تفسير سورة النحل

  1. سور القرآن الكريم
  2. النحل
16

﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ اللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [النحل:1]


أمرُ اللهِ بالعَذابِ أو بالسَّاعَةِ آتٍ لا مَحالَة، وقدْ قُضِيَ أمرُهُ وانتَهى أيُّها المشرِكون، فلا تَستَعجِلوا ما أوعدَكمْ بهِ نبيُّكمْ مِنْ ذلك، فإنَّهُ كائنٌ في وقتِهِ المقَدَّرِ له، وتعالَى اللهُ وتقَدَّسَ عمَّا يُشرِكُ بهِ المشرِكونَ منْ أوثانٍ وأندَاد، وهوَ سُبحانَهُ مُنزَّهٌ عنِ افتِراءَاتِهمْ وتَصوُّراتِهمُ الفاسِدَة.

﴿يُنَزِّلُ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَاتَّقُونِ﴾ [النحل:2]


واللهُ يُنَزِّلُ الملائكةَ بالوَحي منْ أمرِهِ على عِبادٍ لهُ اختارَهمْ للنبوَّة، ليُنذِروا الناسَ ويُعْلِموهمْ أنَّهُ لا مَعبودَ بحَقٍّ في الوجودِ سِواي، فاتَّقوا عَذابي بالإيمانِ ونَبذِ الشِّرك.

﴿خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ بِالۡحَقِّۚ تَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [النحل:3]


هوَ الذي خلقَ السَّماواتِ والأرضَ وما فيهما بالحقِّ والعَدل، لا باطِلَ فيهِ ولا لَعِب، وكُلُّ ما فيهما يَنطِقُ بوحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِهِ وإبداعِه، وقدْ خُلِقَتا لحِكمَةٍ وغايَة.

﴿خَلَقَ الۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ﴾ [النحل:4]


وهوَ الذي خلقَ الإنسانَ منْ مَنيٍّ ضَعيفٍ مَهِين، فإذا بهِ عندَما يَكبَرُ يُخاصِمُ ربَّهُ بالباطِلِ في وجودِهِ ووحدانيَّتِه، ويُكَذِّبُهُ في وَحيهِ وآياتِه، وقدْ خُلِقَ عَبدًا مَملوكًا لرَبِّه.

﴿وَالۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ﴾ [النحل:5]


وهوَ الذي خَلقَ لكمُ الأنعَام، منْ إبِلٍ وبقَرٍ وغنَمٍ ومَعْز، لتَكونَ لكمْ دِفئًا، في أصْوافِها وأوْبارِها وأشْعارِها وجُلودِها، تَلبَسونَها وتَفتَرِشونَها وتَلتَحِفونَ بها، وتأكلونَ منْ لحومِها، وتَشرَبونَ منْ ألبانِها، وتُتاجِرونَ بها...

﴿وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ﴾ [النحل:6]


وعلى هذهِ الحيواناتِ مُسحَةُ جَمالٍ وزِينَةٍ تُبهِجُ نفوسَكمْ وتُريحُ أنظارَكم، حينَ تَردُّونَها عَشِيًّا منَ المَرعَى إلى مبَارِكِها لتَستَريح، وحينَ تُرسِلونَها بالغَداةِ إلى المَرعَى لتَسرَح.

﴿وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٖ لَّمۡ تَكُونُواْ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [النحل:7]


ومِنْ هذهِ الحيَواناتِ ما تَحمِلونَ عَليها أحمالَكمُ الثَّقيلَةَ إلى بلادٍ بَعيدَة، وتَعجِزونَ عنْ حَملِها بأنفُسِكم، وإذا فعَلتُمْ ذلكَ وَجدتُمْ مشَقَّةً بالِغةً حتَّى تَصِلوا إليها، كالحجّ، والغَزو، والتِّجارَة...وإنَّ رَبَّكمُ الذي سَخَّرَ لكمْ هذهِ الحيوانات، وهيَّأها للإطعامِ والرُّكوبِ والتَّحميل، ذو رَحمَةٍ كبيرةٍ بكم.

﴿وَالۡخَيۡلَ وَالۡبِغَالَ وَالۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [النحل:8]


وخلقَ لكمُ الخَيل، والبِغَال، والحَمِير، وهيَ أكثرُ الحيواناتِ استخدامًا للرُّكوب، لمسافاتٍ قَريبةٍ وبَعيدَة، وتتَّخِذونَ منها زِينَة، في بيوتِكم، أو في حدائقِ الحيَوانات، أو في مواكِبَ لكم، تتَمتَّعونَ بالنظَرِ إلى صوَرِها وحركاتِها وسُلوكِها.

ويَخلقُ اللهُ ما لا تَعرِفونَهُ مِنَ الأحياء، وما لم تَسمَعوا بهِ ولم يُحِطْ بهِ إدراكُكم، في بلادٍ وأزمانٍ أخرَى.

﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصۡدُ السَّبِيلِ وَمِنۡهَا جَآئِرٞۚ وَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [النحل:9]


وعلى اللهِ تَبيينُ الطَّريقِ المستَقيمِ الذي لا يَحيدُ عنِ الحقّ، فلا يَلتوي ولا يَنحَرِف، ومِنَ الطُّرُقِ ما هوَ مُنحَرِفٌ زائغٌ عنِ الحقّ، كاليهوديَّةِ والنصرانيَّة، ولو أرادَ اللهُ لجمعَكمْ على مِلَّةِ التَّوحيدِ وألزَمَكمْ بها، وسيَكونُ ذلكَ بغيرِ اختِيارِكم، لكنَّ اللهَ شاءَ أنْ يُعطيَكمْ حرِّيَةَ الاختيار، لتكونوا مَسؤولينَ عنِ الأعمالِ التي تَختارونَها، وسَوفَ تُحاسَبونَ عَليها.

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابٞ وَمِنۡهُ شَجَرٞ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل:10]


هوَ اللهُ رازِقُكمْ والمُنعِمُ عَليكم، الذي أنزلَ منَ السَّماءِ المطَر، فتشرَبونَ الماءَ الذي يجتَمِعُ منه، وتَسْقُونَ بهِ أشجارَكمْ وزرُوعَكمْ ونَباتاتِكم، وترعَونَ فيها مَواشيَكم.

﴿يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرۡعَ وَالزَّيۡتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:11]


ويُخرِجُ اللهُ لكمْ بهذا الماءِ ما يكونُ مَعاشًا لَكم، منَ الزُّروعِ بأنواعِها، والزَّيتون، والنَّخيل، والأعْناب، وغَيرِها منْ أنْواعِ الثَّمرَات، وفي ذلكَ دَلالَةٌ على تَدبيرِ اللهِ لهذا الكَون، وعلى قُدرَتِهِ وإبداعِهِ في الخَلق، لمَنْ تفكَّرَ وتدبَّر، ونظرَ فاعتبَر.

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيۡلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمۡسَ وَالۡقَمَرَۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾ [النحل:12]


وذَلَّلَ اللهُ لكمُ اللَّيلَ والنَّهار، يَخلُفُ أحدُهما الآخَر، اللَّيلُ بهُدوئهِ لِسَكنِكمْ ومَنامِكم، والنَّهارُ بضِيائهِ وحَرارَتِهِ لعمَلِكمْ ومَعاشِكم. وسخَّرَ لكمُ الشمسَ والقمرَ في حركَةٍ دائمَة، ليتَشكَّلَ مِنْ سَيرِهما اللَّيلُ والنَّهار، ويَستفيدَ مِنهما الإنسَانُ في حَياتِه، ولا غِنَى لهُ عَنهما. وهذهِ النُّجومُ بأعدادِها الكثيرَة، وأجرامِها المُضيئة، وحركاتِها الدائبةِ في مَدارِها، مُذَلَّلاتٌ بأمرِه، يَتصرَّفُ فيها ولا يَمتَنِعُ عَليهِ شَيءٌ منها، وفي ذلكَ كُلِّهِ أدِلَّةٌ على قُدرَةِ اللهِ وعظَمتِه، لمَنْ فَهِمَ وتَدبَّر، وعقَلَ فوعَى.

﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ مُخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ﴾ [النحل:13]


وكذلكَ ما خلقَهُ اللهُ لأجلِكمْ في الأرْض، منْ حيَوانٍ ونَباتٍ ومَعادِن، أصنافًا مُتعَدِّدَةً ولفَوائدَ مُختَلِفَة، وفي ذلكَ حُجَجٌ وأدِلَّةٌ على وُجودِ خالِقٍ لها، مُتَّصِفٍ بكَمالِ العِلمِ والقُدرَةِ والخَلق، وهذا يُفيدُ مَنْ تذَكَّرَ وتدبَّر، واتَّعظَ واعتبَر.

﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى الۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [النحل:14]


وهوَ الذي سخَّرَ لكمُ البَحرَ وما فيه، لتأكلوا اللَّحمَ الطريَّ اللَّذيذَ مِنَ البَحرِ المالِح، منْ أنواعِ أسماكهِ وحيَواناتِهِ البحريَّة، أو ليُحْفَظَ ويُملَّحَ ويُبرَّدَ ويوزَّع، فتَستَفيدَ منهُ أُمَم. ولتَستَخرِجُوا منهُ أنواعَ الحُليّ، منَ اللُّؤلؤ والمَرجان، والقواقِعِ والأصداف، تَتزَيَّنونَ بها وتَتجَمَّلون.

وترَى السُّفُنَ والبواخِرَ تشُقُّ الماءَ وتَسيرُ عَليه، واللهُ هوَ الذي جعلَ في البَحرِ خاصِّيةَ تحَمُّلِ السفُنِ لتَطفُوَ فَوقَها، فتَستَخدِمَونها في شُؤونِكم، وتَبتَغونَ بها الرِّزقَ مِنْ فَضلِ ربِّكم، ولتَشكروهُ على ما أنعمَ بهِ عَليكم، وسهَّلَ لكمُ الانتفاعَ به، ولتُطيعوهُ وتوَحِّدوه.

﴿وَأَلۡقَىٰ فِي الۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَٰرٗا وَسُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [النحل:15]


واللهُ الذي ألقَى في الأرْضِ الجِبالَ الثَّابتةَ لتَحفَظَ توازُنَ الأرضِ بأمرِه، فلا تتَحرَّكَ ولا تَضْطَرِب. وشَقَّ فيها أنهارًا تَنبُعُ منْ أماكِنَ مُختَلِفَة، وتَسيرُ بينَ البُلدانِ لتَسقيَ الزُّروعَ والمَواشي، وليُستفادَ منْ تَخزينِها وطاقَتِها. وجعلَ في الأرْضِ كذلكَ طُرقًا يَسيرُ فيها النَّاسُ حتَّى بينَ الجِبال، وتوجَدُ طرقٌ تِجاريَّةٌ مَعروفَةٌ منذُ القِدَم، منها ما يُستَخدَمُ حتَّى الآن، وإنِ اختلفَتِ الوسائل؛ لتَهتَدوا بها في سَيرِكمْ مِنْ بلَدٍ إلى آخَر.

﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِالنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ﴾ [النحل:16]


وجعلَ في الأرضِ دَلائلَ ومَعالِمَ تَكونُ عَلاماتٍ على الطُّرُق، مِنْ جِبالٍ بأحجامِها وأشكالِها المُختَلِفَة، ومَناهِلَ وتِلالٍ ظاهِرَة، يَهتَدي بها المسافِرونَ في البرِّ والبَحر، كما يَهتَدونَ بالنُّجومِ في ظَلامِ اللَّيلِ منْ خلالِ أماكنِها ويَعرِفونَ بها الجِهات.

﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:17]


أفمَنْ يَخلُقُ كُلَّ هذا - ولا يَقدِرُ على الخَلقِ إلاّ اللهُ - كالذي لا يَخلُق، بلْ لا يَقدِرُ على الحرَكة، ولا يَفهَمُ ولا يَنطِق، ولا يَسمَعُ ولا يَعي؟ فكيفَ تَعتَقِدونَ بهذهِ الأصْنامِ أيُّها المُشرِكون؟ أمْ كيفَ تُشرِكونَها معَ الله؟ أفلا تُلاحِظونَ وتُقارِنون؟ ألا تَعقِلونَ وتَتدبَّرون؟

﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ اللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [النحل:18]


ونِعَمُ اللهِ وفَضائلُهُ كَثيرَةٌ وفائضَةٌ عَليكم، ممّا ذُكِرَ وممّا لم يُذكَر، وإذا حاوَلتُمْ عَدَّها فلنْ تُحصُوها ولنْ تَضْبِطوا عددَها، وأنتُمْ غافِلونَ عنْ أكثَرِها، ولو حاسبَكمُ اللهُ على شُكرِ جَميعِها لغلبَكمُ الحِساب، ولكنَّهُ سُبحانَهُ يَغفِرُ لعِبادِهِ ويَعفو عمَّا بدرَ منهمْ منْ عَدمِ القيامِ بحُقوقِها، ويَرحَمُهمْ بإدامَةِ هذهِ النِّعَمِ عَليهم.

﴿وَاللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ﴾ [النحل:19]


واللهُ يَعلَمُ ما تُخفُونَ في نفُوسِكمْ منْ عَقائدَ وأفْكار، كما يَعلَمُ ما تُظهِرونَ منها، فلا يَخفَى عَليهِ شَيء.

﴿وَالَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ﴾ [النحل:20]


وهذهِ الأصْنامُ التي يتَّخِذُها المشرِكونَ آلِهة، لا يَقدِرونَ على خَلقِ شَيء، بلْ همْ مَخلوقونَ ويُصنَعون، ولا يَشعُرونَ بعبادَةِ المشرِكينَ لهم.