تفسير سورة النحل

  1. سور القرآن الكريم
  2. النحل
16

﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الۡجِبَالِ أَكۡنَٰنٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ الۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ﴾ [النحل:81]


وخلقَ اللهُ أشْياءَ تَستَظِلُّونَ بها مِنْ شِدَّةِ الحرّ، كالأشجارِ والجِبالِ والغَمام، عَدا منافعِها الأخرَى.

وجعَلَ لكمْ منَ الجِبالِ مَواضِعَ تَلجَؤونَ إليها، كالقِلاعِ والحُصونِ والأسْراب.

كما جعلَ لكمْ ثيابًا تَمنَعُكمْ منْ أثَرِ الحَرِّ والبَرْد، منَ الصُّوفِ والقُطنِ والكَتَّانِ والحَرير.

ودُروعًا ومَغافِرَ تَمنَعُ وصولَ السِّلاحِ إلى أجسادِكم.

وهكذا يَجعَلُ اللهُ لكمْ ما تَستَعينونَ بهِ على أمورِكمْ في حَياتِكم، لتَعرِفوا حقَّ النعمَةِ والمُنعِم، وتؤمِنوا.

﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ الۡبَلَٰغُ الۡمُبِينُ﴾ [النحل:82]


فإذا أبَوا وأعرَضوا، وأصَرُّوا على الكُفرِ والعِصيان، فلا شَأنَ لكَ بهم، ولا تَهتَمَّ بأمرِهم، فما عَليكَ سِوَى التَّبليغ، وقدْ فَعَلتَ.

﴿يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكۡثَرُهُمُ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [النحل:83]


إنَّهمْ يَعرِفونَ أنَّ هذهِ النِّعمَ هيَ منْ عندِ الله، ولكنَّهمْ يَجحَدونَ ذلكَ عندَما يَعبُدونَ معَهُ غَيرَه، فأكثرُهمْ كافِرونَ مُنكِرون.

﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ﴾ [النحل:84]


ويَومَ القِيامَةِ نَبعَثُ مِنْ كُلِّ أمَّةٍ نَبيًّا يَشهَدُ بما رَأى مِنها مِنْ إيمانٍ وكُفر، ولا نَسمَحُ يَومَئذٍ للكافِرينَ بالاعتِذار، ولا بطَلَبِ الرِّضا منَ الله، بتَوبَةٍ أو عمَلٍ صالِح، فقدْ فاتَ أوانُه، وحانَ وَقتُ الحِسابِ والجَزاء.

﴿وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ الۡعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ﴾ [النحل:85]


وإذا عايَنَ الكافِرونَ الظَّالِمونَ نارَ جَهنَّمَ وقدْ عَرَفوا مَصيرَهمْ بظُلمِهم، فلنْ يُخَفَّفَ عنهمُ العَذاب، ولا همْ يُمهَلونَ في مَوقِفِ العَرْضِ والحِساب، بلْ يؤخَذونَ سَريعًا ليُلاقُوا مَصيرَهم.

﴿وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشۡرَكُواْ شُرَكَآءَهُمۡ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰٓؤُلَآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدۡعُواْ مِن دُونِكَۖ فَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡهِمُ الۡقَوۡلَ إِنَّكُمۡ لَكَٰذِبُونَ﴾ [النحل:86]


وإذا رَأى المشرِكونَ يَومَ القِيامَةِ أصنامَهمُ التي جعَلوها شُركاءَ معَ اللهِ في الدُّنيا قالوا: ربَّنا هؤلاءِ همْ شُركاؤنا الذينَ كُنَّا نَعبُدُهمْ مِنْ دونِك، قالوا ذلكَ لإحالَةِ الذَّنْبِ إليهم! فقالتِ الأوثانُ - وقدْ أنطقَها الله - تَبَرُّؤاً منهمْ ومِنْ اتِّهاماتِهم، إنَّكمْ كاذِبون، فلمْ نَطلُبْ منكمْ عِبادَتَنا، ولا طَلَبنَا تَسميتَنا آلِهة.

﴿وَأَلۡقَوۡاْ إِلَى اللَّهِ يَوۡمَئِذٍ السَّلَمَۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [النحل:87]


ولم تَبقَ للمُشرِكينَ أيَّةُ حُجَّةٍ يُقَدِّمونَها ليُزيحوا عنْ أنفُسِهمْ عُقوبَةَ النَّار، فاستَسلَموا وانقَادوا للحُكمِ العادِلِ الصَّادرِ بحَقِّهم، ولم تَنفَعْهمْ آلهتُهمُ المزعومَةُ شَيئًا، وقدِ ادَّعَوا أنَّها ستَنصرُهمْ وتَشفَعُ لهم.

﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدۡنَٰهُمۡ عَذَابٗا فَوۡقَ الۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفۡسِدُونَ﴾ [النحل:88]


إنَّهمْ كفَروا بالله، ومَنَعوا النَّاسَ منِ اتِّباعِ دينِ الإسْلام، بلْ حمَلوهمْ على الكُفر، فكانتْ عاقِبتُهمْ مُضاعَفَة: عَذابٌ على كُفرِهم، وعَذابٌ على مَنعِهمُ النَّاسَ منِ اتِّباعِ الدِّين؛ وهذا جَزاءُ فَسادِهمْ وإفسادِهم.

﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [النحل:89]


ويَومَ القِيامَةِ نَبعَثُ نبيًّا في كُلِّ أُمَّةٍ أُرسِلَ إليهمْ في الدُّنيا، ليَشهدَ بما رأى منهمْ منْ إيمانٍ وكُفر، وطاعَةٍ ومَعصِيَة، وجِئنا بكَ - أيُّها النبيُّ - شَاهِدًا تَشهَدُ على أُمَّتِك. وقدْ أنزَلنا عَليكَ القُرآنَ بيانًا لكلِّ شَيءٍ نافِعٍ يُحتاجُ إليه. والمَقصُود: الكُلِّيات، فقدْ جمعَ القُرآنُ جَميعَ الأحْكامِ جَمعًا كُلِّيًا في الغالِب، وجُزئيًّا في المُهِمّ.

وفيهِ هِدايَةٌ للقُلوبِ منَ الضَّلال، ورَحمَةٌ بالنَّاسِ في دَعوَتِهِ وأحكامِه، وبِشارَةٌ للمسلِمينَ بالفَوزِ والفَلاحِ وقدْ آمَنوا به.

﴿۞إِنَّ اللَّهَ يَأۡمُرُ بِالۡعَدۡلِ وَالۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي الۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ الۡفَحۡشَآءِ وَالۡمُنكَرِ وَالۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]


إنَّ اللهَ يأمرُ عِبادَهُ بالعَدلِ والإنصَاف، ليَكونَ ذلكَ قاعِدَةً أساسيَّةً في الحُكمِ والتَّعامُل، لا تَميلُ معَ هوًى ومَنصِب.

ويأمرُ بالإحسَانِ في الأعمَالِ معَ العِباد، والإحسَانِ في العِبادَةِ لله(69).

ويأمرُ بصِلَةِ الأرحَام، وإعطاءِ الأهلِ والأقرِباءِ حَقَّهمْ منَ البِرِّ والصِّلة.

ويَنهَى عنِ المُحرَّمات، وكُلِّ ما تُنكِرُهُ الفِطرَةُ والشَّريعَة، منَ الأقوالِ والأفعالِ التي يَشيعُ بها الفَساد.

ويَنهَى عنِ الظُّلمِ والتعَدِّي على النَّاسِ والتجَبُّرِ عَليهِم.

يَعِظُكمُ اللهُ بهذا ويُنَبِّهُكمْ إلى أمرهِ ونَهيه، لتَتَذكَّروا بهِ وتُطيعوا.


(69) ... وأما الإحسانُ فمعناهُ اللغويُّ يرشدُ إلى أنه التفضلُ بما لم يجب، كصدقةِ التطوُّع. ومن الإحسانِ فعلُ ما يثابُ عليه العبدُ مما لم يوجبهُ الله عليه، في العباداتِ وغيرها. وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه فسَّرَ الإحسانَ بأنْ يعبدَ اللهَ العبدُ حتى كأنهُ يراه، فقالَ في حديثِ ابنِ عمرَ الثابتِ في الصحيحين: "والإحسانُ أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراه، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراك". وهذا هو معنى الإحسانِ شرعاً. (فتح القدير). الإِحسان: الإِخلاصُ في التوحيد، وذلك معنى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الإِحسانُ أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراه". (البغوي). {وَالإِحْسَانِ}: وأن تُحسنوا الأعمالَ مطلقًا؛ لقولهِ عليه السلام: "إن الله كتبَ الإحسانَ في كلِّ شيء" ... ويدخلُ فيه العفوُ عن الجرائم، والإحسانُ إلى من أساء، والصبرُ على الأوامرِ والنواهي، وأداءُ النوافل.... (روح البيان).

﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ اللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ الۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ اللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ﴾ [النحل:91]


والتَزِموا بما عاهَدتُمُ اللهَ عَليه، ونَفِّذوا العُهودَ والمواثيقَ كما أُمِرتُم، وحافِظوا على ما أقسَمتُمْ عَليهِ منها ولا تَنقُضوها بعدَ تأكيدِكمْ عَليها، وقدْ جَعلتُمُ اللهَ شاهِدًا ورَقيبًا على الوَفاءِ بها، واللهُ يَعلَمُ ذلكَ مِنكم، ويُجازيكمْ عليه.

﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ اللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾ [النحل:92]


ولا تَكونوا - أيُّها المُعاهِدونَ - مِثْلَ تلكَ المرأةِ التي تُبْرِمُ غَزْلَها، ثمَّ لا تَلبَثُ أنْ تَفُكَّهُ بعدَ بَرْمِهِ وإحكامِه، وتَترُكُهُ أنقاضًا وأكوامًا. فهذا مَثَلٌ لمَنْ نقَضَ عَهدَهُ بعدَ تَوكيدِه. فتتَّخِذونَ عَهدَكمُ الذي أقسمْتُمْ عَليهِ خَديعَةً وخِيانَة، بنَقضِكمْ إيّاه، وتَقولونَ إنَّ محمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ومَنْ معَهُ قِلَّةٌ ضَعيفَةُ وقُرَيشٌ أكثَرُ وأقوَى، فتَغدِرونَ بالعَهدِ لتَكونوا معَ الأكثَرِ طلَبًا لمَصالحِكم. وما هذا إلاّ ابتِلاءٌ منَ اللهِ لكم، ليرَى عَزمَكمْ وصِدقَكم، ويَمتَحِنَ وفاءَكم. وفي يَومِ القيامَةِ يَفصِلُ اللهُ بينَ النَّاسِ فيما كانوا يَختَلِفونَ فيهِ في الدُّنيا، ويُبيِّنُ لهمُ الحقَّ في ذلك، ويُجازي كُلاًّ بما يَستَحِقّ.

﴿وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَلَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [النحل:93]


ولو أرَادَ اللهُ لجعلَكمْ أيُّها النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً وعلى دِينٍ واحِد، ولكنْ شاءَ سُبحانَهُ أنْ يُعطيَكمْ حُرِّيَةَ الاختِيار، وقدْ بيَّنَ لكمْ طَريقَ الهُدَى والضَّلال، فيُضِلُّ اللهُ مَنْ سلَكَ مسالِكَ الشَّرِّ والضَّلال، ويَهدي مَنْ سلَكَ مسالِكَ الخَيرِ والهُدَى. وفي كِلتا الحالَتَينِ يَلتَزِمُ كُلٌّ بالعُهودِ والمواثيق، ويُحاسِبُ كُلاًّ بما عَمِل، إنْ خَيرًا أو شَرًّا.

﴿وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعۡدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمۡ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [النحل:94]


ولا تتَّخِذوا حَلِفَكمْ غِشًّا وخَديعَةً في التعامُلِ بينَ بَعضِكمُ البَعض، فتَنحَرِفَ نَفسٌ عنْ طَريقِ الحقِّ بعدَ أنْ كانتْ ثابِتةً عَليه، وتأثَمَ وتُعاقَبَ لأنَّها كانتْ سبَبًا في صَدِّ النَّاسِ عنِ الدِّين، فإنَّ المُسلِمَ إذا حلَفَ للكافرِ ولم يَفِ بوعدِه، لم يَثقِ الكافِرُ بهِ وبدينِه، فيَكونَ قدْ لَحِقَهُ الإثمُ بسَببِ ذلك. ومَنْ فعلَ ذلكَ فلهُ عَذابٌ كبير.

والوفاءُ خُلُقٌ جَميل، وقدْ دخلَ كثيرٌ منَ النَّاسِ الإسلامَ بسببِ صِدقِ مُعامَلةِ التجَّارِ ووَفائهمْ بعُهودِهم.

﴿وَلَا تَشۡتَرُواْ بِعَهۡدِ اللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [النحل:95]


ولا تَستَبدِلوا بما عاهدتمُ اللهَ عليهِ عَرَضًا قَليلًا يَزولُ سَريعًا، فإنَّ ما أعَدَّ اللهُ لكمْ منْ ثَوابٍ على الوَفاءِ بالعَهدِ هوَ أجزَلُ وأعظَم، إنْ كنتُمْ تَعلَمونَ الفَرقَ بينَ الأمرَين.

﴿مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٖۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [النحل:96]


وإنَّ ما عِندَكمْ - أيُّها النَّاسُ - مِنْ مَالٍ ومَتاعٍ يَنتَهي ويَزول، فمُدَّتُهُ قَصيرَةٌ مهما كَثُر، وما ادَّخَرَهُ اللهُ في الآخِرَةِ لمنْ صَبرَ على طاعَتهِ مِنْ ثَوابٍ ونَعيمٍ يَدومُ ولا يَنقَطِعُ أبدًا، وسَوفَ نُجازي مَنْ صبرَ على تَكاليفِ الوفاءِ بالعُهودِ أفضلَ ما يُجازَى بهِ المَرءُ على أعمالٍ حسَنةٍ عَمِلَها.

﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [النحل:97]


مَنْ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى، وهوَ مؤمِنٌ إيمانًا صَحيحًا، فيَكونُ عَمَلُهُ الصالِحُ مُوافِقًا للشَّريعَة، وخالِصًا لوَجهِ اللهِ الكَريم، فسيُجزَى حياةً طيِّبَةً في الحياةِ الدُّنيا، ولا يُشتَرَطُ فيها المالُ الوَفير، فليسَ هوَ مِقياسًا للسَّعَادَة، لكنَّ المُهِمَّ هوَ الهَناءَةُ والقَناعَةُ والعَافيَة، والتَّوفيقُ للطَّاعَة، وفي الآخِرَةِ يُجزَى ثوابًا هوَ أفضَلُ ما يُجازَى بهِ على أعمالٍ حسَنَةٍ عَمِلَها.

﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ الۡقُرۡءَانَ فَاسۡتَعِذۡ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيۡطَٰنِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98]


فإذا أردتَ قِراءَةَ القُرآنِ الكريم، فاسألِ اللهَ أنْ يُعيذَكَ مِنْ وَسواسِ الشَّيطانِ المُبعَدِ عنِ الخَيرِ كُلِّه، حتَّى لا يَلبِسَ عَليكَ قِراءَتَكَ ويَخلِطَ عَليك، ويَمنعَكَ منَ التدبُّرِ والتفكُّر.

والاستِعاذَةُ أمرٌ مَندوبٌ إليه، ويَقولُ القارِئ: أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم، أو: أعوذُ باللهِ السَّميعِ العَليمِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم.

﴿إِنَّهُۥ لَيۡسَ لَهُۥ سُلۡطَٰنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل:99]


إنَهُ ليسَ للشَّيطانِ تسَلُّطٌ وسَيطرَةٌ على المؤمِنينَ المُتوَكِّلينَ على ربِّهم، الذينَ يَستَعيذونَ به، ويُفَوِّضونَ أمرَهمْ إليه، وبهِ يَثِقون.

"فالذينَ يتَوجَّهونَ إلى اللهِ وحدَه، ويُخلِصونَ قُلوبَهمْ لله، لا يَملِكُ الشَّيطانُ أنْ يَسَيطِرَ عَليهم، مَهما وَسْوَسَ لهم، فإنَّ صِلَتَهمْ باللهِ تَعصِمُهمْ أنْ يَنساقُوا معَهُ ويَنقادُوا إليه. وقدْ يُخطِؤون، لكنَّهمْ لا يَستَسلِمون، فيَطرُدونَ الشَّيطانَ عَنهمْ ويَثوبونَ إلى ربَّهمْ مِنْ قَريب". قالَهُ صاحِبُ "الظِّلال" رَحِمَهُ الله.

﴿إِنَّمَا سُلۡطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوۡنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشۡرِكُونَ﴾ [النحل:100]


إنَّما تَسَلُّطُ الشَّيطانِ على الذينَ يُطيعُونَهُ ويَنساقونَ معَهُ ويَستَسلِمونَ لإغوائه، فاتَّخَذوهُ وليًّا منْ دونِ الله، وأشرَكوا باللهِ استِجابةً لِما سوَّلَهُ في نفُوسِهم.