تفسير سورة إبراهيم

  1. سور القرآن الكريم
  2. إبراهيم
14

﴿رَبَّنَا اغۡفِرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ يَوۡمَ يَقُومُ الۡحِسَابُ﴾ [ابراهيم:41]


ربَّنا اغفِرْ لي ما فرَّطتُ فيهِ وما أنتَ أعلمُ بهِ منِّي، ولوالدَيَّ، ولجَميعِ المؤمِنين، مِنْ ذُرِّيَتي ومِنْ غَيرِهم، عندَما تُحاسِبُ النَّاسَ على أعمالِهم وتُجازيهمْ عَليها.

وقدِ استَغفرَ لوالدَيهِ قبلَ أنْ يَموتَ أبوهُ على الكُفر، فكانَ يَدعو بهدايَةِ اللهِ لهُ ويَطمَعُ في إيمانِه، فلمَّا ماتَ ولم يؤمِنْ تبرَّأ منه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [سورة التوبة: 114]. وذُكِرَ أنَّ والدتَهُ آمنَت.

﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ الظَّـٰلِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ الۡأَبۡصَٰرُ﴾ [ابراهيم:42]


ولا تَظُنَّنَّ أنَّ اللهَ غَافِلٌ عنْ فِعلِ الظَّالمينَ والمشرِكين، إنَّ تأخيرَ العَذابِ عنهمْ ليسَ للرِّضى بأفعالِهم، بلْ منْ سُنَّةِ اللهِ إمهالُ العُصاة، وإذا لم يَنفَعْهمْ هذا الإمهالُ توبَةً وإيمانًا، فإنَّ تأخيرَهمْ يكونُ ليومٍ لا تُغمَضُ فيهِ العُيون، بلْ ترتَفِعُ وتَبقَى مفتوحَةً مَذهولَةً لا تَطرِف، منْ شِدَّةِ الخَوفِ والهلَعِ والأهوالِ يَومَ القِيامة.

﴿مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ﴾ [ابراهيم:43]


مُسرِعينَ إلى الدَّاعي، لا يَلتَفِتونَ إلى شَيء، رافعِي رؤوسِهمْ وكأنَّها مَشدودَةٌ إلى السَّماءِ لا تتَحرَّكُ يَمْنَةً ولا يَسْرَة، وأبصارُهمْ شَاخِصَةٌ جامِدَةٌ لا تَطرِف، يُديمُونَ النَّظرَ إلى جِهةٍ واحِدَةٍ مِنَ الرُّعب، فلا يَنظرُ أحَدٌ إلى أحَد. وقلوبُهمْ خالِيَةٌ جَوفاء، وكأنَّها لا تَعقِلُ ولا تَفهَم، ولا تَدري ولا تتَذَكَّر، منَ الفزَعِ والحَيرَةِ والدَّهشَة!

﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ الۡعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرۡنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَۗ أَوَلَمۡ تَكُونُوٓاْ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٖ﴾ [ابراهيم:44]


واذكُرْ للنَّاسِ عَواقِبَ الكفرِ والمعاصي، وخَوِّفْهُمْ هَولَ يومِ القيامَةِ يومَ يأتيهمُ العذابُ الرَّهيب، فيقولُ الذينَ أشرَكوا: ربَّنا أعِدْنا إلى الدُّنيا وأمهِلنا مُدَّةً قَصيرةً منَ الزَّمان؛ نُجِبْ دَعوةَ التَّوحيد، ونؤمِنْ برسُلِك، ونتَّبِعْهُمْ فيما يَطلبونَ منّا.

فيُجابُون: أوَلمْ تَكونوا حلَفتُمْ في الدُّنيا أنَّكمْ لا تُبعَثونَ بعدَ الموت، وأنَّهَ لا مَعادَ ولا حِساب؟

﴿وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ الۡأَمۡثَالَ﴾ [ابراهيم:45]


واستَوطَنتُمْ بلادَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ مِنْ قَبلِكم، وعرفتُمْ أخبارَهم، وكيفَ أهلكناهُمْ وعاقَبناهم، ولكنَّكمْ لم تَعتَبِروا بما حَلَّ بهم، بلْ فعَلتُمْ فِعلَهم، وتمادَيتُمْ في الظُّلمِ والفَساد، وبيَّنَّا لكمُ وقائعَ، وأورَدنا لكمْ أخبارًا، وسَرَدنا قِصَصًا، وضرَبنا أمثالًا؛ لتتَذكَّروا وتَعتَبِروا.

وما زالتِ الأخبارُ والآثارُ مَوجودة، في كتُبِ التَّاريخِ ومَشاهدِ الآثار، ولكنَّ المؤرِّخينَ والآثاريِّينَ لا يَعتَبِرون، ولا يَذكرونَ لطُلاّبِهمُ العِبَرَ والإرشاداتِ الدينيَّةَ، بلْ يَدرُسونَ ويحلِّلونَ ويُنقِّبونَ للعلمِ والثقافَةِ ومَعرفَةِ الأخبار...

﴿وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ اللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ الۡجِبَالُ﴾ [ابراهيم:46]


وقدْ كادُوا ومكَروا وبذَلوا كُلِّ ما يَملِكونَ مِنْ جُهدٍ للقَضاءِ على رِسالةِ التوحيد، وصَرفِ المؤمِنينَ عنْ دِينِهم، والاستِهزاءِ بعَقيدَتِهم، ولكنَّهمْ همْ وإرادتُهمْ وما يُخَطِّطونَ في قَبضَةِ قُدرَةِ العَزيزِ الجبّارِ وتحتَ تَصرُّفِه، وجَزاءُ مَكرِهمْ عندَهُ سُبحانَه، وإنْ كانَ كَيدُهمْ وتَدبيرُهمْ قَويًّا شَديدًا، حتَّى يَكادُ يُزيلُ الجِبالَ مِنْ أماكنِها، وهيَ أثقَلُ شَيءٍ وأبعدُ ما يُتصوَّرُ عنِ التحرُّكِ والزَّوَال. ويَعني أنَّهمْ لم يَتمكَّنوا منَ القضاءِ علَى ما أتَتْ بهِ الرسُل، علَى الرَّغمِ مِنْ مُناصَبَتِهمُ العِداءَ ومُحارَبتِهمْ وأتباعَهم.

﴿فَلَا تَحۡسَبَنَّ اللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٞ ذُو انتِقَامٖ﴾ [ابراهيم:47]


فلا تَظُنَّنَّ بعدَ هذا البَيانِ أيُّها النبيُّ أنَّ اللهَ يُخلِفُ وعدَهُ معَ رسُلِه، وأنتَ منهم، فقدْ نصرَهمُ الله، ويَنصرُكَ مثلَهم، واللهُ عَزيزٌ لا يُقْهَرُ ولا يُغالَب، يَنتَقِمُ ممَّنْ عاداهُ وعاندَ رسُلَه وكذَّبَهم.

﴿يَوۡمَ تُبَدَّلُ الۡأَرۡضُ غَيۡرَ الۡأَرۡضِ وَالسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الۡوَٰحِدِ الۡقَهَّارِ﴾ [ابراهيم:48]


ويَومَ يأتيهمُ الحِساب، تَكونُ الأرضُ على غَيرِ هَيئتِها الآن، وكذلكَ السَّماواتُ، وخرجَ جَميعُ الخلائقِ مِنْ قُبورِهم، المؤمِنونَ والكافِرون، وظهَروا للهِ الواحِدِ الأحَد، الغالِبِ على كُلِّ شَيء، الذي دانَتْ لهُ الرِّقاب، وخضَعَتْ لهُ القُلوبُ والألْباب، ليَحكُمَ بينَهم، ويُجازيَهمْ على أعمالِهم.

﴿وَتَرَى الۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ مُّقَرَّنِينَ فِي الۡأَصۡفَادِ﴾ [ابراهيم:49]


وترَى الكافرينَ المُجرِمينَ يَومَئذٍ وقدْ جُمِعَ بَعضُهم إلى بَعض، وشُدُّوا بالقُيودِ والأغْلال، وقدْ كانُوا في الدُّنيا على عَقيدَةٍ واحِدَةٍ هيَ مِلَّةُ الكُفر، وعلى عمَلٍ واحِدٍ هوَ العِصيانُ والإفسَاد، فصَاروا في الآخِرةِ معَ بعضِهمُ البَعضِ مَشدُودين، يَمرُّونَ صَفًّا وراءَ صَفّ...

﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٖ وَتَغۡشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ [ابراهيم:50]


أثوابُهمْ وقُمصَانُهمْ مِنْ قَطِران، وهوَ أسودُ قَذِرٌ مُنتِنٌ يُسرِعُ فيهِ اشتعالُ النَّار، وتَعلو وجوهَهُمُ النَّارُ لتُسْعَرَ بها، وهيَ أكرمُ عُضوٍ في الإنسانِ وأشرَفُه، ولكنَّهمُ امتهَنوهُ وسَجدوا بهِ للأصنامِ وغَيرِها، ولم يَسجدُوا للهِ الواحِدِ القهَّار، فجازاهمُ اللهُ بالذُّلِّ والتَّحقير، جَزاءَ شِركِهمْ ومَكرِهمْ واستِكبارِهم.

﴿لِيَجۡزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الۡحِسَابِ﴾ [ابراهيم:51]


ليَجزيَ اللهُ يومَ القيامَةِ كُلَّ نَفس، مُؤمِنةٍ وكافِرة، ما عَمِلتْ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، جَزاءً عادِلاً مُوافيًا، واللهُ سَريعُ الحِساب، معَ كثرَةِ خَلقِهِ وكثرَةِ ما عَمِلوا.

﴿هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ وَلِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الۡأَلۡبَٰبِ﴾ [ابراهيم:52]


هذا القُرآنُ وما فيهِ مِنْ تَذكيرٍ وأحكَام، تَبليغٌ وعِظَةٌ لجَميعِ النَّاس، ليُنصَحوا ويُنذَروا به، ويوعَظوا ويُخَوَّفوا، وليَعلَموا ويوقِنوا بالأدلَّةِ والحُجَج، والنظَرِ والتأمُّل، أنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَريكَ لهُ ولا ولَد، وليتذكَّرَ ذلكَ ويتَّعِظَ بهِ أصحابُ العُقولِ السَّليمة، والأفهامِ الراجِحَةِ المُستَقيمَة، ويَلتَزِموا جانِبَ التقوَى، والثَّباتِ على الحقّ، والصَّبرِ على الطَّاعة.