تفسير سورة النحل

  1. سور القرآن الكريم
  2. النحل
16

﴿أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ﴾ [النحل:21]


فهمْ جامِدَونَ لا حَياةَ فيهمْ ولا رُوح، فلا يَسمَعُونَ ولا يرَون، ولا يَجلُبُونَ خَيرًا ولا يَدفَعُونَ شَرًّا، ولا يَدرونَ متَى تَقومُ السَّاعَة، فكيفَ يُرتجَى نَفعُهم أو ضَرُّهم؟

﴿إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ فَالَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٞ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [النحل:22]


إنَّما إلهُكمْ وخالِقُكمْ هوَ اللهُ الذي لا إلهَ غَيرُه، ولا شَريكَ له، والذينَ كفَروا بالبَعثِ والجَزاءِ قُلوبُهمْ جاحِدَةٌ للوَحدانيَّة، مُستَكبِرَة، لا تَتقبَّلُ الآياتِ الواضِحَةَ والأدِلَّةَ الصَّحيحَةَ على ذلك.

﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ الۡمُسۡتَكۡبِرِينَ﴾ [النحل:23]


حقًّا إنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على ما يُضمِرُ هؤلاءِ الكافِرونَ منَ الإنكار، وما يُظهِرونَهُ منَ الاستِكبار، واللهُ يَبْغُضُ المُستَكبِرينَ الذينَ يَتعالَونَ على الحَقّ، فلا يُرتَجَى منهمُ اقتِناعٌ وإيمان.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡ قَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [النحل:24]


وإذا قيلَ لهؤلاءِ المُستَكبرِينَ الضَّالِّين: ما الذي أنزلَهُ اللهُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ما هذا الذي يُتلَى عَلينا سِوَى خُرافاتٍ وحِكاياتٍ شَعبيَّةٍ باطِلَةٍ مُسَطَّرةٍ في كتُبِ المتقَدِّمين، وليسَتْ وَحيًا.

﴿لِيَحۡمِلُوٓاْ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةٗ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ وَمِنۡ أَوۡزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۗ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل:25]


قالوا هذا بدونِ تدَبُّرٍ ولا مُبالاة، وسيَتحمَّلونَ مَسؤوليَّةَ قَولِهمْ هذا وما يَترَتَّبُ عَليه، فسيَحمِلونَ آثامَ مُكابَرتِهمْ وضَلالِهمْ كامِلةً يَومَ القِيامَة، معَ حَمْلِ ذُنوبِ مَنْ أضَلُّوهم، فقدْ كانوا يُزَيِّنونَ لهمُ الكُفر، أو يَمنَعونَهمْ منَ الإيمان، وصارَ أتباعُهمْ والمُتأثِّرونَ بهمْ يُقَلِّدونَهمْ بعدَما ماتوا، وهمْ لا يَعلَمونَ ولا يَشعُرونَ بأنَّ أعمَالَ المقَلِّدينَ السيِّئةَ تُكتبُ في صَحائفِهمْ أيضًا، فقدْ كانوا همْ سبَبَها، وسيَعلمونَ ذلكَ يَومَ الحِساب. فبئسَ ما يَرتَكبونَهُ ويَجلُبونَهُ لأنفسِهمْ منْ ذُنوب، تؤدِّي بهمْ إلى الجَحيم.

﴿قَدۡ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى اللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ الۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ السَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ الۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [النحل:26]


لقدِ احتالَ كثيرونَ ممَّنْ قَبلَهمْ لإضلالِ النَّاسِ وصَرفِهمْ عنِ الدِّينِ الحقّ، ولكنَّ اللهَ أهلكَهم، وهدمَ ما شَادُوهُ ممّا كانوا يَفتَخِرونَ به، مِنْ قُصورٍ عَاليَة، وبِناياتٍ ذاتِ أُسُسٍ مَتينَةٍ وقَواعِدَ صُلبَة، فهُدِمَتِ الأسَاسَاتُ الضَّخمَة، والسُّقوفُ العالِيَةُ المَتينَة، وأُطبِقَتْ عَليهم، فصَدَمَهمُ العَذابُ ولَحِقَهمْ منْ أعلَى ومِنْ أسفَل، مِنْ حَيثُ لا يَخطُرُ لهمْ على بال، فصَاروا أنقَاضًا تحتَ أنقَاض، لا صَوتَ لهمْ ولا حرَكةَ فيهم.

﴿ثُمَّ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ يُخۡزِيهِمۡ وَيَقُولُ أَيۡنَ شُرَكَآءِيَ الَّذِينَ كُنتُمۡ تُشَـٰٓقُّونَ فِيهِمۡۚ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡعِلۡمَ إِنَّ الۡخِزۡيَ الۡيَوۡمَ وَالسُّوٓءَ عَلَى الۡكَٰفِرِينَ﴾ [النحل:27]


وفي يَومِ القِيامَةِ يَكونُ عِقابُهمْ أكبَر، فيُذِلُّهمُ اللهُ ويُهينُهمْ على رُؤوسِ الخَلق، ويَقولُ لهمْ تَبكيتًا وتَوبيخًا: أينَ همْ شُركائي الذينَ كنتُمْ تَعبدُونَهمْ وتُدافِعونَ عَنْ أُلوهيَّتِهمْ أمامَ الأنبياءِ والنَّاس، ليَنتَصِروا لكمْ ويُخَلِّصوكمْ مِنْ عَذابي؟ قالَ أهلُ العِلمِ والإيمانِ منَ الأنبياءِ والمؤمنينَ في المَوقِف: إنَّ العَارَ والعَذابَ اليَومَ على أهلِ الكُفرِ والضَّلال.

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوٓءِۭۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النحل:28]


هؤلاءِ الذينَ تأتي إليهمُ الملائكةُ المُكلَّفَةُ بقَبضِ الأرْواح، وهمْ في ساعَةِ الاحتِضار، وقدْ ظَلَموا أنفُسَهمْ بكُفرِهمْ وعِصيانِهم، يَستَسلِمونَ لهمْ ويُظهِرونَ السَّمعَ والطَّاعَة، ويَقولونَ وهمْ في مَوقِفِ ذُلٍّ وإهانَة: ما كُنّا نعمَلُ عمَلاً سيِّئاً، ولا ارتَكبنا خطأ! بلَى أيُّها المُشرِكون، إنَّ اللهَ عَليمٌ بما كسَبتُمْ منْ سُوءٍ وضَلالٍ وفُجور، وسيُجازيكُمْ على كُلِّ ذلك.

﴿فَادۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى الۡمُتَكَبِّرِينَ﴾ [النحل:29]


فادخُلوا جَهنَّمَ، مِن أبوابِها المعدَّةِ لكلِّ صنفٍ مِنكم، بما كسَبتُمْ مِنْ أعمَالٍ سَيِّئة، ماكثِينَ فيها أبدًا، وبئسَ المُستَقَرُّ والمُقامُ لِمَن تَكبَّرَ على اللهِ ولم يُقِرَّ بوَحدَانيَّتِه، الذي ليسَ فيهِ سِوَى العَذابِ والهَوان.

﴿۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ الۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ الۡمُتَّقِينَ﴾ [النحل:30]


وقيلَ للمُؤمِنينَ السُّعَداء: ماذا أنزلَ ربُّكمْ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: أنزَلَ خَيرًا ورَحمةَ وبَرَكة. ولِمَنْ آمنَ وعَمِلَ صالِحًا في هذهِ الحياةِ الدنيا مَثوبَةٌ حسَنةٌ وحَياةٌ طَيِّبَة، وفي يَومِ القِيامَةِ جَزاءٌ أفضَلُ وحَياةٌ أنعَمُ وأهنأُ ممّا أُوتوا في الدُّنيا، ونِعمَ الدارُ الآخِرةُ لمَنِ اتَّقَى ربَّهُ وصبَرَ على طاعتِه.

﴿جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُۖ لَهُمۡ فِيهَا مَا يَشَآءُونَۚ كَذَٰلِكَ يَجۡزِي اللَّهُ الۡمُتَّقِينَ﴾ [النحل:31]


لهمْ جَنَّاتٌ مُعَدَّةٌ لإقامَةٍ دائمَة، يَدخُلونَها ويَسكنونَ فيها فَرحِينَ مُبتَهجِين، تُزَيِّنُها الأنهارُ جارِيَةً بينَ قُصورِها وأشجارِها، ولهمْ فيها ما يَشاؤونَ منْ أنواعِ المطعُوماتِ والمشَاربِ والثِّمارِ اللَّذيذَة. وبمِثلِ ذلكَ الثَّوابِ الكبيرِ يَجزي اللهُ بهِ عِبادَهُ المؤمِنينَ الصَّالِحين.

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمُ ادۡخُلُواْ الۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النحل:32]


الذينَ يأتي إليهمْ مَلائكةُ الموتِ فيَقبِضونَ أرْواحَهمْ وقدْ طابَتْ نفوسُهمْ بلِقاءِ الله، وطَهُرَتْ وزَكَتْ بالعِلمِ والإيمان، قائلينَ لهمْ تَرحيبًا بهم: "سلامٌ عَليكم"، فلا خَوفَ عَليكمْ ولا أذًى يُصيبُكم، ادْخُلوا الجنَّةَ جَزاءَ عَملِكمُ الطيِّبِ وصَبرِكمْ على طَاعةِ ربِّكم.

﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ أَمۡرُ رَبِّكَۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [النحل:33]


ما يَنتَظِرُ هؤلاءِ المشرِكونَ إلا أنْ تأتيَ مَلائكةُ الموتِ فتَقبِضَ أرْواحَهمْ وهمْ مُستَمِرُّونَ في ضَلالِهم، أو يأتيَ أمرُ اللهِ بقيامِ السَّاعَةِ وهمْ قائمُونَ على ذلك. وكذلكَ كانَ أمرُ مَنْ سَبَقَهمْ مِنْ أهلِ الشِّرك، الذينَ اغتَرُّوا بالدُّنيا وتَمادَوا في الباطِل، حتَّى حَلَّتْ بهمْ نِقمَةُ اللهِ وذاقُوا عَذابَه. وما ظلمَهمُ اللهُ بهذا، فقدْ أُنذِروا منْ قِبَلِ رسُلِه، وجاءَتهمُ المُعجِزات، والكتُب، فكفَروا وعصَوا، فكانَ ما أصابَهمْ بسَببِ نُفوسِهمُ الظالِمَة، التي أصَرَّتْ على تَكذيبِ رُسُلِ رَبِّها، واستَمرَّتْ في غَيِّها، مُصِرَّةً على باطلِها، غَيرَ آبِهةٍ بعَواقبِها.

﴿فَأَصَابَهُمۡ سَيِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [النحل:34]


فنزَلتْ بهمْ عُقوبَةُ أعمَالِهم، جَزاءَ غَيِّهمْ وظُلمِهمْ لأنفُسِهم، وسُوءِ اختِيارِهمْ وعَدَمِ تدبُّرِهم، وأحاطَ بهمْ عَذابُ الله، وقدْ كانوا يستَبعِدونَهُ ويَسخَرونَ بالرسُلِ إذا تَوعَّدوهمْ به.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الۡبَلَٰغُ الۡمُبِينُ﴾ [النحل:35]


وقالَ المشرِكونَ مُحتَجِّينَ بالقَدَر: لو أرادَ اللهُ لمَا عَبَدْنا معَهُ الأصْنام، نحنُ ولا آباؤنا، ولا حرَّمْنا شَيئًا ممّا نُحَرِّمُهُ الآن، ولكنَّهُ شَاءَ ذلك، وإذا شَاءَ أمرًا فهوَ يَعني مَشروعيَّتَهُ ورِضاهُ عَنه، ولذلكَ فإنَّ ما نحنُ عَليهِ صَحيحٌ ومَشروع!

وهذا كَذِبٌ وجدَلٌ عَقيم، وقدِ افترَى مِثلَ هذا الكَذبِ أُمَمٌ كافِرَةٌ ضلَّتْ قَبلَهمْ وعاقبَهمُ الله. أمَا بلَّغَ الرسُلُ رسَالةَ ربِّهمْ بشَكلٍ واضِحٍ جَليّ، وفيها إنكارٌ لعمَلِ المشرِكين، ونَهيٌ عنْ مُعتَقداتِهم، وتَنبيهٌ إلى ضَلالِهم، وإنذارٌ لهمْ وتَذكير، وأنتُمْ كذلكَ أيٌّها المشرِكون، واللهُ لا يَرضَى بكُفرٍ ولا شِرك، فكَيفَ تُحيلونَ شِركَكُمْ إليه؟!

﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعۡبُدُواْ اللَّهَ وَاجۡتَنِبُواْ الطَّـٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى اللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ الضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَانظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الۡمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل:36]


وقدْ أرسَلنا لكُلِّ أُمَّةٍ منَ الأُمَمِ السَّابقَةِ رَسُولاً يأمرُهمْ بعبادَةِ اللهِ وحدَه، واجتِنابِ كُلِّ ما عَداهُ مِنْ وثَنيَّةٍ وضَلالٍ وفِكرٍ لا يوافِقُ دِينَ الله.

فمِنْ هذهِ الأُمَمِ مَنْ هَداهمُ اللهُ إلى الحقِّ بعدَ إنذارِ الرسُل، فاستَجابوا لنداءِ ربِّهِمْ والتَزَموا بأحكامِ دِينِه، ومنهمْ مَنْ أبَى فكفَرَ واتَّبعَ طَريقَ الطَّاغوت، فثَبتَتْ عَليهمُ الضَّلالة.

"وهذا الفَريقُ وذلك، كِلاهُما لم يَخرُجْ على مَشيئةِ الله، وكِلاهُما لم يَقسِرْهُ اللهُ قَسْرًا على هُدًى أو ضَلال، إنَّما سلَكَ طريقَهُ الذي شاءَتْ إرادَةُ اللهِ أنْ تَجعلَ إرادتَهُ حُرَّةً في سُلوكِه، بعدَما زوَّدَتْهُ بمعالِمِ الطَّريقِ في نَفسِهِ وفي الآفاق"، كما قالَهُ صاحِبُ "الظِّلال".

فامشُوا في الأرض - أيُّها المُكَذِّبونَ المُستَهزِؤونَ - مُفَكِّرينَ مُعتَبرِينَ منْ آثارِ السَّابقينَ وأحداثِهمْ وقَصَصِهم، وما حَلَّ بهمْ منْ عُقوبَةٍ ونَكال، جَزاءَ كُفرِهمْ وتَكذيبِهمْ أنبياءَهم، معَ ما يَنتَظِرُهمْ مِنْ عَذابٍ في الآخِرَة.

﴿إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي مَن يُضِلُّۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ﴾ [النحل:37]


ومَهما كُنتَ مُتألِّمًا أيُّها النبيُّ لِما يَنتَظِرُهمْ نَتيجةَ إصْرارِهمْ على الكُفر، وحَريصًا على هِدايَتِهمْ وإيمانِهم، فاعلَمْ أنَّ حِرصَكَ هذا لنْ يَنفعَهمْ شَيئاً، إنَّما وظيفتُكَ البَلاغ، واللهُ لا يَهدي مَنِ اختَارَ طَريقَ الضَّلالَة، ولا يَقسِرُهمْ على الإيمان، وسَوفَ يَلقَونَ جَزاءَ تَقليدِهمْ وسُوءِ اختيارِهمْ ومُكابَرتِهمْ عنِ اتِّباعِ الحقّ، ولنْ تَجِدَ مَنْ يَنتَصِرُ لهمْ ويُخَلِّصُهمْ منْ عَذابِ اللهِ يَومَ القيامَة.

﴿وَأَقۡسَمُواْ بِاللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [النحل:38]


وأقسَمَ المشرِكونَ باللهِ قسَمًا عَظيمًا مُبالَغًا فيه، أنَّ اللهَ لنْ يَبعثَ أحَدًا بعدَ مَوتِه، فلا حياةَ بعدَ الموتِ عندَهم، ولا حِسابَ على الأعمال، ولا ثَوابَ ولا عِقاب. فإذا ماتَ الظَّالِم، والخائن، والقاتِل، والسَّارِق، ولم يؤخَذْ حَقُّ الناسِ منهمْ في الدُّنيا، ماتَ كما يَموتُ المظلومُ والعادِلُ وغَيرُه! ولو كانَ خائنَ وطَن، أو قاتِلَ ملايينِ البشَر، أو آكِلَ أموالِ فُقَراءَ ويتامَى، وخَزائنُهُ مَملوءَةٌ بالمالِ والذَّهَب...!!

بَلى، وَعدًا صادِقًا وحقًّا ثابِتًا على اللهِ الحَكَمِ العَدْل، أنْ يَبعثَ مَنْ يَموت، ليَتِمَّ الجزاءُ على أكمَلِه، ويُعاقَبَ المجرِمُ، ويُثابَ المُحسِنُ. ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمونَ ذلك، لجَهلِهمْ بحكمةِ اللهِ وقُدرتِه.

﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰذِبِينَ﴾ [النحل:39]


ليُبَيِّنَ اللهُ لهمْ حَقيقَةَ ما كانوا يَختَلِفونَ فيه، والحقَّ الذي خالَفوه، ممّا كانَ الرسُلُ يَدعوهُمْ إليه، و {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} {سورة النجم: 31}. وليَعلمَ الذينَ كفَروا بالبَعثِ والحِسابِ أنَّهمْ كانوا كاذِبينَ في حَلِفِهمْ بأنَّ اللهَ لنْ يَبعثَ أحَدًا.

﴿إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ [النحل:40]


وقدْ غفَلَ هؤلاءِ المشرِكونَ عنْ قُدرَةِ اللهِ وعظَمتِه، وأنَّ خَلْقَ شَيءٍ أو إعدامَهُ مِنْ قِبَلِهِ لا يَحتاجُ سِوَى إلى أمرهِ به، فيَكونَ كما أراد، دونَ تأخير، ولا يُكَلِّفُهُ - جَلَّتْ قُدرتُه - وقتًا أكثرَ إنْ كانوا كُثُرًا {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [سورة لقمان: 28].