﴿قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا﴾ [مريم :21]
قالَ جِبريل: قالَ رَبُّكِ: كذلكَ هوَ سَهلٌ عَليَّ يَسير، وإنْ لم يَكنْ لكِ زَوج، ولم توجَدْ منكِ فاحِشَة، ولنَجعلَ هذا الغُلامَ عَلامةً للنّاس، ودَلالَةً على كمالِ قُدرَتِنا، ونِعمَةً عَظيمَةً مِنْ عندِنا، وليَكونَ نبيًّا مِنَ الأنبياء، ويَهتَدي النَّاسُ بهَدْيه. وكانَ هذا أمرًا مُقَدَّرًا ومُسَطَّرًا في اللَّوحِ المَحفوظ، فلا بُدَّ منه.
﴿۞فَحَمَلَتۡهُ فَانتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا﴾ [مريم :22]
فحمَلَتْ بعِيسَى، بعدَ أنْ نفَخَ اللهُ فيها بواسِطَةِ جِبريلَ عَليهِ السَّلام، فتنَحَّتْ بحَملِها مَكانًا بَعيدًا مِنْ أهلِها.
﴿فَأَجَآءَهَا الۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ النَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا﴾ [مريم :23]
فألجَأها وَجَعُ الوِلادَةِ إلى جِذعِ نَخلَةٍ كانتْ هُناك، قالَتْ وهيَ تَعلَمُ أنَّها ستُبتَلى بمَولودِها ولا يُصَدِّقُ النَّاسُ كلامَها: يا لَيتَني مِتُّ قَبلَ هذا الوَقت، وكنتُ شَيئًا حَقيرًا لا يُذكَرُ ولا يُعتَدُّ به، مَتروكًا لا يُعرَفُ ولا يَخطُرُ ببالِ أحَد.
﴿فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا﴾ [مريم :24]
فنادَاها جَبريلُ منْ تَحتِها: لا تَحزَني، قدْ جعلَ رَبُّكِ أسفَلَ منكِ جَدولًا يَسري فيهِ الماء.
﴿وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ النَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا﴾ [مريم :25]
وحَرِّكي نَحوَكِ جِذْعَ النَّخلَةِ تُسْقِطْ عَليكِ رُطَبًا مَجنيًّا ناضِجًا جاهِزًا للأكل.
﴿فَكُلِي وَاشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ الۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا﴾ [مريم :26]
فكُلِي يا مَريَمُ مِنَ الرُّطَبِ واشرَبي مِنَ النَّهر، وطِيبي نَفسًا ولا تَحزَني، فإذا رَأيتِ أحَدًا مِنَ النَّاسِ وسألَكِ عنْ شَيء، فقولي له - لعَلَّهُ إشارَةً -: إنِّي نذَرتُ للهِ أنْ أصْمُت، فلنْ أُكَلِّمَ أحَدًا مِنَ النَّاسِ هذا اليَوم. رُبَّما كراهةَ مُجادَلَةِ السُّفَهاء، واكتِفاءً بكلامِ عيسَى عَليهِ السَّلام.
﴿فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا﴾ [مريم :27]
فأتَتْ مَريَمُ بوَلِيدِها عيسَى حامِلَةً إيّاه، فلَمّا دخَلَتْ على أهلِها - وكانوا صالِحينَ - استَنكَروا منها ذلك، وقالوا: يا مَريمُ لقدِ اقتَرَفتِ أمرًا مُنكَرًا عَظيمًا.
﴿يَـٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا﴾ [مريم :28]
يا شَبيهَةَ هارونَ في العِبادَة - وكانَ رَجُلاً مَشهورًا بالزُّهدِ والعِبادَةِ في وَقتِهم - ما كانَ أبوكِ عِمرانُ رَجُلَ سُوءٍ يَعمَلُ الفَواحِش، وما كانتْ أُمُّكِ زانيَة، فكيفَ حصلَ لكِ هذا؟!
﴿فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الۡمَهۡدِ صَبِيّٗا﴾ [مريم :29]
فأشارَتْ إلى طِفلِها الرَّضيعِ عيسَى: أنْ كَلِّمُوه. قالوا مُنكِرينَ جوابَها: كيفَ نُكَلِّمُ صَبيًّا في المَهد؟! وكيفَ يَتكلَّمُ هو؟!
﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا﴾ [مريم :30]
فتَكلَّمَ عيسَى عَليهِ السَّلامُ وقال: إنِّي عَبدُ اللهِ - وسُبحانَ مَنْ جعَلَ هذا أوَّلَ كلامِهِ - قضَى رَبِّي أنْ يؤتِيَني الإنجيل، ويَجعَلَني نَبيًّا.
﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا﴾ [مريم :31]
وجعَلني نَفّاعًا، مُعَلِّمًا للخَير، أينَما كُنت، وأمرَني بالصَّلاةِ والزَّكاةِ مُدَّةَ حَياتي.
﴿وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا﴾ [مريم :32]
وأوصاني أنْ أكونَ مُحسِنًا إلى والِدَتي، ولم يَجعَلني مُستَكبِرًا، عاصِيًا.
﴿وَالسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا﴾ [مريم :33]
والسَّلامُ والأمانُ عَليَّ يَومَ وُلِدتُ: فلمْ يَنَلني الشَّيطانُ بسُوء، ويَومَ أموتُ: أَسلَمُ مِنْ عَذابِ القَبر، ويَومَ أُبْعَثُ حَيًّا: أَسلَمُ مِنْ هَولِ القيامَةِ وعَذابِ جَهنَّم.
﴿ذَٰلِكَ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ الۡحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ﴾ [مريم :34]
ذلكَ هوَ عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ عيسَى بنُ مَريَم، قَولَ الحَقِّ والصِّدْقِ الذي يَشُكُّ فيهِ النَّاسُ ويَختَلِفون، فمِنْ قائلٍ يَقول: إنَّهُ كاذِبٌ وساحِر، وآخَرَ يَقول: إنَّهُ إلهٌ أو ابنُ إله، وما هوَ إلاّ نَبيٌّ كسائرِ الأنبياء، عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام.
﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ [مريم :35]
ما صَحَّ وما استَقامَ أنْ يَجعَلَ اللهُ لنَفسِهِ ولَدًا، وليسَ هذا مِنْ صِفَتِه، سُبحانَه، تقَدَّسَ وتنَزَّهَ عمَّا افتَراهُ النَّصارَى عَليه، إنَّما شَأنُهُ إذا أرادَ إحداثَ أمرٍ أنْ يَقولَ لهُ كُنْ، فيَكونُ كما يُريد.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَاعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ﴾ [مريم :36]
ومِنْ تَمامِ قَولِ عيسَى عَليهِ السَّلامُ في المَهد: إنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم، فكُلُّنا مَخلوقُون، ولهُ عَبيد، فاعبُدوهُ وأطيعُوه، ووَحِّدوهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا، وهذا التَّوحيدُ هوَ الطَّريقُ القَويمُ الذي يَجِبُ أنْ تتَّبِعوه.
﴿فَاخۡتَلَفَ الۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم :37]
فاختلَفَ اليَهودُ والنَّصارَى فيهِ وصاروا فِرَقًا وأحزابًا، وانحرَفَ مُعظَمُهمْ عنِ الحَقّ، وبدَّلوا تَعاليمَ المَسيحِ عَليهِ السَّلام، فالوَيلُ والهلاكُ للكافِرينَ منْ يَومِ الهَولِ والعَذاب.
﴿أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ يَوۡمَ يَأۡتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّـٰلِمُونَ الۡيَوۡمَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾ [مريم :38]
ما أسمَعَهُمْ وما أبصرَهمْ عندَما يأتونَنا يَومَ الحِسابِ والجَزاء، وقدْ كانوا صُمًّا وعُميًا عنْ آياتِنا، وهمُ الآنَ كذلكَ في الَحياةِ الدُّنيا، في غِوايَةٍ وبُعدٍ عنِ الحقِّ ظاهِر، فلا يَعقِلونَ ولا يَتدَبَّرون.
﴿وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ الۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ الۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [مريم :39]
وخَوِّفِ المُشرِكينَ الظَّالِمينَ منْ يَومِ النَّدامَةِ الكُبرَى، عندَما يُحاسَبونَ على أعمالِهمْ كُلِّها، ويُقَرَّرُ مَصيرُهمْ إلى النَّار، وهمُ اليَومَ في غَفلَةٍ عمَّا يَنتَظِرُهمْ منْ حِسابٍ عَظيم، وهمْ لا يُصَدِّقونَ بالثَّوابِ والعِقابِ يَومَ الدِّين.
﴿إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ الۡأَرۡضَ وَمَنۡ عَلَيۡهَا وَإِلَيۡنَا يُرۡجَعُونَ﴾ [مريم :40]
ونحنُ نَرِثُ الأرْضَ وجميعَ مَنْ عَليها، فنُهلِكُ الأحيَاءَ كُلَّهم، ويَبقَى مالِكُ المُلْكِ وحدَه، وإلينا مَرجِعُ النَّاسِ كُلِّهم، فنَحكمُ بينَهم، ونُجازيهمْ على أعمالِهمْ بما يَستَحِقُّون.