تفسير سورة النحل

  1. سور القرآن الكريم
  2. النحل
16

﴿وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَاللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [النحل:101]


وإذا أنزَلنا آيَةً منَ القُرآن، وجَعلناها بدَلَ آيَةٍ أُخرَى سابِقَة، نَسخًا لها، واللهُ أعلَمُ بما يَصلُحُ لخَلقِهِ فيما يُغَيِّرُ ويُبَدِّلُ مِنْ أحْكام، ويأخذُهمْ فيها بالتَّدريج، قالَ المشرِكونَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: أنتَ كاذِب، تأمرُ أصحابَكَ بأمرٍ ثمَّ تَنهاهُمْ عَنه، هذا لا يَكونُ منْ كلامِ الرَّبّ، بلْ هوَ منْ كلامِك! لكنَّ أكثرَ المشرِكينَ جاهِلون، لا يَعلَمونَ ما في تَبديلِ الأحكامِ مِنْ مَصالِحَ وحِكَم، فإنَّ اللهَ يُبَدِّلُها بعِلمِهِ وحِكمتِهِ بما يُوافِقُ أحوالَ العِباد ومَصالِحَهم.

﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ الۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [النحل:102]


قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: لقدْ نَزَّلَ القُرآنَ الكريمَ جِبريلُ مِنْ عندِ اللهِ بالصِّدقِ والعَدل، ليُثَبِّتَ اللهُ قُلوبَ المؤمِنينَ على ما هُمْ مُؤمِنونَ به، ليَزدادوا إيمانًا ويَقينًا بما نَزَلَ مِنْ عندِهِ أوَّلاً وأخِيرًا، وتَطمَئنَّ قُلوبُهمْ به، وليَكونَ هاديًا لهمْ إلى الحقّ، ومُبَشِّرًا إيَّاهمْ بالفَوزِ والنَّصر.

﴿وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ﴾ [النحل:103]


ونحنُ نَعلمُ أنَّ المشرِكينَ يَقولونَ إنَّ الذي يُعَلِّمُ محمَّدًا رَجُلٌ نَصرانيّ - وكانَ عَليه الصلاةُ والسلامُ يَدخلُ عَليهِ ويُكَلِّمُه - ولُغَةُ الذي يَميلونَ إليهِ ويُشيرونَ إليهِ أعجَميٌّ لا يُفصِحُ ولا يُبِيْن، وهذا القُرآنُ لُغَتُهُ عَرَبيَّةٌ فَصيحَةٌ بيِّنَة، فكيفَ لأعجَميٍّ لا يَعرِفُ التكلُّمَ بالعَربيَّةِ جَيِّدًا أنْ يُعَلِّمَ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم هذا الكِتابَ المُعجِزَ في بَيانهِ وبلاغَتِهِ؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ لَا يَهۡدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل:104]


والذينَ لا يُصَدِّقونَ بأنَّ القُرآنَ موحًى بهِ منْ عندِ الله، لا يُرشِدُهمْ اللهُ إلى حَقيقَةِ أمرِه، وذلكَ لكُفرِهمْ وإعراضِهمْ عنِ الإيمانِ بهِ والاهتداءِ إلى آياتِه، ولهمْ عَذابٌ شَديدٌ لإصرارِهمْ على الإعراضِ عنْ كِتابِ اللهِ وتَكذيبِ رَسولِه.

﴿إِنَّمَا يَفۡتَرِي الۡكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡكَٰذِبُونَ﴾ [النحل:105]


ورَسولُ اللهِ صادِقٌ أمينٌ لا يَكذِب(70)، إنَّما يَرتَكبُ جَريمةَ الكذِبِ المشرِكونَ والمُلحِدون، الذينَ يَكفرونَ بآياتِ اللهِ الواضِحَةِ ومُعجِزاتِه الصَّادِقة، فهؤلاءِ همُ الكاذِبونَ حَقًّا، ماداموا يُكَذِّبونَ ما هوَ واضِحٌ وحَقّ.

(70) الافتراءُ هو الكذب، وهو مرادفُ الاختلاق، وكأن أصلَهُ كنايةٌ عن الكذبِ وتلميح، وشاعَ ذلك حتى صارَ مرادفًا للكذب. (ينظر التحرير والتنوير، عند تفسير الآية (94) من سورة آل عمران).

﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِالۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [النحل:106]


إنَّ الكافِرَ حَقًّا مَنْ كفرَ بعدَ أنْ رَأى نورَ الإيمانِ واطمأنَّ بهِ قَلبُهُ واعتنقَ الإسْلام، فارتدَّ مُؤْثِرًا الحياةَ الدُّنيا على الآخِرَة، وصُحبَةَ أهلِ الكُفرِ على أهلِ الإيمان، إلاّ مَنْ فُتِنَ في دِينِهِ وعُذِّبَ وأُكرِهَ على الكُفرِ ولكنَّ قَلبَهُ مَليءٌ بالإيمانِ وحُبِّ اللهِ ورَسولِه، فهؤلاءِ مؤمِنونَ حَقًّا، وإنْ نَطَقوا بالكُفرِ ظاهِرًا تحتَ التَّعذيبِ والإكرَاه.

والكافِرُ الصَّريحُ هوَ مَنْ فتحَ صَدرَهُ للكُفر، وقَبِلَهُ طَواعيَةً واختِيارًا، فهؤلاءِ عَليهمْ غَضَبٌ عَظيمٌ وسُخْطٌ منَ الله، ولهمْ عَذابٌ كَبيرٌ يومَ القِيامَة، لعِظَمِ جُرمِهم.

وقدْ نزَلتِ الآيَةُ في عَمّارِ بنِ ياسِر، فقدْ عُذِّبَ منْ قِبَلِ المشرِكينَ وأُجْبِرَ على كَلِمَةِ الكُفر، وقَلبُهُ مُطْمَئنٌّ بالإيمَان.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسۡتَحَبُّواْ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا عَلَى الۡأٓخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [النحل:107]


ذلكَ بأنَّ هؤلاءِ المُرتدِّينَ فضَّلوا الحياةَ الدُّنيا، بشَهواتِها وإغراءاتِها وأهلِها، على الصَّبرِ على طاعَةِ اللهِ والعمَلِ لليَومِ الآخِر، واللهُ لا يَهدي الكافِرينَ إلى الإيمانِ والثَّباتِ عليهِ ما دامُوا رافِضينَ لسُبُلِهِ والطُّرقِ المؤدِّيَةِ إليه، ولا يُرشِدُهمْ إلى الجنَّة، الخاصَّةِ بالمؤمِنينَ الثابتينَ على إيمانِهم.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡغَٰفِلُونَ﴾ [النحل:108]


أولئكَ الكافِرونَ المُرتَدُّونَ ختَمَ اللهُ على قُلوبِهم، وسَمعِهم، وأبصَارِهم، فقدْ عانَدوا واستَكبَروا وأصَرُّوا على الخَطأ، ولمْ يَستَخدِموا حواسَّهمْ للوصُولِ إلى الحقّ، بلْ طمَسوها وجنَّبوها مَسالِكَ الفِطرة، وصَاروا غافِلينَ عمَّا يَنتَظِرُهمْ مِنْ حِسابٍ وعِقاب.

﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [النحل:109]


حقًّا إنَّ هؤلاءِ مَغبونونَ خائبونَ يَومَ القِيامَة، وقدْ حصَدوا ما بذَروهُ منْ كُفر، وجنَوا ما صَرَفوا إليهِ أعمارَهمْ مِنْ غَيرِ تَدَبُّر، وآثَروا الدُّنيا على الآخِرَة.

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [النحل:110]


وإنَّ ربَّكَ وليُّ الذينَ هاجَروا إلى دارِ الإسْلامِ وناصِرُهم، وقدْ تَركوا بلادَهمْ وأموالَهمْ وأهَاليهم، وفُتِنوا في دِينِهمْ - وكانوا منْ ضِعافِ العَربِ - وأكرَهَهُمُ المشرِكونَ على موافَقَةِ مِلَّةِ الكُفر، وقدْ آمنَتْ قُلوبُهم، فكانوا معَ المسلِمينَ في جِهادِهمْ ضدَّ الكافِرين، وصبَروا على مَواقِفِ الإيمانِ والهِجرةِ والجِهادِ وتَكاليفِها، فاللهُ يَغفِرُ لهمْ ويَرحَمُهمْ يَومَ مَعادِهم، جَزاءَ صَبرِهمْ على طاعَةِ ربِّهم.

﴿۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [النحل:111]


في يَومِ القيامَةِ المَخُوفِ لا يُسمَحُ لأحَدٍ بأنْ يُدافِعَ عنِ الآخَر، بلْ كُلُّ نَفسٍ تَحتَجُّ وتُدافِعُ عنْ نَفسِها وتَسعَى لخَلاصِها، لا تأبَهُ بوالِدٍ ولا ولَد. وتُعطَى كُلُّ نَفسٍ جَزاءَ ما كسَبَتْهُ في الدُّنيا، مِنْ خَيرٍ وشَرّ، جَزاءً وافيًا عادِلاً، لا يُبخَسُ مِنْ حَقِّها شَيء.

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ اللَّهِ فَأَذَٰقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الۡجُوعِ وَالۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ﴾ [النحل:112]


وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً - هيَ مَكَّةُ - كانتْ آمِنَةً مُستَقِرَّة، لا يُغَارُ عَليها ولا يُؤذَى مَنِ التَجأ إلى البَيتِ فيها ولو كانَ قاتِلاً، ومَنْ حَولَهمْ منَ النَّاسِ في حَربٍ وهَيَجانٍ وفِتنَة. ويأتيها قُوتُ أهلِها مِنْ أنواعِ الأطعِمَةِ والثِّمارِ مِنْ جَميعِ النَّواحي بسُهولَة، وهمْ في وادٍ لا يَنبُتُ فيهِ زَرع، وحولَهمْ جِبالٌ جَرداء، فجَحَدوا نِعَمَ اللهِ بدَلَ شُكرِهِ عَليها، وعَبَدوا الأصنامَ معَه، فابتَلاهمُ اللهُ بالجُوعِ والقَحطِ سَبعَ سِنين، وجَهِدوا حتَّى أكَلوا العِظامَ والجِيَف.

وكانتْ بُعوثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسَراياهُ تَطيفُ بهم، فكانوا يَخافونَ ويَتوَقَّعونَ الإغارَةَ عَليهم، فأُبدِلوا بأمنِهمْ خَوفًا؛ جَزاءَ بَغيهمْ وشِركِهم، وعَدَمِ تَقديرِهمْ لِما أنعَمَ اللهُ بهِ عَليهمْ مِنْ رِزقٍ وأمْن، لعلَّهمْ بذلكَ يتَذكَّرونَ نِعمتَهُ ويَدَعُونَ الشِّركَ ويؤمِنونَ بالإسْلام.

﴿وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ﴾ [النحل:113]


ومِنْ أعظَمِ نِعَمِ اللهِ عَليهمْ أنْ بعثَ فيهمْ رَسولاً مِنْ بَينِهم، يَعرِفونَهُ صَادِقًا أَمينًا، يَدْعُوهمْ إلى عِبادَةِ رَبِّ هذا البَيت، وتَركِ عِبادَةِ الأصْنام، ولكنَّهمْ لم يُقَدِّروا هذهِ النِّعمةَ العَظيمَة، فكفَروا برِسالتِهِ وكذَّبوه، فأخذَهمْ عَذابُ الخَوفِ والجُوع، بظُلمِهمْ وتَكذيبِهمْ رَسولَ رَبِّهم.

﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَاشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ﴾ [النحل:114]


فكُلوا أيُّها المُؤمِنونَ ممّا رزَقَكمُ اللهُ مِنَ الحَلالِ الطيِّبِ النَّافِع، واشكُروا نِعمتَه، فهوَ المُتفَضِّلُ بها عَليكم، إنْ كنتُمْ تُريدونَ الاستِقامَةَ على دينِه، والإخلاصَ في العِبادَةِ له.

﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ الۡمَيۡتَةَ وَالدَّمَ وَلَحۡمَ الۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ اللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ اضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [النحل:115]


إنَما حرَّمَ اللهُ عَليكمْ منَ المَطعومات: المَيْتةَ التي لم تُذبَح، ما عدا السَّمكَ والجَراد. وحرَّمَ الدَّمَ، ولحمَ الخِنزير، سواءٌ ذُبِحَ أو ماتَ حَتفَ أنفِه، وما ذُبِحَ على غيرِ اسمِ الله، منَ الأصْنامِ والطَّواغيتِ ونَحوِها.

ومَنْ ألجأتْهُ الضرورةُ إلى أكلِها وفَقَدَ غيرَها منَ الأطعِمة، فلا بأسَ مِنْ أكلِها، مِنْ غيرِ بَغْيٍ ولا اعتِداء: منْ غيرِ أنْ يُؤْثِرَ نفسَهُ في هذهِ الضَّرورةِ على مُضْطَرٍّ آخَرَ مثلِه، ولا أنْ يأكلَ زيادةً على سدٍّ جَوْعَتِه.

فاللهُ يَغفِرُ لهُ عندئذٍ ما أكلَ مِنَ الحَرام، وهوَ رَحيمٌ بهِ إذْ أحلَّ لهُ ذلكَ في حالِ الاضْطِرار.

﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ الۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ﴾ [النحل:116]


ولا تَكذِبوا فتَدَّعوا تَحريمَ ما أحَلَّهُ الله، أو تَحليلَ ما حرَّمَه، فيما اصطَلَحتُمْ عليهِ ووَضَعتُموهُ في جاهِليَّتِكمْ، وتَقولوا إنَّ اللهَ أمرَنا بهذا، فتُحَرِّمونَ ما سيَّبتُموهُ للأصنام... كما في قَولِهِ تَعالَى: {وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام: 138]. قالَ ابنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ الله: ويَدخلُ في هذا كلُّ منِ ابتَدَعَ بِدعَةً ليسَ فيها مُستَنَدٌ شَرعيّ، أو حَلَّلَ شَيئاً ممّا حرَّمَ الله، أو حرَّمَ شَيئاً ممّا أباحَ الله، بمُجرَّدِ رأيهِ وتَشَهِّيه. اهـ.

فالتَّحليلُ والتَّحريمُ لا يَكونُ إلاّ بتَشريعٍ منَ اللهِ ورَسولِه. والذينَ يَكذِبونَ على اللهِ لا فَلاحَ لهمْ في الدُّنيا والآخِرَة، ولا يَنجونَ منْ عَذابِ الله(71).


(71) الافتراءُ هو الكذب، وهو مرادفُ الاختلاق، وكأن أصلَهُ كنايةٌ عن الكذبِ وتلميح، وشاعَ ذلك حتى صارَ مرادفًا للكذب. (ينظر التحرير والتنوير، عند تفسير الآية (94) من سورة آل عمران).

﴿مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [النحل:117]


وحياتُهمْ في الدُّنيا واستِمتاعُهمْ بملذَّاتِها قَليلٌ زائلٌ لا يَستَحِقُّ الذِّكر، ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ دائم، وهُناكَ الخَيبَةُ والخُسران.

﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا مَا قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُۖ وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [النحل:118]


وحرَّمنا على اليَهودِ ما قَصَصناهُ عَليكَ مِنْ قَبل، في سُورةِ الأنعام {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الآية 146}. ولمْ نَظلِمْهمْ بذلك، بلْ كانتْ هذهِ الأحكامُ عُقوبَةً لهمْ بسَبَبِ مَعاصِيهمُ المُتكَرِّرَة، واستِمرارِهمْ في العِنادِ والتَّكذيبِ والرَّفضِ، فهمْ مُستَحِقُّونَ لذلك.

وقدِ استقَرَّ ما هوَ حَلالٌ وحَرامٌ كما هوَ في دِينِ الإسْلام، فقدْ نسَخَ كُلَّ الشرائعَ السَّابِقَة.

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [النحل:119]


وإنَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا بجَهالَة - وكُلُّ مَنْ عَصَى اللهَ فهوَ جاهِلٌ - ثمَّ أقلَعَ عنْ ذَنبِه، تَائبًا إلى الله، عازِمًا على عَدَمِ العَودَةِ إليه، مُتبِعًا ذلكَ بعَمَلٍ صالِحٍ يَدُلُّ على استِقامَةِ سُلوكِه، فإنَّ اللهَ بعدَ إحداثِ تَوبَتِهِ يَغفِرُ ذَنبَه، ويَرحَمُهُ ولا يُعَذِّبُهُ به.

﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [النحل:120]


إنَّ نبيَّ اللهِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ كانَ إمامًا يُقتَدَى به، اجتمَعَ فيهِ مِنَ الخِصالِ الحَميدَةِ ما اجتمَعَ في أُمَّة! مائلاً عنِ الشِّركِ إلى التَّوحيدِ الحقّ، مُستَقيمًا عَليه، خاشِعًا مُطيعًا لرَبِّه، فهوَ إمامُ الحُنفاءِ وأبو الأنبِياء. وكانَ بَريئاً مِنَ الشِّرك، ومَنَ اليَهوديَّةِ والنَّصرانيَّة، فقدْ كانَ قَبلَهم.