تفسير سورة إبراهيم

  1. سور القرآن الكريم
  2. إبراهيم
14

﴿وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ الضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ اسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا اللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ﴾ [ابراهيم:21]


وبعثَ اللهُ الخلائقَ مِنْ قُبورِهم، واجتَمَعوا جَميعًا في صَعيدٍ واحِد، وبرَزوا للهِ في مَكانٍ لا يُسْتَرُ فيهِ أحَد، فقالَ ضِعافُ الرَّأي منَ الأتْباعِ الذينَ أذَلُّوا أنفُسَهم، لقادَتِهمْ وكُبَرائهم، الذينَ كانوا يَخطِبونَ فيهم، ويَجتَمِعونَ بهم، ويُضِلُّونَهمْ بأفكارِهمْ ونظَريَّاتِهم: لقدْ كُنّا تابعينَ لكم، نُصَدِّقُكمْ فيما تَقولون، ونُكَذِّبُ ما تُكَذِّبون، فهلْ تنفَعونَنا في هذا المَوقِف، وتَدفَعونَ عَنّا بعضًا منَ العَذابِ الذي جُوزينا به؟

فقالَ القادَةُ المُستَكبِرون: لو سَلكنا طريقَ الهُدَى لهَدانا اللهُ ولدَعَوناكمْ إليه، ولكنّا اختَرنا طريقَ الضَّلالِ فأضَلَّنا الله - واللهُ لا يأمرُ بالضَّلالِ - فدعَوناكمْ إليه. ولا فائدَةَ منَ الشَّكوَى الآن، فسَواءٌ عَلينا إنْ خِفنا وقَلِقنا، أمْ ثَبَتْنا وصَبَرنا، فإنَّهُ لا يُجدي شَيئاً، فلا مَهرَبَ مِنْ عَذابِ الله، ولا نَجاةَ لنا مِنْ غَضَبِه.

﴿وَقَالَ الشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الۡأَمۡرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ الۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَاسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ الظَّـٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [ابراهيم:22]


وبعدَ أنْ قضَى اللهُ بينَ عِبادِه، وعرَفَ كُلٌّ مَصيرَه، ودخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، قالَ الشَّيطانُ للأشقِياء، وهوَ الذي أضلَّ كِلا فَريقَي المُستَكبِرينَ وأتْباعِهم: إنَّ اللهَ وعدَكمْ وَعدًا حقًّا على ألسِنَةِ رسُلِه، وهوَ البَعثُ والحِساب، ووَعدتُكمْ وَعدًا باطِلاً، وهوَ أنْ لا بَعثَ ولا حِساب، فأضلَلتُكمْ وأخلَفتُكم، ولم يَكنْ لي فيما دعَوتُكمْ إليهِ قوَّةٌ أُجبِرُكمْ عَليه، ولا دَليلٌ على صِدقِهِ وصِحَّتِه، سِوَى كلامٍ بَثَثتُهُ بينَكمْ وزَيَّنتُهُ في قُلوبِكم، فأسرَعتُمْ إلى إجابتِي وأطَعتُموني، فلا تُعاتِبوني اليومَ فيما أضلَلتُكمْ بهِ سَابِقًا، بلْ عاتِبوا أنفُسَكمْ حيثُ اتَّبَعتُمْ هواكُمْ وأطعتُموني، وأغمَضتُمْ عيونَكمْ وصرَفتُم قُلوبَكمْ عنِ الحَقيقَةِ والأدِلَّةِ المؤدِّيَةِ إليها، فما أنا بنافعِكمُ اليومَ شَيئاً، وما أنا بمُغيثِكمْ ومُخَلِّصِكمْ مِنَ العَذاب، ولا أنتُمْ قادِرونَ على إغاثَتِي وتَخليصي ممّا أنا فيهِ مِنْ كَربٍ وعَذاب، إنِّي تبرَّأتُ الآنَ ممّا جَعَلتُموني شَريكًا للهِ في الدُّنيا، حيثُ أطَعتُموني فيما دَعوتُكمْ إليهِ منْ عِبادَةِ الأصْنامِ وغَيرِها، فَلا تَطمَعوا بنُصرَتي لكمُ الآن، فلمْ تَبقَ بَيني وبينَكمْ صِلَةٌ ولا عَلاقَة.

وإنَّ الكافَرينَ الظَّالمينَ لهمْ عَذابٌ مُؤلمٌ مُوجِعٌ، لإعراضِهمْ عنِ الحقّ، وإصرارِهمْ على اتِّباعِ الباطِل.

﴿وَأُدۡخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٌ﴾ [ابراهيم:23]


وعِبادُ اللهِ المؤمِنونَ المُتَّقون، الذينَ أتْبَعوا إيمانَهمْ بالعمَلِ الصَّالح، أُدْخِلوا جَنَّاتٍ تَجري مِنْ خلالِ أشجارِها ومَساكِنِها الأنهار، سَارحةً فيها حيثُ سَاروا، مُخَلَّدينَ فيها أبدًا، بأمرِ اللهِ وتَوفيقِه، وتَحيَّتُهمْ بينَ بَعضِهمُ البعضِ في الجنَّةِ "سَلامٌ"، وتَعني سَلامَتهمْ مِنْ كُلِّ مَكروه.

﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي السَّمَآءِ﴾ [ابراهيم:24]


ألا تَنظرُ أيُّها النبيُّ كيفَ وضعَ اللهُ مثَلاً في مَكانهِ المُناسِب، كَلِمَةً طَيِّبَة، نافِعةً مُفيدَة، كشَجَرةٍ طَيِّبَة، مُبارَكةٍ نافِعَة، جَذْرُها ضارِبٌ في الأرض، فهيَ قويَّةٌ ثابِتَةٌ لا تُزَعزِعُها الرِّياح، وفَرْعُها سَامِقٌ يَعلو في السَّماء، فهيَ مُثمِرةٌ مُفيدَة، تَستَمِدُّ غِذاءَها وقوَّتَها مِنْ عُروقِها القويَّةِ الغائرَةِ في الأعمَاق.

﴿تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ اللَّهُ الۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [ابراهيم:25]


تُعطي ثمَرَها الكثيرَ الطيِّبَ في كُلِّ حينٍ وقَّتَهُ اللهُ لإثمارِها، بإرادَةِ خالقِها.

وهذهِ الأمثالُ التي يَضرِبُها اللهُ للنَّاسِ مِنْ واقِعِ حَياتِهم، فيها زيادَةُ فَهمٍ لهم، ليُشاهِدوا ذلكَ ويُقارِنوا، ويَتذَكَّروا ويَفهَموا، ويَتفكَّروا ويَعتَبِروا.

والمؤمِنُ كمَثَلِ الشجَرةِ الطيِّبَة، يَنطِقُ بأجَلِّ وأرفَعِ كَلمَةٍ في الوُجود، وهيَ لا إلهَ إلاّ الله، وهذهِ الكلمةُ تؤتي ثَمراتِها الطيِّبَةَ إذا أخلصَ بها قائلُها، فيُتبِعُها بالأعمَالِ الصَّالِحة، ويَدعو ويُجاهِدُ ويَنشرُ الخير...

والشجَرةُ الطيِّبَةُ كالنَّخلة، في قَولِ الأكثَرين.

﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ الۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ﴾ [ابراهيم:26]


ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَة، وهيَ الكفرُ بالله، والجَهلُ به، أو الباطلُ عُمومًا، ممّا لا يَرضاهُ الله، كشَجَرةٍ خَبيثَة: رائحةً، أو طَعمًا، أو صورَةً، أو كُلَّ ذلك، تَراها ظاهِرةً على الأرض، وقدْ تَنتَفِشُ وتتَعالَى، ولكنَّ جُذورَها خَفيفَةٌ وغَيرُ عَميقَة، فإذا استؤصِلَتْ بَدَتْ وكأنَّها انتُشِلَتْ مِنْ فَوقِ الأرض، فلا أصْلَ لها ولا عِرق، وكذلكَ الكُفرُ والشِّرك، لا حُجَّةَ فيهما، ولا ثَبات، ولا قوَّة، بلْ فيهما انحِرافٌ وأباطيلُ وأضرارٌ لا تَخفَى.

﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالۡقَوۡلِ الثَّابِتِ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَفِي الۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ [ابراهيم:27]


ويُثَبِّتُ اللهُ عِبادَهُ المؤمِنينَ على كَلمَةِ التَّوحيد، فيُمَكِّنُها في قُلوبِهمْ في الحَياةِ الدُّنيا جَزاءَ صَبرِهمْ وإيمانِهم، فلا يُزالُونَ عَنها إذا فُتِنوا في دِينِهم، ولا يَرتابونَ بالشُّبُهات. كما يُثَبِّتُهمْ عَليها بعدَ الموتِ في القَبر، وهوَ أوَّلُ مَنزِلٍ منْ مَنازِلِ الآخِرَة.

وفي الحديثِ الصَّحيح، عندَ البُخاريِّ ومُسلمٍ وغَيرِهما، واللَّفظُ للأوَّل: "إذا أُقْعِدَ المُؤمِنُ في قَبرِه، أُتِيَ، ثمَّ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلاّ الله، وأنَّ مُحمَّدًا رسُولُ الله. فذلكَ قولُه: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}".

ويُضِلُّ اللهُ الظَّالمينَ بظُلمِهمْ وشِركِهمْ وإعراضِهمْ عنِ الحقّ، فلا يَهديهمْ إلى الجوابِ الصَّحيحِ في القَبر...

ويَفعَلُ اللهُ ما يَشاء، مِنْ تَوفيقِ البَعضِ وتَثبيتِهم، وإضلالِ آخَرينَ وخِذلانِهم، بما يَستَحِقُّون، بحسَبِ ما توجِبُهُ مَشيئةُ اللهِ وحِكمتُه. {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف: 49].

﴿۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ اللَّهِ كُفۡرٗا وَأَحَلُّواْ قَوۡمَهُمۡ دَارَ الۡبَوَارِ﴾ [ابراهيم:28]


ألمْ تَنظُرْ أيُّها النبيُّ إلى هؤلاءِ المشرِكين، الذينَ بدَّلوا شُكرَ نِعمةِ اللهِ جُحوداً ونُكرانًا، وأودَعوا قَومَهمْ - بدَعوتِهمْ إلى الضَّلالِ - دارَ الخِزي والهَلاك، مِثلَ كُفّارِ مكَّة، الذينَ أسكنَهمُ اللهُ حرَمَه، وأكرَمَهمْ برَسولِهِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فأشرَكوا برَبَّهم، وكفَروا بنعمَته، وكذَّبوا رسُولَه، فعاقبَهمُ اللهُ بالقَحطِ سَبعَ سَنوات، وهَزَمَهمْ يَومَ بَدر...

﴿جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَاۖ وَبِئۡسَ الۡقَرَارُ﴾ [ابراهيم:29]


ويَومَ القِيامَةِ مَصيرُهمْ جَهنَّم، يُعَذَّبونَ في نارِها، ويُقاسُونَ حَرَّها، وبئسَ المُستَقَرُّ نارٌ تُحيطُ بهمْ مِنْ كُلِّ مَكان، وعلى الدَّوام.

﴿وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِۦۗ قُلۡ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمۡ إِلَى النَّارِ﴾ [ابراهيم:30]


واتّخذَ المُشرِكونَ شُركاءَ للهِ وجَعَلوهمْ أمثالًا له، فسَمَّوهمْ آلِهةً بحُجَّةِ أنَّها تَنفَعُ وتَضُرُّ مثلَ الله - سُبحانَهُ وتَعالَى - وعَبدوها، ودعَوا النَّاسَ إلى عِبادَتِها، ليُزيغوهمْ عنِ الحقّ، ويُبعِدوهمْ عنْ نَهجِ التَّوحيد.

قُلْ لهمْ مُتوَعِّدًا أيُّها الرَّسُول: ابقُوا في الدُّنيا ما شِئتُم، وتَمتَّعوا بملذَّاتِها إلى حِين، فإنَّ آخِرَ ما تَنتَهونَ إليهِ بعدَ الحِسابِ هوَ النَّار، فقدْ أبدَلتُمْ نعمةَ اللهِ كُفرًا، وآثَرتمُ الضَّلالَ على الهُدَى.

﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ﴾ [ابراهيم:31]


قُلْ لعِباديَ المؤمِنينَ يَلتَزِموا جانِبَ الطَّاعَة، ويُحافِظوا على صَلواتِهم، بشُروطِها وأرْكانِها وفي أوقاتِها، ويُعطوا المُحتاجينَ ممّا رزَقَهمُ اللهُ مِنْ مَالٍ ومَتاع، زكاةً وصَدَقَة، خِفيةً وجَهرًا، قَبلَ أنْ يأتيَ يَومُ الحِساب، الذي لا مُعاوضَةَ فيه، فلا تُشتَرى الحسَنات، ولا تُباعُ السيَّئات، ولا أمْوالَ تُفتدَى بها الأنفُس، ولا أهلَ ولا أصدِقاءَ يَشفَعونَ أو يَعفونَ عنِ العُقوبَة، بلْ عَدالةٌ مُطلَقَةٌ في الجزاءِ والحِسابِ على الأعْمال.

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ الثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي الۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الۡأَنۡهَٰرَ﴾ [ابراهيم:32]


هوَ اللهُ الذي خَلقَ السَّماواتِ وما فيها مِنْ كواكِبَ ونجومٍ وشُهُبٍ ومُذَنَّبات... والأرضَ وما فيها مِنْ مَخلوقات، ومَعادِنَ وأشْجار، وبَراريَ وبِحار، وأنزلَ منَ السُّحُبِ مطَرًا، وسقَى بهِ الزَّرعَ والشَّجَر، وأخرجَ بهِ أنواعَ الثِّمارِ والبُقول، مُختَلِفةَ الألوانِ والطُّعومِ والمنافِع، رِزقًا لكم تَعيشونَ بهِ وتدَّخِرونَ منه.

وسخَّرَ لكمُ السُّفُنَ والبواخِرَ والأساطيلَ تَجري في البحرِ بأمرِهِ وقُدرَتِه، فجعلَ فيهِ مَوازينَ وقَوانينَ لتَطفوَ عَليهِ السُّفُنُ على الرَّغمِ مِنْ ثِقْلِها، وتتَوجَّهونَ بها أينَما شِئتُم، في أمُورِ التجارَةِ والعِلمِ والاستكشاف.

وسخَّرَ لكمُ الأنهار، تشُقُّ الأرضَ مِنْ بلَدٍ إلى آخَر، فتَشرَبونَ منها، وتَسقُونَ بها زُروعَكمْ وحيَواناتِكم، وتَستَخدِمونَه في أمورِ الطَّاقَةِ وغَيرِها.

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمۡسَ وَالۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيۡلَ وَالنَّهَارَ﴾ [ابراهيم:33]


وسخَّرَ لكمُ الشَّمسَ والقمَر، وهما في حَركةٍ دائمة، لا يَقِفانِ لَحظة، ليتَشَكَّلَ مِنْ حرَكتِهما اللَّيلُ والنَّهار. وفيهما أسرارٌ عِلميَّةٌ كثيرَة، تُبيِّنُ إبداعَ الخالقِ وقُدرَتَهُ وعظَمتَه، في تَكوينِهما، وأبعادِهما القياسيَّةِ الدَّقيقَةِ عنْ بَعضِهما البَعض، وعنِ الأرض، ووَظيفَتِهما، وتأثيرِهما، وفائدَتِهما للإنسان، فلا غِنَى لهُ عنهما.

وسخَّرَ اللهُ اللَّيلَ والنَّهار، يأتي أحَدُهما إثرَ الآخَر بنِظامٍ لا يَتغيَّر. والنهارُ فيهِ الحرارَةُ والضِّياءُ فيُناسِبُ العمَل، والليلُ فيهِ السُّكونُ والظَّلامُ ليَرتاحَ المَرءُ مِنْ تعَبِ النَّهارِ ويَطمَئنَّ ويَسكُن.

﴿وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ اللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ الۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ﴾ [ابراهيم:34]


وأعطاكمُ اللهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ سَألتُموه، ممّا تَحتاجونَ إليهِ في جَميعِ أحوالِكم.

وإنْ تَعُدُّوا نِعَمَ اللهِ عَليكمْ لَن تتَمكَّنوا مِنْ إحصَائها، ولو إجمالًا، فإنَّها كَثيرَةٌ جِدًّا.

ومعَ ذلكَ فإنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظلِمُ نَفسَهُ بالمَعصيَة، فيَجعَلُ للهِ شُركاءَ ويَعبُدُهم، وهوَ الذي أنعمَ عَليهم، والشُّرَكاءُ لم يَفعَلوا شَيئًا، فيَكونُ كافِرًا بالنِّعمةِ والمُنعِم، جاحِدًا بفَضلِه، مُنكِرًا لرُبوبيَّتِه.

﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ اجۡعَلۡ هَٰذَا الۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَاجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ الۡأَصۡنَامَ﴾ [ابراهيم:35]


واذكُرْ أيُّها النبيُّ قَولَ إبراهيمَ داعِيًا ربَّه: ربِّ اجعَلْ مكَّةَ بَلدًا ذا أمنٍ وسَلام، يأمَنُ فيهِ النَّاسُ ولا يَخافون، وأبعِدني وبنيَّ مِنْ عِبادَةِ الأصنام، وثَبِّتنا على مِلَّةِ الإسْلام.

﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ النَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [ابراهيم:36]


فإنَّ هذهِ الأصنامَ التي جعَلوا منها آلهة، تَسَبَّبْنَ في إضْلالِ كثيرٍ منَ النَّاس، حتَّى افتَتَنوا بهنَّ وعبَدوهُنّ، فمَنْ تَبِعَني فيما أدعو إليهِ منَ التَّوحيد، فإنَّهُ مِنْ أهلِ دِيني ومِلَّتي، ومَنْ عَصاني ولم يَتْبَعْني، فأفوِّضُ أمرَهُ إليك، فإنَّكَ قادِرٌ على أنْ تَغفِرَ لهُ وتَرحمَه، ابتِداءً، أو بعدَ تَوفيقِهِ للتَّوبة.

وهذا مِنْ خصائصِ إبراهيمَ عَليهِ السَّلام، فهوَ حَليمٌ رَحيمٌ لا يَدعو بالهَلاكِ على بَنِيه، وكأنَّهُ قال: ومَنْ عصَاني فلا أدعُو عَليهم، بلْ أكِلُهمْ إلى رَحمتِكَ وهِدايَتِك، فإنَّكَ غَفورٌ رَحيم. فهوَ لا يَستَعجِلُ لهمُ العَذاب، بلْ يَتركُهمْ لرحمَةِ اللهِ وهِدايَتِه، فإنْ شَاءَ هَداهُمْ ورَحِمَهمْ وغفرَ لهم، أو لم يَفعَل.

وللمُفَسِّرينَ تأويلاتٌ شَتَّى في هذا، ومَنْ فسَّرَ العِصيانَ هُنا بغَيرِ الكُفر، فلا إشْكال.

﴿رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ الۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ فَاجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ النَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَارۡزُقۡهُم مِّنَ الثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ﴾ [ابراهيم:37]


وكانَ إبراهيمُ عَليهِ السَّلامُ قدْ تركَ زوجتَهُ (هاجَرَ) ووَلدَها إسماعيلَ قَريبًا منَ البَيتِ الحَرام، فالتجأ إلى ربِّهِ داعيًا مرَّةً أخرَى يَقول: ربَّنا إنَّي أسكَنتُ بعضَ ذُرِّيَتي بوادٍ في مَكَّةَ لا زَرعَ فيهِ ولا ثَمَر، بجِوارِ بيتِكَ المُحَرَّم، ليُقيموا الصَّلاةَ عِندَه، ويُعَمِّروهُ بذِكرِكَ وعِبادَتِك، فارحَمْهم، واجعَلْ قُلوبَ بعضِ النَّاسِ تَميلُ إليهمْ وتَكونُ معَهم، وارزُقْهمْ منْ أنواعِ الثَّمرات، تُجبَى إليها، أو تُحَصَّلُ منها ومِنْ حَولِها؛ ليَشكروا نِعمَتَك، ويؤمِنوا برسَالَتِك.

﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِي وَمَا نُعۡلِنُۗ وَمَا يَخۡفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيۡءٖ فِي الۡأَرۡضِ وَلَا فِي السَّمَآءِ﴾ [ابراهيم:38]


ربَّنا إنَّكَ مُطَّلِعٌ على أقوالِنا وأعمالِنا، وما نَجهَرُ بهِ وما نُسِرّ، ولا يَخفَى على اللهِ شَيءٌ صَغيرٌ ولا كَبير، إنْ ظهَرَ أو بطَن، في الأرضِ أو في السَّماء، فلكَ اللهمَّ خالِصُ تَضَرُّعي ودُعائي، وعُبوديَّتي وتَذَلُّلي.

﴿الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الۡكِبَرِ إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ [ابراهيم:39]


والشكرُ للهِ والثناءُ الطيِّبُ عليهِ وَحدَه، الذي رزَقَني على كِبَرِ سِنِّي ويأسِي منَ الولَدِ إسماعيلَ وإسحاق، إنَّ رَبِّي وخالِقي مُجيبُ الدُّعاء.

﴿رَبِّ اجۡعَلۡنِي مُقِيمَ الصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآءِ﴾ [ابراهيم:40]


ربّي واجعَلني مُحافِظًا على إقامةِ الصَّلاة، ومِنْ ذُرِّيَتي كذلك، ربَّنا وتَقبَّلْ دُعائي فيما سألتُكَ به.