﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي الۡبَحۡرِ سَرَبٗا﴾ [الكهف :61]
فلمَّا وصَلا إلى مَجمَعِ البَحرَين، نَسِيا حوتَهما هُناك - وهوَ السَّمَك -. ومضَى موسى يَسيرُ في البَحرِ كالسِّرْبِ في الأرض، فيَبقى أثَرُهُ مِنْ بَعدِه(75) .
(75) {سَرَباً} أي: مسلكًا كالسرب، وهو بيتٌ في الأرض، وثقبٌ تحتها، وهو خلافُ النفق؛ لأنه إذا لم يكنْ له منفذٌ يُقالُ له سرب، وإذا كان له منفذٌ يقالُ له نفق. وذلك أن الله تعالى أمسكَ جريةَ الماءِ على الحوتِ فصارَ كالطاقِ عليه، وهو ما عُقِدَ من أعلى البناءِ وبقيَ ما تحتَهُ خاليًا، يعني أنه انجابَ الماءُ عن مسلكِ الحوتِ فصارَ كوَّةً لم تلتئم. هكذا فسَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا المقام، كما في حديثِ الصحيحين. (روح البيان).
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا﴾ [الكهف :62]
فلمَّا جاوزا المَكانَ الذي نَسِيا فيهِ الحُوت، قالَ موسَى لِفتاهُ يوشَع: أعطِنا غَداءَنا، فقدْ لَحِقَنا في سَفَرِنا هذا التَّعَبُ والجُوع.
﴿قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى الصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا الشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي الۡبَحۡرِ عَجَبٗا﴾ [الكهف :63]
قالَ لهُ يوشَع: أرأيتَ عندَما كنَّا في مَجمَعِ البَحرَينِ والتَجأنا إلى الصَّخرَةِ وأقَمنا عندَها، فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ هُناك - وكانَ موسى نائمًا إذْ ذاكَ - وما أنسانِي ذِكرَهُ إلاّ الشَّيطان.
﴿قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَارۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا﴾ [الكهف :64]
قالَ لهُ موسَى عليهِ السَّلام: هذا ما كُنّا نُريدُه، فقدْ جعلَ اللهُ ذلكَ أمارَةً لِلقاءِ الخَضِر. فرجَعا مِنْ طَريقِهما، يتَتبَّعانِ أثرَهُما، لئلاّ يُخطِئا طَريقَهما.
﴿فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا﴾ [الكهف :65]
فوجَدا هُناكَ عَبدًا مِنْ عِبادِنا المؤمِنين، هوَ الخَضِرُ عليهِ السَّلام، آتَيناهُ الوَحيَ والنبوَّةَ مِنْ عِندِنا، كما هوَ عندَ جُمهورِ العُلَماء، وعَلَّمناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلمًا خاصًّا، لا يُعلَمُ إلاّ مِنْ جِهَتِنا. ولعَلَّهُ عِلمُ الإخبارِ بالغُيوب.
﴿قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا﴾ [الكهف :66]
فقالَ لهُ موسَى عليهِ السَّلامُ بأدَبِ الأنبياءِ والعُلَماء: هَلْ تَسمَحُ لي أنْ أُرافِقَكَ على أنْ تُعَلِّمَني ممّا وهَبَكَ اللهُ مِنَ العِلمِ الرَّاشِد، الذي تُصيبُ بهِ خَيرًا؟
﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا﴾ [الكهف :67]
قالَ لهُ الخَضِرُ عَليهِ السَّلام: إنَّكَ لا تَقدِرُ على صُحبَتي، فستَرَى منِّي ما تَكرَهُ في شَريعَتِك، وأنا على عِلمٍ لمْ يُعَلِّمْكَ اللهُ إيّاه.
﴿وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا﴾ [الكهف :68]
وكيفَ تَصبِرُ على شَيءٍ لا يُحيطُ بهِ عِلمُك، وتَسكتُ على تَركِ الإنكارِ ممّا يُخالِفُ الشَّرع؟
﴿قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا﴾ [الكهف :69]
قالَ لهُ موسَى عَليهِ السَّلام: ستَجِدُني صابِرًا معَكَ إنْ شاءَ الله، غَيرَ مُعتَرِضٍ عَليك، مُلتَزِمًا بما تَقول.
﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا﴾ [الكهف :70]
قالَ الخَضِر: فإذا تَبِعتَني فلا تَعتَرِضْ على أفعَالي، ولا تُناقِشني في شَيءٍ حتَّى أُفَسِّرَهُ لك.
﴿فَانطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا﴾ [الكهف :71]
فانطَلقَ موسَى والخَضِرُ عَليهِما السَّلامُ يَمشيانِ على ساحِلِ البَحر، فمرَّتْ سَفينَة، فرَكِباها، فثقبَها الخَضِرُ، بأنْ قلعَ لوحًا منها، فقالَ لهُ موسَى: أخرَقْتَ السَّفينَةَ لتُغرِقَ مَنْ فيها؟ لقدْ فعَلتَ فِعلاً مُنكَرًا.
﴿قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا﴾ [الكهف :72]
قالَ لهُ الخَضِرُ مُذَكِّرًا: ألمْ أقُلْ لكَ إنَكَ لا تَستَطيعُ الصَّبرَ معي؟
﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا﴾ [الكهف :73]
قالَ موسَى عليهِ السَّلام: لا تؤاخِذني بنِسياني ما اتَّفَقنا عَليهِ منْ عدَمِ الاعتِراضِ عَليك، ولا تُكَلِّفْني مشَقَّة، ولا تُشَدِّدْ عَليّ، وعامِلْني باليُسر.
﴿فَانطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا﴾ [الكهف :74]
فقَبِلَ الخَضِرُ عُذْرَه، فنزَلا مِنَ السَّفينَة، وانطَلقا يَمشِيانِ على السَّاحِل، حتَّى إذا لَقِيا غُلامًا، كانَ يَلعَبُ معَ أمثالِه، لم يَكنْ فيهمْ أحسَنُ ولا أنظَفُ منه، فقتَلَهُ الخَضِر، فقالَ لهُ موسَى عليهِ السَّلام: أقَتَلْتَ نَفسًا صَغيرَةً طاهِرَةً مِنَ الذُّنوبِ لم تَقتُلْ نَفسًا يُوجِبُ قَتلَها؟ لقدْ قُمتَ بعَمَلٍ تُنكِرُهُ العُقول، وتَنفِرُ عَنهُ الطَّبائع.
﴿۞قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا﴾ [الكهف :75]
قالَ لهُ الخَضِرُ مُذَكِّرًا: ألمْ أقُلْ لكَ مِنْ قَبلُ إنَّكَ لا تَصبِرُ على الاعتِراضِ عَمَّا أفعَلُه؟
﴿قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا﴾ [الكهف :76]
قالَ موسَى عَليهِ السِّلام: إذا سألتُكَ عنْ شَيءٍ بعدَ هذا ممّا تَفعَلُهُ لِمَ فَعَلتَه، فلا تُصاحِبْني، فقدْ قَبِلتَ عُذري مِنْ قَبل، ولا عُذرَ لي بعدَه.
﴿فَانطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ اسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا﴾ [الكهف :77]
وانطَلقا يَمشِيان، حتَّى إذا وصَلا إلى قَريَة، طَلبا الضِّيافَةَ مِنْ أهلِها، فلمْ يُطْعِموهُما، وكانوا لِئامًا، بُخَلاء. فوجَدا فيها جِدارًا مَائلاً يكادُ أنْ يَسقُط، فرَدَّهُ الخَضِرُ فأقامَهُ بيَدِه.
فقالَ لهُ موسَى: قَومٌ أتَيناهُمْ لِيُضَيِّفونا فلمْ يُطعِمونا، لو أرَدْتَ لاتَّخَذْتَ على عمَلِكَ هذا أجرًا منهم.
﴿قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا﴾ [الكهف :78]
قالَ لهُ الخَضِرُ عَليهِ السَّلام: هذا وَقتُ فِراقِ ما بيني وبَينِك، فإنَّكَ لم تَلتَزِمْ بشَرطِ الصُّحبَةِ مَعي، وسأُخبِرُكَ بمآلِ وعاقِبَةِ ما لم تَصبِرْ عَليهِ ممّا حدَثَ معَنا، لكَونِهِ مُنكَرًا عندَكَ مِنْ حيثُ الظَّاهِر.
قالَ في "إرشاد السّاَري": كانتْ أحكامُ موسَى كغَيرِهِ منَ الأنبياءِ مَبنيَّةً على الظَّواهِر، ولذا أنكرَ خَرْقَ السَّفينَة، وقَتْلَ الغُلام، إذِ التصَرُّفُ في أموالِ النَّاسِ وأرواحِهمْ بغَيرِ حَقٍّ حَرامٌ في الشَّرعِ الذي شَرَعَهُ لأنبيائهِ عَليهمُ السَّلام، إذْ لم يُكَلِّفْنا بالكَشفِ عنِ البِواطِن، لِما في ذلكَ مِنَ الحرَج. وأمَّا وقوعُ ذلكَ منَ الخَضِر، فالظَّاهِرُ أنَّهُ شُرِعَ لهُ أنْ يَعمَلَ بما كُشِفَ لهُ مِنْ بَواطنِ الأسرَار، واطَّلعَ عليهِ منْ حَقائقِ الأشياء...
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي الۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا﴾ [الكهف :79]
أمَّا السَّفينَةُ التي خرَقتُها، فكانتْ لمَساكينَ يَعمَلونَ ويَكتَسِبونَ في البَحر، فأرَدتُ أنْ أجعلَها مَعِيبَة، وكانَ أمامَهمْ مَلِكٌ ظالِمٌ يأخذُ كُلَّ سَفينَةٍ جَيِّدَةٍ غَصْبًا.
﴿وَأَمَّا الۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا﴾ [الكهف :80]
وأمَّا الغُلامُ الذي قَتَلتُه، فلو أنَّهُ كَبِرَ لكانَ كافِرًا، وكانَ أبَواهُ مُؤمِنَينِ صالِحَين، وعَلِمنا أنَّهُ لو بلغَ لدَعاهُما إلى الكُفر، ولاستَجابا لهُ وتابعاهُ في دِينِه، لحُبِّهما الشَّديدِ له، وحُبُّ الشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمّ. والطُّغيان: الزِّيادَةُ في الضَّلال.