تفسير سورة مريم

  1. سور القرآن الكريم
  2. مريم
19

﴿وَاذۡكُرۡ فِي الۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا﴾ [مريم:41]


واذكُرْ في القُرآنِ خبرَ إبراهيمَ واتْلُهُ على النَّاس، إنَّهُ كانَ كثيرَ الصِّدق، مُلازِمًا له، نبيًّا عَظيمًا.

﴿إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا﴾ [مريم:42]


إذْ قالَ لأبيهِ آزَرَ - وكانَ يَعبدُ الأصنامَ - يا أبَتِ لماذا تَعبدُ شَيئًا لا يَسمَعُ صَوتَك، ولا يَستَجيبُ لنِدائك، ولا يرَى وقُوفَكَ بينَ يدَيهِ ولا خضُوعَكَ له، ولا يَقدِرُ على نَفعِكَ ولا ضُرِّك.

﴿يَـٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ الۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَاتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا﴾ [مريم:43]


يا أبتِ إنِّي قدْ أُوتيتُ منَ العِلمِ ومَعرِفَةِ أسرارِ الكَونِ ما لم يأتِكَ منه، ولنْ تَعرِفَ مثلَه، فاقبَلْ نَصيحَتي وأطِعني أدُلَّكَ على الطَّريقِ المُستَقيمِ الذي يأخذُ بيدِكَ إلى النَّجاةِ مِنَ المَهالِك.

﴿يَـٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ الشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ الشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا﴾ [مريم:44]


يا أبتِ لا تُطِعِ الشَّيطانَ بعبادَتِكَ هذهِ الأصْنام، فهوَ الذي يُحَسِّنُ لكَ ذلك، والشَّيطانُ مُخالِفٌ لأمرِ رَبِّه، مُستَكبِرٌ عنْ طاعَتِه، مَطرودٌ مِنْ رَحمَتِه.

﴿يَـٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ الرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا﴾ [مريم:45]


يا أبَتِ إنِّي أخشَى أنْ يُصيبَكَ يَومَ القِيامَةِ عَذابٌ عَظيمٌ يوقِعُكَ اللهُ فيهِ إنْ أقَمتَ على الكُفر، فتَكونَ مُصاحِبًا للشَّيطانِ في النَّار، كما كنتَ مثلَهُ عاصيًا في الدُّنيا.

﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَاهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا﴾ [مريم:46]


قالَ لهُ أبوه، منْ مَنطِقِ المُشرِكينَ الذينَ لا يَتحَمَّلونَ ذِكرَ آلِهَتِهمْ بسُوء: أتَكرَهُ آلِهَتي وتُعرِضُ عنها، وتَنهَى النَّاسَ عنْ عِبادَتِها؟ إذا أصرَرْتَ على مَوقِفِكَ ولمْ تَنتَهِ عنِ التعَرُّضِ لها لأقتَصَّنَّ منكَ وأسُبَّنَّك، فابعُدْ عَنِّي إذا كُنتَ تُريدُ النَّجاةَ لنَفسِك.

﴿قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا﴾ [مريم:47]


قالَ لهُ إبراهيمُ عليهِ السَّلام: سَلامٌ عَليك، لنْ تَنالَ منِّي أذًى ومَكروهًا يا أبي، وسأدْعو اللهَ أنْ يَهديَكَ إلى الحقّ، ويُوَفِّقَكَ للتَّوبَة، ويَغفِرَ ذَنبَك، مادُمتَ حَيًّا. إنَّ رَبِّي لَطيفٌ بي، حيثُ أكرمَني وهدَاني لعِبادَتِهِ والإخلاصِ له، وعَوَّدني على إجابةِ دَعوَتي.

ولم يَدْعُ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ لأبيهِ بعدَ أنْ عَلِمَ أنَّهُ ماتَ على الشِّرك {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [سورة التَّوبَة: 114].

﴿وَأَعۡتَزِلُكُمۡ وَمَا تَدۡعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدۡعُواْ رَبِّي عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّٗا﴾ [مريم:48]


وأبتَعِدُ عَنكمْ وأتبَرَّأُ منكمْ ومِنْ آلِهَتِكمُ التي تَعبُدونَها أيُّها المشرِكون، وأعبدُ رَبِّي الذي لا إلهَ إلاّ هو، عسَى ألاّ أكونَ خائبًا ضائعَ السَّعي بعبادَتي له، فيَتقَبَّلُها منِّي بكَرَمِه.

﴿فَلَمَّا اعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا﴾ [مريم:49]


فلمَّا اعتزَلَ المشرِكينَ وآلِهتَهمُ المَزعومَة، أبدلَهُ اللهُ خَيرًا منهم، فوهَبَهُ إسحَاق، ووُلِدَ لهذا يَعقوبُ، وكانوا جَميعًا أنبياء، عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام.

﴿وَوَهَبۡنَا لَهُم مِّن رَّحۡمَتِنَا وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ لِسَانَ صِدۡقٍ عَلِيّٗا﴾ [مريم:50]


وأعطَيناهُمْ مِنْ فَضلِنا ونِعمَتِنا خَيرَ ما يُؤتَى البشَر، منْ خَيرَي الدِّينِ والدُّنيا، وجعَلنا النَّاسَ يُثْنُونَ عَليهمْ ثَناءً حسَنًا، في كُلِّ الأديان، وهمْ مُستَحِقُّونَ لذلك، فقدْ كانوا صَادِقينَ في دَعوَتِهم، مُخلِصِينَ في طاعَتِهم. وقدِ استَجابَ اللهُ دُعاءِ إبراهيمَ عَليهِ السَّلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [سورة الشعراء: 84].

﴿وَاذۡكُرۡ فِي الۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا﴾ [مريم:51]


واذكُرْ في القُرآنِ كذلكَ خبرَ موسَى بنِ عِمران، الذي اصطَفاهُ اللهُ منْ بينِ النَّاسِ لحَملِ رِسالتِه، فكانَ رسُولاً، نَبيًّا مِنْ أُولي العَزم.

﴿وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا﴾ [مريم:52]


ونادَينا موسَى منْ جانبِ الطُّورِ (الجَبَل)، النَّاحيَةِ التي تَلي يَمينَ موسَى، فقَرَّبناهُ وكلَّمناهُ مُناجاة. وهوَ المُسَارَّةُ بالكَلام.

﴿وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا﴾ [مريم:53]


وأجَبنا دُعاءَهُ فوَهَبنا لهُ أخاهُ هارُونَ ليَكونَ نبيًّا معَه، يُساعِدُهُ ويؤازِرُهُ في دَعوَتِه. وكانَ أفصحَ منهُ لِسانًا. عَليهما الصَّلاةُ والسَّلام.

﴿وَاذۡكُرۡ فِي الۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ الۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا﴾ [مريم:54]


واذكُرْ في القُرآنِ إسمَاعيلَ بنَ إبراهيمَ عَليهما السَّلام - جَدَّ نَبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم - إنَّهُ كانَ صادِقًا في وَعدِهِ وَفيًّا، لم يَعِدْ أحَدًا إلاّ وفَى له. وقالَ لوالدِه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [سورة الصَّافَّات: 102] فصَدَق. وكانَ رَسولاً نبيًّا، أرسَلَهُ اللهُ إلى قَبيلَةِ جُرْهُمَ العرَبيَّة.

﴿وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا﴾ [مريم:55]


وكانَ يأمرُ أهلَهُ بطاعَةِ اللهِ سُبحانَه، بإقامَةِ الصَّلاة، وإيتاءِ الزَّكاة. وكانَ رَضيًّا عندَ ربِّه، لاستِقامَةِ أقوالِهِ وأفعالِه.

﴿وَاذۡكُرۡ فِي الۡكِتَٰبِ إِدۡرِيسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيّٗا﴾ [مريم:56]


واتْلُ في القُرآنِ خبَرَ إدريسَ، الذي كانَ قبلَ نوحٍ، عَليهما السَّلام، إنَّهُ كانَ كثيرَ الصِّدق، مُلتَزِمًا له، نَبيًّا كَريمًا.

﴿وَرَفَعۡنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم:57]


وأعلَينا قَدْرَهُ ورفَعنا ذِكرَهُ.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ أَنۡعَمَ اللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ النَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَـٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَاجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ الرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩﴾ [مريم:58]


أولئكَ الذينَ تفضَّلَ اللهُ عَليهمْ وأعلَى مَرتَبتَهمْ بينَ البَشر، مِنَ النَّبيِّين، مِنْ ذُرِّيَّةِ آدم: إدريسُ ونُوح، ومِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حمَلناهُمْ معَ نوح: إبراهيمُ، ومِنْ ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ: إسماعيلُ وإسحَاقُ ويَعقوب، ومِنْ ذُرِّيَّةِ إسرائيلَ (وهوَ يَعقوبُ): موسَى وهارونُ وزَكريّا ويَحيَى وعيسَى. هؤلاءِ مِنْ جُملَةِ مَنْ أرشَدناهُمْ إلى الحقِّ واصطَفيناهُمْ للنبوَّة، إذا سَمِعوا كلامَ اللهِ المُتَضَمِّنَ لآلائهِ وبيانِ قُدرَتِهِ وعَظَمَتِه، بادَروا إلى السُّجودِ لرَبِّهم، وقدْ خشَعَتْ قُلوبُهمْ لذِكرِه، وفاضَتْ عيونُهمْ خَشيةً منه، إقرارًا منهمْ بالعُبوديَّةِ لهُ سُبحانَه.

﴿۞فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا﴾ [مريم:59]


فجاءَ مِنْ بعدِ هؤلاءِ النبيِّينَ ومَنْ تَبِعَهمْ مِنْ عِبادِ اللهِ الصَّالِحين، عَقِبُ سُوءٍ، ترَكوا الصَّلاةَ المَفروضَةَ عَليهم، وانهَمَكوا في المَلذَّات، وآثَروا شَهواتِ أنفُسِهمْ على طاعَةِ رَبِّهم، فسَوفَ يُجزَونَ بذلكَ شَرًّا وخُسرانًا.

﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ الۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا﴾ [مريم:60]


إلاّ مَنْ تابَ مِنْ ذُنوبِه، وصدَقَ في إيمانِه، وقرَنَ تَوبتَهُ بالعمَلِ الصَّالِح، فأولئكَ يَدخُلونَ جَنَّةَ رَبِّهم، ولا يُنْقَصُ مِنْ ثَوابِ أعمالِهمْ شَيء.