك، الحَكيمُ الذي يُدَبِّرُ الأمُورَ بحِكمة، فلا يُراجَعُ ولا يُعَقَّبُ عَليه.

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ اللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ﴾ [ابراهيم:5]


وقدْ أرسَلنا موسَى إلى قَومِهِ مُؤيَّدًا بآياتٍ عَظيمَةٍ ومُعجِزاتٍ كَبيرَة، أنْ أخرِجْهُمْ مِنَ الكُفرِ والضَّلالِ إلى الحقِّ والإيمان، بالدَّعوَةِ والبَيان، والدَّليلِ والبُرهان، وعِظْهُمْ وذَكِّرْهُمْ بنِعَمِ الله، وبما حدَثَ للسَّابقينَ منَ النِّعَمِ والمِحَن. وفي هذا التَّذكيرِ عِظَةٌ لمَنْ وقفَ عَليها واعتبَرَ منها، فيتَّعِظُ الصَّابِرُ لِما أصابَهُ مِنْ بَلاءٍ ونِقمَة، ويتَّعِظُ الشَّاكِرُ لِما هوَ في نِعمَةٍ وعافِية.

﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ اذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ الۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ﴾ [ابراهيم:6]


وقالَ موسَى لقَومِهِ بَني إسْرائيل: اذكروا نِعمَةَ اللهِ الكبيرةَ عَليكمْ عندَما أنقَذَكمْ منْ ظُلمِ فِرعَونَ وآلِه، الذينَ كانوا يُذيقونَكمْ أقسَى أنواعِ العَذابِ وآلمـَه، ويَذبَحونَ كُلَّ ذَكَرٍ يُولَدُ فيكم، ويُبقونَ على بَناتِكم؛ خَوفًا مِنْ أنْ يَكونَ زوالُ مُلكِهِ على يدَي رَجُلٍ منكم. وفيما ذُكِرَ من أفعَالِهم الفَظيعةِ محنةٌ عَظيمَة، وإقدارُ الله إيّاهم وإمهالُهم حتى فعَلوا ما فعَلوا ابتلاءٌ منهُ سُبحانه؛ جزاءَ نبذِ بَني إسرائيلَ دينَهم الحقّ، الذي أوصَى به إبراهيمُ بَنيهِ ويعقوبُ عليهمُ السَّلام، واتِّباعِهم دينَ القِبط.

﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ﴾ [ابراهيم:7]


واذكُروا إذْ أعلَمَكمْ ربُّكمْ أنَّكمْ إذا شَكرتُمْ نِعَمَهُ التي أسبغَها عَليكم، وقابَلتُموها بالإيمانِ والطَّاعة، لَأُثبِتَنَّها لكم، ولأزِيدَنَّكمْ منها. وإذا جَحَدْتُمْ نِعمَتي ولم تَشكرُوها، فإنَّ العَذابَ المُعَدَّ للعَاصِينَ شَديد، وهوَ إمّا بسَلبِ النِّعمَةِ مِنكم، أو بمَحقِ بركَتِها، أو بمُعاقَبتِكم، في الأُولَى أو في العُقبَى.

﴿وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِن تَكۡفُرُوٓاْ أَنتُمۡ وَمَن فِي الۡأَرۡضِ جَمِيعٗا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [ابراهيم:8]


وقالَ موسَى عَليهِ السَّلامُ لقَومِه: اللهُ غَنيٌّ عنْ شُكرِكمْ وطاعَتِكمْ كُلِّها، وإذا كفَرتُمْ نِعَمَه، أنتُمْ ومَنْ في الأرْضِ منَ النَّاس، فإنَّهُ غَنيٌّ بذاتِه، لهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرضِ وما فيهما، لا يَضُرُّهُ جَحْدُ مَنْ كفَر، ولا يَنقُصُ مِنْ مُلكهِ ولا يَزيدُ منها إيمانُ أحَدٍ أو كُفرُهم، وهوَ حَميدٌ مُستَوجِبٌ للحَمدِ بذاتِه، لنِعَمِهِ العَظيمَةِ المُتتاليةِ على خَلقِه. وثَوابُ الحَمدِ والشُّكرِ يَعودُ عَليكم، فيَزيدُكمْ مِنْ فَضلِه، ويُصلِحُ بهِ حالَكم، ويَستَقيمُ بهِ أمرُكم، ولكمْ عَليهِ أجرٌ في اليَومِ الآخِر.

﴿أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ الَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا اللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ﴾ [ابراهيم:9]


ألمْ تَسمَعوا خَبَرَ الذينَ مِنْ قَبلِكمْ وما جرَى لهمْ معَ أنبيائهم، مِنْ قَومِ نُوح، وعَاد، وثَمود، وكثيرينَ مِنْ بعدِهم، لا يَعلَمُ عدَدَهمْ وما حصلَ لهمْ إلاّ الله، جاءَتهمْ رسُلُهمْ بالأدلَّةِ القاطِعات، والمُعجِزاتِ الواضِحات، فرَدُّوا تَبليغَهمْ ومَواعِظَهمْ في أفواهِهم، فكذَّبوها ولم يَقبَلوها منهم، وقالوا غَيرَ مُبالِين: لقدْ كفَرنا بما جِئتُمْ به، ونَشُكُّ شَكًّا قَويّاً في هذا الذي تَدعوننا إليهِ مِنَ الإيمان، ولا سَبيلَ إلى التَّصديقِ به.

﴿۞قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِي اللَّهِ شَكّٞ فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ يَدۡعُوكُمۡ لِيَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ قَالُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ﴾ [ابراهيم:10]


قالتْ لهمْ رسُلهمْ مُنكِرينَ عليهمْ كُفرَهمُ ورَدَّهمُ السيِّء: أتَشُكُّونَ في وُجودِ اللهِ ووَحدانيَّتِه، وهوَ الذي خلقَ السَّماواتِ والأرضَ وما فيها مِنْ أحياءٍ ونَباتٍ وجَماد، والفِطَرُ السليمةُ تَنطِقُ بذلك، والدَّليلُ يَشهَدُ عَليه؟ وهوَ سُبحانَهُ يَدعوكُمْ إلى دِينهِ ليَغفِرَ لكمْ ذُنوبَكم، ويَلطُفَ بكمْ فلا يأخُذَكمْ بالعَذابِ فَورَ تَكذيبِكمْ وعِصيانِكم، بلْ يؤَخِّرُكمْ إلى أجَلٍ حدَّدَهُ لكم، لتُراجِعوا أنفُسَكم، وتُعيدوا التَّفكيرَ في مَوقفِكم، وتَتوبوا.

وعادَ هؤلاءِ الكافِرونَ يَقولونَ لرسُلِهمْ غَيرَ مُبالِين: ما أنتُمْ سِوَى بشَرٍ مثلِنا، كأيِّ واحِدٍ مِنْ بَني آدَم، ولا فَضلَ لكمْ عَلينا بشَيء، وإنَّما تُريدونَ بدَعوَتِكمْ إلى التَّوحيدِ أنْ تَصرِفونا وتَمنَعونا منِ اتِّباعِ الدِّينِ الذي كانَ عَليهِ آباؤنا مِنْ غَيرِ دَاعٍ لتَركِه، فأتُونا بمُعجِزَةٍ ودَليلٍ خارقٍ على صحَّةِ دَعواكمْ.

﴿قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأۡتِيَكُم بِسُلۡطَٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [ابراهيم:11]


قالتْ لهمْ رسُلهم: حقًّا إنَّنا بشَرٌ مِثلُكمْ في الصِّفاتِ الآدَميَّة، ولكنَّ اللهَ يَتفضَّلُ على عِبادٍ لهُ ويميِّزُهمْ بنِعَمٍ غَيرِ مَوجودَةٍ عندَ آخَرِين، وقدْ فضَّلنا عَليكمْ بأنْ أوحَى إلينَا بالنبوَّةِ وأمرَنا بتَبليغِ رسالتِهِ إليكم، ولا مَقدِرةَ لنا على الإتيانِ بالمُعجِزاتِ والخَوارقِ التي تَطلبونَها إلاّ بأمرِ اللهِ ومَشيئَتِه، فهوَ وحدَهُ الذي يَخلقُها ويُقَدِّرُها. وعلى اللهِ وحدَهُ فليَعتَمِدِ المؤمِنونَ إذا أرَادوا التوكُّلَ عَليه، فهوَ الذي يَحفظُهمْ مِنْ كَيدِ الأعداء، وشَرِّ الأشْرار.

﴿وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُتَوَكِّلُونَ﴾ [ابراهيم:12]


قالتِ الرسُلُ عليهمُ السَّلام: وكيفَ لا نَتوكَّلُ على اللهِ رَبِّنا وقدْ هَدانا لدينِه، وبيَّنَهُ لنا بالحُجَّةِ والدَّليل، ويسَّرَ لنا الطَّريقَ إليه، فنحنُ على هُدًى ونُورٍ منه، وسَوفَ نَصبِرُ على أذِيَّتِكمْ وعِنادِكمْ وتَكذيبِكم، ولا نَضعُفُ ولا نَتراجَعُ عنِ الحقِّ الذي نحنُ عَليه، وعلى اللهِ وحدَهُ فليَعتَمِدِ المتوكِّلون، منَ المرسَلينَ والمؤمِنين، وعلى ذلكَ فليَثبتُوا.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [ابراهيم:13]


وقالَ الكافِرونَ لرسُلِهمْ تَهديدًا وتَرْهيبًا: سنُخرِجُكمْ مِنْ ديارِنا، ومِنْ بينِ أظهُرِنا، أنتُمْ ومَنْ تَبِعَكم، أو لتَصيرُنَّ في مِلَّةِ الكُفرِ التي نَدينُ بها. فأوحَى اللهُ تعالَى إلى رسُلِه، ردًّا عَليهمْ وتَخييبًا لآمالِهم، وقَطعًا لمُجادلَتِهم: سنُهلِكُ الكفرَةَ الظَّالمين، لتَماديهمْ في البَغي والظُّلم، وإصرارِهمْ على الكفرِ والتَّكذيب.

﴿وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ الۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [ابراهيم:14]


ولَنُسكِنَنَّكمْ أرضَهمْ ودِيارَهمْ بعدَ إهلاكِهم. وهذا النصرُ لمَنْ آمنَ وخافَ مَقامَ ربِّهِ والوُقوفَ بينَ يَديهِ يومَ الحِساب، وخَشِيَ وعِيدَهُ بالعَذاب.

﴿وَاسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ﴾ [ابراهيم:15]


وطلَبَ الرسُلُ النَّصرَ والفَتحَ منَ الله، فنصرَهم، وخابَ وخَسِرَ كُلُّ جَبّارٍ مُتكبِّر، مُعانِدٍ للحَقّ، مُجانِبٍ له.

﴿مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ﴾ [ابراهيم:16]


وأمامَ هذا الكافرِ المُتَكبِّرِ ومِنْ بينِ يَدَيهِ نارُ جَهنَّمَ بالمِرْصاد، تَنتَظِرُهُ ليُلقَى فيها ويُعَذَّب، ويُسقَى مِنْ ماءٍ لا عَهدَ لهُ به، وهوً عُصارَةُ ما يَسيلُ مِنْ جُلودِ أهلِ النَّار، مِنْ دَمٍ وقَيحٍ وما إليه.

﴿يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ الۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ﴾ [ابراهيم:17]


يُقبِلُ على هذا الماءِ القَذِرِ البَغيضِ لِظَمَئهِ الشَّديد، مِنْ لَفحِ النَّارِ والعَذابِ والحرارَةِ الشَّديدة، ولكنَّهُ عندَما يَقعُ في فَمِهِ يَتَغَصَّصُهُ ويَشرَبُهُ كَرْهًا، وهوَ لا يُحبِّذُهُ ولا يُريدُ ابتِلاعَهُ، لِخُبْثِ طَعْمِهِ ونَتْنِ ريحِهِ وحَرارَتِه. وتأتيهِ أسبابُ المَوتِ وعلاماتُهُ مِنْ كُلِّ مَوضِع، مِنْ شِدَّةِ العَذابِ والأَلمِ والجُوعِ والعَطَش، ولكنْ لا مَوتَ ولا حَياة. والذي يَنتَظِرُهُ فيما يَستَقبِلُهُ عَذابٌ أشَقُّ وأصعَبُ ممّا سبَق، ولا مَفرَّ لهُ مِنْ ذلكَ ولا مَهرَب، بلْ خُلودٌ في العَذابِ الأليمِ إلى الأبَد.

﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ اشۡتَدَّتۡ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الۡبَعِيدُ﴾ [ابراهيم:18]


مِثالُ أعْمالِ الذينَ كفَروا برَبِّهمْ يَومَ القِيامَة - عندَما يَطلُبونَ ثَوابَها - كرَمادٍ تَحملُهُ الرِّياحُ وتُسرِعُ بهِ في يَومٍ تَشتَدُّ فيهِ العَاصِفَة، فتُثيرُهُ وتَبَعثِرُه، حتَّى لا يُقدَرُ على الإمساكِ به. وكذلكَ الكافِرون، الذينَ لا يَرونَ أثرًا منْ ثوابٍ أو تَخفيفًا مِنْ عَذابٍ يَومَ القيامَةِ لِما قَدَّموهُ مِنْ أعْمالٍ في الحياةِ الدُّنيا، لأنَّها لم تَكنْ قائمةَ على قاعِدةِ الإيمان، بلْ ما كانوا همْ يَرجونَ ثَوابَها، لأنَّهمْ ما كانوا مُؤمِنينَ بيَومِ المَعاد، وحِسابِ الأعمال، وذلكَ هوَ الضَّلالُ البَعيدُ عنِ الحقّ، فلا خَيرَ فيها، ولا ثَوابَ عَليها.

﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ بِالۡحَقِّۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ﴾ [ابراهيم:19]


ألا تَنظُرُ وتُفَكِّرُ في السَّماواتِ والأرضِ وما فيهما، وكيفَ أنَّ اللهَ خلقَهما وأبدَعَهما بالحقّ، ولم يَخلُقْهُما باطِلاً ولَعِباً، بلْ لأمرٍ عَظيم، وحِكمَةٍ كبيرَة. وهذا الخالِقُ العَظيمُ قادِرٌ على أنْ يُهلِكَكمْ أيُّها الكافِرونَ المُعانِدون، ويَستَخلِفَ جِنسًا آخَر، أو قَومًا آخَرِينَ مِنْ غَيرِكمْ في الأرض، يَكونونَ أطوعَ للهِ منكمْ، وأكثرَ استِجابةً لأوامرِه.

﴿وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٖ﴾ [ابراهيم:20]


وليسَ ذلكَ صَعبًا على الله، ولا هوَ بمُتَعَذَّرٍ عَليهِ ولا مُمتَنِع، وقدْ أهلكَ مِنْ قَبلِكمْ أقوامًا وأتَى بآخَرِين، فاعتَبِروا وأطيعُوا، فهوَ خَيرٌ لكم.